التاريخ
٢٢ مارس، الساعة ٣:٥٧ م ·
تاريخ التتار الأول (26)
إمبراطورية جنكيز خان
---------------------------------------------------------------------
نشأة دولة المماليك 1254- 1250م(652-648ه)
---------------------------------------------------------------------
تزامن ذلك مع :
649 هجرية:…ولاية منكوخان على التتار……زعامة هولاكو على الجيش التتري في فارس والمواجه للخلافة العباسية
……بدء الإعداد لإسقاط الخلافة العباسية
650 هجرية:…اجتياح إقليم الجزيرة في شمال العراق
651 هجرية:…سفارة صليبية من لويس التاسع ملك فرنسا إلى منكوخان..
---------------------------------------------------------------------
بعد مقتل توران شاه 648 ه حدث فراغ سياسي بمصر كبير جدا فليس هناك أيوبي في مصر مؤهل لقيادة الدولة،
و من ناحية أخرى فإن الأيوبيين في الشام مازالوا يطمعون في مصر، وحتما سيجهزون أنفسهم للقدوم إليها لضمها إلى الشام، ولا شك أنه قد داخل الأيوبيين في الشام حنق كبير على المماليك لأنهم تجرأوا وقتلوا أيوبيا منهم .
و لاشك أن المماليك كانوا يدركون أن الأيوبيين سيحرصون على الثأر منهم، كما أنهم كانوا يدركون أن القوة الفعلية في مصر ليست لأيوبي أو غيره إنما هي لهم، و قيمتهم في الجيش المصري كبيرة جدا وأنهم قد ظلموا بعد موقعة المنصورة وفارسكور، ﻷنهم كانوا السبب في اﻹنتصار ومع ذلك هّمش دورهم..
كل هذا الخلفيات جعلت المماليك ـ وﻷول مرة في تاريخ مصر ـ يفكرون في أن يمسكوا هم بمقاليد اﻷمور مباشرة !.. وما دام ”الحكم لمن غلب“، وهم القادرون على أن يغلبوا، فلماذا لا يكون الحكم لهم ؟!..
استُخدم المماليك في مصر من أيام الطولونيين، والذين حكموا من سنة 254 هجرية إلى سنة 292 هجرية،
ولقد استُخدموا أيضا في أيام الدولة اﻹخشيدية من سنة 323 هجرية إلى سنة 358 هجرية يعني قبل هذه اﻷحداث بحوالي أربعة قرون كاملة،
وكذلك استُخدموا أيضا في أيام الفاطميين الشيعة الذين حكموا من سنة 358 هجرية إلى زمان صلاح الدين الأيوبي، حيث انتهت خلافتهم في سنة 567 هجرية أي ما يزيد على قرنين كاملين واستخدًموا أيضا وبكثرة في عهد الأيوبيين كما رأينا.
ومع ذلك لم يفكروا في حكم ولا سيادة، ً لكونهم من المماليك الذين يباعون ويشترون.
وفي كل هذه الفترات كان الجيش يعتمد تقريبا على المماليك، وما كانت تخطر على أذهانهم فكرة الملك أبدا
بل كانوا دائما أعوان الملوك ، ولم تكن لهم عائلات معروفة ينتمون إليها، ولا شك أن هذا كان يشعرهم بالغربة في البلاد الجديدة التي يعيشون فيها ؛ كما أن الخطر لم يكن يمسهم شخصيا فهم تبع للسلطة الجديدة، ولا يُستهدفون لذواتهم،
أما الآن فالمؤمرات تدبر لهم، والدائرة ستدور عليهم، والملوك ضعفاء، والقوة كلها بأيدي المماليك.. فلماذا لا يجربون حظهم في الحكم؟!
لكن صعود المماليك مباشرة إلى الحكم سيكون مستهجنا جدا في مصر فالناس لا تنسى أن المماليك ـ في الأساس ـ عبيد، يباعون ويشترون، وشرط الحرية من الشروط اﻷساسية للحاكم المسلم..
وحتى لو أنهم أعتقوا فإن تقبل الناس لهم سيكون صعبا.. وحتى لو كثرت في أيديهم الأموال، وتعددت الكفاءات، وحكموا الأقاليم والإقطاعات، فهم في النهاية مماليك..
