اصوليه
Fundamentalism - Fondamentalisme
الأصوليَّة
الأصولية لغةً من الأصل، وهو قاع الشيء وما يبنى عليه غيره، سواء أكان حسياً كالأساس الذي يشيّد عليه البناء فهو أصله، أم عقلياً كبناء الأحكام الجزئية على القواعد الكلّيّة. والأصولية اصطلاحاً من «الأصول» المتعلقة بعلوم الدين. ويطلق لفظ «الأصول» على مصطلحات مختلفة أشهرها ما يدل على ثلاثة من العلوم الإسلامية هي: أصول الدين وأصول الحديث وأصول الفقه. ويسمى علم أصول الفقه، غالباً، علمَ الأصول، ويعرَّف بأنه العلم بقواعد الفقه الإسلامي وبالأدلة التي تؤدي إلى تقرير الأحكام الشرعية وبمناهج استنباطها.
ولكلمة أصول التي ينسب إليها الأصولي، في الفقه الإسلامي خمسة معان هي:
ـ ما يقابل الفرع: الخمر أصل النبيذ، أي إن حكم النبيذ مستفاد من حكم الخمر.
ـ ما يدل على الرجحان : الحقيقة أصل المجاز، أي إذا تردد الأمر بين حمل الكلام على الحقيقة وحمله على المجاز، كان الحمل على الحقيقة أرجح.
ـ الدليل، أي الكاشف عن الشيء والمرشد إليه.
ـ القاعدة، أي الركيزة التي يرتكز الشيء عليها: بني الإسلام على خمسة، أي على خمس قواعد.
ـ ما يُجعل لتشخيص بعض الأحكام الظاهرية أو الوظيفية.
والقاعدة الأصولية، بخلاف القاعدة الفقهية، لا تنتج إلا حكماً كلياً، ولا يتوقف استنتاجها على قاعدة فقهية بخلاف العكس. ولا تتصل بعمل العامة، بل بعمل المجتهدين أو العلماء.
ولمّا كانت العقائد، في الإسلام، ثابتة بطريق قطعي هو القرآن الكريم، إذ هو المقطوع به وحده في الجملة والتفصيل، فإن الآراء المتباينة في العقائد تسمى «مذاهب». وأتباع كل مذهب يعتقدون أن مذهبهم صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرهم خطأ يحتمل الصواب. والغلاة في كل مذهب يعتقدون أن مذهبهم صواب لا يحتمل الخطأ، ومذهب غيرهم خطأ لا يحتمل الصواب. ويوصف هؤلاء وأولئك بالأصوليين، مع فارق التعصب والغلو. ويرى بعضهم أن الحق يتعدد في المسائل الاجتهادية، أما الحق في المسائل الاعتقادية فواحد لا يتعدد، وكل ما سواه باطل. لذلك أدى الاختلاف في أمور العقائد إلى تعدد المذاهب وتفرق الفرق في جميع الأديان بلا استثناء. ولكل مذهب أصوله وأصوليوه.
في الإسلام الحنيف تجتمع المذاهب والفرق على القرآن الكريم، على اختلاف في التفسير والتأويل، وعلى السنة النبويّة، على اختلاف في التعديل والتجريح، وعلى إجماع الصحابة والتابعين. فالأصول عند أهل السنَّة والجماعة، مثلاً، هي القرآن الكريم والسنة النبوية وما أجمع عليه الصحابة والتابعون، أو ما استقرت عليه المذاهب الأربعة: المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي. وعند الشيعة الإمامية، إضافة إلى ذلك، «الأصول الأربعمئة» وهي الأحاديث التي رويت عن الإمام جعفر الصادق الذي ينسب إليه المذهب الجعفري.
