شرح دوان أبو نواس - تقديم وتعريف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    لقد فتح عينيه على الدنيا وأمه غارقة في آثامها ، فكان ذلك بداية أزمته النفسية ، وبداية الانحراف ، ثم جاءه والبة ورماه في بحر من الفسق والضلال والمجون . ثم رأى عند بعض شيوخه من علاء الأنساب والأخبار من الشعوبيين ، كأبي عبيدة معمر بن المثنى ، الذي تتبع مثالب العرب وأشاعها ، رأى عنده من الحقد على العرب والضغينة ما جعله هزأ به ويسخر منه ، ويشغب عليه في درسه . وكذلك ما وجده من الشعراء الشعوبيين الذين أحاطوا بوالبة ، كمطيع بن إياس ، وحماد الراوية وحماد عجرد . وأما الحياة العامة التي تحيط به ، ابتداء من دكان العطار والكتاب ، فكان لها دور كبير أيضاً في تكوين شخصيته . فقد أمدته هذه الحياة بالثقافات المعاصرة ، من الحضارة الهندية والفارسية واليونانية ونحوها ، هذه الثقافة هي نتيجة لتمازج تلك الحضارات وتفاعلها . أخذ أبو نواس من تلك الحضارة الجانب المادي ، أخذ آثامها وخطاياها ، وفسقها وضلالها ، وتهتكها ومجونها . فهذه العوامل مجتمعة كونت شخصيته التي دفعته إلى سلوك منحرف ، فسلك سبيل المجون ، وعاقر الخمرة ، وسمع الغناء ، وصاحب الجواري ، وعاشر الغلمان ، وجالس الندمان . وهو يعلم ـ با تلقاه من العلم ـ أن ذلك حرام . ولكن تماجنه وعبثه جعله يغضي عن ذلك ، ويغض الطرف عنه . بل زاد عليه ، فكان يظهر مجونه ، ويتظاهر بالزندقة عبثاً منه بمن يحيط به ، إذ كانت مجالس الشراب تقتضي ذلك . فإذا شرب تماجن وعبث وتفلت من الدين ، وهجا العرب ، وذم الوقوف على الأطلال . وإذا صحا عاد عن ذلك . فإذا انتقده أصحابه ومعاصروه قال : والله ما أدين غير الإسلام ، ولكن ربا نزا بي المجون حتى أتناول العظائم . فهو إذا بعيد كل البعد عن الزندقة . وإنما هو عبث ومجون . وهو بعيد كل البعد عن جميع التيارات الفكرية والمذاهب التي نشأت في زمانه ، فلا شأن له بكل ذلك ، لأن ما جد من تيارات فكرية ومذاهب فلسفية ودينية يحول بينه وبين ما يسعى إليه من مباهج الحياة وملذاتها . ويشهد له بذلك إيمانه بعفو الله ، وقبول توبة المذنب المسيء ، وإيمانه بأن الله يغفر لمن أناب وتاب . وهو ما آل إليه في آخر حياته ، عندما شعر باقتراب النهاية المحتومة ، وأيقن أنه لا ينجيه من عذاب الله إلا الله ، ولا يفوز بالجنة إلا من رضي الله عنه ، ورحمه وغفر له : وأنت السيد الـمـولى الغـفـور وإن تـغـفـر فـأنـت بـه جـديـر أنا العـبـد الـمـقـر بكل ذنب فإن عـذبـتـنـي فـبسـوء فعـلي أفـر إلـيـك مـنـك ، وأيـن إلا إلـيـك يـفـر منك المستـجيـر
    ٢٠

    تعليق


    • #17
      مكانة أبي نواس بين شعراء عصره : احتل أبو نواس صاحب هذه الشخصية ، على الرغم من كل انحرافاته ، مكانة عالية بين شعراء عصره ، ودرجة سامية بين شعراء العربية . فقد فاقهم في مذهبه الشعري ، من حيث الشكل والمضمون ، وهذا ما كان عليه النقاد في نظرتهم إلى شعره . رأي النقاد : قالوا : إنها نفق شعر أبي نواس لسهولته ، وحسن ألفاظه ، وهو مع ذلك كثير البدائع . والذي يراد من الشعر هذان . وقال الجاحظ : أبو نواس أقدر الناس على الشعر ، وأطبعهم فيه . وقال ابن رشيق : لم يكن أبو نواس يؤثر التصنيع ، ولا يراه فضيلة ، لما فيه من الكلفة وإنها يجيء بالشعر على سجيته . وقال أبو عبيدة : ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله : امرؤ القيس بجده ، وأبو نواس بهزله . وقال : أبو نواس في المحدثين مثل امرئ القيس في المتقدمين ، فتح لهم هذه الفطن ، ودتهم على المعاني ، وأرشدهم إلى الطريق والتصرف في فنونه . وهو عند العتبي أشعر الناس . مقارنة مع من تقدمه من الشعراء : كما أنهم قارنوا شعره بمن سبقه من الجاهليين والإسلاميين والمحدثين . فإذا كان امرؤ القيس والأعشى في الجاهلية ، وجرير والفرزدق من الأمويين ، فأبو نواس من المحدثين ، ولا أحد غيره . حتى قالوا : لو كان أبو نواس في الجاهلية لما تقدم عليه أحد . وكان يقال : شعراء اليمن ثلاثة : امرؤ القيس ، وحسان بن ثابت ، وأبو نواس . ورأى بعضهم أن الكلام جمع له فاختار أحسنه . ولما سئل البحتري عن أبي نواس ، ومسلم بن الوليد ، أيها أشعر ؟ قال : أبو نواس أشعر . فقيل له : إن أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على قولك ، ويفضل مسلاً ! فقال البحتري : ليس هذا من عمل ثعلب وذويه من المتعاطين لعلم الشعر دون عمله . إنما يعلم ذلك من دفع في مسلك الشعر إلى مضايقه ، وانتهى إلى ضروراته
      ٢١