فإن تقبل الناس لهم كحكام وصعودهم إلى الحكم يحتاج إلى حجة مقنعة للشعب الذي لم يألفهم في كراسي السلاطين..
كل هذا دفع المماليك البحرية الصالحية إلى أن يرغبوا بعد مقتل توران شاه في ”فترة انتقالية“ تمهد الطريق لحكم المماليك الأقوياء، وفي ذات الوقت لا تقلب عليهم الدنيا في مصر أو في العالم اﻹسلامي..
كانت هذه هي حسابات المماليك الصالحية البحرية..
فماذا كانت حسابات شجرة الدر؟!..
شجرة الدر امرأة ذات طابع خاص جدا.. فهي امرأة قوية جدا لا تتكرر كثيراً في التاريخّ جريئة.. شجاعة.. لها عقل مدبر، وتتمتع بحكمة شديدة.. كما أن لها القدرة على القيادة والإدارة..
وكانت شجرة الدر ترى في نفسها كل هذه القدرات.. وكانت شديدة اﻹعجاب بإمكانيتها وبنفسها وكان هذا من أكبر مشاكلها مما دفعها إلى تفكير جديد تماماً في الفكر الإسلامي و بخاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة !!
لقد فكرت شجرة الدر في الصعود إلى كرسي الحكم في مصر !!.. وهذا أمر هائل فعلا، وهذه سباحة عنيفة جدا ً ضد التيار.. لكنها وجدت في نفسها الملكات و المواهب التي تسمح لها بتطبيق هذه الفكرة الجريئة !..
فقالت لنفسها : لقد حكمت البلاد سرا أيام معركة المنصورة، فلماذا لا أحكمها جهرا اﻵن؟
في ذات الوقت وجد المماليك البحرية في شجرة الدر الفترة اﻹنتقالية التي يريدونها .. إنها زوجة ”الأستاذ“.. زوجة الملك الصالح أيوب الذي يكنّون له (ويكن له الشعب كله) كامل الوفاء واﻹحترام والحب،
وهي في نفس الوقت تعتبر من المماليك ﻷن أصلها جارية وأعتقت، كما أنها في النهاية امرأة، ويستطيع المماليك من خلالها أن يحكموا مصر، وأن يوفروا اﻷمان ﻷرواحهم..
وبذلك توافقت رغبات المماليك مع رغبة شجرة الدر.. وقرروا جميعا إعلان شجرة الدر حاكمة لمصر بعد مقتل توران شاه بأيام، وذلك في أوائل صفر سنة 648 هجرية !..
وقامت الدنيا ولم تقعد !!..
ّ تفجرت ثورات الغضب في كل مكان.. وعم الرفض لهذه الفكرة في أطراف العالم اﻹسلامي.
وحاولت شجرة الدر أن تُجمل الصورة قدر استطاعتها، فنسبت نفسها إلى زوجها المحبوب عند الشعبٍ الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقالت عن نفسها إنها ملكة المسلمين الصالحية..
ثم وجدت أن ذلك غير كاف فنسبت نفسها إلى ابنها الصغير ابن الصالح أيوب، والمعروف باسم ”الخليل“، فلقبت نفسها ”ملكة المسلمين الصالحية والدة السلطان خليل أمير المؤمنين“،
ثم وجدت ذلك أيضاً غير كاف فأضافت نفسها إلى الخليفة
العباسي الذي كان يحكم بغداد في ذلك الوقت وهو ”المستعصم بالله“، والذي سقطت في عهده بغداد في يد
ّ التتار كما فصلنا قبل ذلك، فقالت شجرة الدر عن نفسها :
”ملكة المسلمين المستعصمية الصالحية والدة السلطان خليل أمير المؤمنين "
ومع كل هذه المحاولات للتزلف إلى العامة وإلى العلماء ليقبلوا الفكرة إلا أن الغضب لم يتوقف، وظهر أن البلاد في أزمة خطيرة، والوضع حرج للغاية ؛ .. فالحملات الصليبية الشرسة لا تتوقف، واﻹمارات الصليبية منتشرة في فلسطين، وهي قريبة جداً من مصر، وأمراء الشام الأيوبيون يطمعون في مصر وكان الصراع محتدما بينهم وبين السلطان الراحل نجم الدين أيوب على كافة المستويات..
