استفتاء وتصديق شعبي
Referendum - Référendum
الاستفتاء والتصديق الشعبي
الاستفتاء référendum هو الطريقة الديمقراطية المباشرة لمشاركة الشعب في سَنِّ الشرائع الدستورية والقانونية التي تحكم بها البلاد، وذلك بالتصويت على ما تعرضه عليه منها السلطات الحاكمة، أو على ما يطلبه أو يقترحه هو نفسه منها. وثمة طريقة شبيهة به تؤدي إلى هذه المشاركة الشعبية المباشرة، لأجل تنصيب رؤساء الدولة أو دعمهم، هي التصديق الشعبي plébiscite . والفارق بين هذين النظامين هو أن الاستفتاء يتوجه إلى الشعب بنصوص معينة، في حين يتوجه إليه التصديق الشعبي بطرح الثقة بشخص معين.
وقد شاع عالمياً استعمال تعبير «استفتاء» في حالتي الاستفتاء والتصديق الشعبي على السواء، وأصبح يطلق غالباً على كليهما في العرف السياسي.
نشأة نظام الاستفتاء
إن ثمة أوضاعاً اجتماعية وسياسية كانت في الأصل وراء ظهور هذا النظام. ذلك أن الديمقراطية المباشرة التي تعني في الأصل حكم الشعب نفسه بنفسه تبدو في مفهومها المطلق مجرد نظرية مستحيلة التطبيق. الأمر الذي حدا بفقهاء السياسة إلى التحري عن طرقٍ عملية تسمح للشعب بأن يمارس التشريع بنفسه أو أن يشارك فيه دونما وساطة. وقد توصلوا إلى ابتداع أسلوبي الاستفتاء والتصديق الشعبي اللذين يجمعان بين النظرية الديمقراطية المحضة وإمكانية وضعها موضع التنفيذ.
يرجع الأقدم منهما، وهو التصديق الشعبي إلى تاريخ رومة القديمة. ففي القرن الرابع قبل الميلاد كانت عامة الشعب plèbe تعبِّر عن إرادتها بالتصويت فيما يتصل بالمقررات التي تسري عليها فقط. في حين كانت تسري على الطبقات المتميزة من الشعب القوانين lex التي كانت تصدر عن مجلس الشيوخ sénat. وقد نشبت نزاعات طبقية وسياسية مُرَّة انتهت بالتفاهم بين سائر الفئات على أن تطرح المشروعات على مجموع الشعب لتسري الأحكام التي يقرها على جميع طبقاته. وعلى مرِّ السنين تضاءل دور التصديق الشعبي واقتصر على تقليد السلطة العليا للأباطرة. ثم جعل هؤلاء يلجؤون إلى هذا الأسلوب في مجالات توطيد سلطانهم أو توسيع صلاحياتهم عندما كانوا يشعرون بمعارضة مجلس الشيوخ لهم. وظلَّ التصديق الشعبي يطلق في القرون اللاحقة حتى اليوم على أمر الموافقة على تنصيب رؤساء الدول. وأحدث مثال عليه انتهى بالرفض وهو الطلب الذي وجهه إلى الشعب رئيس تشيلي الجنرال بينوشيه في 5/10/1988 لبيان قبوله أو رفضه تجديد رئاسته التي تنتهي في عام 1989، وكان الجواب سلبياً.
ويرجع نظام الاستفتاء إلى القرن الخامس عشر، إذ مارسته بعض الأقاليم السويسرية «الكانتونات» cantons وكان أول إقليم مارسه هو الفاليه Valais ثم الغريزون Grisons. فكانت الجمعية العمومية للإقليم تسنّ تدابير مؤقتة على أن يستشار فيها الشعب ad référendum فإذا أقرّها أصبحت قانوناً. ولما عمَّ هذا الأسلوب الأقاليم الأخرى أخذت هذه الاستشارة اسم الاستفتاء الشعبي. واقتدت بسويسرة في القرون اللاحقة بعض بلاد العالم ابتداءً من ألمانية وبعض الولايات الشمالية من الولايات المتحدة الأمريكية والسويد، على نطاق ضيق. ثم تبعتها فرنسة، وكان أول عهدٍ لها بالاستفتاء في عام 1793 ثم في 1795 في ظل الثورة الفرنسية. ثم لجأ إليه نابليون الأول في عام 1799 إثر الانقلاب الذي قام به، ثم في أعوام 1802 و1804 و1815. ولم تشأ السلطات المتعاقبة على الحكم في فرنسة اللجوء إلى الاستفتاء بعد ذلك إلى أن أحياه نابليون الثالث في أعوام 1851 و1852 و1870. ثم أهمل ثانية إلى أن عاد لإحيائه الجنرال ديغول في أعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1945 ثم طبق في فرنسة عشر مرات كان آخرها في 6/11/1988 حول مصير جزيرة «نيو كلدونية».
