أغسطسAugusteمؤسس نظام الامبراطوري الروماني اعظم ساستها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أغسطسAugusteمؤسس نظام الامبراطوري الروماني اعظم ساستها








    اغسطس

    Augustus - Auguste

    أغسطس
    (63ق.م ـ14م)

    أغسطس Augustus (أوغسطس هي الصيغة الأكثر دقة) هو مؤسس النظام الامبراطوري الروماني ومن أعظم ساسة رومة وقادتها على مر العصور.
    أسماؤه ونشأته
    عرف بأسماء عديدة حملها في مراحل مختلفة من حياته: كان اسمه عند الولادة غايوس أوكتافيوس Garius Octaviua، ثم أصبح بعد التبني غايوس يوليوس قيصر أوكتافيانوس Octavianus، ومنذ عام 27ق.م طغى لقبه الرسمي أغسطس على أسمائه الأخرى.
    ولد في رومة (23 أيلول) في أثناء قنصلية شيشرون[ر] من أسرة موسرة تنتمي إلى طبقة الفرسان. كان والده غايوس أوكتافيوس رجلاً عصامياً وصل إلى منصب والي مقدونية عام 60ـ59ق.م وحال موته المبكر دون تقلده أرفع المناصب وهو القنصلية.
    وكانت أمه آتيا Atia ابنة شقيقة الزعيم المشهور يوليوس قيصر[ر]، الذي تعهده برعايته بعد موت والده وهيأ له تربية عالية خليقة بأبناء النبلاء فدرس الخطابة والأدب والحقوق وتدرب على الحياة العسكرية مثل سائر الرومان. كان يتابع دراسته في مدينة أبولونية الإغريقية على ساحل الأدرياتي ويستعد للمشاركة في الحملة المزمعة على المملكة الفرثية، عندما وصله نبأ اغتيال يوليوس قيصر في 15 آذار عام 44ق.م على يد فئة من المتآمرين بزعامة بروتوس وكاسيوس، الذين أرادوا إنقاذ النظام الجمهوري المتداعي من الحكم الفردي. وهو الحدث الذي هز الامبراطورية وغير مسيرة حياته.
    الصراع من أجل السلطة
    قرر أوكتافيوس ـ على حداثة سنه وعلى الرغم من تحذيرات أمه وأقاربه التوجه إلى رومة للمطالبة بميراث خاله الأكبر الذي تبناه في وصيته وأعطاه اسمه وثروته ونفوذه. وكان ذلك يعني تحدي القنصل ماركوس أنطونيوس[ر]؛ الذي تزعم أنصار قيصر وأمسك بزمام الأمور في رومة. وقد استطاع أوكتافيوس بما أوتي من مهارة وقوة شخصية أن يكسب الأنصار ويثبت أقدامه على الساحة السياسية. ولكنه كان يدرك أنه لابد له من قوة عسكرية تدعم مطالبه وسند سياسي يوازن به قوة خصمه. فقام أولاً وبدعم من صديق عمره أغريبا[ر] بتشكيل جيش موال له من جنود قيصر القدامى. ثم تحالف مع مجلس الشيوخ بزعامة شيشرون وانطلق مع قنصلي عام 43ق.م لنجدة ديكيموس بروتوس، أحد قتلة قيصر، الذي كان أنطونيوس يحاصره في شمال إيطالية. وتمكن مع حلفائه في حرب موتينة Mutina من فك الحصار وإجبار أنطونيوس على الانسحاب إلى بلاد الغال. ولما كان القنصلان قد قتلا في المعركة، فقد طالب أوكتافيوس لنفسه بمنصب القنصلية ولم يتردد حيال رفض مجلس الشيوخ في الزحف بجيشه على رومة وإرغام المجالس الشعبية على انتخابه قنصلاً (آب 43ق.م) وكان لايزال في العشرين من عمره وهي سابقة لا مثيل لها في التاريخ الروماني. ثم توصل إلى الاعتراف بشرعية بنوّته لقيصر وبحقه في الثأر من قتلة أبيه (بالتبني)، الذين أهدرت دماؤهم. ونظراً لتنامي خطر هؤلاء وازدياد قوتهم بعد أن بسطوا سيطرتهم على الشرق الروماني فقد اضطر أوكتافيان إلى التقرب من منافسه اللدود أنطونيوس وحليفه لبيدوس Lepidus والتحالف معهما بهدف توحيد قوى أنصار قيصر والاستعداد لمواجهة قتلته من أنصار النظام الجمهوري.
