ارتفعت «البيتكوين – Bitcoin» من الاستثمار الهامشي إلى الاهتمام العالمي في غضون أسابيع، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
كان سعرها حوالي 3000$ للبيتكوين الواحدة وفي 6 ديسمبر/كانون الأول 2017 تجاوزت عتبة 19000$ وفي وقت النشر كانت تبلغ قيمتها حوالي 15000$.
تألقت البيتكوين فعلا هذه السنة، ولا يهم إذا اعتقدنا انها فقاعة على وشك الانفجار أو أملنا بأن الاستثمارات ستزدهر كثيرًا على المدى الطويل ولكن هناك انطباع واضح فعلًا: العملة الإلكترونية (المشفرة) ستغير نظامنا الاقتصادي.
أما الأمر الغير واضحٍ حتى الآن هو كيف ستغير التكنولوجيا الكامنة وراء البيتكوين والعملات المشفرة النظم المالية الوطنية والعالمية.
«سلسلة الكتل – Blockchain» (بلوكتشين):
تعتمد البيتكوين كجميع العملات المشفرة، على تقنية تسمى «بلوكتشين – Blockchain» والتي تجعل معاملاتها آمنة جدًا حتى اعتبرها الخبراء غير قابلة للاختراق. ولأن المعاملات مضمونة فإن تكلفة التحقق من المعاملات أقل من تكلفة البنك المركزي، على الرغم من أن التحقق من معاملات البيتكوين أصبح مكلفًا إلى حد ما.
تحدث معاملات العملات المشفرة مباشرة بين الأفراد بدلًا من أن تحدث عبر البنك وفي كل مرة يقوم شخص بإجراء معاملة باستخدام العملة المشفرة – على سبيل المثال: باستخدامه أمواله المخزنة في محفظته الإلكترونية لإرسال البيتكوين لشخص آخر – يتم تسجيل الصفقة في سجل حسابات رقمي يسمى بلوكشين، كل عملة مشفرة لها بلوكشين خاصة بها وتقوم أجهزة الكمبيوتر بحسابات رياضية معقدة في شبكة كبيرة لتحافظ عليها.
حالما يقوم المستخدمون بعدد معين من المعاملات باستخدام العملة المشفرة، تجمع أجهزة الكمبيوتر هذه المعاملات لتشكل «كتلة – Block»، ولإرسال الكتلة وإضافة المعاملات إلى بلوكشين والفوز بالمكافأة النقدية يجب أن يحل جهاز كمبيوتر مسألة رياضية معقدة تدعى «دالة التشفير – cryptographic function».
في الأساس، معادلة التشفير تشبه رمي يقطينة (كتلة) من أعلى مبنىً لتتقسم وتخبرك كيف يبدو نمط التقسيم والطريقة الوحيدة للمستخدمين ليستطيعوا مطابقة نمط التقسيم – وإرسال الكتلة – هو رمي عدد من اليقطين من مبنى بأنفسهم.
حتى الذين ينقبون عن العملة المشفرة هم في الواقع يستخدمون أجهزة الكمبيوتر لتحطيم المليارات من اليقطين للعثور على اليقطينة الفائزة مع التقسيم الصحيح، الذي يحقق كتلتهم.
وبعبارة أخرى، فإن الكمبيوتر الأول الذي يمكنه حل المشكلة الرياضية المعقدة يمكنه إضافة كتلتها من المعاملات إلى البلوكشين والحصول على مكافأة نقدية لقاء القيام بذلك (وهذا ما يعنيه الناس بتعدين العملة المشفرة).
كل كمبيوتر في الشبكة يضيف كتلة جديدة إلى نسخة من سجل الحسابات الرقمي، وتستمر العملية.
على الرغم من أنه تم إنشاء البيتكوين لتجنب المصرفية المركزية والأموال الحكومية، إلا أن التكنولوجيا نفسها يمكن استخدامها كعملة وطنية مصرفية مركزية. في الواقع البلوكشين آمن جدًا لأنه يقلل من تكلفة التحقق من المعاملات لذلك تبحث البنوك بالفعل في ذلك، ويقول «ديفيد يرماك – David Yermack» رئيس قسم المالية في «مدرسة ستيرن للأعمال» التابعة لجامعة نيويورك: «في غضون 50 عامًا، يمكن استخدام العملات المشفرة كعملات وطنية».