وسرى نهج الاستفتاء من أوربة إلى الدول الإفريقية ودخل في صلب الكثير من دساتيرها ودساتير الدول التي تحررت بعد الحرب العالمية الثانية. كما انتقل هذا الأسلوب من الولايات المتحدة الأمريكية إلى سائر دول القارة الجديدة. إلا أن سويسرة كانت وما تزال البلد الأمثل في الفقه النظري والعملي للاستفتاء.
وقد بقي المؤرخون لعدة قرون لا يفرقون كثيراً في التعبير بين الاستفتاء والتصديق الشعبي الموروث عن رومة من القديم. ولم يؤخذ بالدقة في التفريق بين النظامين إلا في مطلع القرن العشرين.
إن الطريقة العملية للمشاركة الشعبية بوساطة الاستفتاء هي تصويت الناخبين على المشروعات الدستورية أو التشريعية أو القضايا المهمة التي تطرح عليهم والتي يطلب إليهم أن يجيبوا عنها على الأغلب بإحدى كلمتي (نعم) أو (لا).
أنواع الاستفتاء
يمكن تصنيف الموضوعات التي تطرح على الاستفتاء، بحسب ماهيتها في عدة أنواع، وهي:
الاستفتاء الدستوري: وهو أن يطرح على الناخبين مشروع دستور جديد أو مشروع تعديل دستور نافذ ليقرروا قبوله أو رفضه. وقد اتّبع هذا الأسلوب في فرنسة فيما يتصل بعدة دساتير، منها دستور 1940 الذي وضع مشروعه الماريشال بيتان لجنوبي فرنسة الذي لم تحتله الجيوش الألمانية وطرحه على الاستفتاء. ثم دستور 1946 الذي جرى الاستفتاء عليه عقب الحرب العالمية الثانية والذي قضى بأن تطرح على الاستفتاء أيضاً مشروعات تعديله إذا كانت الجمعيتان (أي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ) قد أقرتاها بأغلبية ضعيفة. وقد رسّخ دستور 1958، الذي حلّ محلّه، مبدأ الاستفتاء الإلزامي على كل تعديل له تقترحه وتقره الجمعيتان، إلا أنه أجاز عدم اللجوء إلى هذا الاستفتاء إذا كانت الحكومة هي صاحبة مشروع التعديل ثم عرضته على الجمعيتين. على أن لرئيس الجمهورية في هذه الحالة أن يطلب إلى الجمعيتين أن تجتمعا في مؤتمر congrès لمناقشته. فإذا حاز المشروع أغلبية ثلاثة أخماس الأصوات المدلى بها لا يطرح على الاستفتاء. أما في سويسرة فإن الاستفتاء الدستوري إلزامي على الصعيد الاتحادي وفي نطاق الأقاليم على السواء. وفي سورية عُرض مشروع الدستور النافذ على الاستفتاء عام 1973 وأقر. إلا أن تعديله لا يحتاج إلى الاستفتاء وإنما أعطي حق التعديل لمجلس الشعب شريطة إقراره بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه واقترانه بموافقة رئيس الجمهورية.
الاستفتاء التشريعي: ويكون اختيارياً تارة وإلزامياً تارة أخرى، فيطرح رئيس الدولة أو المجلس التشريعي على الشعب اقتراحاً أو مشروع قانون للموافقة عليه أو رفضه. ففي فرنسة أجاز دستور عام 1958 لرئيس الجمهورية بناءً على اقتراح الحكومة أو اقتراح الجمعيتين أن يطرح على الاستفتاء أي مشروع قانون يتناول تنظيم السلطات العامة أو يتضمن التصديق على معاهدة تتعارض مع بعض أحكام القوانين المحلية. وبعض الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية تسير على نهج هذا الاستفتاء التخييري في حين تسير ولايات أخرى على مبدأ الاستفتاء الإلزامي.
