Saad Alkassem
28 يوليو 2022 ·
أعترف القلب صراحة أنه لم يعد قادراً على ضخ الحياة للجسم الرقيق الذي أنهكته الدنيا. لكن ابتسامة رضى مؤمنة، تحب الحياة، لم تفارق وجه ليلى. قبل نحو شهر استجمعت قواها لتطمئن إخوتها عنها في محادثة هاتفية مصورة، كان صوتها أقرب إلى صوت طفلة بريئة، وهي تحكي عن سعادتها بوجود أحبتها لتودعهم سوية. وحين عقبت رنده، شقيقتنا الأصغر، برد فعل صادق وسريع ومحب: «بعيد الشر». أجابتها بحسمً وببراءة اللهجة الطفولية ذاتها: «الجنة (مو) شر. الجنة شي حلو..»
اليوم حلت اللحظة التي بقيت أخشاها نحو أربعين سنة، وتحديداً منذ عام 1983 حين تشبثت بذاكرتي فاتحة رواية (مفترق المطر) لزميلنا الراحل يوسف المحمود تسرد مشاعر الأخ الأليمة وهو يودع اخته للمرة الأخيرة مستحضراً ذكريات طفولته وإياها. بعد أسطر قليلة اكتشفت - كباقي القراء - أنها لم تغادر الحياة بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما غادرتهم هم في رحلتها القاسية إلى بيت الزوجية في قرية نائية تمزق التواصل بحكم البعد ومشقة السفر وأعبائه. لم يكن انتقال ليلى إلى بيتها الجديد على هذه الصورة أبداً. فهي لم تتوقف، وزوجها، عن زيارتنا، بل صار معهما ثلاثة أبناء رائعين يمتلكون مساحات في القلب لا يزحمهم عليها أحد. ومع ذلك فصورة الفراق المجبولة بذكريات أيام الطفولة لم تفارقني يوماً. ولدت ليلى بعد ولادتي بعشرين شهراً، نشأنا ولعبنا معاً، وأتممنا المرحلة التحضيرية سوية في مدرسة (جميلة بوحيرد). وعدنا لنجتمع في الدروس مطلع المرحلة الإعدادية في (دار اللغات). وبقينا تحت سقف واحد، وتفاصيل حياتية مشتركة حتى دراستها الجامعية في الأدب الإنكليزي، وزواجها خلالها، وسفرها إلى الخليج فالأردن. لتعود إلى سورية بعد رحيل زوجها ومعظم سنوات عمرها، لتكون بجانب شقيقتها الأصغر بعد أن فقدنا أمنا (رحمهم الله جميعاً).
كانت السنوات الأخيرة التي أمضتها في دمشق مليئة بالطمأنينة رغم ظروف البلد القاسية. وبقي الهدوء والرضى أميز ما أحب فيها كل من عرفها. بعد ثلاث سنوات ونصف سافرت لزيارة أولادها البررة في الأردن، فيما أملنا أنها زيارة قصيرة تعود بعدها للشام التي «أحبها كثيراً».. لكننا أدركنا - بألم - أن زيارتها للحياة هي القصيرة.
لم تكن ذكريات طفولتنا مؤلمة كحال شقيقي (مفترق المطر).. لكنها، بخلافهما، لم تقتصر على سنوات الطفولة، وإنما امتدت على مساحة أكثر من ستة عقود مليئة بالذكريات والصور والأحداث.. والمحبة.
ليلى غمرك الله برحمته ونعمه وأكرم مقامك، وجعل دعواتك درب نور وخير وقوة لعائلتك التي أحاطتك بالمحبة، وستحتفظ في قلوبها بذكراك الجميلة.