كما أن التتار يجتاحون الأمة اﻹسلامية من شرقها إلى غربها، وأنهار دماء المسلمين لا تتوقف، والتتار اﻵن يطرقون باب
الخلافة العباسية بعنف .. ومصر في هذا الوقت الحرج على فوهة بركان خطير.. ولا يدري أحد متى ينفجر البركان .
وقامت المظاهرات العارمة على المستوى الشعبي في القاهرة في كل أنحائها، وشرع المتظاهرون في الخروج بمظاهراتهم إلى خارج حدود المدينة، مما اضطر السلطات الحكومية إلى غلق أبواب القاهرة لمنع انتشار المظاهرات إلى المناطق الريفية..
وقام العلماء والخطباء ينددون بذلك على منابرهم، وفي دروسهم، وفي المحافل العامة والخاصة،على كافة المستويات.. وخاصة ً الشيخ الجليل ”العز بن عبد السلام“ رحمه الله أبرز العلماء في ذلك الوقت وكان من أشد العلماء غضبا وإنكارا .
كما أظهر اﻷمراء اﻷيوبيون في الشام حنقهم الشديد، واعتراضهم المغلظ على صعود النساء إلى كرسي الحكم في مصر..
وجاء رد الخليفة العباسي ”المستعصم بالله“ قاسيا جدا ً، وشديدا جدا بل وساخرا من الشعب المصري كله، فقد قال في رسالته : ”إن كانت الرجال قد عدمت عندكم أعلمونا، حتى نسير إليكم رجالا !“..
وهكذا لم تتوقف اﻹعتراضات على الملكة الجديدة.. ولم تنعم بيوم واحد فيه راحة، وخافت الملكة الطموحة على نفسها، وخاصة في هذه اﻷيام التي يكون فيها التغيير عادة بالسيف والذبح لا بالخلع والإبعاد ..
ومن هنا قررت الملكة شجرة الدر بسرعة أن تتنازل عن الحكم.... لرجل !!.. أي رجل !!..
لكن لمن تتنازل؟!
إنها مازالت ترغب في الحكم، وتتشوق إليه، وما زالت تعتقد في إمكانياتها العقلية واﻹدارية والقيادية.. وهي إمكانيات هائلة فعلا.. فماذا تفعل؟!
ً
لقد قررت الملكة شجرة الدر أن تمسك العصا - كما يقولون - من منتصفها، فتحكم باطنا وتتنحى ظاهريا ً، ففكرت في لعبة سياسية خطيرة وهي أن تتزوج من أحد الرجال.. ثم تتنازل له عن الحكم ليكون هو في الصورة..
ثم تحكم هي البلاد بعد ذلك من خلاله.. أو من ”خلف الستار“ كما يحدث كثيرا في أوساط السياسة، فكم من الحكام ليس لهم من الحكم إلا اﻹسم، وكم من السلاطين ليس لهم من السلطة نصيب، وما أكثر الرجال الذين سيقبلون بهذا الوضع في نظير أن يبقى أطول فترة ممكنة في الكرسي الوثير : كرسي الحكم !!!..
ّ ولهذا فشجرة الدر ً لا تبغي الزواج لذات الزواج، ولا تريد رجلا حقيقة، إنما تريد فقط ”صورة رجل“..
ﻷن هذا الرجل لو كان قوياً لحكم هو، وﻷمسك بمقاليد اﻷمور في البلاد وحده.. ولذلك أيضا ً يجب أن لا يكون هذا الرجل من عائلة قوية أصيلة، وذلك حتى لا تؤثر عليه عائلته، فيخرج الحكم من يد الملكة شجرة الدر..
وحبذا لو كان هذا المختار سعيد الحظ من المماليك، وذلك حتى تضمن ولاء المماليك، وهذا أمر في غاية الأهمية، فلو كان هذا الرجل هو السند الشرعي للحكم، فالمماليك هم السند الفعلي والعسكري والواقعي للحكم..
عز الدين أيبك..
ّ وضعت شجرة الدر ً كل هذه اﻷمور في ذهنها، ومن ثم اختارت رجلا من المماليك اشتهر بينهم بالعزوف عن الصراع، والبعد عن الخلافات، والهدوء النسبي، وكلها صفات حميدة في نظر شجرة الدر،ّ فوجدت في هذا الرجل ضالتها.. وكان هذا الرجل هو ”عز الدين أيبك التركماني الصالحي“..