    واستصدر الزعماء الثلاثة عام 42 ق.م قانوناً يمنحهم سلطات مطلقة لمدة خمس سنوات من أجل إصلاح أوضاع الدولة. وهو ما عرف باسم الحكم الثلاثي الثاني Triumviratus. ثم بدؤوا حملة دموية لملاحقة خصومهم ذهب ضحيتها عدد كبير من الشيوخ والفرسان، وعلى رأسهم شيشرون، والذين صودرت أموالهم وممتلكاتهم لتمويل الحرب المقبلة. وبعد أن أكمل الحكام الثلاثة استعداداتهم أبحرت قواتهم إلى بلاد اليونان بقيادة أنطونيوس وأوكتافيان وهناك جرت معركة معركة فيليبي Philippi الحاسمة (تشرين أول 42ق.م) التي انتهت بهزيمة الجمهوريين والقضاء على زعمائهم. بقي أنطونيوس في الشرق لتنظيم أموره، وعاد أوكتافيان إلى رومة ليواجه مسألة توطين الجنود المسرحين في إيطالية التي حاولت زوجة أنطونيوس وشقيقه لوكيوس استغلالها لإضعاف مركزه وأدت إلى حرب بيروسية (41ق.م) ولكنه خرج منها منتصراً. ثم نجح في استرضاء أنطونيوس وعقد معه اتفاق برودنديزيوم في إيطالية (40ق.م)، الذي تكلل بزواج أنطونيوس من شقيقته أوكتافيا. وبعد تجديد الحكم الثلاثي لخمس سنوات أخرى في عام 37ق.م تمكن قائده أغريبا من الانتصار على سكستوس بومبيوس S.Pompeius، آخر زعماء الجمهوريين، الذي كان يهدد طرق تموين إيطالية البحرية انطلاقاً من جزيرة صقلية. وأعقب ذلك تجريد الحليف الثالث لبيدوس من ولايته وسلطاته ولكنه أبقى له منصب الكاهن الأعظم حتى موته عام 12ق.م. وهكذا غدا أوكتافيان سيد الغرب الروماني بلا منازع وغدا الحكم الثلاثي ثنائياً وبات الصراع مع أنطونيوس أمراً لا مفر منه، والذي كان بدوره قد وطد مركزه في الشرق بتحالفه سياسياَ مع الملكة كليوباترة[ر] وزواجه منها وانتصاره على الفرثيين. وسبق النزاع المسلح حرب دعائية بين الطرفين لجأ فيها أوكتافيان إلى تهديد أنصار أنطونيوس ثم الاستيلاء على وصيته (المزعومة!) ونشرها ليصوره بمظهر المفرط بمصالح رومة والمستسلم لأهواء كليوباترة. وهكذا استطاع أوكتافيان بدهائه وحنكته السياسية أن يكسب عواطف الرومان القومية ويوحدهم حول زعامته في النصف الغربي من الامبراطورية. ثم جرت معركة أكتيوم Actium البحرية الشهيرة (أيلول 31ق.م)، التي تمكن فيها أوكتافيان وقائده أغريبا من إلحاق الهزيمة بأسطول أنطونيوس، الذي ترك ميدان القتال وتوجه مع كليوباترة إلى الاسكندرية لمواصلة الصراع. ونجح بعد ذلك في كسب جيش خصمه وضمه إلى قواته ثم تابع زحفه المظفر عبر اليونان وآسيا الصغرى وسورية ليتوج انتصاراته بدخول الإسكندرية (آب 30ق.م) وانتحار أنطونيوس وكليوباترة وسقوط مصر في يده واستيلائه على كنوزها وثرواتها. وعاد أوكتافيان في صيف عام 29ق.م إلى رومة، التي استقبلته استقبال الأبطال ليحتفل بانتصاراته التي جعلت منه سيد الامبراطورية الرومانية الأوحد الذي يمتلك من القوة والسلطة والنفوذ والثروة ما لم يملكه قائد روماني من قبل وأصبح بإمكانه تنظيم الدولة الرومانية وفق أسس جديدة.
    نظام الحكم الجديد
    مهد أوكتافيان لإقامة نظامه الجديد بتسريح قسم كبير من جيشه وإعلان العفو عن خصومه السابقين واستمالة الجماهير الرومانية بالهبات والأموال التي جلبها من الشرق قبل البدء بإصلاح النظام الجمهوري المتداعي، الذي فقد معظم زعمائه وأنصاره في الحروب الأهلية، وتحويله تدريجياً إلى نظام حكم رئاسي ـ إمبراطوري مع الحفاظ على المظاهر والتقاليد الجمهورية.
    وجاءت الخطوة الأولى عندما أعلن في مطلع عام 27ق.م، أمام مجلس الشيوخ، أن عصر الحروب الأهلية قد ولى إلى غير رجعة وأنه يتخلى عن كل سلطاته الاستثنائية ويعيد الجمهورية إلى سابق عهدها ويضع مقدراتها بين يدي مجلس الشيوخ والشعب الروماني. فما كان من المجلس إلا أن منحه تقديراً لهذا الإعلان امتيازات عديدة وعلى رأسها لقب «أغسطس» الذي يعني «المبجل»، و«المعظم» والذي يرفعه فوق مستوى البشر. كما منحه السلطة البروقنصلية (سلطة قيادة الجيوش وحكم الولايات) على أهم الولايات الرومانية وهي إسبانية وغالية وسورية، إضافة إلى مصر، لمدة عشر سنوات.
    وقد احتفظ أوكتافيان بالقنصلية التي شكلت الدعامة الدستورية لحكمه بلا انقطاع حتى عام 23ق.م عندما تخلى عن هذا المنصب ولكنه حصل بالمقابل على معظم صلاحيات القناصل وامتيازاتهم. كما تسلم أيضاً السلطة التريبونية Tribunicia Potestas كاملة فأعطته الحق في دعوة المجالس الشعبية للانعقاد وتقديم مشاريع القوانين لها كما أعطته حق النقض Veto وجعلت من شخصه مقدساً لا تخرق له حرمة. كذلك تسلم السلطة البروقنصلية العليا imperiam proconsulare maius لمدة عشر سنوات فمنحه ذلك الإشراف على جميع الولايات السناتورية والامبراطورية وجعل منه القائد الأعلى للجيوش الرومانية. وبذلك حصل على أهم ثلاث سلطات في الدولة الرومانية وهي: القنصلية والتريبونية والبروقنصلية، أي السلطات المدنية والشعبية والعسكرية. وهكذا احتفل عام 17ق.م بانتهاء الإصلاحات وولادة عصر جديد هو عصر السلام الأغسطي Pax Augusta.
