د. عبد الحسين علوان مع د.عائشة الخضر لونا عامر و
موقع مجله المشهد المسرحي
almashhad-almasrahii.com
موقعنا : منصة اخبار ثقافية وفنية - نقد - مقالات - بحوث - دراسات - اصدارات مسرحية - اراء في المسرح .
نافذة
قراءة في كتاب
حشرة القلاس
لكريم الفحل الشرقاوي
قراءة للكاتب والناقد الباحث والمترجم الدكتور المبدع محمد سيف المقيم بباريس
"حشرة القلاس" لكريم الفحل الشرقاوي.
فنتازيا الحرب والوباء
حاول المؤلف المغربي كريم الفحل الشرقاوي من خلال نصه الدرامي الجديد "حشرة القلاس" تقديم كوميديا سوداء غرائبية عن الحرب معززة بالفنتازيا والغروتيسك ومشحونة بالمشاهد السينمائية، لأجل إعادة تفكيك الذاكرة الفردية والجماعية التي غالبا ما يتم سحقها تحت وطأة التاريخ الرسمي للأحداث والكوارث بعد طمر حقائقها. نكتشف في هذا النص أن الحرب والوباء في حد ذاتهما لا يظهران، بشكل مباشر ولكنهما سيرتبطان دائما بالحياة الاجتماعية والسياسية التي سيقوم بتحديدها، ومحاكاتها، بأسلوب لا يخلو من المشاغبة والسخرية اللاذعة. ويبقى السؤال المركزي للنص: كيف سنعيش ونبني حياة أخرى عندما لم يعد كل شيء كما كان من قبل؟ هذا ما تحاول الفنتازيا والغروتسك الذي لجأ إليهما المؤلف كأسلوب لأجل أن يصنع ويجعل من صمت الماضي يتكلم، ويكشف من خلالهما عن الجانب الخفي لتداعيات الحروب والوباء اللذان اكتسبا أهمية كبيرة في النص بشكل ضمني. بهذه الطريقة يحاول المؤلف كريم الفحل ان يعري الحقائق ويكشف عن أفكار ومعاناة الشخصيات من خلال الحفر في الماضي والحاضر، والذي يمكن فهمه على أنه علامة بحث مؤلم ومحزن عن الذات، والكينونة، اللتان باتتا مهددتان بسب غطرسة العالم الجديد؛ إنه بحث ضروري ولكنه دائما بلا جدوى، لأن ما حدث قد حدث، مثلما يقول شكسبير مع تغير بسيط في عبارته.
نص "حشرة القلاس" يرصد بسخرية قاسية مرحلة ما بعد الحرب، وبتعبير أدق بعد عودة الجنود إلى منازلهم، إلى الحياة، لكن الحرب عابثة، ساخرة، لا تنتهي كما نتصور، مثلها مثل الوباء الذي لا يستحضره المؤلف بشكل مباشر وإنما بشكل ضمني متداخل، يكاد يمزج أو يجمع بينهما لكي يجعل من الكلمات صورا وبالعكس، أو ربما لكي يعجن متنه النصي بمادة واقعية متخيلة من خلال صور سينمائية وأفعال تتخذ من الكلمات مجازا، ومن الفنتازيا ملاذا لتصوير ما هو غير معقول أو عبثي يحيط بحياتنا من كل الجهات. وعلى الرغم من أننا لا نرى الحرب في النص، إلا أن ظلها يخيم على النص وعلى احداثه بنوع من الكابوسية المخيفة والهزلية في آن واحد؛ إنها غائبة، وبعيدة، ولكنها منتشرة في كل مكان فيه مثل "الطاعون وانتقاله عن طريق العدوى، صحيح أن هذا الأخير يقتل دون أن يقضي على الأعضاء"، حسبما يقول آرتو، لكن الحرب بالإضافة إلى كونها تقتل، وتشرد البشر، تقضي على الحياة وليس الأفراد فقط، إنها تترك بصمتها على الجسد مع ندوب عميقة، مرئية وغير مرئية. فالعائلة التي يقترحها النص قد تحطمت وانهارت معها جميع القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