وهو من المماليك الصالحية البحرية.. أي من مماليك زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب.. ولم تختر شجرة
ّ الدر ً رجلا من المماليك اﻷقوياء أمثال فارس الدين أقطاي أو ركن الدين بيبرس، وذلك لتتمكن من الحكم بلا منازع..
ّ وبالفعل تزوجت شجرة الدر من عز الدين أيبك، ثم تنازلت له عن الحكم كما رسمت، وذلك بعد أن حكمت البلاد ثمانين يوماً فقط، وتم هذا التنازل في أواخر جمادى الثاني من نفس السنة.. سنة 648 هجرية..
وهكذا في غضون سنة واحدة فقط جلس على كرسي الحكم في مصر أربعة ملوك.. وهم الملك الصالح ّ أيوب رحمه الله ثم مات، فتولى توران شاه ابنه ثم قتل، فتولت شجرة الدر ّ ثم تنازلت، فتولى عز الدين أيبك التركماني الصالحي !..
ّ وتلقب عز الدين أيبك ”بالملك المعز“، وأخذت له البيعة في مصر..
ّ وكأن الله سبحانه - بهذه اﻷحداث – أراد أن يمهد عقول المصريين لقبول فكرة صعود المماليك إلى كرسي الحكم..
وقبل الشعب في مصر بالوضع الجديد.. فهو ـ وإن لم يكن مثالياً - في رأيهم ـ إلا أنه أفضل حالا من تولي امرأة، كما أن البديل من اﻷيوبيين في مصر غير موجود، والبديل من الأيوبيين في الشام غير موجود .
فأمراء اﻷيوبيين في الشام كانوا في غاية الضعف والسوء والعمالة والخيانة.. وقد مر بنا قبل ذلك أيضاتخاذلهم وتعاونهم مع التتار، وكذلك تخاذلهم وتعاونهم مع الصليبيين
واستقر الوضع نسبياّ في مصر بزعامة عز الدين أيبك، والذي يعتبر أول حاكم مملوكي في مصر، وإن كان بعض المؤرخين يعتبر أن شجرة الدر ً هي أولى المماليك في حكم مصر ﻷنها أصلا مملوكة أوجارية.
ّ وبدأت شجرة الدر تحكم من وراء الستار ـ كما أرادت ـ، وهي مؤيدة بالمماليك القوية، وخاصة ـ كما ذكرنا ـ فارس الدين أقطاي وركن الدين بيبرس..
ّ ولكن يبدو أن ذكاء شجرة الدر ّ قد خانها عند اختيار ذلك الرجل؛ فالملك المعز عز الدين أيبك لم يكن ّ بالضعف الذي تخيلته شجرة الدر ولا المماليك البحرية، فقد أدرك الملك الجديد من أول لحظة مرامي الملكة المتنازلة عن العرش، وعرف خطورة إخوانه من المماليك البحرية في مصر وقوتهم، فبدأ يرتب أوراقه من جديد، ولكن في حذر شديد..
ّ كان الملك المعز عز ّ الدين أيبك من الذكاء بحيث إنه لم يصطدم بشجرة الدر ولا بزعماء المماليك البحرية في أول أمره.. بل بدأ يقوي من شأنه، ويعد عدته تدريجياً، فبدأ يشتري المماليك الخاصة به، ويعد قوة مملوكية عسكرية تدين له هو شخصياً
وانتقى من مماليك مصر من يصلح لهذه المهمة، وكون ما يعرف في التاريخ ”بالمماليك المعزية“ نسبة إليه المعز عز الدين أيبك، بالولاء ووضع على رأس هذه المجموعة أبرز رجاله، وأقوى فرسانه، وأعظم أمرائه مطلقاً وهو ”سيف الدين قطز“ رحمه الله..
وكان هذا هو أول ظهور تاريخي للبطل اﻹسلامي الشهير: سيف الدين قطز، فكان يشغل مركز قائد مجموعة المماليك الخاصة بالملك المعز عز الدين أيبك.. وسيأتي إن شاء الله حديث قريب عن قطز رحمه الله وعن أصله..