هل ستكون البيتكوين عملة المستقبل؟
يقول «يرماك»: «أنشئت البيتكوين للعمل خارج العملات الوطنية وهي بديل للذين لا يثقون بالبنوك المركزية».
المتفائلون بارتفاع سعر البيتكوين سيلاحظون شعبيته في بلدان مثل زيمبابوي وفنزويلا، حيث يستخدم كوسيلة رئيسية للتبادل بسبب فشل العملات الصادرة عن الحكومة بسبب التضخم المفرط. وأصبحت البيتكوين وغيرها من وسائل التبادل الشعبية في هذه البلدان لأن المعاملات يمكن أن تنجز على الهواتف المحمولة، وقيمتها أكثر استقرارًا من العملة الوطنية المفرطة في التضخم.
في حين نجد أن آخرين يعتقدون أن البيتكوين مليئة جدًا بالمشاكل لتكون العملة المشفرة المستقبلية.
أولا، من المرجح ألا نستطيع استخدامها على نطاق وطني بسبب العدد القليل من المعاملات التي تدعمها البيتكوين في كل دقيقة. يقول «أري جويلز – Ari Juels» أستاذ علوم الكمبيوتر في «جامعة كورنيل – Cornell University»، الذي يدرس التشفير وأمن الحاسوب: «يمكن أن ينجز إطار عمل بيتكوين سبع معاملات في الثانية فقط، وفي المقابل يمكن لشبكة بطاقات «VISA» الائتمانية التعامل مع 65،000 معاملة في الثانية».
تقول «فيليبا ريان – Phillipa Ryan»، محامية حقوق الملكية التجارية ومحاضِرة في «جامعة التكنولوجيا في سيدني – University of Technology Sydney»: «مشكلة خصوصية البيتكوين هي أنها توفر الكثير من الخصوصية وفي نفس الوقت القليل من الخصوصية، فهي توفر الكثير من الخصوصية ما يكفي لإعطاء المجرمين الفرصة لارتكاب الكثير من الجرائم من الابتزاز وحتى التجارة غير الشرعية، ولكن على الجانب الآخر يمكن تتبع المعاملات بالفعل للوصول للاسم المستعار الذي قام بالعملية».
كما أن قيمتها تتقلب كثيرًا مما يجعلها غير مؤهلة لتكون عملة مستقرة فعالة، يقول يرماك: «على عكس العملات التقليدية التي لها قيمة يحددها الجهاز المصرفي المركزي فإن قيمة البيتكوين مدفوعة بالمضاربة حول قيمتها كالأسهم، لذلك لا تصلح كعملة».
يقول «هارولد جيمس – Harold James»، المؤرخ الاقتصادي في «جامعة برينستون – Princeton University»: «تقليديًا، نفكر في المال كوسيلة من وسائل التبادل ومَخزَنٍ للقِيَم، لكن البيتكوين جيدة جدًا كوسيلة للتبادل، لكنها ليست جيدة جدًا في تخزين القيمة».
من المرجح ألا تكون البيتكوين هي العملة المستقبلية ولكن هذا لا يعني أن المستقبل لن يستند على عملات مشفرة أخرى.
إذا كان لديك ورقة نقدية قيمتها 1 دولار، فمن الآمن جدًا افتراض أن قيمتها تساوي قطعة حلوى من يوم لآخر، ومن ناحية أخرى، فالبيتكوين الواحدة يمكن أن تشتري بقيمتها حلوى في يوم، وسيارة بعد يوم، ثم لا شيء في اليوم التالي.
إنها أشبه بالسهم أكثر من كونها عملة وطنية مستقرة. يقول «جيمس»، استنادًا إلى السوابق التاريخية التي يدرسها: «البيتكوين تشبه العملات الخاصة غير المستقرة التي أنشئت في أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الأولى، فالتكهنات حول قيمة البيتكوين أكثر بكثير من قيمتها في العالم الحقيقي، ستنفجر البيتكوين كما تَحَطَّمَ سوقُ الأسهم».
