شك Doubt
هذا الفيلم ــ المُنتَج عام 2008 ــ فيلمٌ مسبوك بعناية ، يشد المُشاهد اليه منذ المشهد الأول حتى نهاية الفيلم . و هو واحدٌ من الأفلام القليلة جداً التي ترشح جميع ممثليها الرئيسيين الى جائزة الأوسكار . فقد حصل الترشيح لبطلة الفيلم " ميرل ستريب " و بطله " فيليب سيمور هوفمان " ( 1967 ــ 2014 ) في دور رئيس ، و " ايمي آدمز " و " فيولا ديفيز " في دور مساعد ، كما ترشح سيناريو الفيلم للأوسكار أيضاً ، و هو مقتبس من مسرحية ( الشك : أمثولة ) لمخرج الفيلم نفسه " جون باتريك شانلي " التي فازعنها ــ سابقاً ــ بجائزتي ( بوليتزر ) و ( إيمي ) كأفضل مسرحية عام 2005 ، و كان الكاتب المخرج قد فاز عام 1988 بجائزة الأوسكار عن أفضل سيناريو لفيلم ( شارد الذهن Moonstruck ) .
فيلم ( الشك ) ــ و قبله المسرحية ــ قائم على فكرة ( شكٍ ) قد يبدو عابراً في الحياة الطبيعية ، ولكنه ليس كذلك في مدرسة كاثوليكية متشددة ــ كالعادة ــ تديرها مديرة متشددة هي ( الأخت ) " ألويسيوس بوفييه " ( لعبت دورها " ميرل ستريب " ) . و هذا الشك قد يبدو للمشاهد ، في البداية ، أنه قائم على وشاية من مُدرّسة التاريخ ( الأخت " جيمس " ) التي لعبت دورها " ايمي آدامز " . فقد شكّت " جيمس " فأوحت لمديرة المدرسة بوجود حالة حميمية بين الأب " بريندان فلين " و الطالب الأسود " دونالد ميلر " ( لعب دوره " جورف فوستر " ) . و إذ إن المدرسة تقع في حي ( برونكس ) الشهير بتعدد سكانه العرقي في نيويوك ، حيث يشكل السود أكثر من 31% من سكان الحي إلا أن " دونالد ميلر " هو التلميذ الوحيد الأسود في هذه المدرسة الكاثوليكية.
و على أثر هذه الوشاية ، بدأت المديرة بمراقبة سلوك الأب " فلين " ( لعب دوره " فيليب سيمور هوفمان " ) ، بل قررت الإيقاع به ، بل و عند الإصطدام به تخبرته بأنها اتصلت لتستفسر عن ماضيه ، فكان سجله ملوثاً ، و قد كانت كاذبة ، إذ كانت تنوي استدراجه و كسب معلومات منه لتعزيز موقفها و بالتالي موقعها . و اذ يتعاطف مُشاهد الفيلم مع الأب " فلين " إذا بأم التلميذ " دونالد ميلر " تقر أمام المديرة بأنها تخشى من إقدام زوجها على قتل " دونالد " كونه ذا ميول جنسية أخرى ، ما يشكل عقدة أمام مديرة المدرسة الكاثوليكية ، و بالتالي أمام مُشاهد الفيلم ، بانتظار فهمها أو حلها.
ليس مهماً تبرئة الأب " فلين " من تهمة تحرشه بـ " دونالد ميلر " ، فهو يعلم و المُشاهد يُدرك أنه بريء ، ولكن الفيلم ينطوي ــ ضمناً ــ على إيحاء بفضائح القساوسة في الكنائس و الأديرة و المدارس الكاثوليكية التي أزكمت أنف الفاتيكان نفسه.