      تعليق


      • #18
        قال الباقلاني : ولا يخفى على أحد ، يميز هذه الصنعة ، سبك أبي نواس من سبك مسلم ... ويحركه ما لشعر أبي نواس من الحلاوة والرقة والرشاقة والسلاسة حتى يفرق بينه وبين شعر مسلم . ونقل عن بعض النقاد قوله : وكذلك تجد لأبي نواس من بهجة اللفظ ، ودقيق المعنى ، ما يتحيّر فيه أهل الفضل ؛ ويقدمه الشطار والظراف على كل شاعر ، ويرون لنظمه روعة لا يرونها لنظم غيره ، وزبرجاً ( حلية وزينة ) لا يتفق لسواه . موضوعات شعره بين الجد والمجون : تناول في شعره موضوعات متنوعة ، فأجاد في أكثرها . وقد تميز عنده اتجاهان : جدي وهزلي ( مجون ) . ففي مجال الجد كان رصين العبارة ، متين التركيب ، مألوف الألفاظ ، وقد يغرب بها ، شريف المعاني . وهذا ما يقتضيه الموقف الجاد . وكان في مجال المجون لين العبارة ، سهل التراكيب ، سلس المعاني ، بعيداً عن غريب اللفظ ، إلا ما يرد في بعض الأحيان . وكان يتناول في هذا المجال الموضوعات الذاتية التي تهمه مباشرة ، من قصف ولهو وسماع وغلان وجوار . يأتي بذلك كله بأسلوب حضري لين لطيف . صدى الحضارة الجديدة في شعره : وقد تجددت في عصر أبي نواس وجوه من الحضارة ، نتج عنها مفاهيم مختلفة ، تأثر بها الناس ، كل فيها يحب ويهوى ، وفيها له قناعة فيه . فنشأ . ذلك سلوك متباين ومتفاوت بين فئات الناس وطبقاتهم ، ازداد به بناء صرح الحضارة ، ليؤثر بالتالي على من عن يتلوهم من أجيال . تجديد وتطوير : ففي مجال الشعر ، وهو ما يهمنا هنا ، جدت فنون لم تكن معروفة من قبل ، أو كانت على نطاق ضيق ، فوسّعها أبو نواس وغيره من أمثاله . ۲۲

        تعليق


        • #19
          فمن الفنون المستجدة الغزل بالمذكر ، ومن الفنون الموسعة الخمريات . فقد كانت من قبل غالباً ما تأتي ضمن إطار القصيدة ، أما عند أبي نواس فاستقلت ، وتوسّع في وصفها ، وصارت غرضاً بذاتها . وفي تناوله لهذين الموضوعين تتبدى لنا شخصية أبي نواس المفعمة بالثقافة العربية وعلومها ، جاهليتها وإسلاميتها ، والثقافات الوافدة ، وبشكل خاص الثقافة الفارسية ، ومع ما نهله من العلوم الأخرى كالمنطق والفلسفة . التأثر بالحضارة : وكان لجانب الغنى والترف في هذا العصر تأثير كبير في شخصيته ، تجلى واضحاً في شعره ، فكثر اللهو ، وظهر المجون ، وانتشر الغناء ، وشاعت عند بعض الفتيان البطالة . ومن جانب آخر ازدهر العمران ، وكثرت الجنائن والحدائق ، واتخذ الناس عادات وتقاليد جديدة على المجتمع الأعرابي البدوي ، تميزت بهذا الطابع الحضري الذي يسوده اللين واللطف ، والبراعة والظرف ، وكل مظاهر الترف . التحليل النفسي ومن الجوانب التي بدت في شعره إقباله على نفوس من يخاطبهم ، يحللها ويتغلغل في أعماقها ، ليصور عواطفها وأخلاقها ، ويظهر مكنوناتها ، وعلى وجه الخصوص عندما يشربون ويسكرون ويغيبون عن الوعي ، فتراه يكشف عما يجول في أعماقهم ، ويظهره على ألسنتهم في هذه المواقف على موائد الشرب ، سيان إن تحدث عن نفسه أو عن ندمائه الذين يلقاهم في حياته ، إن مدحهم أو هجاهم . انظر وصفه لأحد أصحابه ، وقد كان من محبيه ، وهو مفلس . فلا استغنى ، وكان يأمل منه الخير ، قطع حبل الصفاء ، وكأنه لم يعرفه : عـلـيـك بالـبـأس من الـنـاس إن الغنى ، ويـحـك ، في الياس كم صاحب قد كان لي وامـقـاً إذ كـان فـي حـالات إفلاس أقـعـدنـي حـبـاً عـلى الـراس وعـده الـنـاس مـن الـنـاس أقول : لو قد نال هـذا الفتى حتى إذا صـار إلى ما أشـتـهي قطع بالقنطيـر حبـل الصفا مني ، ولـمـا يرض بـالـفـاس
          ۲۳