    سياساته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية
    اهتم أغسطس بالعادات والتقاليد الرومانية المتوارثة فرعاها وبعث الحياة فيها من جديد. وعندما تولى منصب الكاهن الأعظم في عام 12ق.م سعى إلى إحياء الديانة الرومانية فملأ المناصب الكهنوتية الشاغرة واهتم ببناء المعابد وترميمها. وتقديراً لهذه الأعمال الجليلة كرّمه الرومان بتقديس شخصه وألّهه الشرق الهلنستي إذ ارتبطت عبادته بعبادة الآلهة رومة.
    لم يفكر أغسطس بتغيير الأوضاع الاجتماعية وإنما سعى لتوطيد الأحوال الناجمة عن الحروب الأهلية وصياغة الأطر القانونية اللازمة لاستقرار الطبقات الاجتماعية وتخصيص دور لكل منها في النظام الجديد. كان يرى في الطبقات الأرستقراطية الركيزة الأساسية للدولة لذلك كان يختار من طبقة الشيوخ كبار الحكام والقادة، بينما خص طبقة الفرسان بكثير من الوظائف والمهام الإدارية والمالية. ونظراً لتفشي مظاهر الانحلال الأخلاقي والعزوف عن الزواج والإنجاب بين أفراد هذه الطبقات العليا فقد أصدر مجموعة من القوانين (اليولية) بهدف الحد من انقراضها وبعث الحياة فيها من جديد.
    كان أغسطس مقتصداً جداً في منح حقوق المواطنة الرومانية على عكس سياسة أسلافه بومبيوس وقيصر وأنطونيوس المتسامحة بهذا الخصوص. ولم يتدخل في الحياة الاقتصادية التي انتعشت بعد عودة السلم والاستقرار وإنما تركها وشأنها يتحكم فيها قانون العرض والطلب. اهتم فقط بتنظيم الأمور المالية وفق أسس جديدة فأوجد خزينة امبراطورية Fiscus تعمل تحت إشرافه إلى جانب خزينة الدولة السابقة aerarium التي بقيت بإشراف مجلس الشيوخ ولكنها فقدت مكانتها السابقة وغدت مع الأيام تابعة للخزينة الجديدة.
    كما أجرى إصلاحات إدارية كثيرة في رومة وإيطالية والولايات التي أصبح معظمها وأهمها تحت سلطته المباشرة، ولكن بقي بعضها خاضعاً لمجلس الشيوخ. لقد زار كثيراً من الولايات ونظم أمورها وحد من تسلط متعهدي الضرائب الذين كانوا يبتزونها ويستنزفون مواردها وخيراتها.
    كان أغسطس يدرك أهمية وجود نخبة فكرية حوله تدعم سياساته وتمجد أعماله وإنجازاته لذلك رعى هو وأصدقاؤه وفي مقدمتهم مايكيناس Maecenas الأدباء والشعراء وشجعهم على الإبداع والأعمال الفكرية الخالدة. وهكذا ازدهر الأدب اللاتيني في عهده ووصل إلى عصره الذهبي إذ نبغ أعظم الشعراء والكتاب من أمثال فرجيل وهوراس وأوفيد والمؤرخ تيتوس ليفيوس[ر].
    لم يكن أغسطس ذواقة للأدب فحسب وإنما كان له فيه بعض المحاولات والمؤلفات ولكنها فقدت جميعاً ولم يصلنا سوى سجل أعماله المجيد Res Gestae Divi Augusti على آبدة أنقرة باللغتين اللاتينية والإغريقية.
    شيد الكثير من الأبنية العامة والمعابد والجسور والمسارح والأسواق داخل رومة وخارجها وهكذا كان جديراًَ أن يفخر في سجل أعماله بأنه تسلم روما وهي من الطوب وتركها مدينة من الرخام.
    سياسته العسكرية والخارجية
    كما أولى الجيش الروماني عناية فائقة فحوّله إلى جيش دائم ذي كفاءة عالية، بعد أن كان يتم تعبئة الجيوش في السابق تبعاً للحاجة، وأصبح يرابط بصورة أساسية في الولايات الحدودية والتخوم المهددة. كانت الفرق النظامية legiones تقتصر على المواطنين الرومان وتقوم على مبدأ التطوع والاحتراف والخدمة لمدة عشرين سنة على الأقل. وقد أنشئت خزينة عسكرية خاصة تتولى الإنفاق على الجنود.
    أما الوحدات العسكرية المساعدة auxiliae فكانت تتألف من سكان الولايات الذين يخدمون تحت إمرة ضباط رومان. وقد بقيت القيادات العسكرية حكراً على طبقتي الشيوخ والفرسان. كذلك أوجد أغسطس بحرية دائمة ترابط أساطيلها في مرافئ استراتيجية مختارة. وأنشأ الحرس الإمبراطوري (البريتوري) الذي كان يعسكر في رومة وضواحيها لحماية الإمبراطور وأصبح شبه أكاديمية عسكرية لتخريج كبار الضباط والقادة فيما بعد.