ّ ومع أن الملك المعز عز الدين أيبك نفسه من المماليك البحرية إلا أنه بدأ يحدث بينه وبينهم نفور ّ شديد.. أما هو فيعلم مدى قوتهم وارتباطهم بكلمة زوجته شجرة الدر التي لا تريد أن تعامله كملك بل ”كصورة ملك“..
وأما هم فلا شك أن عوامل شتى من الغيرة والحسد كانت تغلي في قلوبهم على هذا المملوك صاحب الكفاءات المحدودة في نظرهم الذي يجلس اﻵن على عرش مصر، ويُلقب بالملك.. أما هم فيلقبون بالمماليك.. وشتان!!..
ّ لكن الملك الذكي المعز عز الدين أيبك لم يُستفز مبكراً.. بل ظل هادئاً يعد عدته في رزانة، ويكثر من مماليكه في صمت..
ومرت اﻷيام، وحدث أن تجمعت قوى اﻷمراء اﻷيوبيين الشاميين لغزو مصر، وذلك ﻹسترداد حكم اﻷيوبيين بها.. وكانت الشام قد خرجت من حكم ملك مصر بعد وفاة توران شاه مباشرة..
والتقى معهم الملك ّ المعز عز الدين أيبك بنفسه في موقعة فاصلة عند منطقة تسمى ”العباسية“ وهي تقع على بعد حوالي عشرين ً كيلومترا شرقي الزقازيق اﻵن، وذلك في العاشر من ذي القعدة سنة 648 هجرية، أي بعد أربعة شهور فقط ّ من حكمه،
وانتصر الملك المعز عز الدين أيبك على خصومه انتصاراً كبيراً، ولا شك أن هذا اﻹنتصار رفع أسهمه عند الشعب المصري، وثبت من أقدامه على العرش..
وفي سنة 651 هجرية بعد 3 سنوات من حكم أيبك حدث خلاف جديد بين أمراء الشام والملك المعز عز الدين أيبك، ولكن قبل أن تحدث الحرب تدخل الخليفة العباسي المستعصم بالله ـ وهذه نقطة تحسب ً له ـ لإصلاحه بين الطرفين،
وكان من جراء هذا الصلح أن دخلت فلسطين بكاملها حتى الجليل شماا تحت حكم مصر، فكانت هذه إضافة لقوة الملك المعز عز الدين أيبك، ثم حدث تطور خطير لصالحه وهو اعتراف ّ الخليفة العباسي بزعامة الملك المعز عز الدين أيبك على مصر،
والخليفة العباسي ـ وإن كان ضعيفاً، وليست له سلطة فعلية ـ إلا أن اعترافه يعطي للملك المعز صبغة شرعية هامة..
بين ”أيبك“ و“أقطاي“:
ّ كل هذه اﻷحداث مكنت الملك المعز عز الدين أيبك من التحكم في مقاليد الأمور في مصر، ومن ثم ٍ زاد نفور زعماء المماليك البحرية منه، وبخاصة فارس الدين أقطاي الذي كان يبادله كراهية معلنة، لا يخفيها بل يتعمد إبرازها..
فكما يقول ”المقريزي“ في كتابه ”السلوك لمعرفة دول الملوك“: ”لقد بالغ فارس الدين أقطاي في احتقار أيبك واﻹستهانة به، بحيث كان يناديه باسمه مجرداً من أي ألقاب“،
وهذا يعكس اعتقاد فارس الدين أقطاي أن هذا الملك صورة لا قيمة له،
وتخيل قائد الجيش ينادي الملك هكذا : يا أيبك.. ولا يناديه هكذا صداقة بل احتقارا !!
هذه المعاملة من أقطاي، وإحساس أيبك من داخله أن المماليك البحرية ـ وربما الشعب أيضا ـ ينظرون إليه على أنه مجرد ”زوج“ للملكة المتحكمة في الدولة.. هذا جعله يفكر جدياً في التخلص من أقطاي ليضمن اﻷمان لنفسه، وليثبت قوته للجميع..
وهكذا لا يحب الملوك عادة أن يبرز إلى جوارهم زعيم يعتقد الشعب في قوته أو حكمته..
