كانت العلاقة بين التنمية الاقتصادية والنمو السكاني موضوعًا متكررًا للتحليل الاقتصادي، وذلك عندما أوضح الاقتصادي (توماس مالثوس) بأن النمو السكاني من شأنه أن يخفض من مستوى المعيشة على المدى الطويل، وقام بوضع نظريةٍ بسيطةٍ تنص على أنه: ” بما أن كمية الموارد الموجودة على الأرض ثابتةً، فإن النمو السكاني سيقلل في نهاية المطاف كمية الموارد التي يمكن لكل فرد أن يستهلكها، مما يؤدي إلى خلق مشاكل في المجتمع، مثل: المرض، والمجاعة، والحرب”، ويضيف: “إن الطريقة الوحيدة لتجنب حدوث هذا الأمر، هو الامتناع عن وجود عدد كبيرٍ من الأطفال”، وبالطبع، لم يتنبأ توماس بأن التقدم التكنولوجي هو الذي رفع معدل الإنتاج الزراعي، وقلل عدد الأمراض، وهو ما مكن من زيادة عدد السكان من 1 مليار عام 1798م، إلى 7.4 مليار هذا العام.
ومع ذلك، فإن رؤيته الأساسية بأن النمو السكاني تشكل تهديدًا محتملًا للتنمية الاقتصادية، ومازالت تناقش في جدول سياسات الدول، ولاسيما في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي فترة تميزت بزيادة معدلات نمو السكاني بوتيرةٍ سريعةٍ خاصةٍ في الدول النامية.
الكمية والجودة: كيف يؤثر حجم العائلة على الادخار والاستثمار؟
في ذلك الوقت، كان الرأي السائد عند الاقتصاديين بأن ارتفاع معدلات المواليد، والنمو السكاني في البلدان الفقيرة، سيحرم رأس المال من الاستثمار، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى ضرر في التنمية الاقتصادية، وقد افترضوا أن الأسرة كبيرة الحجم لديها موارد أقل لكل طفل مقارنة بالأسرة صغيرة الحجم، ومن ثم، فإن الأسرة الكبيرة تنشر مواردها القليلة بين عدد أطفالها الكبير، وهو ما سيقلل الدعم للأطفال، ومن الطبيعي أن هذا الأمر سيؤدي إلى التقليل من الادخار والاستثمار، كما أنه سيقلل من تعزيز الإمكانات من تطوير القدرات الاقتصادية، كالتعليم، والصحة مثلًا.
وسيؤدي هذا إجمالًا ارتفاع نسبة المواليد إلى آثارٍ سلبية على مستوى معيشة الأسرة من حيث أنه سيقلل من الدخل السنوي للأفراد العاملين لكل أسرة.
هل كانت نظرية توماس مالثوس خاطئة؟
لم توضح الدراسات في سبعينيات القرن الماضي، والبيانات المأخوذة من عدة دولٍ على مستوى العالم، أن النمو السكاني له تأثيرٌ سلبيٌ على معدل دخل الفرد، وقد بحث الاقتصادي (جوليان سايمون) في هذا الموضوع، موضحًا أن: “الدراسات التجريبية التي أجريت في العديد من دول العالم لا توضح بأن هناك علاقة بين دخل الفرد والنمو السكاني”، وأضاف: ” إن الآثار على المدى الطويل لهذه العلاقة كانت إيجابية”، وقد أثر هذا الرأي على موقف سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المؤتمر العالمي للسكان عام 1984م ، وأوضحوا: “بأن النمو السكاني هو بحد ذاته ظاهرةٌ محايدةٌ فيما يتعلق بالنمو الاقتصادي”، وبدءًا من تسعينيات القرن، أسهم هذا الرأي في انخفاض كبيرٍ في التمويل الدولي لبرنامج تنظيم الأسرة.
ولكن القصة لا تنتهي هنا، ففي تسعينيات القرن، وجد الباحثون اكتشافين مهمين فيما يتعلق بعدم وجود أي تأثيرٍ للنمو السكاني بالتنمية الاقتصادية، وهما:
أولًا: تشير التحليلات في أواخر القرن العشرين في بلدان شرق أسيا إلى أن جزءًا كبيرًا من نموها الاقتصادي الملفت للنظر، يعزى إلى المستويات العالية من الاستثمار والادخار، وهو ما وجد في وقت كانت الخصوبة في أقل مستوى لها.
ثانيا: أشارت الأبحاث الجديدة إلى وجود علاقةٍ سلبيةٍ بين النمو السكاني، والأداء الاقتصادي.
هل التكوين العمري للسكان مهم للنمو الاقتصادي؟
تنمو نسبة السكان في السن العمل( أكثر من 15 سنة) بالنسبة إلى السكان الشباب المعتمدين اقتصاديا عندما تنخفض معدل الخصوبة على فترةٍ زمنيةٍ معينةٍ، ويخلق هذا التغير في التكوين العمري، فرصةً سانحةً، يمكن فيها للبلاد أن ترفع من مستوى الادخار والاستثمار، وهو ما يعرف بظاهرة ( العائد الديمغرافي)، وأدت هذه النتيجة لاحقًا إلى إعادة النظر في سياسات خفض الخصوبة، نظرًا لإمكانية تحقيق النمو الاقتصادي.
كان الاكتشاف الثاني في التسعينيات بظهور علاقةٍ سلبيةٍ بين النمو الاقتصادي والنمو السكاني في التحليلات للبيانات الدولية، وفي عام 2001م، لخص الاقتصاديان (بيردسول و سيندينج) هذا الاكتشاف إذ أوضحا بأنه: “على النقيض من الدراسات التي أجريت في العقود القليلة الماضية، وجد أن النمو السكاني السريع قد أحدث أثرًا سلبيًا للنمو الاقتصادي الكلي في البلدان النامية”، وخلُص تحليلٌ أجري مؤخرًا لهذا البحث، بأن العلاقة السلبية ظهرت في بيانات عام 1980م، وقد ازدادت بشكلٍ مضطردٍ مع مرور الوقت