يتناول النص قصة عائلة ستلاحقها لعنة الحرب بمختلف أجيالها. فالجد جندي مسن متقاعد سيصاب بهلاوس الحرب بعد فقده لذاكرته أثناء أسره في حرب قديمة، لهذا تظل تصرفاته كلها مرتبطة بزمن الحرب يحاكيها كطفل أبله وهو يرتدي خوذة وبذلة الحرب ويتسلح ببندقيته الخشبية ممارسا معاركه الهلامية في بيت العائلة حيث يقيم مع ابنه المساعد الاجتماعي الذي يعمل كمختص في الرد هاتفيا على الأشخاص المقبلين على الانتحار بسبب التداعيات النفسية والاجتماعية للحرب. نجمة الاغراء، ابنة المساعد الاجتماعي ممثلة سينمائية ستلاحقها هي أيضا لعنة الحرب لتصاب بتشويهات بشعة في وجهها على أثر إصابتها بشظية لغم منسي خلال تصويرها لمشاهد في إحدى مناطق النزاع القديمة، لتعود محطمة لبيت العائلة، أما شقيقها المجند في حرب جديدة، فسيعود هو أيضا إلى بيت العائلة على كرسي متحرك بعد أن فقد إحدى رجليه. وبجانب بيت العائلة يجثم مختبر الحشرات الذي تديره خطيبة المساعد الاجتماعي عالمة الحشرات البدينة المختصة في "حشرة القلاس"، لتتحول حشرتها في نهاية المطاف إلى وحش خرافي سيجتاح العالم. وهناك الشخص الغريب الممسوح الوجه والملامح الحاضر الغائب داخل العائلة والذي ينشغل بالكتابة في الفراغ ومحوها في إحالة إلى عالم ممسوح الدلالة وفاقد للملامح وللمعنى.
عوالم هذه الشخصيات ستفجر مناخات غروتسكية، وستطبع حالاته برمتها بنوع من الفنتازيا الممتزجة برهبة مخيفة، من خلال ما تعكسه من مواقف تكمن ذروتها في تقريبها للهزل من المأساة، ومزجها المتباين للوعي بالخيال والمغالاة بالانحراف، وأسلوب تصوير الأحداث وكيفية كتابتها المقترحة، في مستوى اللعب ولغته الهازلة المُستفزة، التي تعري بشاعة الحرب وسخفها في آن واحد. وبقدر ما تبدو الشخصيات متناقضة، وقلقة، بقدر ما تبدو غير معقولة في تصرفاتها وعلاقاتها، بحيث لا تتساءل من خلالها عما هي عليه أو عن ماهيتها، أو عما تفعله، بل تكتفي بتنفيذها بطريقة مربكة وعابثة أو براغماتية. في هذا السياق، يشكل العالم اليومي لهذه الشخصيات البيئة المألوفة التي يتكشف فيها وجودها، مثل امتداد ضروري لأفعالها، فهي تتصرف في هذا العالم الفنتازي الذي رسمه لهم المؤلف بطريقة تبدو ساذجة أو عفوية، دون السعي للتشكيك فيه، مما يجعل النص يبدو في حالة جدلية غرائبية مستمرة، ينتهي بمشهد يذكرنا نوعا ما بمسرحية "وحيد القرن" ليونسكو التي استلهمها هذا الأخير من تجربتين عاشهما، وهما صعود النازية والتجربة الستالينية، التي