وتجدر الإشارة إلى اختلاف معنى الأصولية في الثقافة العربية الإسلامية عنه في الثقافات الأخرى، وإلى اختلاف معناها في الماضي عنه في الحاضر، ولاسيما ما يشيع اليوم في لغة الصحافة عامة والصحافة الغربية خاصة، عندما تتحدث عن «الأصولية» وتقصرها على نزعة «التعصب» والتشدد عند «الأصوليين الإسلاميين» ولعل أهم المعاني التي تنطوي عليها «الأصولية» في الثقافة العربية الإسلامية، معنى «التأصيل»، أي إرجاع الأحكام العملية الجزئية إلى القواعد الكلية، وإضفاء صفة الشرعية، أي موافقة الشرع، على الأعراف والقوانين والمواضعات وأنماط السلوك الاجتماعي والسياسي التي يفرضها التقدم وتغيُّر الأحوال، حتى تصبح جزءاً من حياة المجتمع المعني. ويتم ذلك بإرجاع كل منها إلى أصل من الأصول المعروفة في مرحلة التأسيس، أو إلى قاعدة من القواعد الكلية التي لا يدانيها الشك، كإرجاع الديمقراطية إلى الشورى، مثلاً. وهذا الإرجاع هو نوع من تأسيس ديني و فقهي للأفكار والمفاهيم الجديدة يقوم على تضمين المفهوم الجديد معنى تراثياً وتحميل الأصل القديم دلالة توحي باحتمال تفرّع الجديد عنه واشتقاقه منه.
والأصولية، في السياق التاريخي، تعني العودة إلى ما تعدُّه جماعة معيّنة أو أمة معينة أساساً لهوِّيتها الثقافية، عودة تمليها الحاجة إلى توكيد الهوية الثقافية والحضارية والدفاع عنها إزاء تحد أو انتهاك خارجيين. وبحسب مقتضيات العودة إلى الأصول وإلى مرحلة التأسيس، أو «العصر الذهبي»، تكون الأصولية إما سلفية قوامها الحنين إلى الماضي الذي يصير معياراً ذاتياً ينكشف في ضوئه فساد الحاضر وانحطاطه، أو تكون إصلاحية ومستقبلية قوامها تأصيل المنجزات الثقافية والعلمية والتقنية والأفكار والمفاهيم السياسية المعاصرة بغيةَ إدماجها في المجال الثقافي الخاص بالجماعة أو الأمة المعنية، لتحقيق ضرب من التكيُّف مع العصر، وضرب من التواصل التاريخي، يمنحان الجماعة أو الأمة شعوراً بذاتيتها واستقلالها وفرادة شخصيتها الحضارية. بهذا المعنى الأخير، لا تنفصل الأصولية عن «الوعي الذاتي» الذي يحدد رؤية الجماعة لذاتها وللآخر، ورؤيتها للعالم وللتاريخ. وبحسب مقتضيات العودة إلى الأصول ودواعيها تكون الأصولية إما حركة إصلاح وتجديد وإعادة تأسيس عملية وإيجابية، أو حركة احتجاج ذاتية وسلبية.
ليست الأصولية مقصورة على دين أو مذهب أو عقيدة سياسية، ولا على أمة من دون سواها. فلكل دين أو مذهب ولكل عقيدة سياسية (أيديولوجية)، في كل أمة من الأمم، أصوليتها وأصوليوها. وقد كانت الأصوليات، في التاريخ حركات إصلاح وتجديد، وحركات «إصلاح مضاد» تتسم كل منها بسمات مجتمعها وخصائص عصرها. أما لفظ «الأصولية» الإسلامية الشائع اليوم فيقصد به الحركات الدينية التي تسمي نفسها «الصحوة الإسلامية»، وهي حركات وأحزاب سياسية تتخذ من الإسلام الأصولي منطلقاً لدعوتها، وتعاني كغيرها من الأحزاب السياسية تناقضاً بين وعيها الذاتي وحقيقتها الواقعية. ولا يخلو إطلاق اسم «الأصولية» على هذه الحركات والأحزاب الحديثة من انحياز يرمي إلى طمس الفروق بين أنواع الأصولية في التاريخ، وتجريدها من شروط نشوئها وقوانين نموها وتطورها، أو تراجعها وانحطاطها، ورميها جميعاً بالتعصب و«الإرهاب». ومما يلفت النظر، في هذا المجال، تركيز الخطاب الاتهامي على «الأصولية الإسلامية» من دون غيرها من الأصوليات المعاصرة مثل الأصولية (الأرثوذكسية) اليهودية ـ الصهيونية والأصولية المسيحية التي تعرف بالتمامية integrism والأصوليات العنصرية وغيرها.