    أما عن سياسته الخارجية فقد مد تخوم الإمبراطورية في الغرب وخاض قواده حروباً ضارية مع القبائل الجرمانية والسويبية والمركومانية وسواها تمخضت عن الوصول إلى نهر الدانوب وإنشاء عدة ولايات رومانية في أواسط أوربة. ولكنه أخفق في ضم جرمانية إلى الإمبراطورية وتكبد خسارة كبيرة في كارثة فاروس Varus عام 9م تمثلت في إبادة ثلاث فرق رومانية بأكملها على يد القبائل الجرمانية. أما أعظم إنجازاته في الشرق فكان بلا شك القضاء على المملكة البطلمية والسيطرة على مصر التي غدت ولاية ممتازة تابعة للإمبراطور شخصياً بسبب أهميتها العظيمة. وقد قام واليه عليها بحملة ناجحة وصلت إلى أعالي النوبة وحدود الحبشة. بيد أن الإخفاق كان مصير الحملة المشهورة التي قادها إليوس غالوس Aelius Gallus عام 24ق.م بهدف السيطرة على اليمن وثرواتها وتجارتها، وكانت أول وآخر محاولة رومانية للسيطرة على الجزيرة العربية. وعلى العكس من ذلك فقد اتبع أغسطس سياسة الوفاق والدبلوماسية مع المملكة الفرثية التي كانت أكبر قوة منافسة للرومان في الشرق، ونجح في عقد اتفاق معها (19ق.م) في أثناء زيارته للشرق توصل بموجبه إلى إعادة الأسرى والرايات التي فقدها الرومان في كارثة حران (54ق.م) وتثبيت حدود الفرات بين الدولتين كما أسبغ نوعاً من الحماية على أرمينية التي كانت مثار نزاع طويل بين الدولتين.
    خلافته ومكانته
    كان أغسطس حريصاً على اختيار خلف له من أسرته وأقربائه. ولكنه لم يرزق سوى بابنة وحيدة من زوجته الثانية سكريبونيا تدعى يوليا Julia، أما زوجته الثالثة ليفيا Livia، التي كان لها ولدان من زوجها الأول، فلم تنجب له أولاداً. وهكذا وقع اختياره أولاً على ابن أخته مركلوس Marcellus فزوجه من ابنته يوليا على أمل أن يخلفه ولكنه مات بعد وقت قصير (23ق.م)، فاختار صديقه الحميم أغريبا وزوّجه من ابنته المترملة وأشركه في سلطاته ولكنه مات بدوره في عام 12ق.م مخلفاً حفيدين لأغسطس هما غايوس ولوكيوس، والذي بدأ يعدهما لخلافته ولكنهما توفيا قبله الواحد تلو الآخر. واضطر أخيراً لتبني ابن زوجته تيبريوس[ر] Tiberius فزوجه يوليا وهيأه لخلافته وقد أصبح الإمبراطور اللاحق.
    وفي عام 13م أحس أغسطس بقرب دنو أجله فأودع وصيته في معبد النار المقدسة وأمر بتدوين سجل أعماله الخالدة. وفارق الحياة في شهر آب عام 14م في نولا (منطقة كمبانية). وكان قد هيأ ضريحه الإمبراطوري الفخم الذي ضم رماد جثمانه بعد حرقه في احتفال مهيب. وفي 17 أيلول أعلن مجلس الشيوخ أنه أصبح بين آلهة الدولة الرومانية. وكان اسمه قد أطلق على الشهر الروماني الثامن والذي أصبح يدعى شهر أغسطس.
    حكم أغسطس رومة ما يزيد على نصف قرن وترك بصماته العميقة على مختلف أوجه الحياة فيها حتى غدا اسمه علماً على عصر بأكمله Augustan Age تميز بإنجازات وإبداعات خلاقة أصبحت كلاسيكية في تاريخ الحضارة الرومانية. لقد نجح في تخليص الرومان من ويلات الحروب الأهلية وأسس نظامه الامبراطوري على أنقاض النظام الجمهوري الذي كتب له البقاء والاستمرار نحو ثلاثة قرون.
    كانت مكانة الامبراطور تعتمد على سلسلة من الحقوق والسلطات المدنية والعسكرية الممنوحة له والتي لم يكن أي منها يتعارض مع التقاليد الجمهورية ولكنها بمجموعها وتركيزها في يد الإمبراطور جعلت منه حاكم الإمبراطورية المطلق.
    لقد أقام أغسطس نظاماً يوازن بين التقاليد المتوارثة ومتطلبات حكم إمبراطورية عالمية أخفق دستور دولة المدينة الجمهوري في حكمها. وكان حريصاً أن يحافظ على المظهر الخادع بأنه لم يكن سوى أحد حكام رومة المنتخبين وأنه لم يفق أقرانه إلا بالجاه والنفوذ.
    لقد رفض الألقاب المستهجنة في التاريخ الروماني من قبيل ملك أو دكتاتور وكان يفضل لقب رئيس Princeps وهو لقب روماني قديم يؤكد على أولويته بين أسياد أكفاء Primus inter pares ولذلك دعي نظامه بالحكم الرئاسي Principatus ولكن لقب امبراطور Imperator اتخذه بديلاً لاسمه الشخصي «غايوس» يؤكد الطابع العسكري لحكمه. وهكذا عاش «أبو الوطن» في ذاكرة الأجيال اللاحقة باسم الامبراطور قيصر أغسطس.