تشكل شكلاً سلطوياً من أشكال الشيوعية. فـ "الخراتيت" أو "وحيدة القرن" تقتحم المدينة تباعا، مثلما اقتحم وباء كورونا عالمنا مؤخرا، وزعزع استقرار معايرنا وعاداتنا اليومية، بعد ان أحدث شرخاً عميقاً فيها. وهذا ما سلط علية الضوء كريم الفحل في نهاية نصه عندما جعل من " حشرة القلاس" تقتحم بيت العائلة، كوحش ضخم له ملامح دبابة، بعد أن كانت في مختبر الباحثة مجرد حشرة صغير تتغذى على ثاني أكسيد الكاربون، حيث سيصرخ الجد المعتوه الفاقد للذاكرة وهو يحمل بندقيته الخشبية "إلى السلاح يا رفاق السلاح ... حشرة القلاس المفخخة والمحملة برؤوس جرثومية ستجتاح العالم"
إن المؤلف كريم الفحل الشرقاوي يكتب في نصه هذا عن حالة الحرب، وعن الوباء أيضاً الذي انتشر مؤخرا في عالمنا، بطريقة لم تعد فيها الحرب ولا الوباء يشكلان الواقع الفعلي للنزاع، وجوهر العمل بقدر ما تشكل الأبعاد السياسية والاجتماعية امتدادًا للحرب وللوباء في نسيج العلاقات الإنسانية؛ إنه لا يدين الحرب بقدر ما يعريها بسخرية لاذعة، ويصور تداعياتها كوباء منذ الغارة الأولى - كما يسمي لوحات النص بالغارة وليس اللوحات - ولكي تتعدد رؤى النص وإشكالاته، لجأ المؤلف منذ الوهلة الأولى إلى تقنية المنتجة المشهدية السينمائية بغية تعميق طروحاته الفكرية والجمالية، التي حاكت في شكلها ومضمونها العالم الذي يريد تقديمه بنوازعه وتقلباته من خلال مواكبة أهم ما تمر به الشخصيات والأحداث من متغيرات بصياغة زاوجت بين لغة المسرح والسينما.
"على خلفية طبول الحرب التي ينبعث صداها البعيد من العمق القصي المقعر. يظهر مكتب تزدحم فوقة الهواتف الثابتة يجمع ما بين الشكل المكتبي وشكل مجنزرة حربية كاريكاتورية . يجلس خلفه المساعد الاجتماعي الذي لا يرتدي سوى جوارب سوداء وقفازات سوداء وقبعة سوداء وسروال قصير إلى الركبة. يثرثر بدون انقطاع في سماعات الهواتف الثابتة دون أن يسمع صوته. بالتزامن مع ذلك تظهر على الشاشة الكبير أعداد لا تحصى من الأفواه البشعة تثرثر بشراهة. وفجأة يقتحم الشخص الممسوح الوجه الفضاء الركحي ويفتح مظلة صغيرة ملونة وينخرط في رقصة تعبيرية شاعرية، فتظهر على الشاشة آلاف الآذان وهي تتساقط حول الأفواه الثرثارة كأوراق الخريف الجافة". لتستمر صافرات إنذار حرب تنعق بالويلات، وهذه الحرب "لعنة تطارد هذه العائلة المنكوبة"، مثلما يقول المساعد الاجتماعي في آخر النص، وتنتصب إلى جانب المكتب خيمة عسكرية صغيرة تتسع لشخص واحد، يجلس أمامها رجل مسن يرتدي خوذة وبذلة الحرب ويحتضن بندقية خشبية كطفل أبله، يستعملها من حين لآخر ليستحضر ما عاشه من رعب وهول جاعلا من ذاكرته تعيش وبشكل متقطع، ومتناثر عوالم معطوبة، ليس في جراراتها سوى الحرب وأوامرها العسكرية.