يتفق مع هذا الرأي خبراء الاقتصاد الذين يدرسون العملات المشفرة، فالمستقبل لن يعتمد على البيتكوين، ولكن هذا لا يعني بالطبع أنه لن تكون هناك عملات مشفرة أخرى.
ويقول ريان: «في هذه الأثناء، سيبقى البيتكوين بمثابة اختبار كبير لتكنولوجيا البلوكشين وستستمر قيمته بالتذبذب. وأعتقد فعلًا أنه فقاعة ستنفجر. ستكون مع ذلك ممتعة للمشاهدة فقد كانت رحلة كبيرة.» ثم يضيف: «وعندما تفشل البيتكوين أخيرًا، أعتقد أننا سنراها كتجربةٍ قيّمةٍ وهامةٍ حقًا بل وستقدم دروسًا أثمن مما سيتم خسارته».
تحول في النظام المالي
تقدم بيتكوين شيئًا رائدًا، وهناك عدد متزايدٌ من البنوك الوطنية، بما في ذلك مجلس الاحتياطي الفدرالي، مهتمون باستخدام تقنية البلوكشين لتشغيل عملة وطنية مركزية. ويتفق معظم الخبراء أنه في المستقبل، ستتحول عملة البلدان إلى عملة مشفرة، حيث أن المال يتحرك بالفعل من المجال المادي إلى المجال الرقمي لذلك فإن الطريقة التي تؤمن المعاملات المشفرة هي استثمار ضروري، وتكنولوجيا البلوكشين المستخدمة في العملة المشفرة هي المنافس الأقوى.
يقول يرماك: «أعتقد أن الفكرة بأكملها ربما قد تكون مرعبةً لشعب البيتكوين، ولكنه النذير النهائي للنجاح مثلما يشرع الشخص الذي تحاول هزيمته في قراءة خططك الخاصة وتحويلها ضدك. والانتصار النهائي هو حين يقوم البنك المركزي بتطوير التكنولوجيا وجعلها أساسًا لعملياته. ويمكنني أن أرى أنه من الواضح جدًا أن تتصرف البنوك بهذه الطريقة».
ويضيف يرماك: «أعتقد أن مشاكل السياسة النقدية والاستقرار المالي ستبقى موجودة في غضون 50 عامًا ولكن العملة المشفرة المدعومة وطنيًا يمكن أن تحل محل الدولار في ذلك الوقت».
يقول ريان: «عندما يتعلق الأمر بمستقبل المال سنشعر بتأثير العملة المشفرة وقدرتها على تجنب المشاكل التكنولوجية مثل القرصنة».
بلوكشين يمكن أن تصل للتيار الرئيسي بطريقتين مختلفتين:
- أحد الخيارات هو التحول من العملة المادية إلى العملة المشفرة، حيث سيبقى الدولار دولارًا، لكن المعاملات ستستخدم البلوكشين لجعلها أكثر أمنًا.
- الطريقة الثانية هي تحويل حسابك المصرفي من البنك إلى حساب في الاحتياطي الفدرالي نفسه (وهو ما يعادل البنك المركزي في أمريكا).
ويقول «كريستيان كاتاليني – Christian Catalini» الأستاذ المساعد في «مدرسة سلون للإدارة – Sloan School of Managemen» التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، الذي يدرس اقتصاديات العملة المشفرة: «إن كانت جميع أموال الدولة مركزية، فمن شأنها أن تجعل مجلس الاحتياطي الفدرالي أكثر كفاءةً في وظيفته لتحقيق الاستقرار وتنظيم الاقتصاد».
بدأت بعض المؤسسات في محاولة ذلك، وتعمل إستونيا على إنشاء برنامج للإقامة الإلكترونية، ويتضمن جزء من خطتها إطلاق estcoin أول عملة مشفرة وطنية في العالم.