    محمد الزين

    ​​​​​​

    أغسطس
    (63ق.م ـ14م)

    أغسطس Augustus (أوغسطس هي الصيغة الأكثر دقة) هو مؤسس النظام الامبراطوري الروماني ومن أعظم ساسة رومة وقادتها على مر العصور.
    أسماؤه ونشأته
    عرف بأسماء عديدة حملها في مراحل مختلفة من حياته: كان اسمه عند الولادة غايوس أوكتافيوس Garius Octaviua، ثم أصبح بعد التبني غايوس يوليوس قيصر أوكتافيانوس Octavianus، ومنذ عام 27ق.م طغى لقبه الرسمي أغسطس على أسمائه الأخرى.
    ولد في رومة (23 أيلول) في أثناء قنصلية شيشرون[ر] من أسرة موسرة تنتمي إلى طبقة الفرسان. كان والده غايوس أوكتافيوس رجلاً عصامياً وصل إلى منصب والي مقدونية عام 60ـ59ق.م وحال موته المبكر دون تقلده أرفع المناصب وهو القنصلية.
    وكانت أمه آتيا Atia ابنة شقيقة الزعيم المشهور يوليوس قيصر[ر]، الذي تعهده برعايته بعد موت والده وهيأ له تربية عالية خليقة بأبناء النبلاء فدرس الخطابة والأدب والحقوق وتدرب على الحياة العسكرية مثل سائر الرومان. كان يتابع دراسته في مدينة أبولونية الإغريقية على ساحل الأدرياتي ويستعد للمشاركة في الحملة المزمعة على المملكة الفرثية، عندما وصله نبأ اغتيال يوليوس قيصر في 15 آذار عام 44ق.م على يد فئة من المتآمرين بزعامة بروتوس وكاسيوس، الذين أرادوا إنقاذ النظام الجمهوري المتداعي من الحكم الفردي. وهو الحدث الذي هز الامبراطورية وغير مسيرة حياته.
    الصراع من أجل السلطة
    قرر أوكتافيوس ـ على حداثة سنه وعلى الرغم من تحذيرات أمه وأقاربه التوجه إلى رومة للمطالبة بميراث خاله الأكبر الذي تبناه في وصيته وأعطاه اسمه وثروته ونفوذه. وكان ذلك يعني تحدي القنصل ماركوس أنطونيوس[ر]؛ الذي تزعم أنصار قيصر وأمسك بزمام الأمور في رومة. وقد استطاع أوكتافيوس بما أوتي من مهارة وقوة شخصية أن يكسب الأنصار ويثبت أقدامه على الساحة السياسية. ولكنه كان يدرك أنه لابد له من قوة عسكرية تدعم مطالبه وسند سياسي يوازن به قوة خصمه. فقام أولاً وبدعم من صديق عمره أغريبا[ر] بتشكيل جيش موال له من جنود قيصر القدامى. ثم تحالف مع مجلس الشيوخ بزعامة شيشرون وانطلق مع قنصلي عام 43ق.م لنجدة ديكيموس بروتوس، أحد قتلة قيصر، الذي كان أنطونيوس يحاصره في شمال إيطالية. وتمكن مع حلفائه في حرب موتينة Mutina من فك الحصار وإجبار أنطونيوس على الانسحاب إلى بلاد الغال. ولما كان القنصلان قد قتلا في المعركة، فقد طالب أوكتافيوس لنفسه بمنصب القنصلية ولم يتردد حيال رفض مجلس الشيوخ في الزحف بجيشه على رومة وإرغام المجالس الشعبية على انتخابه قنصلاً (آب 43ق.م) وكان لايزال في العشرين من عمره وهي سابقة لا مثيل لها في التاريخ الروماني. ثم توصل إلى الاعتراف بشرعية بنوّته لقيصر وبحقه في الثأر من قتلة أبيه (بالتبني)، الذين أهدرت دماؤهم. ونظراً لتنامي خطر هؤلاء وازدياد قوتهم بعد أن بسطوا سيطرتهم على الشرق الروماني فقد اضطر أوكتافيان إلى التقرب من منافسه اللدود أنطونيوس وحليفه لبيدوس Lepidus والتحالف معهما بهدف توحيد قوى أنصار قيصر والاستعداد لمواجهة قتلته من أنصار النظام الجمهوري.