إن هذا التوظيف السينمائي المسرحي لم يقتصر على بداية ووسط الغارة الأولى فقط وإنما استمر على طول النص وتمفصلاته، بحيث شكل نسقاً متلازما مع الأحداث وتسلسلها المتطور، وجعل من العالم السينمائي القادم من بعيد حاضرا أمامنا كجزء لا يتجزأ من الواقع المسرحي المعاش والمتخيل، وهذا ما نلمسه في الغارة الثانية التي نشاهد فيها ومن خلال الشاشة ما يدور بين "المساعد الاجتماعي" الجالس على المسرح و"المنتحر الأنيق" الذي نراه من خلال الشاشة:
"لقد فكرت في الانتحار بهذا (يخرج مسدسا من المحفظة الجلدية و يستعرضه بأناقة ثم يضعه في قلب فمه) ثم غيرت رأيي وقررت الانتحار بهذه (يخرج من المحفظة أنشوطة و يلفها بأناقة حول عنقه و يحولها إلى ربطة عنق) ثم تراجعت عن فكرة الشنق وقررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة أنبوب الحبوب المنومة و يبتلعها جرعة واحدة ثم يبصقها في وجه الشاشة) ثم غيرت رأيي و قررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة منشارا كهربائيا قصيرا يشغله فيرتفع أزيزه) أكيد أن هذا سيكون أكثر استعراضية وفنتازية وفرجوية ... (وفجّأة يخرج الرجل الأصلع من المحفظة جرذا صغيرا أبيض . ليفصل رأسه سريعا بالمنشار الكهربائي فيتلطخ وجه الشاشة بدمائه قبل أن يشرع في لعق الشاشة بلسانه وهو يرسل قهقهات فنطازية)". وهذا ما يحدث أيضا في بداية الغارة الثالثة عندما نشاهد على الشاشة أيضا:
"امرأة شقراء رشيقة ذات قوام جميل ترتدي فستان السهرة الطويل الأسود. تخفي وجهها خلف قناع ذهبي لامع وهي تمشي الهوينى وسط منحوتات نساء من صبار التين الشوكي. تظللها ستائر شفافة تهتز تحت تأثير رياح خفية. في العمق يظهر الشخص الممسوح الوجه والملامح وهو يرتدي ملابس متفحمة ويحتضن كونترباص متفحم أيضا من آثار حريق قديم. وفجأة تنزع المرأة الأنيقة قناعها الذهبي فيظهر وجهها المشوه قبل أن تشرع في الرقص بين تماثيل الصبار الشوكي على إيقاع المعزوفة الشاعرية لعازف الكونترباص المتفحم".
إن عملية الذهاب والإياب بين المسرح والسينما قد جعلت النص يستغني عن لغة السرد ويكرس نفسه للفعل وتكثيفه بالحدث بشكل متماسك، إذ لا يمكن فصل التقنية السينمائية هنا عن المسرح أو النص بسبب فجوة جمالية لا يمكن تخطيها خاصة عندما يكون مؤلف النص على دراية بما يفعل، لا سيما أن المسرح يعزز المفاهيم في حين أن السينما تنطوي على تحديد الهوية. وعندما تكون الشخصية حاضرة على المسرح مباشرة وفي السينما غير مباشر، فهذا يعني إن الشاشة السينمائية تعيد عملية حضورها بطريقة الانعكاسات المختلفة التي تحصل في المرآة بعرضها للصورة على واجهة سطحها المصقول، أي إن ما نفقده كشاهد مباشر في المسرح، نحصل عليه في السينما بتأثير مختلف كل الاختلاف، بفضل التقارب الاصطناعي الذي يسمح به التكبير في الكاميرا (في اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، والخ).
تتأسس هذه الكتابة النصية، على عوالم غرائبية منحت الزمن في الكثير من الأحيان، إمكانية اختراق الماضي والحاضر والمستقبل بحرية؛ سمحت له لأن يلعب على ومع العلاقة المعقودة بشكل خفي ما بين الحقيقة المعاشة، والحقيقة المخزونة في الذاكرة والحقيقة المتخيلة. حيث يتعاقب الحاضر مع سردية الماضي لأجل أن يكمل بقايا الحلقات المفقودة، وذلك من خلال كل ما هو عاطفي، اجتماعي، سياسي وتاريخي. وفي خضم هذه الفوضى التصويرية التي تتداخل فيها الاحداث والشخصيات، وتشتبك، وتتناقض، تحاول الكتابة النصية البحث عن نظام واسلوب جديد يكشف من خلاله عن خرابات الحروب والأوبئة التي لم تعد تفارق مخيلتنا. ويبقى نص "حشرة القلاس" من أهم النصوص المسرحية العربية التي تناولت تيمة الحرب بسخرية سوداء لا حدود لها.
