لقد فتح عينيه على الدنيا وأمه غارقة في آثامها ، فكان ذلك بداية أزمته النفسية ، وبداية الانحراف ، ثم جاءه والبة ورماه في بحر من الفسق والضلال والمجون . ثم رأى عند بعض شيوخه من علاء الأنساب والأخبار من الشعوبيين ، كأبي عبيدة معمر بن المثنى ، الذي تتبع مثالب العرب وأشاعها ، رأى عنده من الحقد على العرب والضغينة ما جعله هزأ به ويسخر منه ، ويشغب عليه في درسه . وكذلك ما وجده من الشعراء الشعوبيين الذين أحاطوا بوالبة ، كمطيع بن إياس ، وحماد الراوية وحماد عجرد . وأما الحياة العامة التي تحيط به ، ابتداء من دكان العطار والكتاب ، فكان لها دور كبير أيضاً في تكوين شخصيته . فقد أمدته هذه الحياة بالثقافات المعاصرة ، من الحضارة الهندية والفارسية واليونانية ونحوها ، هذه الثقافة هي نتيجة لتمازج تلك الحضارات وتفاعلها . أخذ أبو نواس من تلك الحضارة الجانب المادي ، أخذ آثامها وخطاياها ، وفسقها وضلالها ، وتهتكها ومجونها . فهذه العوامل مجتمعة كونت شخصيته التي دفعته إلى سلوك منحرف ، فسلك سبيل المجون ، وعاقر الخمرة ، وسمع الغناء ، وصاحب الجواري ، وعاشر الغلمان ، وجالس الندمان . وهو يعلم ـ با تلقاه من العلم ـ أن ذلك حرام . ولكن تماجنه وعبثه جعله يغضي عن ذلك ، ويغض الطرف عنه . بل زاد عليه ، فكان يظهر مجونه ، ويتظاهر بالزندقة عبثاً منه بمن يحيط به ، إذ كانت مجالس الشراب تقتضي ذلك . فإذا شرب تماجن وعبث وتفلت من الدين ، وهجا العرب ، وذم الوقوف على الأطلال . وإذا صحا عاد عن ذلك . فإذا انتقده أصحابه ومعاصروه قال : والله ما أدين غير الإسلام ، ولكن ربا نزا بي المجون حتى أتناول العظائم . فهو إذا بعيد كل البعد عن الزندقة . وإنما هو عبث ومجون . وهو بعيد كل البعد عن جميع التيارات الفكرية والمذاهب التي نشأت في زمانه ، فلا شأن له بكل ذلك ، لأن ما جد من تيارات فكرية ومذاهب فلسفية ودينية يحول بينه وبين ما يسعى إليه من مباهج الحياة وملذاتها . ويشهد له بذلك إيمانه بعفو الله ، وقبول توبة المذنب المسيء ، وإيمانه بأن الله يغفر لمن أناب وتاب . وهو ما آل إليه في آخر حياته ، عندما شعر باقتراب النهاية المحتومة ، وأيقن أنه لا ينجيه من عذاب الله إلا الله ، ولا يفوز بالجنة إلا من رضي الله عنه ، ورحمه وغفر له : وأنت السيد الـمـولى الغـفـور وإن تـغـفـر فـأنـت بـه جـديـر أنا العـبـد الـمـقـر بكل ذنب فإن عـذبـتـنـي فـبسـوء فعـلي أفـر إلـيـك مـنـك ، وأيـن إلا إلـيـك يـفـر منك المستـجيـر
٢٠
٢٠
تعليق