    واستصدر الزعماء الثلاثة عام 42 ق.م قانوناً يمنحهم سلطات مطلقة لمدة خمس سنوات من أجل إصلاح أوضاع الدولة. وهو ما عرف باسم الحكم الثلاثي الثاني Triumviratus. ثم بدؤوا حملة دموية لملاحقة خصومهم ذهب ضحيتها عدد كبير من الشيوخ والفرسان، وعلى رأسهم شيشرون، والذين صودرت أموالهم وممتلكاتهم لتمويل الحرب المقبلة. وبعد أن أكمل الحكام الثلاثة استعداداتهم أبحرت قواتهم إلى بلاد اليونان بقيادة أنطونيوس وأوكتافيان وهناك جرت معركة معركة فيليبي Philippi الحاسمة (تشرين أول 42ق.م) التي انتهت بهزيمة الجمهوريين والقضاء على زعمائهم. بقي أنطونيوس في الشرق لتنظيم أموره، وعاد أوكتافيان إلى رومة ليواجه مسألة توطين الجنود المسرحين في إيطالية التي حاولت زوجة أنطونيوس وشقيقه لوكيوس استغلالها لإضعاف مركزه وأدت إلى حرب بيروسية (41ق.م) ولكنه خرج منها منتصراً. ثم نجح في استرضاء أنطونيوس وعقد معه اتفاق برودنديزيوم في إيطالية (40ق.م)، الذي تكلل بزواج أنطونيوس من شقيقته أوكتافيا. وبعد تجديد الحكم الثلاثي لخمس سنوات أخرى في عام 37ق.م تمكن قائده أغريبا من الانتصار على سكستوس بومبيوس S.Pompeius، آخر زعماء الجمهوريين، الذي كان يهدد طرق تموين إيطالية البحرية انطلاقاً من جزيرة صقلية. وأعقب ذلك تجريد الحليف الثالث لبيدوس من ولايته وسلطاته ولكنه أبقى له منصب الكاهن الأعظم حتى موته عام 12ق.م. وهكذا غدا أوكتافيان سيد الغرب الروماني بلا منازع وغدا الحكم الثلاثي ثنائياً وبات الصراع مع أنطونيوس أمراً لا مفر منه، والذي كان بدوره قد وطد مركزه في الشرق بتحالفه سياسياَ مع الملكة كليوباترة[ر] وزواجه منها وانتصاره على الفرثيين. وسبق النزاع المسلح حرب دعائية بين الطرفين لجأ فيها أوكتافيان إلى تهديد أنصار أنطونيوس ثم الاستيلاء على وصيته (المزعومة!) ونشرها ليصوره بمظهر المفرط بمصالح رومة والمستسلم لأهواء كليوباترة. وهكذا استطاع أوكتافيان بدهائه وحنكته السياسية أن يكسب عواطف الرومان القومية ويوحدهم حول زعامته في النصف الغربي من الامبراطورية. ثم جرت معركة أكتيوم Actium البحرية الشهيرة (أيلول 31ق.م)، التي تمكن فيها أوكتافيان وقائده أغريبا من إلحاق الهزيمة بأسطول أنطونيوس، الذي ترك ميدان القتال وتوجه مع كليوباترة إلى الاسكندرية لمواصلة الصراع. ونجح بعد ذلك في كسب جيش خصمه وضمه إلى قواته ثم تابع زحفه المظفر عبر اليونان وآسيا الصغرى وسورية ليتوج انتصاراته بدخول الإسكندرية (آب 30ق.م) وانتحار أنطونيوس وكليوباترة وسقوط مصر في يده واستيلائه على كنوزها وثرواتها. وعاد أوكتافيان في صيف عام 29ق.م إلى رومة، التي استقبلته استقبال الأبطال ليحتفل بانتصاراته التي جعلت منه سيد الامبراطورية الرومانية الأوحد الذي يمتلك من القوة والسلطة والنفوذ والثروة ما لم يملكه قائد روماني من قبل وأصبح بإمكانه تنظيم الدولة الرومانية وفق أسس جديدة.
    نظام الحكم الجديد
    مهد أوكتافيان لإقامة نظامه الجديد بتسريح قسم كبير من جيشه وإعلان العفو عن خصومه السابقين واستمالة الجماهير الرومانية بالهبات والأموال التي جلبها من الشرق قبل البدء بإصلاح النظام الجمهوري المتداعي، الذي فقد معظم زعمائه وأنصاره في الحروب الأهلية، وتحويله تدريجياً إلى نظام حكم رئاسي ـ إمبراطوري مع الحفاظ على المظاهر والتقاليد الجمهورية.
    وجاءت الخطوة الأولى عندما أعلن في مطلع عام 27ق.م، أمام مجلس الشيوخ، أن عصر الحروب الأهلية قد ولى إلى غير رجعة وأنه يتخلى عن كل سلطاته الاستثنائية ويعيد الجمهورية إلى سابق عهدها ويضع مقدراتها بين يدي مجلس الشيوخ والشعب الروماني. فما كان من المجلس إلا أن منحه تقديراً لهذا الإعلان امتيازات عديدة وعلى رأسها لقب «أغسطس» الذي يعني «المبجل»، و«المعظم» والذي يرفعه فوق مستوى البشر. كما منحه السلطة البروقنصلية (سلطة قيادة الجيوش وحكم الولايات) على أهم الولايات الرومانية وهي إسبانية وغالية وسورية، إضافة إلى مصر، لمدة عشر سنوات.
    وقد احتفظ أوكتافيان بالقنصلية التي شكلت الدعامة الدستورية لحكمه بلا انقطاع حتى عام 23ق.م عندما تخلى عن هذا المنصب ولكنه حصل بالمقابل على معظم صلاحيات القناصل وامتيازاتهم. كما تسلم أيضاً السلطة التريبونية Tribunicia Potestas كاملة فأعطته الحق في دعوة المجالس الشعبية للانعقاد وتقديم مشاريع القوانين لها كما أعطته حق النقض Veto وجعلت من شخصه مقدساً لا تخرق له حرمة. كذلك تسلم السلطة البروقنصلية العليا imperiam proconsulare maius لمدة عشر سنوات فمنحه ذلك الإشراف على جميع الولايات السناتورية والامبراطورية وجعل منه القائد الأعلى للجيوش الرومانية. وبذلك حصل على أهم ثلاث سلطات في الدولة الرومانية وهي: القنصلية والتريبونية والبروقنصلية، أي السلطات المدنية والشعبية والعسكرية. وهكذا احتفل عام 17ق.م بانتهاء الإصلاحات وولادة عصر جديد هو عصر السلام الأغسطي Pax Augusta.