د. عبد الحسين علوان مع د.عائشة الخضر لونا عامر و
موقع مجله المشهد المسرحي
almashhad-almasrahii.com
موقعنا : منصة اخبار ثقافية وفنية - نقد - مقالات - بحوث - دراسات - اصدارات مسرحية - اراء في المسرح .
نافذة
قراءة في كتاب
حشرة القلاس
لكريم الفحل الشرقاوي
قراءة للكاتب والناقد الباحث والمترجم الدكتور المبدع محمد سيف المقيم بباريس
"حشرة القلاس" لكريم الفحل الشرقاوي.
فنتازيا الحرب والوباء
حاول المؤلف المغربي كريم الفحل الشرقاوي من خلال نصه الدرامي الجديد "حشرة القلاس" تقديم كوميديا سوداء غرائبية عن الحرب معززة بالفنتازيا والغروتيسك ومشحونة بالمشاهد السينمائية، لأجل إعادة تفكيك الذاكرة الفردية والجماعية التي غالبا ما يتم سحقها تحت وطأة التاريخ الرسمي للأحداث والكوارث بعد طمر حقائقها. نكتشف في هذا النص أن الحرب والوباء في حد ذاتهما لا يظهران، بشكل مباشر ولكنهما سيرتبطان دائما بالحياة الاجتماعية والسياسية التي سيقوم بتحديدها، ومحاكاتها، بأسلوب لا يخلو من المشاغبة والسخرية اللاذعة. ويبقى السؤال المركزي للنص: كيف سنعيش ونبني حياة أخرى عندما لم يعد كل شيء كما كان من قبل؟ هذا ما تحاول الفنتازيا والغروتسك الذي لجأ إليهما المؤلف كأسلوب لأجل أن يصنع ويجعل من صمت الماضي يتكلم، ويكشف من خلالهما عن الجانب الخفي لتداعيات الحروب والوباء اللذان اكتسبا أهمية كبيرة في النص بشكل ضمني. بهذه الطريقة يحاول المؤلف كريم الفحل ان يعري الحقائق ويكشف عن أفكار ومعاناة الشخصيات من خلال الحفر في الماضي والحاضر، والذي يمكن فهمه على أنه علامة بحث مؤلم ومحزن عن الذات، والكينونة، اللتان باتتا مهددتان بسب غطرسة العالم الجديد؛ إنه بحث ضروري ولكنه دائما بلا جدوى، لأن ما حدث قد حدث، مثلما يقول شكسبير مع تغير بسيط في عبارته.
نص "حشرة القلاس" يرصد بسخرية قاسية مرحلة ما بعد الحرب، وبتعبير أدق بعد عودة الجنود إلى منازلهم، إلى الحياة، لكن الحرب عابثة، ساخرة، لا تنتهي كما نتصور، مثلها مثل الوباء الذي لا يستحضره المؤلف بشكل مباشر وإنما بشكل ضمني متداخل، يكاد يمزج أو يجمع بينهما لكي يجعل من الكلمات صورا وبالعكس، أو ربما لكي يعجن متنه النصي بمادة واقعية متخيلة من خلال صور سينمائية وأفعال تتخذ من الكلمات مجازا، ومن الفنتازيا ملاذا لتصوير ما هو غير معقول أو عبثي يحيط بحياتنا من كل الجهات. وعلى الرغم من أننا لا نرى الحرب في النص، إلا أن ظلها يخيم على النص وعلى احداثه بنوع من الكابوسية المخيفة والهزلية في آن واحد؛ إنها غائبة، وبعيدة، ولكنها منتشرة في كل مكان فيه مثل "الطاعون وانتقاله عن طريق العدوى، صحيح أن هذا الأخير يقتل دون أن يقضي على الأعضاء"، حسبما يقول آرتو، لكن الحرب بالإضافة إلى كونها تقتل، وتشرد البشر، تقضي على الحياة وليس الأفراد فقط، إنها تترك بصمتها على الجسد مع ندوب عميقة، مرئية وغير مرئية. فالعائلة التي يقترحها النص قد تحطمت وانهارت معها جميع القيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية.