يعمل بنك إنجلترا على خلق عملة مشفرة خاصة به، وخلق إطار عملةٍ مشفرةٍ تجريبيةٍ تدعى «RSCoin» التي ستستخدم نظامًا مركزيًا، ولتشفيرها، سينتج بنك إنجلترا المال الرقمي كما لو كان يطبع العملات المادية وستستخدام «RSCoin» كالبيتكوين سجل ونظام تشفير لتوزيع المال.
كتب المحررون في بحثهم عن نموذج «RSCoin» أن العملة المشفرة المدعومة من قبل البنك الوطني يجب أن تساعد في جعل العملة المشفرة قابلة للاستخدام على نطاق أوسع، حيث أن البنك المركزي يمكن أن يستعين بمؤسسات أخرى للقيام بالحسابات وللتحقق من المعاملات وفي نموذج مع بنك مركزي واحد و 30 مصرفًا تجاريًا فقط، يمكن ل RSCoin أن يقوم بـ 2000 صفقة في الثانية الواحدة – ليس تمامًا بسرعة VISA، ولكن بالتأكيد بسرعة تكفي المواطنين البريطانيين لتحريك معاملاتهم المالية بسرعة وبشكل آمن.
يقول كاتاليني: «بالنسبة للمستهلك، فالعملة المشفرة المركزية لن تُغيِّر الكثير، فقط سيرى المستهلكون أسعارًا أرخص وعملة مألوفة، ويمكن استخدام التكنولوجيا بلوكشين في الخلفية لتقديم أنواع جديدة أو أفضل من الخدمات المالية وطرق الدفع» لذلك مع عملة مشفرة وطنية، من المرجح أن الرسوم المصرفية ستنخفض وسيحدث تحويل أسرع للأموال.
تقول «أنيكيت كيت – Aniket Kate»، عالمة كمبيوتر في «جامعة بوردو – Purdue University»: «بوجود عملة مشفرة وطنية، سيصعب القيام بنشاط غير قانوني. وحتى الآن مع سجلات الحسابات المجهولة المستخدمة اليوم، يمكن للحكومات تتبع المستخدمين والمعلومات المالية وبما أن جميع المعاملات على البلوكشين يتم تسجيلها على كل جهاز كمبيوتر متصل، سيكون من الصعب إخفاء المعاملات المالية غير القانونية عن الحكومة».
على مدى السنوات الخمسين المقبلة، يعتقد يرماك أن المواطنين الملتزمين بالقوانين، البنوك والحكومات على حد سواء يمكن أن يستفيدوا من الانتقال إلى شكل ما من العملة المشفرة.
وبالاقتراب من خلق عملتها المشفرة الخاصة، ستضطر البلدان فقط إلى تحديد مدى خصوصية المعاملات. فقد لا يكون الانفتاح الشهير للبيتكوين جذابًا جدًا لجميع أنواع المعاملات – أنت حتمًا لا ترغب في أن يرى جارك قائمة مشترياتك.
ويقول كيت: «يمكن للعملة المشفرة حماية خصوصية المستخدم بدرجات متفاوتة فإن النظام المستقبلي يمكن أن يبعد أعين جارك المتطفلة» ولكن مسألة الخصوصية قد تكون مشكلة اجتماعية أكثر من كونها تقنية.
يقول جيمس: «في النرويج، جميع السجلات الضريبية مفتوحة للعامة وفي مناطق أخرى من الدول الاسكندنافية الخدمات المصرفية الإلكترونية هي أيضًا في السجل العام ومواطني الدانمارك، السويد، النرويج، غرينلاند وأيسلندا نادرًا ما يستخدمون عملاتهم المادية، مما يجعل هذه البلدان نموذجًا مصغرًا لمستقبل محتمل للعملة المشفرة فقط».
ويسأل جيمس: «السؤال الوحيد الذي يبدو معلقًا: هل سيوجد هذا النوع من النظام الاسكندنافي الذي تحدثنا عنه، حيث يمكن مراقبة كل معاملة؟ أم أنه سيشبه نظام البيتكوين، حيث السرية شبه التامة؟»، مع بدء البلدان بالتحول للعملات المشفرة فإن مجتمعاتها والحكومات ستتعلم كيف تتكيف.