          تعليق


          • #20
            لم يقتصر في هذا على تحليل نفسية صاحب المفلس ، وقد آل إلى الغني ، بل حلّل جانباً من نفسيته في حسن الظن بالناس . كما أشار إلى علو مكانته لما اغتنى ، فعده الناس من الناس . القصة الخمرية : وهذا الاهتمام بالتحليل النفسي لمن يعاشرهم قاده إلى توسيع الحوار بينه وبينهم ، حتى تحول إلى نسيج قصصي بسيط . فإن كان عمر بن أبي ربيعة قد بدأ ذلك مع الكواعب الأتراب ، اللواتي كالنجوم ، فإن أبا نواس نهج بقصصه هذه إلى حياكتها في مجالس الخمر والغناء ، بين الغليان والقيان . وقصصه الخمرية هذه كثيرة ، تجدها في باب الخمريات من ديوانه . وهي قصص من طبيعتها أن تكون طويلة . ولو أتينا بشاهد منها لطال ذلك ، لأنه لا بد أن يكون كاملاً ، ولا يعطي اقتطاع جزء منه فكرة واضحة عن تناوله لهذا الفن القصصي . التناقض بين الواقع والتقليد : على حين ، في إطار التحليل النفسي ، أثار اهتمامه التناقض الذي عاشه الشعراء في مضامين شعرهم . فهؤلاء الذين يعيشون في بيئة حضرية مترفة ، مزدانة بالأزهار ، مضمخة بالعطور ، وشتى مظاهر الترف ، تراهم لا يزالون يحافظون على الطابع البدوي ، ولو حاول بعضهم تحديثه . فركبوا النوق ، وتوغلوا في البوادي ، ووقفوا على الأطلال . فأخذ يتهكم بهم ، ويسخر منهم ، ويعلن نفوره من هذه التقاليد ، وتركه لها . غير أنه يأتي في بعض قصائده ، با كان يتهكم به ، ويسخر منه . فيقف على الأطلال ، ويركب الناقة ، ويصف البادية بنباتاتها وحيواناتها ، في مجال المدح ، إرضاء للممدوح . التهكم ببعض الشخصيات : وقد يمتد تهكمه إلى بعض الشخصيات ، فيتناولها تناولاً هزلياً ساخراً ، يعبث بها ، ويضع من شأنها ، وينزل بها دركات ، يضحك منها كل من يسمع هذا التهكم . وستأتي شواهد على ذلك في الحديث عن الهجاء .
            ٢٤

            تعليق


            • #21
              بينه وبين شعراء عصره : والجو الأدبي والثقافي الذي انتشر في هذا العصر ، وعاشه أبو نواس ورفاقه ، انعكس في شعره جلياً واضحاً . فكانت بينه وبينهم مساجلات ومطارحات ، وبينه وبين بعضهم نقائض ومصادمات . نذكر منها نقائضه مع أبي العتاهية ، ونقائض ومساجلات ماجنة مع إسماعيل القراطيسي ، ومطيع بن إياس ، والحسين الخليع بن الضحاك ، وعلي بن خليل الكوفي ، وصريع الغواني مسلم بن الوليد . فكان في ذلك أيضاً يحلل شخصياتهم ، يتتبع عوراتهم ، ويستخرج نقائصهم ، ويظهر مكنونات نفوسهم ، ليتمكن منهم ، ويحملهم . بين المجون والتوبة : انتهت به هذه الحياة التي كان يشوبها بعض التشاؤم ، والخوف من مفاجئات الحياة والمستقبل الغامض ، إلى المزيد من الانعاس في اللهو ، ليخفي ما في نفسه . لذلك كان يتبدى على السطح ما كان يخفيه لمن يتتبع ذلك ويرصده . فإذا غفلنا عن إدراك ذلك لم تر فيه إلا شاعراً ماجنا متمرساً في اللذة ، مستمتعاً بمباهج الحياة . ولكن ذلك لا يدوم ، فكلما تقدم به العمر بدا ما كان يخفيه على الرغم منه . وأدرك أن ذلك لن يحقق له السعادة التي كان ينشدها ويحلم بها ، بل كانت سراباً يلتمع أمام ناظريه ، وكلها تتبعه فر منه ، ولم يحصل على شيء ، وأدرك أن الحياة وهم مالم تعمر بالإيمان والاستسلام الله ، والانقياد له . ولا تغرنك تلك الضحكات ، وذلك الظرف ، وحلاوة الحديث ، وخفة الروح ، بين أقداحه وندمائه وغلانه ، فما وراء ذلك إلا مرارة وأسى ، وبؤس وشقاء . فلذلك انتهت به هذه الحياة إلى التوبة والزهد . بعد أن غلبه اليأس ، وأدرك أن النهاية قريبة ، ولا ينقذه من مأساته هذه إلا رب غفور رحيم ، ويقينه بأن الله يغفر لمن جاءه تائباً نادماً مهما كان ذنبه ، سوى الشرك : أيا من ليس لي مـنـه مـجـيـر أفـر إلـيـك مـنـك ، وأيـن إلا إلـيـك يـفـر منك المستـجيـر بعفوك من عذابك أستجير وكأنه في هذا المعنى ينظر إلى دعاء رسول اللہ ﷺ : « وأعوذ بك منك .. » ، كما رواه مسلم في صحيحه . فعبر عن ذلك بمقطعات لطيفة مؤثرة ، ما زال الناس يتناقلونها إلى اليوم .
              ٢٥