يتناول النص قصة عائلة ستلاحقها لعنة الحرب بمختلف أجيالها. فالجد جندي مسن متقاعد سيصاب بهلاوس الحرب بعد فقده لذاكرته أثناء أسره في حرب قديمة، لهذا تظل تصرفاته كلها مرتبطة بزمن الحرب يحاكيها كطفل أبله وهو يرتدي خوذة وبذلة الحرب ويتسلح ببندقيته الخشبية ممارسا معاركه الهلامية في بيت العائلة حيث يقيم مع ابنه المساعد الاجتماعي الذي يعمل كمختص في الرد هاتفيا على الأشخاص المقبلين على الانتحار بسبب التداعيات النفسية والاجتماعية للحرب. نجمة الاغراء، ابنة المساعد الاجتماعي ممثلة سينمائية ستلاحقها هي أيضا لعنة الحرب لتصاب بتشويهات بشعة في وجهها على أثر إصابتها بشظية لغم منسي خلال تصويرها لمشاهد في إحدى مناطق النزاع القديمة، لتعود محطمة لبيت العائلة، أما شقيقها المجند في حرب جديدة، فسيعود هو أيضا إلى بيت العائلة على كرسي متحرك بعد أن فقد إحدى رجليه. وبجانب بيت العائلة يجثم مختبر الحشرات الذي تديره خطيبة المساعد الاجتماعي عالمة الحشرات البدينة المختصة في "حشرة القلاس"، لتتحول حشرتها في نهاية المطاف إلى وحش خرافي سيجتاح العالم. وهناك الشخص الغريب الممسوح الوجه والملامح الحاضر الغائب داخل العائلة والذي ينشغل بالكتابة في الفراغ ومحوها في إحالة إلى عالم ممسوح الدلالة وفاقد للملامح وللمعنى.
عوالم هذه الشخصيات ستفجر مناخات غروتسكية، وستطبع حالاته برمتها بنوع من الفنتازيا الممتزجة برهبة مخيفة، من خلال ما تعكسه من مواقف تكمن ذروتها في تقريبها للهزل من المأساة، ومزجها المتباين للوعي بالخيال والمغالاة بالانحراف، وأسلوب تصوير الأحداث وكيفية كتابتها المقترحة، في مستوى اللعب ولغته الهازلة المُستفزة، التي تعري بشاعة الحرب وسخفها في آن واحد. وبقدر ما تبدو الشخصيات متناقضة، وقلقة، بقدر ما تبدو غير معقولة في تصرفاتها وعلاقاتها، بحيث لا تتساءل من خلالها عما هي عليه أو عن ماهيتها، أو عما تفعله، بل تكتفي بتنفيذها بطريقة مربكة وعابثة أو براغماتية. في هذا السياق، يشكل العالم اليومي لهذه الشخصيات البيئة المألوفة التي يتكشف فيها وجودها، مثل امتداد ضروري لأفعالها، فهي تتصرف في هذا العالم الفنتازي الذي رسمه لهم المؤلف بطريقة تبدو ساذجة أو عفوية، دون السعي للتشكيك فيه، مما يجعل النص يبدو في حالة جدلية غرائبية مستمرة، ينتهي بمشهد يذكرنا نوعا ما بمسرحية "وحيد القرن" ليونسكو التي استلهمها هذا الأخير من تجربتين عاشهما، وهما صعود النازية والتجربة الستالينية، التي تشكل شكلاً سلطوياً من أشكال الشيوعية. فـ "الخراتيت" أو "وحيدة القرن" تقتحم المدينة تباعا، مثلما اقتحم وباء