يبدأ الفيلم من صباح يوم أحد خريفي باكر . الصبي " جيمي " هو أول الخارجين مبكراً في الذهاب الى مدرسته الكاثوليكية ليُعد القداس .. كونه صبيَ المذبح . و يبدأ القداس بخطبة للأب " بريندان فلين " التي يبدأها بالقول : ( ماذا تفعلون حين تكونون غير متأكدين ) ؟ و يوضح أن ذلك ( سيكون موضوع خطبتي اليوم ) و بالتأكيد فإن الإجابة على هذا التساؤل لابد و أن تمر عبر دائرة الشك للوصول الى ما يجب أن نفعله حين ( نكون غير متأكدين ) و لو دققنا في خطبة الأب " فلين " فسنجد أن محورها الأساسي هو ( الشك ) الذي يلمح اليه ضمناً ، ليس الشك الذي يتلبس أشخاصاً من نمط الأخت " ألويسيوس بوفييه " بل ذاك الذي يقود الى اليقين . و الواقع أن خُطب الأب " فلين " هي أصل الشك به من قبل مديرة المدرسة ، كون هذه الخطب تنطوي على قدْر من التحرر المثير للشك بأن الأب " فلين " غير ملتزم إلتزاماً كاملاً بتعاليم الكنيسة الكاثوليكية . لذلك فإن وشاية الأخت " جيمس " جاءت متجانسة مع الشك الذي تبعثه هذه الخطب .
تقع أحداث الفيلم في العام 1964 في حي برونكس ، و هو حيٌ سكانه متعددو الأعراق : إفريقية و لاتينية و آسيوية .. أما دراما الفيلم فتبدأ من خطبة الأب " فلين " في ذلك الصباح الخريفي .
علمياً ، يوصف الشك بأنه حالة مرضية تتلبس الشخص غير الواثق من الأشخاص و من حقيقة الأحداث و الوقائع فيقع في دائرة الإرتباك و عدم التوازن في التعامل مع الآخرين ، ولكن هناك حالات فردية مؤقتة تتعلق بحدث ما أو فرد ما تجعل ( الشكاك ) غير قادر على اتخاذ قرار حاسم في خضم هذه الحالة ، و إذا ما كان في موقع المسؤولية فإن قراره قد يكون فردياً في إطار العمومية لدرء الخطورة عن نفسه بالدرجة الأولى ، من باب الإحتراز ، كي لا يقع في دائرة المساءلة . و هذه هي حالة ( الشك ) التي تلبست الأخت " ألويسيوس بوفييه " و هي حالة تتعلق بالجانب الإيماني في مؤسسة متشددة جداً ــ كما هو معروف عبر التاريخ ــ هي مؤسسة الكنيسة الكاثوليكية ، ما يعني أن " بوفييه " إذ مارست الشك فهي إنما كانت تدرأ خطر المساءلة عن نفسها تحت عنوان الدفاع عن نزاهة الكنيسة الكاثوليكية كون أبرشية المدرسة التي تديرها في حي برونكس تحت مظلة هذه الكنيسة.
و إذ تقع أحداث الفيلم ــ و قبله المسرحية ــ في مؤسسة تابعة لكنيسة كاثوليكية ، و ليست بروتستانية أو أرثوذكسية ، ففي تلك إشارة الى تشدد الكنيسة الكاثوليكية غير المنفتحة ، كما الكنيستان الأخريان . و الواقع فإن هذا التشدد الذي مارسته الكاثوليكية عبر كل هذه القرون من تاريخ المسيحية إنما هو ذاته مثير للشكوك حول ممارسات لا ( أخلاقية ) مارسها كهّان و راهبات في الزوايا الموحشة و ظلمات الأديرة و الآروقة المنزوية في المدارس و الكنائس الكاثوليكية . و قد ظهرت قصص و اعترافات و روايات و أفلام سينمائية و وثائقية كثيرة تفضح هذه الممارسات .
و هذا الفيلم إنما هو انعكاس لسلسلة الشكوك الطويلة التي طالت قساوسة الكنيسة الكاثوليكية ــ عبر تاريخها الطويل ــ أولئك الذين لوثوا هذا التاريخ بتحرشاتهم و ممارساتهم الجنسية مع الصبيان في الكنائس و الأديرة و المدارس الكاثوليكية ، حتى أنهم لم يتركوا حجة ذات قيمة للدفاع عن هذه الكنيسية
هادي. ياسين