              تعليق


              • #22
                ألفاظه : ولو التفتنا إلى جانب آخر من خصائصه الشعرية ، ونظرنا في ألفاظه لوجدنا أن ثروته اللغوية كانت واسعة جداً . فهو كما عرفنا قد درس اللغة بكل أبعادها وجوانبها على علائها ، وتضلع منها منذ نشأته وطلبه العلم ، كما تقدم آنفاً ، فأتى استعماله للألفاظ استعمالاً موفقاً ، فأعطى كل موضوع الألفاظ التي تناسبه ، من حيث الجد والمجون . ففي الموضوعات التقليدية الجادة ، كالمديح والفخر والهجاء والرثاء ، كان يتخير فصيح اللفظ ، ويأتي معه بغريب اللغة ، فيعطي القصيدة طابعاً تقليدياً يعجب المقصود بالشعر ، الذوق العام ، ويعجب النقاد الذين يترصدون الشعراء ، ويتتبعون ما يقولونه بالنقد والتمحيص . أما في المجون فكان يأتي بالألفاظ السهلة البسيطة المأنوسة المألوفة ، البعيدة عن الغريب والخوشي والمستهجن والمهجور ، لأن هذا الشعر موجه لعامة القراء ، طبقة أدنى من سابقتها ، ولأن الموضوع لا يحتاج إلا إلى هذا النوع من اللفظ . ولكنه في مجال الصيد والطرد كان يأتي بألفاظ كثيرة الغريب ، حوشية مهجورة ، من أعماق البادية . فالموضوع يتطلب هذه الألفاظ ، لأن الطير الذي يصيد به ، والطير الذي يصيده ، والكلب الذي ينقض به ، والحيوانات التي يقنصها ، من حيوانات البادية . فمسمياتها من ألفاظ تلك البادية ، وطرق التعبير عنها من أساليب التعبير في البادية . أخطاء لغوية : وقد تنبه اللغويون والنقاد إلى بعض الأخطاء اللغوية في شعره ، فاستدركوا عليه ذلك ، وبينوا له ما وقع فيه . ألفاظ دخيلة من الفارسية : كما تنبهوا إلى استعماله ألفاظاً دخيلة من اللغة الفارسية ، والتي كانت شائعة الاستعمال بين الناس . فلذلك كانوا لا يجدون غضاضة في استعمالها ، ولا صعوبة في فهمها ، بل يرونها تزين في بعض الحالات النص ، على عادة الناس في استعمال ألفاظ ، اللغات من الأجنبية حتى اليوم .
                ٢٦

                تعليق


                • #23
                  وكان من أسباب استعماله لهذه الألفاظ أولئك الغلان من الفرس ، الذين كان يعاشرهم ويجالسهم ويتغزل بهم . حتى إنه استعمل ألفاظ العامة الغنة . ولكن النقاد تتبعوه وانتقدوه ، فكان ذلك أحد أسباب هجائه لهم . من تلك الألفاظ قوله : مصـورة بصـورة جند كسرى وكسرى في قـرار الطـر جهـار والطرجهار : شبه كأس يشرب بها . ومن ذلك : لنا روامـيـش يـنـتـخـبـن لنا تظل آذائـنـا مـطـايـاهـا وحتحثت كأسها مفرطقة لو مـنـي الـحـسـن مـا تعـداهـا والزواميش : طاقات الريحان . ومقرطقة : لابسة القرطق ، وهو لباس فارسي . ومثل ذلك كثير . وعلينا أن نذكر هنا أن أمه كانت فارسية ، فلا بد أنها قد ربته على هذه اللغة ، ولقنته مفرداتها وأساليبها ونشأته عليها ، وهذا رافد آخر لمفردات أبي نواس التي ظهرت في شعره . وهذا ما أعطى قصائده ، بالإضافة إلى الشهولة ، عذوبة وجدة ، فأضحى شعره مستساغاً ، ذائعاً بين الناس ، سائراً على ألسنتهم ، عالقاً بذاكرتهم . دقة اختياره للأوزان والبحور : ومن أسباب سرعة حفظ شعره ، وتناول الناس له ، وتناشدهم إياه في مجالسهم ، قد يعود إلى توجهه في النظم إلى بعض البحور الخفيفة ، ذات الأوزان اللطيفة . کا قد يعود اختياره للبحور المجزوءة القصيرة إلى أنها تمكنه من معالجة الفكرة بشكل محكم ومستوفى ، فلا تحتاج إلى طول حتى لا يقل رواؤها ، ولا تفقد طلاوتها ، ويسهل تداولها وحفظها . وتأتي القصيدة ، على هذا ، متتالية الأبيات ، مسترسلة ، تنحدر انحداراً ، لا يعيقها من بديع أو منطق إلا في حدود ضيقة ، يضطر إليها اضطراراً ، أو يتطلبها تكلف الموضوع .
                  ۲۷