كورونا عالمنا مؤخرا، وزعزع استقرار معايرنا وعاداتنا اليومية، بعد ان أحدث شرخاً عميقاً فيها. وهذا ما سلط علية الضوء كريم الفحل في نهاية نصه عندما جعل من " حشرة القلاس" تقتحم بيت العائلة، كوحش ضخم له ملامح دبابة، بعد أن كانت في مختبر الباحثة مجرد حشرة صغير تتغذى على ثاني أكسيد الكاربون، حيث سيصرخ الجد المعتوه الفاقد للذاكرة وهو يحمل بندقيته الخشبية "إلى السلاح يا رفاق السلاح ... حشرة القلاس المفخخة والمحملة برؤوس جرثومية ستجتاح العالم"
إن المؤلف كريم الفحل الشرقاوي يكتب في نصه هذا عن حالة الحرب، وعن الوباء أيضاً الذي انتشر مؤخرا في عالمنا، بطريقة لم تعد فيها الحرب ولا الوباء يشكلان الواقع الفعلي للنزاع، وجوهر العمل بقدر ما تشكل الأبعاد السياسية والاجتماعية امتدادًا للحرب وللوباء في نسيج العلاقات الإنسانية؛ إنه لا يدين الحرب بقدر ما يعريها بسخرية لاذعة، ويصور تداعياتها كوباء منذ الغارة الأولى - كما يسمي لوحات النص بالغارة وليس اللوحات - ولكي تتعدد رؤى النص وإشكالاته، لجأ المؤلف منذ الوهلة الأولى إلى تقنية المنتجة المشهدية السينمائية بغية تعميق طروحاته الفكرية والجمالية، التي حاكت في شكلها ومضمونها العالم الذي يريد تقديمه بنوازعه وتقلباته من خلال مواكبة أهم ما تمر به الشخصيات والأحداث من متغيرات بصياغة زاوجت بين لغة المسرح والسينما.
"على خلفية طبول الحرب التي ينبعث صداها البعيد من العمق القصي المقعر. يظهر مكتب تزدحم فوقة الهواتف الثابتة يجمع ما بين الشكل المكتبي وشكل مجنزرة حربية كاريكاتورية . يجلس خلفه المساعد الاجتماعي الذي لا يرتدي سوى جوارب سوداء وقفازات سوداء وقبعة سوداء وسروال قصير إلى الركبة. يثرثر بدون انقطاع في سماعات الهواتف الثابتة دون أن يسمع صوته. بالتزامن مع ذلك تظهر على الشاشة الكبير أعداد لا تحصى من الأفواه البشعة تثرثر بشراهة. وفجأة يقتحم الشخص الممسوح الوجه الفضاء الركحي ويفتح مظلة صغيرة ملونة وينخرط في رقصة تعبيرية شاعرية، فتظهر على الشاشة آلاف الآذان وهي تتساقط حول الأفواه الثرثارة كأوراق الخريف الجافة". لتستمر صافرات إنذار حرب تنعق بالويلات، وهذه الحرب "لعنة تطارد هذه العائلة المنكوبة"، مثلما يقول المساعد الاجتماعي في آخر النص، وتنتصب إلى جانب المكتب خيمة عسكرية صغيرة تتسع لشخص واحد، يجلس أمامها رجل مسن يرتدي خوذة وبذلة الحرب ويحتضن بندقية خشبية كطفل أبله، يستعملها من حين لآخر ليستحضر ما عاشه من رعب وهول جاعلا من ذاكرته تعيش وبشكل متقطع، ومتناثر عوالم معطوبة، ليس في جراراتها سوى الحرب وأوامرها العسكرية.