انتظر أيبك الفرصة المناسبة، إلى أن علم أن أقطاي يتجهز للزواج من إحدى اﻷميرات اﻷيوبيات، ً فأدرك أن أقطاي يحاول أن يضفي على نفسه صورة جميلة أمام الشعب، وأن يجعل له انتماء واضحاً لﻷسرة ّ اﻷيوبية التي حكمت مصر قرابة ثمانين سنة،...
وإذا كانت شجرة الدر حكمت مصر لكونها زوجة الصالح أيوب، فلماذا لا يحكم أقطاي مصر لكونه زوجاً ﻷميرة أيوبية، فضلا عن قوته وبأسه وتاريخه وقيادته للجيش في موقعة المنصورة الفاصلة ؟!..
ّ هنا شعر الملك المعز عز الدين أيبك بالخطر الشديد، وأن هذه بوادر انقلاب عليه، واﻹنقلاب عادة يكون بالسيف، فاعتبر أن ما فعله أقطاي سابقاً من إهانة واحتقار، وما يفعله اﻵن من زواج باﻷميرة اﻷيوبية ما هو إلا مؤامرة لتنحية أيبك عن الحكم،
ومن ثم أصدر أيبك أوامره ”بقتل“ زعيم المماليك البحرية فارس الدين أقطاي.. ﻷنه ”ينوي“ اﻹنقلاب عليه!!!..
وبالفعل تم قتل فارس الدين أقطاي بأوامر الملك المعز، وبتنفيذ المماليك المعزية، وتم ذلك في 3شعبان سنة 652 هجرية..
وبقتل فارس الدين أقطاي خلت الساحة لعز الدين أيبك، وبدأ يظهر قوته، ويبرز كلمته، وبدأ دورّ الزوجة شجرة الدر يقل ويضمحل؛ فقد اكتسب الملك المعز الخبرة اللازمة، وزادت قوة مماليكه المعزية، واستقرت اﻷوضاع في بلده، فقد رضي عنه شعبه، واعترف له الخليفة العباسي بالسيادة، ورضي منه أمراء الشام اﻷيوبيون بالصلح..
وبقتل فارس الدين أقطاي انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين متنافرين: المماليك البحرية الذين يدينونّ بالولاء لشجرة الدر، والمماليك المعزية الذين يدينون بالولاء للملك المعز عز الدين أيبك..
وبات المماليك البحرية في توجس وريبةً فاحتمال قتل بقية زعماء المماليك البحرية أصبح قريبا
وحيث إن فارس الدين أقطاي نفسه ـ وهو أكبر المماليك البحرية قدراً، وأعظمهم هيبة ـ قد قتل، .. وما ّ استطاعت زعيمتهم شجرة الدر أن تفعل لهم شيئاً، وهنا قرر زعماء المماليك البحرية الهروب إلى الشام خوفا من الملك المعز عز الدين أيبك،
وكان على رأس الهاربين ركن الدين بيبرس، الذي ذهب إلى الناصر يوسف، هذا الخائن الذي كان يحكم حلب ثم دمشق، ودخل ركن الدين بيبرس في طاعته..
وهكذا صفا الجو في مصر تماماً للملك المعز عز الدين أيبك، وإن كان العداء بينه وبين المماليك البحرية قد خرج من مرحلة الشكوك والتوقعات وأصبح معلنا وصريحا ؛
و من جديد توسط الخليفة العباسي المستعصم بالله ليضمن استقرار الأوضاع في مصر والشام، ﻷن انضمام المماليك البحرية إلى اﻷمراء اﻷيوبيين بالشام قد يشعل نار الفتنة من جديد بين مصر والشام،
ونجحت وساطة الخليفة العباسي، واتفقوا على أن يعيش المماليك البحرية في فلسطين التي كانت تابعة للملك المعز، ويبقى الملك المعز في مصر، إلا أن ركن الدين بيبرس ـ زعيم المماليك البحرية اﻵن بعد قتل فارس الدين أقطاي ـ آثر أن يبقى في دمشق عند الناصر يوسف اﻷيوبي..
--------------------------------------------------------------------
* التتار من البداية إلى عين جالوت ..السرجاني
احتراق شجرة الدر - قطز فى الحكم
تابعوا #تاريخ_التتار_جواهر (26)