    سياساته الاجتماعية والاقتصادية والفكرية
    اهتم أغسطس بالعادات والتقاليد الرومانية المتوارثة فرعاها وبعث الحياة فيها من جديد. وعندما تولى منصب الكاهن الأعظم في عام 12ق.م سعى إلى إحياء الديانة الرومانية فملأ المناصب الكهنوتية الشاغرة واهتم ببناء المعابد وترميمها. وتقديراً لهذه الأعمال الجليلة كرّمه الرومان بتقديس شخصه وألّهه الشرق الهلنستي إذ ارتبطت عبادته بعبادة الآلهة رومة.
    لم يفكر أغسطس بتغيير الأوضاع الاجتماعية وإنما سعى لتوطيد الأحوال الناجمة عن الحروب الأهلية وصياغة الأطر القانونية اللازمة لاستقرار الطبقات الاجتماعية وتخصيص دور لكل منها في النظام الجديد. كان يرى في الطبقات الأرستقراطية الركيزة الأساسية للدولة لذلك كان يختار من طبقة الشيوخ كبار الحكام والقادة، بينما خص طبقة الفرسان بكثير من الوظائف والمهام الإدارية والمالية. ونظراً لتفشي مظاهر الانحلال الأخلاقي والعزوف عن الزواج والإنجاب بين أفراد هذه الطبقات العليا فقد أصدر مجموعة من القوانين (اليولية) بهدف الحد من انقراضها وبعث الحياة فيها من جديد.
    كان أغسطس مقتصداً جداً في منح حقوق المواطنة الرومانية على عكس سياسة أسلافه بومبيوس وقيصر وأنطونيوس المتسامحة بهذا الخصوص. ولم يتدخل في الحياة الاقتصادية التي انتعشت بعد عودة السلم والاستقرار وإنما تركها وشأنها يتحكم فيها قانون العرض والطلب. اهتم فقط بتنظيم الأمور المالية وفق أسس جديدة فأوجد خزينة امبراطورية Fiscus تعمل تحت إشرافه إلى جانب خزينة الدولة السابقة aerarium التي بقيت بإشراف مجلس الشيوخ ولكنها فقدت مكانتها السابقة وغدت مع الأيام تابعة للخزينة الجديدة.
    كما أجرى إصلاحات إدارية كثيرة في رومة وإيطالية والولايات التي أصبح معظمها وأهمها تحت سلطته المباشرة، ولكن بقي بعضها خاضعاً لمجلس الشيوخ. لقد زار كثيراً من الولايات ونظم أمورها وحد من تسلط متعهدي الضرائب الذين كانوا يبتزونها ويستنزفون مواردها وخيراتها.
    كان أغسطس يدرك أهمية وجود نخبة فكرية حوله تدعم سياساته وتمجد أعماله وإنجازاته لذلك رعى هو وأصدقاؤه وفي مقدمتهم مايكيناس Maecenas الأدباء والشعراء وشجعهم على الإبداع والأعمال الفكرية الخالدة. وهكذا ازدهر الأدب اللاتيني في عهده ووصل إلى عصره الذهبي إذ نبغ أعظم الشعراء والكتاب من أمثال فرجيل وهوراس وأوفيد والمؤرخ تيتوس ليفيوس[ر].
    لم يكن أغسطس ذواقة للأدب فحسب وإنما كان له فيه بعض المحاولات والمؤلفات ولكنها فقدت جميعاً ولم يصلنا سوى سجل أعماله المجيد Res Gestae Divi Augusti على آبدة أنقرة باللغتين اللاتينية والإغريقية.
    شيد الكثير من الأبنية العامة والمعابد والجسور والمسارح والأسواق داخل رومة وخارجها وهكذا كان جديراًَ أن يفخر في سجل أعماله بأنه تسلم روما وهي من الطوب وتركها مدينة من الرخام.
    سياسته العسكرية والخارجية
    كما أولى الجيش الروماني عناية فائقة فحوّله إلى جيش دائم ذي كفاءة عالية، بعد أن كان يتم تعبئة الجيوش في السابق تبعاً للحاجة، وأصبح يرابط بصورة أساسية في الولايات الحدودية والتخوم المهددة. كانت الفرق النظامية legiones تقتصر على المواطنين الرومان وتقوم على مبدأ التطوع والاحتراف والخدمة لمدة عشرين سنة على الأقل. وقد أنشئت خزينة عسكرية خاصة تتولى الإنفاق على الجنود.
    أما الوحدات العسكرية المساعدة auxiliae فكانت تتألف من سكان الولايات الذين يخدمون تحت إمرة ضباط رومان. وقد بقيت القيادات العسكرية حكراً على طبقتي الشيوخ والفرسان. كذلك أوجد أغسطس بحرية دائمة ترابط أساطيلها في مرافئ استراتيجية مختارة. وأنشأ الحرس الإمبراطوري (البريتوري) الذي كان يعسكر في رومة وضواحيها لحماية الإمبراطور وأصبح شبه أكاديمية عسكرية لتخريج كبار الضباط والقادة فيما بعد.