                  تعليق


                  • #24
                    تفاوت شعره : ولكن في بعض شعره تفاوت بين الجودة والرداءة ، ففيه ـ كما قال ابن المعتز ـ ما هو في الثريا جودة وحسناً وقوة . وما هو في الحضيض ضعفاً وركاكة . وقد بين رواة ديوانه بعض ذلك التفاوت . أغراضه الشعرية : فإذا انتقلنا للحديث عن أغراضه الشعرية فإننا نجده قد تناول من الموضوعات ما تناوله شعراء عصره ، ومن سبقه من الشعراء ، ابتداء من امرئ القيس ، وانتهاء بمعاصريه فنهج نهجهم ، وترسم خطاهم ، في الفخر والمديح والرثاء والهجاء ، ونحو ذلك من الأغراض ، وجاراهم في ذلك ، بل فاقهم في بعض القصائد ، مما يدل على تمكنه من ذلك الأسلوب ، ومن التعبير عن تلك الأغراض ، ولكنه لم يكن الغالب على شعره ، لأنه أراد من الشعر أن يكون صورة للحياة ، لا ظلالاً لماضي مضى وانقضى ، وحياة لا يعايشها . الجانب التقليدي : ولولا سببان اضطراه إلى الجانب التقليدي لما جنح إلى هذا الشعر . الأول واقع الحياة الأدبية : فقد كان الشكل التقليدي ـ مع قدر كثير أو قليل من التطور ـ هو المسيطر على هذه الحياة ؛ وكان على من يريد أن يسمع شعره أن يقتفي آثار المتقدمين ، ويهتدي بهديهم ، حتى يتبوأ مكانته في عصره . فلذلك نظم بالبحور التقليدية موضوعات تقليدية . فوقف على الأطلال ، ووصف ما درس من بيوتها ، ووصف النوق ، وحيوانات الصحراء ونباتاتها وقفارها ، وتحدى بها الشعراء التقليديين ، وفاقهم في بعض المواضع ، من حيث الأسلوب والموضوع واللغة . والثاني : رغبته في إرضاء من لا يستطيع مخالفتهم ، وحرصه على رضاهم ، كالخليفة الرشيد والأمين ، وبعض الأمراء والوزراء ومن له الشأن ممن عاصرهم ، وكان له بهم صلة . وحجته في رفض هذا الاتجاه التقليدي أنه مخالف لسنن الحداثة والمعاصرة ، ومغاير لتطور الحياة ، وبعيد عن مستجداتها .
                    ۲۸

                    تعليق


                    • #25
                      الأغراض التقليدية : إذا واقع الحياة الأدبية ، وإرضاء أولي الأمر ، دفعاه لالتزام الجانب التقليدي في المديح خاصة . وقد أتى فيه بروائع فاق بها غيره من معاصريه ، نحو قوله في مدح الخصيب : أجـارة بيتـيـنـا أبوك غـيـور و میسور ما يرجى لديك عسير وقوله في مدح الأمين : یا دار مـا فـعـلـت بك الأيام لـم تـبـق فيك بشـاشـة تستام ونراه أحياناً يتعمق في معانيه ، ويبالغ فيها ، إذ يقول في مدح الرشيد : وأخفت أهـل الشرك حتى إنه لتخـافك النطف التي لم تخلق ويقول فيه أيضاً ملك تصـور في القلوب مثاله فكأنه لم يـخـل منـه مـكـان وكما أنه ـ على الرغم في الغراسه في اللهو ، وترديه في المجون ـ يضفي على ممدوحيه المعاني الدينية ، فيحيط الأمين بهالة كبيرة من القدسية والجلال ، حتى إنه ليعطيه مكانة لا يطالها بشر : یا ناف لا تسأمي أو تبلغي بشراً تقبيل راحـتـه والـكـن سيان محمد خير من يمشي على قـدم ما برا الله من إنس ومن جـان أما ألفاظه في هذا الجانب فكانت عذبة ، رشيقة ، تتماوج رقة ونعومة وصفاء . كقوله في مدح الأمين : أضحى الإمـام مـحـمـد للـديـن نـوراً يقتبس تبكـي الـبـدور لـضـحـكه والشيـف يضحـك إن عـبـس وكان اختياره للألفاظ يصدر عن حس دقيق ، وذوق مرهف . فيأتي بأرقها وأرشقها وأخفها في النطق ، وأحلاها في السمع . فكانت تمس شغاف القلب ، فتفعل فيها ما تفعل . وهذه الألفاظ في سهولتها ويسرها قريبة مما يجري على ألسنة الناس في حياتهم اليومية . كما كان يحرص - إلى حد ما ـ على تجنب ألفاظ القدماء البدوية الصحراوية ، فيزاوج بينها . إذ أن العامة تؤثر الوضوح والشهولة ، وتميل إلى المتداول المألوف ، والخاصة تعجبها الجزالة والفخامة والغرابة . وهذا فيما يتعلق بالمديح ، والأمر نفسه في بقية الأغراض التقليدية .
                      ۲۹