أما في سويسرة فإن الاستفتاء التشريعي اختياري على الصعيد الاتحادي fédéral ويجري إذا طالب به ثلاثون ألف مواطن أو ثمانية أقاليم، شريطة ألا يتناول الموازنة أو القوانين المالية. أما على صعيد الأقاليم فالاستفتاء اختياري تارة، وإلزامي تارة أخرى بحسب الموضوعات.
الاستفتاء الاستشاري: قد تطلب السلطات التشريعية من المواطنين موافقتهم المسبقة على وضع مشروع قانون أو مشروع تعديل دستوري يطرحان عليهم فيما بعد. وهذه الاستشارة تسمح للمواطنين بأن يبينوا رغبتهم قبل وضع نص المشروع. ففي السويد، بموجب القانون الأساسي لعام 1908، يخول الملك والمجلس التشريعي مجتمعين تحري رأي الشعب في أي موضوع يريانه ذا أهمية خاصة قبل وضع المشروع له. وفي الجزائر توجه رئيس الجمهورية في 3/11/1988 إلى الشعب يستفتيه فيما إذا كان يوافق على إصلاح دستوري بأن يوضع مشروع بتعديل بعض أحكام الدستور في أمور معينة، يعرض عليه فيما بعد. وقد وافق الشعب على العرض. واتّبع مؤخراً في فرنسة حيث طرح رئيس الجمهورية على الاستفتاء مشروع قانون يتضمن أحكاماً تنظيمية وإعدادية لتقرير المصير الذي يتم بعد عشر سنوات لجزر نيوكلدونية في المحيط الهادئ. وقد اقترن بالموافقة في 6/11/1988.
الاستفتاء التحكيمي: وذلك عندما يدعى الشعب للفصل في ما يقع من خلافات بين السلطات العامة. ففي مرحلة مابين الحربين العالميتين (1918- 1945) راعت بعض الدول الأوربية في دساتيرها أن تحتكم إلى الشعب عن طريق الاستفتاء في النزاعات التي قد تنشب بين السلطات الحكومية والسلطات التشريعية. وأول هذه الدساتير الدستور الألماني الذي أقرته الجمعية التأسيسية في فيمار Weimar في مطلع عام 1919، والذي جعل من ألمانية دولة اتحادية مؤلفة من سبع عشرة ولاية تتمتع بالاستقلال الذاتي وأوجب أن يكون الفصل في أي نزاع يقوم بين جميع سلطاتها، بتحكيم الشعب فيه بوساطة الاستفتاء.
المبادرة الشعبية: هي حق المواطنين، بمبادرة منهم، في سنّ التشريعات التي لا تتحمس السلطات التشريعية لها، أو في مطالبة هذه السلطات بوضعها. ودستور إقليم برن السويسري يعطي الناخبين حق المطالبة بسنّ قانون أو إلغاء قانون قائم أو تعديله فيما إذا تقدم بهذا الطلب عدد منهم لا يقل عن اثني عشر ألفاً. والحكومة في هذه الحالة أمام أحد خيارين، فإمّا أن تستجيب للطلب. أو أن تطرح الاقتراح نفسه على الاستفتاء. أما على الصعيد الفدرالي السويسري فإن حق الاقتراح المقرر في هذا المجال هو في الأمور الدستورية فقط على ألا يقل عدد الطالبين عن خمسين ألفاً.
حق الاعتراض الشعبي: هو أن يسن المجلس التشريعي قانوناً ويقره. إلا أنه قبل وضعه موضع التنفيذ يعرضه على الشعب، فإذا اعترض عليه عدد معين من الناخبين وجب طرحه على الاستفتاء لتصديقه أو نقضه. وإذا لم يبلغ عدد المعترضين نصابه عدّ القانون مصدقاً. وهذا الأسلوب متبع في إيطالية وفي بعض الولايات المتحدة الأمريكية الشمالية.