    أما عن سياسته الخارجية فقد مد تخوم الإمبراطورية في الغرب وخاض قواده حروباً ضارية مع القبائل الجرمانية والسويبية والمركومانية وسواها تمخضت عن الوصول إلى نهر الدانوب وإنشاء عدة ولايات رومانية في أواسط أوربة. ولكنه أخفق في ضم جرمانية إلى الإمبراطورية وتكبد خسارة كبيرة في كارثة فاروس Varus عام 9م تمثلت في إبادة ثلاث فرق رومانية بأكملها على يد القبائل الجرمانية. أما أعظم إنجازاته في الشرق فكان بلا شك القضاء على المملكة البطلمية والسيطرة على مصر التي غدت ولاية ممتازة تابعة للإمبراطور شخصياً بسبب أهميتها العظيمة. وقد قام واليه عليها بحملة ناجحة وصلت إلى أعالي النوبة وحدود الحبشة. بيد أن الإخفاق كان مصير الحملة المشهورة التي قادها إليوس غالوس Aelius Gallus عام 24ق.م بهدف السيطرة على اليمن وثرواتها وتجارتها، وكانت أول وآخر محاولة رومانية للسيطرة على الجزيرة العربية. وعلى العكس من ذلك فقد اتبع أغسطس سياسة الوفاق والدبلوماسية مع المملكة الفرثية التي كانت أكبر قوة منافسة للرومان في الشرق، ونجح في عقد اتفاق معها (19ق.م) في أثناء زيارته للشرق توصل بموجبه إلى إعادة الأسرى والرايات التي فقدها الرومان في كارثة حران (54ق.م) وتثبيت حدود الفرات بين الدولتين كما أسبغ نوعاً من الحماية على أرمينية التي كانت مثار نزاع طويل بين الدولتين.
    خلافته ومكانته
    كان أغسطس حريصاً على اختيار خلف له من أسرته وأقربائه. ولكنه لم يرزق سوى بابنة وحيدة من زوجته الثانية سكريبونيا تدعى يوليا Julia، أما زوجته الثالثة ليفيا Livia، التي كان لها ولدان من زوجها الأول، فلم تنجب له أولاداً. وهكذا وقع اختياره أولاً على ابن أخته مركلوس Marcellus فزوجه من ابنته يوليا على أمل أن يخلفه ولكنه مات بعد وقت قصير (23ق.م)، فاختار صديقه الحميم أغريبا وزوّجه من ابنته المترملة وأشركه في سلطاته ولكنه مات بدوره في عام 12ق.م مخلفاً حفيدين لأغسطس هما غايوس ولوكيوس، والذي بدأ يعدهما لخلافته ولكنهما توفيا قبله الواحد تلو الآخر. واضطر أخيراً لتبني ابن زوجته تيبريوس[ر] Tiberius فزوجه يوليا وهيأه لخلافته وقد أصبح الإمبراطور اللاحق.
    وفي عام 13م أحس أغسطس بقرب دنو أجله فأودع وصيته في معبد النار المقدسة وأمر بتدوين سجل أعماله الخالدة. وفارق الحياة في شهر آب عام 14م في نولا (منطقة كمبانية). وكان قد هيأ ضريحه الإمبراطوري الفخم الذي ضم رماد جثمانه بعد حرقه في احتفال مهيب. وفي 17 أيلول أعلن مجلس الشيوخ أنه أصبح بين آلهة الدولة الرومانية. وكان اسمه قد أطلق على الشهر الروماني الثامن والذي أصبح يدعى شهر أغسطس.
    حكم أغسطس رومة ما يزيد على نصف قرن وترك بصماته العميقة على مختلف أوجه الحياة فيها حتى غدا اسمه علماً على عصر بأكمله Augustan Age تميز بإنجازات وإبداعات خلاقة أصبحت كلاسيكية في تاريخ الحضارة الرومانية. لقد نجح في تخليص الرومان من ويلات الحروب الأهلية وأسس نظامه الامبراطوري على أنقاض النظام الجمهوري الذي كتب له البقاء والاستمرار نحو ثلاثة قرون.
    كانت مكانة الامبراطور تعتمد على سلسلة من الحقوق والسلطات المدنية والعسكرية الممنوحة له والتي لم يكن أي منها يتعارض مع التقاليد الجمهورية ولكنها بمجموعها وتركيزها في يد الإمبراطور جعلت منه حاكم الإمبراطورية المطلق.
    لقد أقام أغسطس نظاماً يوازن بين التقاليد المتوارثة ومتطلبات حكم إمبراطورية عالمية أخفق دستور دولة المدينة الجمهوري في حكمها. وكان حريصاً أن يحافظ على المظهر الخادع بأنه لم يكن سوى أحد حكام رومة المنتخبين وأنه لم يفق أقرانه إلا بالجاه والنفوذ.
    لقد رفض الألقاب المستهجنة في التاريخ الروماني من قبيل ملك أو دكتاتور وكان يفضل لقب رئيس Princeps وهو لقب روماني قديم يؤكد على أولويته بين أسياد أكفاء Primus inter pares ولذلك دعي نظامه بالحكم الرئاسي Principatus ولكن لقب امبراطور Imperator اتخذه بديلاً لاسمه الشخصي «غايوس» يؤكد الطابع العسكري لحكمه. وهكذا عاش «أبو الوطن» في ذاكرة الأجيال اللاحقة باسم الامبراطور قيصر أغسطس.
    محمد الزين


يعمل...
X