                      تعليق


                      • #26
                        ففي أراجيزه ، ووصفه للصيد وأدواته وجوارحه ، هو أكثر تمسكاً بالجانب التقليدي ، مجاراة لمن تقدمه من شعراء العصر الأموي . فاتخذ وزن الرجز لهذا الموضوع ، واقتفى أثر أولئك في معانيهم وصورهم وألفاظهم . ولكنه لا يتوانى عن أن يجدد في المعاني والصور ما وجد إلى ذلك سبيلاً ، وتراه يجد في ذلك حتى لتخال قصيدته كلها قد طبعت بطابع التجديد . كقوله : لما تـبـدى الصبح من حجابه كطلعـة الأشـمـط من جلبابـه كالحبشـي افـتـر عـن أنـيـابـه وانـعـدل الـلـيـل إلـى مـآبـه هجنا بكلب طالما هجنـابه ينتسـف المـقـود من كلابه كـان مـثـنـيـه لــدى السـرابه مننا شجاع لـج في انسيابـه كـأنـمـا الأظـفـور في قـنـابه موسى صـنـاع رد في نصـابـه كأن نشراً ماتوكلنابه يغفو على مـا جـر من ثيابـه ترى سـوام الوحش يحتوى به يرخـن أسـرى ظـفـره ونـابـه وفي مراثيه يتخير الأسلوب الجزل الرصين المصقول . فإذا كان من يرثيه من اللغويين ، كخلف الأحمر وأضرابه ، مال إلى تلك الرصانة والمتانة ، وأتى بالغريب ، وبالخوشي المهجور . أما في غير ذلك فكان يتخفف ، ولكنه لا يتخلى كلياً عن مقومات الرثاء عند السابقين . فكان يظهر في رثائه صدق العاطفة ، ولوعة القلب . وكلما كان المرثي قريباً منه فاضت مرثيته باللوعة البالغة ، والحزن العميق ، كقوله في رثاء الأمين ، إذ لم يكن ينظر إليه على أنه خليفة فقط ، بل كان صديقه ونديمه وجليسه على الشراب : طـوى المـوت مـا بـيـنـي وبين محـمـد ولـيـس لـمـا تـطـوي الـمـنـيـة نـاشـرُ فلا وصـل إلا عـبـرة تـسـتـديـمـهـا أحــاديـث نـفـس مـا لهـا الـذهـر ذاكـر وكنتُ عـلـيـه أحـذر الموت وحده فـلـم يـبـق لـي شـيء عـلـيـه أحـاذر لئن عـمـرت دور بـمـن لا أوده لقد عـمـرت مـمـن أحب الـمـقـابـرُ ومما يليق بهذا الأسلوب المتين والمصقول ما قاله في السجن يستعطف الرشيد والأمين ووزير الفضل بن الربيع . فللفضل على أبي نواس فضل يقدره له ولا ينساه : يا فـضـل ، غـايـة خـلـق الـلـه كلهـم إذا ضـربـنـا بـجـود غـايـة الـمـثـل كـم قـائـل لـك مـن داع وقـائـلـة نفسي فـداء أبـي الـعـبـاس مـن رجـل يـفـديـانـك مـا اسـطـاعـا بجهدهما ويـسـألان لك الـتـأخـيـر فـي الأجـل
                        ٣٠