حق الاختيار: تطرح الحكومة على الناخبين عدة حلول ليختاروا واحداً منها. ومن أبرز الأمثلة على هذه الطريقة ما جرى طرحه على الشعب الفرنسي في 21/10/1945 بُعيد الحرب العالمية الثانية، إذ طُلب إليه بيان ما إذا كان يرغب في أن تكون الجمعية التي ينتخبها في اليوم ذاته جمعية تأسيسية مكلفة وضع دستور جديد أو تكون مجرد مجلس نواب يعمل ضمن نطاق القوانين النافذة. وإذا أصبحت جمعية تأسيسية فهل تتمتع بسلطات غير محدودة أو إنها تتبع دستوراً مؤقتاً إلى أن تنتهي من وضع الدستور الجديد؟. وكذلك الاستفتاء التخييري الذي جرى في إيطالية عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية لتخيير الشعب بين النظام الملكي والنظام الجمهوري، وكان الاختيار للثاني. كما أن دولة النروج تركت للشعب أن يختار بالاستفتاء بين الانضمام إلى المجموعة الأوربية الاقتصادية أو عدمه. وقد اختار عدم الانضمام.
وثمة نوع آخر هو الاستفتاء على الثقة بالمجلس المنتخب القائم، إذ للشعب أن يقرّ استمرار الثقة به أو حجبها عنه، فإذا ما حجبها عُدَّ المجلس منحلاً. وهذه الطريقة متبعة في أحد عشر إقليماً سويسرياً. أما في الولايات المتحدة الأمريكية ففي اثنتي عشرة ولاية منها يجوز وفق هذه الطريقة إبطال نيابة عضو في المجلس أو تسريح أحد الموظفين.
مزايا الاستفتاء
الاستفتاء هو الترجمة العملية للديمقراطية المباشرة إذ يسهم الشعب مباشرة في صوغ الكثير من المقررات المهمة التي تحكمه. وهو الرديف المتمم للتمثيل الشعبي الذي تبرز فيه الديمقراطية غير المباشرة. ومن أبرز مزايا نظام الاستفتاء:
ـ أن مجالس الشعب بفضل قيامه تمارس صلاحياتها ونصب أعينها حقوق هذا الشعب الرقيب عليها.
ـ أنه وسيلة للتوازن بين السلطات لأن لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تحتكم إلى الشعب.
ـ أنه يبعث في المواطنين الشعور بسلطانهم المستقل في مواجهة الأحزاب السياسية، فيدلون بأصواتهم بصدق وشجاعة ومن واقع حاجاتهم، من دون التزام السير على خطا هذا الحزب أو ذاك. قال العلامة دوغي Duguit «إن الناخبين هم أكفأ في تقدير ملاءمة القوانين التي تنظم شؤونهم، منهم في اختيار ممثليهم في المجالس».
ـ لا ينكر الأثر الأخلاقي الواعي الذي تخلفه هذه الطريقة الاستشارية سواء في نفوس الناخبين أو لدى الأحزاب أو في الحياة السياسية بمجملها. ولذلك فمن شأن نظام الاستفتاء كما يقول جورج بوردو Burdeau «أن يرقى بالشعب إلى مستوى إنساني رفيع».
المآخذ على الاستفتاء
لم ينج هذا النظام من النقد. ومن أبرز المآخذ التي أوردها عليه الفقهاء:
ـ أنه يقلل من شأن الحكومة المنبثقة عن التمثيل النيابي، كما ذهب إليه مؤرخ علم القانون آديمار إيسمن Esmein.
ـ أنه يتسم بالطابع المحافظ، بحسب رأي العلامة موريس دوفيرجيه Duverger وآخرين. فغالبية مشروعات الإصلاح في سويسرة، مثلاً، اصطدمت عند الاستفتاء عليها، بحرص الناخبين على الأوضاع التي ألفوها. وكان مصيرها الرفض.
ـ أنه يغلب على الاستفتاء في كثير من الأحيان مفهوم التصديق الشعبي، فكثيراً ما ينقاد الناخبون إلى التصويت بحسب مشاعرهم تجاه رجل الدولة صاحب المشروع، وليس بحسب مضمون المشروع، أو أن يسلب من الناخبين حرية الاختيار الحقيقي عندما يتراءى لهؤلاء أن التصويت السلبي على الموضوع المطروح عليهم يتسبب في مضار كبيرة للبلد، فينجرون إلى الموافقة مكرهين.