إن هذا التوظيف السينمائي المسرحي لم يقتصر على بداية ووسط الغارة الأولى فقط وإنما استمر على طول النص وتمفصلاته، بحيث شكل نسقاً متلازما مع الأحداث وتسلسلها المتطور، وجعل من العالم السينمائي القادم من بعيد حاضرا أمامنا كجزء لا يتجزأ من الواقع المسرحي المعاش والمتخيل، وهذا ما نلمسه في الغارة الثانية التي نشاهد فيها ومن خلال الشاشة ما يدور بين "المساعد الاجتماعي" الجالس على المسرح و"المنتحر الأنيق" الذي نراه من خلال الشاشة:
"لقد فكرت في الانتحار بهذا (يخرج مسدسا من المحفظة الجلدية و يستعرضه بأناقة ثم يضعه في قلب فمه) ثم غيرت رأيي وقررت الانتحار بهذه (يخرج من المحفظة أنشوطة و يلفها بأناقة حول عنقه و يحولها إلى ربطة عنق) ثم تراجعت عن فكرة الشنق وقررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة أنبوب الحبوب المنومة و يبتلعها جرعة واحدة ثم يبصقها في وجه الشاشة) ثم غيرت رأيي و قررت الانتحار بهذا (يخرج من المحفظة منشارا كهربائيا قصيرا يشغله فيرتفع أزيزه) أكيد أن هذا سيكون أكثر استعراضية وفنتازية وفرجوية ... (وفجّأة يخرج الرجل الأصلع من المحفظة جرذا صغيرا أبيض . ليفصل رأسه سريعا بالمنشار الكهربائي فيتلطخ وجه الشاشة بدمائه قبل أن يشرع في لعق الشاشة بلسانه وهو يرسل قهقهات فنطازية)". وهذا ما يحدث أيضا في بداية الغارة الثالثة عندما نشاهد على الشاشة أيضا:
"امرأة شقراء رشيقة ذات قوام جميل ترتدي فستان السهرة الطويل الأسود. تخفي وجهها خلف قناع ذهبي لامع وهي تمشي الهوينى وسط منحوتات نساء من صبار التين الشوكي. تظللها ستائر شفافة تهتز تحت تأثير رياح خفية. في العمق يظهر الشخص الممسوح الوجه والملامح وهو يرتدي ملابس متفحمة ويحتضن كونترباص متفحم أيضا من آثار حريق قديم. وفجأة تنزع المرأة الأنيقة قناعها الذهبي فيظهر وجهها المشوه قبل أن تشرع في الرقص بين تماثيل الصبار الشوكي على إيقاع المعزوفة الشاعرية لعازف الكونترباص المتفحم".
إن عملية الذهاب والإياب بين المسرح والسينما قد جعلت النص يستغني عن لغة السرد ويكرس نفسه للفعل وتكثيفه بالحدث بشكل متماسك، إذ لا يمكن فصل التقنية السينمائية هنا عن المسرح أو النص بسبب فجوة جمالية لا يمكن تخطيها خاصة عندما يكون مؤلف النص على دراية بما يفعل، لا سيما أن المسرح يعزز المفاهيم في حين أن السينما تنطوي على تحديد الهوية. وعندما تكون الشخصية حاضرة على المسرح مباشرة وفي السينما غير مباشر، فهذا يعني إن الشاشة السينمائية تعيد عملية حضورها بطريقة الانعكاسات المختلفة التي تحصل في المرآة بعرضها للصورة على واجهة سطحها المصقول، أي إن ما نفقده كشاهد مباشر في المسرح، نحصل عليه في السينما بتأثير مختلف كل الاختلاف، بفضل التقارب الاصطناعي الذي يسمح به التكبير في الكاميرا (في اللقطات المقربة واللقطات البعيدة، والخ).
تتأسس هذه الكتابة النصية، على عوالم غرائبية منحت الزمن في الكثير من الأحيان، إمكانية اختراق الماضي والحاضر والمستقبل بحرية؛ سمحت له لأن يلعب على ومع العلاقة المعقودة بشكل خفي ما بين الحقيقة المعاشة، والحقيقة المخزونة في الذاكرة والحقيقة المتخيلة. حيث يتعاقب الحاضر مع سردية الماضي لأجل أن يكمل بقايا الحلقات المفقودة، وذلك من خلال كل ما هو عاطفي، اجتماعي، سياسي وتاريخي. وفي خضم هذه الفوضى التصويرية التي تتداخل فيها الاحداث والشخصيات، وتشتبك، وتتناقض، تحاول الكتابة النصية البحث عن نظام واسلوب جديد يكشف من خلاله عن خرابات الحروب والأوبئة التي لم تعد تفارق مخيلتنا. ويبقى نص "حشرة القلاس" من أهم النصوص المسرحية العربية التي تناولت تيمة الحرب بسخرية سوداء لا حدود لها.