                        تعليق


                        • #27
                          التجديد وراء شهرة أبي نواس : ولكن شهرة أبي نواس وذيوع شعره لا تعود إلى هذا الجانب التقليدي . وليس هذا الجانب هو الأهم في شعره ، لأن عند غيره منه الكثير . بل كان سبب الشهرة والذيوع هو الجانب التجديدي لأغراضه الشعرية ، حيث طرق أبواباً من الشعر لم تكن معهودة من قبل ، فأتي بها يوافق هواه ، وما يوافق جانباً من طبيعة عصره . فأطلق لنفسه العنان ، وراح يعبر عن مكنوناتها من خلال تفاعله مع الواقع الذي يعيشه . فأعطانا صورة صادقة لهذا الجانب من عصره ، ولشخصيته المتأثرة فيه ، مما ابتدعه من غزليات وخمريات وهجاء . الأغراض التجديدية : الهجاء : لم يكن تجديد أبي نواس في الهجاء في جميع مناحيه ، إنها جدد في بعضه ، وكان تقليدياً إلى حد ما في بعضه الآخر . فكان هجاؤه للعدنانيين ، وفخره بمواليه من القحطانيين تقليداً لمن سبقه . فكأننا ونحن نقرأ هذا الهجاء ـ نقرأ نقائض جرير والفرزدق . فهي تقوم على كشف المثالب القبلية والتشهير بأصحابها . وقد عرف أبو نواس كثيراً من مثالب القبائل التي نشرها أبو عبيدة معمر بن المثنى ، الشعوبي الفارسي ، وصنف فيها بعض الكتب . وكان في جانب آخر يشغب على العرب ، ويذم حياتهم في البادية ، حياة الخشونة والتقشف والبعد عن الحضارة القائمة في بغداد ، والتي من بعض أصولها الحضارة الفارسية ، ويدم كذلك وقوف الشعراء على الأطلال ، وبكاءهم على الديار ، ويدعو إلى رفض ذلك ، والأخذ بها يوافق الحضارة المادية الجديدة . ولكنه لم يفعل ذلك بغضاً منه للعرب ، أو تعصباً للفرس ، بل كان ذمه رفضاً لتلك الحياة البدوية ، ورفضاً للمعاناة وشظف العيش فيها ، ورفضاً لترسم خطى السابقين في الوقوف على الأطلال وبكاء الديار ، فإن ذلك لا ينفع ولا يجدي . بل الحياة عنده هي الحياة الحضرية المادية . وأجمل شيء فيها وأبهاه مجالس الشراب والجواري والغلمان . فرفضه إذا الوقوف على الأطلال وبكاء الديار ، رفض لخشونة العيش في البادية ، تحت الخيام ، وقد لا يكون هذا الشاعر قد رأى طللاً ، ولا ركب جملاً ، ولا أقام في خيمة .
                          ۳۱

                          تعليق


                          • #28
                            ودعوته للتمتع بالحضارة المادية الجديدة ، المتمثلة ـ في رأيه ـ بمجالس اللهو والمجون . فليس إذا هو متعصب للفرس على العرب ، وليس هو شعوبي مدعو لتفضيل العجم على العرب ، وإنما ذلك مذهبه في الحياة : تتبع اللذة أتى تجدها ، ولا تدعها تفلت من يدك . والأبيات التالية توضح هذا المذهب : عـاج الـشـقـي عـلى رســم يـسـائـلـه ورحـت أسـأل عـن خـمـارة الـبـلـد يبكي على طـلـل المـاضين من أسـد لا در درك ، قـل لـي مـن بـنـو أسـد ! كـم بـيـن نـاعـت خـمـر في دساكرها وبـيـن بـاك عـلـى نـؤي ومـنـتـضـد دع ذا ، عـدمـتـك ، واشربها معتقة صفراء تـفـرق بـيـن الروح والجسد وهذا كما نرى تماجن ، بل إمعان في التاجن وإيغال فيه . أما إذا تعلق الأمر بالخليفة ومن دونه من الوزراء والأمراء فإنه قد وقف على الأطلال وبكى الديار . أما علاقته بشعراء عصره ورجاله فقد اصطدم ببعضهم وهجاهم ، ومنهم من هجاه بعد مدحه ، كهجاء إسماعيل بن نوبخت ، وكان يرميه بالبخل ، وهو من أشد الذم عند العرب : خـبـر إسـمـاعـيـل كـالـوشــي إذا مـا انـشـق يـرفـا عجـبـا مـن أثـر الـصـن عة فيه كيف يخفى إن رفـــــــاءك هـــــــــــــذا ألـطـف الأمـة كـفـا ومن الشعراء الذين هجاهم وأوجعهم بهجائه أبان بن عبد الحميد اللاحقي والفضل بن عبد الصمد الرقاشي ، وهما من أصل فارسي . كان أبان في ديوان الشعراء عند البرامكة ، يقدر لهم أعطياتهم وجوائزهم . فبخس أبا نواس حقه ، وهو المحتاج إلى المال لإنفاقه على ملاذه . فنقم عليه وهجاه هجاء أخمله فيه ، فسقطت على إثره مكانته عند البرامكة . وصار له كالعبد ، لا يلقاه ولا يذكر له إلا يجله . وربا كان سبب الخصومة بينها أن أبانا ثنى أبا نواس عن نظم كليلة ودمنة شعراً ، وكان البرامكة قد طلبوا منه ذلك . فاقتنع أبو نواس برأي صديقه أبان . ثم إن أبانا نظم هذا الكتاب ، ونال عليه مالاً جزيلاً . فحقد أبو نواس عليه ، وهجاه هجاء لا يليق به أن يكون جليساً للبرامكة وسميراً لهم ، فقال :
                            ۳۲