وإن التاريخ زاخر بالأمثلة على حالات انحراف الاستفتاء إلى مفهوم التصديق الشعبي. ففي عام 1799 لما دعي الشعب الفرنسي إلى الاستفتاء على الانقلاب الذي تزعمه نابليون وعلى مشروع الدستور الذي وضعه والمشهور بدستور العام الثامن للثورة، كان التصويت إيجابياً بأغلبية ساحقة مراعاة لشخص صاحب الاستفتاء. وقد أدرك نابليون الغنم الذي يمكن أن يجره له هذا الشكل من الاستفتاء فأعاد الكرة في عام 1802 لينال الموافقة على تنصيبه قنصلاً مدى الحياة. ثم في عام 1804 لإعلان الامبراطورية وتنصيبه امبراطوراً. وأخيراً في عام 1815 بعد إبحاره من مقره في جزيرة إلبة Elbe واستيلائه على الحكم ثانية أجرى استفتاءً حول تعديل الدستور لتعزيز سلطته. واقتفى خطواته ابن أخيه نابليون الثالث إثر الانقلاب الذي أجراه في عام 1851، ثم في عام 1852 لتنصيبه امبراطوراً، وكذلك في عام 1870 من أجل دعم مركزه تجاه المعارضة. والانحرافات التي رافقت هذه الاستفتاءات أفقدت الثقة إلى حد بعيد بهذا النظام الأمر الذي استتبع العزوف عنه. حتى النصوص الدستورية نفسها التي كانت تطرح على الاستفتاء كان واضعوها يضفون عليها طابع التصديق الشعبي. فدستور فيمار الألماني الذي صدر في أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1919 تجيز المادة 74 منه لرئيس الدولة أن يطرح على الاستفتاء القوانين التي يقرها المجلس التشريعي بمعنى أن لرئيس الدولة أن يجابه المجلس بالشعب ويُعَرِّضَ إرادة المجلس لأن يخذلها ناخبوه.
إن هذه السابقة وبعض مثيلات لها تسببت في نفرة السلطات الألمانية من هذه الأساليب في الاستفتاء وأدت إلى هجره.
وعلى الرغم من هذه المثالب فإن بعض البلاد، وفي أوضاع مختلفة، توصلت بالاستفتاء إلى التغلب على صعوبات شائكة. فبفضل اللجوء إليه تمكنت بلجيكة في عام 1950 من حسم مشكلة استمرار النظام الملكي الذي تضعضع بعد الحرب العالمية الثانية، فأبقي عليه. وفي سويسرة، وعلى الصعيد الاتحادي، رفض الشعب في عام 1970 اقتراحاً عرض عليه مع أنه كان قد وضع بمبادرة شعبية، في الوقت الذي أقر فيه عام 1971 مشروعاً، اقترحته الحكومة، حول مشاركة المرأة في الانتخابات. وعلى صعيد الأقاليم أقر الشعب في مقاطعة زوريخ عام 1970 حق المرأة في الانتخاب والترشيح للمجلس المحلي. ثم سارت مقاطعات أخرى على نهجها. فكان الرجوع إلى الشعب في هذه الأمور إيجابياً إلى حد بعيد. إلا أن المحذور يبقى كامناً في أن السلطات لا تعدم أحياناً وسائل للانحراف بالاستفتاء وتشويهه باستخدامه لأغراضها. كما حصل مثلاً في أثناء رئاستي الجنرال ديغول لفرنسة، فبعد مضي أمد طويل على نظام الاستفتاء منذ 1870، بعثه ديغول من مرقده سنة 1945، ولجأ إليه بضع مرات بعد ذلك، وكان يستخدمه في كل مرة للتغلب بوساطته على الأزمات التي كانت تعترضه.
تقهقر نظام الاستفتاء
إن ظاهرة تقهقر نظام الاستفتاء تفشت في كثير من الدول ولاسيما التي تحررت حديثاً في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وخاصة في القارة الأفريقية. ولئن توجت هذه الدول دساتيرها بشعار أن السيادة الوطنية ملك للشعب وأنه يمارسها بوساطة ممثليه وعن طريق الاستفتاء، أي إن اللجوء إلى الشعب مباشرة أصبح نظرياً أكثر منه عملياً، ولا يطبق إلا في حالات نادرة جداً. وأن بعض النصوص الدستورية الحديثة أخذت العبرة من نفور سائر الدول من نظام الاستفتاء فأهملت الأخذ به كما هي الحال فيما يتصل بدستور الكونغو وميثاق المجلس الرئاسي لدولة بينين الصادرين عام 1970؛ في حين أن البعض الآخر من الدول الأفريقية وغيرها من الدول التي أخذت دساتيرها بنظام الاستفتاء قد تنكرت عملياً لهذا النظام.