وليست الأصولية مرادفة للتعصب والتشدد في جميع الأحوال، كما أن العنف ليس صفة ثابتة في الأصولية، بل هو رد فعل من نوع الفعل الذي تُجابَه به غالباً. وإن كان بعضها يتمحَّل له مسوِّغات من جوهر العقيدة، يُقْنع بها محازبيها، ويمنحها نوعاً من «راحة الضمير».
الأصولية في التاريخ العربي الإسلامي
ظهرت بوادر الأصولية، في التاريخ العربي الإسلامي، في النصف الأول من القرن الأول الهجري (السابع الميلادي)، إذ اتسعت رقعة الدولة العربية الإسلامية في عهد الخليفة الراشدي الثاني، عمر بن الخطّاب، فشملت العراق وجزءاً من بلاد فارس وسورية وفلسطين ومصر وجزءاً من شمالي إفريقية. ثم امتدت، في أواخر القرن الأول الهجري وأوائل الثاني فشملت أجزاء واسعة من آسيا وإفريقية وجزءاً من أوربة. ودخلت في ولايتها وعهدها أو ذمتها شعوب وأقوام مختلفة لكل منها تراثه الثقافي وأعرافه وعاداته وتقاليده. وبرزت من جراء ذلك مشكلات اقتصادية وإدارية وتنظيمية جديدة كان لابد معها من مرونة حاذقة في التشريع وفق الأسس التي أرساها الإسلام. كما أخذت بوادر الترف تظهر في الحواضر العربية، ورافقها فساد تسرب إلى تصرفات بعض الولاة وقادة الجند الذين مكنتهم الدعة والمسالمة من الترخص في المتاجرة وتثمير الأموال وتملّك المزارع، وبرزت مسألة الأراضي الزراعية وفيئها مما استثار العصبيات التي قاومها الإسلام، فنهض بعض الصحابة والتابعين يبينون مفارقة تلك التصرفات للمثل الأعلى الإسلامي. وكان من أبرز هؤلاء الصحابي أبو ذر الغفاري[ر] (ت 32هـ/652م) الذي اشتهر بدعوته إلى التقى والتقشف مبتدئاً بنفسه.
لذلك برزت الحاجة إلى الاجتهاد[ر] في المسائل التي لم يرد فيها حكم شرعي في القرآن الكريم والسنّة النبوية.
ويمكن القول إن الأصولية ارتبطت منذ بداياتها الأولى بالتقوى والاجتهاد، فالإيمان معرفة وطاعة، والمعرفة هي الأصل، والطاعة هي الفرع. وانطوت الأصولية كذلك على تواتر دائم بين النقل و العقل. وإذا كان أهل الرأي وأهل الحديث متفقين على أولوية النص الديني، فإن خلافهم تركز على قضية العقل وحرية الإنسان ومسؤوليته عن أعماله.
ولم يبق الاجتهاد محصوراً في مجال التشريع بل تعداه إلى المسائل الفكرية والاعتقادية فظهر مجتهدون في الفكر والعقيدة من أمثال الحسن البصري وواصل بن عطاء وغيرهما، ونشأت بعد ذلك فرق اعتقادية كالمعتزلة الذين يسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية والعدلية. وظهرت بإزائهم فرق تقول بنفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الله، وهو ما ذهب إليه الخلفاء الأمويون، وكذلك الأشعرية والمرجئة وفرق الخوارج وفرق الشيعة ولاسيما الإسماعيلية وفيهم القرامطة وإخوان الصفا. وتظهر في هذه الفرق، على اختلافها، آثار انفتاح الثقافة العربية الإسلامية على الثقافات الأخرى ولاسيما الفلسفة الهلينية عامة والمنطق الأرسطي خاصة. ويظهر مصطلح الأصول و«أهل الأصول» (الأصوليين) بوضوح عند الشهرستاني في الملل والنحل الذي صنفهم فرقاً ومذاهب متقابلة تَقَابُل التضاد. ولم يخلُ هذا الاختلاف في العقائد والأفكار من وظيفة اجتماعية سياسية أو توظيف سياسي مقترن بالتعارضات الاجتماعية والنزاعات السياسية التي وسمت مرحلة طويلة من التاريخ العربي الإسلامي.