                            تعليق


                            • #29
                              فيك ما يحمل الملوك على الخر ق ويزري بالسيد الجـخـجـاح
                              فيك تية ، وفيك عجب شـديد وطـمـاح يـفـوق كـل طـمـاح
                              بارد الظرف ، مظلم الكذب ، تيا ة ، معيد الحديث ، غث المزاح
                              فكانت هذه الأبيات سبباً في سقوط أبان عند البرامكة ، وإبعادهم له ، واستغنائهم أما هجاؤه للفضل الرقاشي فيعود إلى تقديم أبان والبرامكة له . وكان خليعاً ماجناً متهتكاً ، فأتاه أبو نواس من هذا الجانب حتى أخمله . فنظم فيه القصيدة تلو القصيدة ، فلم تقم له قائمة عندهم . من ذلك قوله : قـل لـلـرقـاشـي إذا جـئـتـه لو مت يا أحـمـق لم أهجكا لأنـنـي أكـرم عـرضـي ولا أقرئه يوماً إلى عرضكا والله لو كنتُ جريراً لما كنت بأهجى لك من أصلـكـا ومنه قوله يعبث به ويهزأ منه : رأيـت الـفـضـل مكتئباً يـنـاغـي الـخـبـر والسّـمـكا فقـطـب حـيـن أبـصـرني ونكس رأسـه فـبکی فلما أن حلفتُ له بأنـي صـائـم ضـحـكا وكان ممن هجاهم جماعة من كبار عصره كالخصيب والبرامكة ، فقال في الخصيب إذ بخل عليه ، ولم يعطه ما كان يأمل منه : خـبـر الـخـصـيـب معلق بالكوكب يحمى بـكـل مـثـقـف ومـشـطب جـعـل الـطـعـام على الشعاب محرماً قوماً ، وحـلـلـه لـمـن لـم يـشـعـب فـإذا هـم رأوا الـرغـيـف تـطـربـوا طـرب الـصـيـام إلـى أذان الـمـغـرب وكان ممن هجاهم أيضاً بعض القيان والمغنين والندماء تمن يثقل عليه ويؤذيه وهو في أوج متعه وملاذه : إذا مـا كـنـت عـنـدقـيـان مـوسـى فعنـد الـلـه فـاخـتـسـب الـشـرورا خـنـافـس خـلـف عـيـدان فـعـود يطول قـربـهـا الـيـوم الـقـصـيـرا إذا غـنـيـن صـوتـاً كـان مـوتـاً وهـجـن بـه عـلـيـك الـزمـهـريـرا

                              ۳۳

                              تعليق


                              • #30
                                ومن الأغراض التي جدد فيها الغزل . فقد تغزل بكثير من نساء عصره ، من إماء وجوار ، ممن كان يجلب إلى بغداد ، وكان أكثرهن خليعات متهتكات ، مردن على ا العفة والطهر ، فشاركن الرجال في مجالس الشراب . وكان شعر أبي نواس فبهن يشوبه من الفحش ، مما ينبو عنه الذوق ، ولا تقبله أناقة الحضارة . وأدنى ما قاله فيهن قوله : سألتها قبلة ، ففزت بها بعـد امـتـنـاع وشـدة التعـب فقلت : بالله يا معذبتي جودي بأخرى أقضي بها أربي فابتسمت ، ثـم أرسلت مثلاً يعرفه العجم ، ليس بالكذب : لاتـعـطـيـن الصبي واحـدة يطلب أخـرى بأعنـف الطلب لم يكن أبو نواس ليتعلق بواحدة من هؤلاء الجواري والقيان ، وإنما كان تغزله بهن عابراً ، كلما التقى واحدة ترك الأولى . أما عنان ، جارية الناطفي فكان لها شأن آخر . فقد كانت متميزة بين الجواري . فهي شاعرة ظريفة مستهترة ، من أذكى النساء وأشعرهن . سريعة البديهة ، بارعة الأدب . وكان لها أيام تستقبل فيها الشعراء ، وتطارحهم الشعر ، وكانوا يساجلونها فتنتصف منهم . وكانت تخوض معهم في كل ما يخوضون فيه ، من عبث ومجون يصل إلى حد البذاءة . وأهم هؤلاء الإماء ، وأكبرهن خطراً في حياته جنان جارية الثقفي . وهي الوحيدة التي أحبها حباً صادقاً ، وهام بها ، ولكنها كانت لا تأبه له ، فتقابل حبه بصدود ، وكلما ازداد كلفاً بها ، وتهالكاً عليها ، زادته صدا وهجراً . وقد تقدم ذكر قصته معها . ومما قاله فيها ، وقد رآها تندب في بعض المآتم : يا قـمـراً أبـصـرت في مأتم يندب شـجـوا بـيـن أتـراب أبـرزه الـمـأتـم لـي كـارهـا بـرغـم دايـات وحـجـاب يبكي فيذري الذر من نرجس ويـلـطـم الـورد بـغـتـاب لا تبك ميتاً حل في حفرة وابـك قـتـيـلا لك بالـبـاب لا زال مـوتـاً دأب أحـبـابـه وكـان أن أبـصــــره دابـي 34 الغزل بالغليان لم يعرف العرب الغزل بالغلمان ، ولم يرد في أشعارهم شيء منه . ويمكن أن نرد ذلك
                                ٣٤

                                تعليق

                                يعمل...
                                X