وإن أوضاعاً خاصة في بعض البلاد تجعل الرجوع إلى رأي الشعب أمراً شكلياً مضمون النتائج. ونظام الحزب الواحد الذي تأخذ به بعض الدول كفيل بأن يفوز فيه كل مشروع يطرح على التصويت الشعبي بإجماع الأصوات. وليس خافياً ما يصاحب هذا الأسلوب من خطر حلول الطبقة الحاكمة محل الشعب.
وإذا كان الاستفتاء قد دخل بصورة عامة في طور التقهقر، فإن هذا القول لا ينطبق على الدولة السويسرية التي لا يزال الاستفتاء يحظى فيها بموقع الصدارة. فهو يؤهل الناخبين لأن يتخذوا مواقف صادقة في مواجهة أسئلة موضوعية صريحة خالية من أي لبس. والخيار الذي يرتضونه يبقى في نطاقه الموضوعي ولا يعني تأييداً للسياسة العامة للدولة أو رفضاً لها.
وأخيراً وإن كان للاستفتاء جوانب مظلمة فإنه لا تنكر عليه في الوقت نفسه جوانبه المضيئة شأنه في ذلك شأن أي نظام، ويبقى صلاحه وفساده في يد المسؤولين عن تطبيقه.
الاستفتاء في سورية
أول تشريع سوري جاء بالاستفتاء صدر بالمرسوم التشريعي رقم 106 المؤرخ في 4/6/1949 إثر انقلاب الزعيم حسني الزعيم، إذ دعا الشعب لبيان موافقته على انتخاب رئيس للجمهورية من الشعب مباشرة، وعلى أن يخول وضع دستور جديد يعرض على الاستفتاء، وأن يتولى الرئيس سلطة التشريع حتى وضع الدستور. وأعقبه بعد يومين المرسوم التشريعي /111/ متضمناً الأسئلة التي تطرح في ذلك الاستفتاء، الذي جرى فعلاً في 25/6/1949، وأجيب عن الأسئلة بالموافقة بما يشبه الإجماع. وفي 13/8/1949 أطاح انقلاب الزعيم الحناوي ذلك الحكم وانتخبت جمعية وضعت دستوراً جديداً أعلن في 5/9/1950، ثم ألغي في 29/11/1956 وحل محله دستور جديد أقر باستفتاء شعبي.
وفي 1/3/1973 صدر المرسوم التشريعي رقم /8/ الذي وضع للاستفتاء أصولاً وقواعد تنظيمية سواء أكان استفتاءً على الدستور أم على أي موضوع آخر. فهو يشمل إذاً ما اصطلح على تسميته بالتصديق الشعبي وبمقتضى هذا التشريع يجري الاستفتاء بناءً على دعوة توجه للمواطنين بمرسوم يصدر عن رئيس الجمهورية يتضمن المشروع المطروح والأسئلة الموجهة إلى المواطنين وشكل الإجابة عنها وموعد إجرائه. ويتمتع بحق التصويت الذكور والإناث على السواء، الذين أتموا الثامنة عشرة من عمرهم. ويعد موضوع الاستفتاء مُقراً إذا وافقت عليه الأكثرية المطلقة لمجموع أصوات المقترعين.
وفي إثره دعي المواطنون لاستفتائهم على مشروع دستور الجمهورية العربية السورية. فوافق عليه الشعب بتاريخ 12/3/1973 وهو الدستور النافذ. وتقضي أحكامه بأن يتم انتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاستفتاء. وأن يجري بدعوة من رئيس مجلس الشعب. وأعطى لرئيس الجمهورية الحق بأن يستفتي الشعب بالقضايا المهمة التي تتصل بمصالح البلاد العليا. وجعل للقوانين التي تنال موافقة الشعب امتيازاً على القوانين التي تصدر عن مجلس الشعب بأن حصّنها وجعلها في منأى عن الطعن بعدم دستوريتها أمام المحكمة الدستورية العليا. وتكون نافذة من تاريخ إعلانها.
جمال النعماني