بيد أن «علم الأصول» تأسس بصفته علماً على يد الإمام الشافعي[ر] (150-204هـ/767-820م) وذلك في رسالته الشهيرة باسم «رسالة في الأصول»، وكذلك أحمد بن حنبل[ر] (160-214هـ/ 780-855م) أشهر من ناهض المعتزلة حين غدا الاعتزال المذهب الرسمي للدولة العباسية في عهدي المأمون والمعتصم.
وفي العصور المتأخرة من التاريخ العربي الإسلامي ظهر فقهاء ومجتهدون مقلِّدون تبَّنْوا مذاهب السلف فكثرت الشروح والشروح على الشروح، وباتت السلفية صفة فارقة تميز الأصولية المجتهدة والمبدعة من الأصولية السلفية التي نشأت إلى جوارها مذاهب التزهد والطرق الصوفية.
أما في العصر الحديث فتعد الدعوة الوهابية التي ظهرت في الجزيرة العربية ونسبت إلى محمد بن عبد الوهاب[ر] (1115-1206هـ/ 1703 -1792م) أول حركة سلفية حاربت البدع وتصدت للطُرقية الصوفية. وكان لها تأثير في المغرب العربي في عهد السلطان محمد بن عبدالله (1757-1790م) وكذلك في عهد ابنه السلطان سليمان (1792-1822م). وقد تطورت أفكار هذه الدعوة في المغرب على أيدي الشيخ أبي شعيب الدكالي (1878-1937م) ومحمد بن العرب العلوي (1880-1964م) إلى أصولية اجتهادية وطنية نشأ في كنفها الجيل الأول من رجال الحركة الوطنية هناك. وقدمت الأساس الفكري العربي الإسلامي للتطلعات الوطنية والنزعة الإصلاحية. ولعل من أهم حركات الإصلاح الحديثة أيضاً الدعوة التي قادها جمال الدين الأفغاني[ر] (1838-1897م) ومحمد عبده[ر] (1849-1905م). ومن أعلامها عبد الرحمن الكواكبي[ر] ورشيد رضا[ر] وشكيب أرسلان[ر] وغيرهم. وقد حاربت هذه الدعوة البدع والخرافات والأوهام، وعملت على التوفيق بين النقل والعقل وبين الدين والعلم الحديث، ورأت أن الحياة الدستورية والتمثيل النيابي والحقوق المدنية والحريات السياسية والنزعة الوطنية القومية المعادية للاستعمار والاستبداد كلها لاتخالف الشرع الإسلامي. وكان لهذه الدعوة أثر بارز في الفكر العربي الحديث بوجه عام وفي الفكر السياسي بوجه خاص في العراق وبلاد الشام والمغرب العربي، وفي مركز السلطنة العثمانية أيضاً. وتأثر بها المصلحون وأنصار الدستور (1908-1909). واستمر تأثيرها حتى خمسينات القرن العشرين في فكر أحمد أمين[ر] ومحمد حسين هيكل[ر] وعلي عبد الرازق[ر] وطه حسين[ر] وخالد محمد خالد[ر]، وغيرهم من رموز الثقافة العربية المعاصرة. وتأثرت بها الأصولية الشيعية في العراق، إذ أفتى مجتهدوها بوجوب محاربة الإنكليز الذين احتلوا العراق في بداية الحرب العالمية الأولى، ودعوا إلى وحدة المسلمين السنة والشيعة لمواجهة الخطر الغربي وإقامة دولة إسلامية دستورية حديثة. كما كان لها تأثير بارز في المغرب العربي تجلى في أفكار خير الدين التونسي الإصلاحية وفي جمعية العلماء في الجزائر. وتعد المهدية في السودان وموريتانية، والسنوسية في ليبية، من الحركات الأصولية الحديثة.
تعليق