الاسكندرونة لواءIskenderun - صقع من بلاد الشام نسب لمدينة الاسكندرونة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الاسكندرونة لواءIskenderun - صقع من بلاد الشام نسب لمدينة الاسكندرونة


    اسكندرونه (لواء)

    Iskenderun - Iskenderun

    الاسكندرونة (لواء ـ )

    صقع من بلاد الشام نُسب إلى مدينة الاسكندرونة، التي أقيمت على بعض أنقاض المدينة الفينيقية السابقة ميرياندروس على يد أنتيغون (أحد قواد الاسكندر المقدوني). وكان تأسيسها عام 333 ق.م. ويقال لهذا الصقع «السنجق» و«اللواء» في مقابل مايعرف باسم «المحافظة» في التقسيمات الإدارية السورية القائمة اليوم.
    كان لواء اسكندرونة موطن الجراجمة والمَردَة وجزءاً من الثغور الشامية على الحدود الشمالية الغربية لدار الخلافة الأموية والعباسية في مواجهة الروم البيزنطيين.
    وقد يكتب الاسم «اسكندرون» في بعض المصادر.
    الموقع والأبعاد: يشغل اللواء أقصى الزاوية الشمالية الغربية من سورية بحدودها السياسية بموجب اتفاقية أنقرة لعام 1921، أي قبل أن تقتطعه تركية سنة 1939، يحده البحر المتوسط من الغرب ممثلاً بخليجي الاسكندرونة والسويدية، وتركية من الشمال (خط الحدود الموضوعة في البروتوكول النهائي لرسم الحدود السورية ـ التركية في 3 أيار1930)، ومحافظتا حلب وإدلب من الشرق والجنوب الشرقي، ثم أراضي محافظة اللاذقية في الجنوب، مساحته 4804.9كم2، وللواء شكل متطاول يمتد من الشمال إلى الجنوب مسافة 122كم، بعرض أقصى قدره 83كم بين موقع باب الهوى في الشرق ورأس الخنزير في الغرب. ولهذا الموقع الجغرافي أهمية استراتيجية وتجارية كبرى، فهو بوابة سورية الطبيعية للقادم من آسيا الصغرى وأوربة أو المتجه إليهما. وهو ممر تلتقي عنده الطرق الواصلة بين الداخل السوري والبحر المتوسط وتركية، أبرزها طريق الحرير التاريخي، وطريق حلب ـ الاسكندرونة، واللاذقية ـ الاسكندرونة، ومنه إلى ممر كيليكية (كُلُّك بوغاز) الذي يخترق سلسلة جبال طوروس.
    الأوضاع الجغرافية الطبيعية
    1 ـ التضاريس: تضاريس لواء الاسكندرونة امتداد طبيعي لتضاريس الغرب السوري الواقعة على طول الساحل الشرقي للبحر المتوسط (إقليم الساحل والجبال الساحلية وإقليم حوض العاصي). وتتألف هذه التضاريس من شريطين متباينين هما: الجبال والغور. والسبب في التباين الذي يصل فرق الارتفاع معه إلى نحو 2000م، هو أن اللواء يعد النهاية الشمالية لوحدة بنائية (تكتونية) كبرى هي الانهدام السوري ـ الإفريقي الذي يمتد مسافة 6000كم من نهر الزامبيزي في موزامبيق في الجنوب حتى مرعش في شمال اللواء. والوحدة البنائية هذه مازالت في طور التكوين وغير مستقرة تؤكدها الهزات والزلازل التي ضربت المنطقة وضربت مدينة أنطاكية وغيرها أكثر من مرة، وكان أخطرها زلزال عام 256م، الذي راح ضحيته نحو 250000 نسمة.
    أ ـ الجبال: تتألف جبال اللواء من سلسلة شريطية قوسية محدبة نحو الشرق هي جبال اللّكام (الأمانوس) الممتدة من الشمال والشمال الشرقي نحو الجنوب الغربي مسافة 90كم بعرض متوسط قدره 15كم. وهي سلسلة متفرعة من جبال طوروس وتنتهي في الجنوب الغربي في رأس الخنزير حيث تغيب في مياه البحر المتوسط مباشرة. وتؤلف جبال اللكام سلسلة متماسكة متوسط ارتفاعها يزيد على 1500م وأعلى قمة فيها 2262 م في مغرتِبَه (بوزداغ)، وتشرف على خليج الاسكندرونة والسهول الساحلية في الغرب بسفوح شديدة الانحدار نسبياً. كما تشرف على سهل العمق وغوره ووادي نهر الأسود (قره صو) في الشرق بسفوح أشد انحداراً. ولا يخترقها سوى ممر واحد هو ممر (شعب) بيلان الذي يرتفع 687 م فوق سطح البحر، ويفصل بين كتلة اللّكام الجنوبية التي تعرف بالجبل الأحمر (قِزِل داغ 1795م)، ومن أقسامها جبل موسى (1241م)، وكتلة اللكام الشمالية، ومن أقسامها جبل الكافر (كاوورداغ).
    تتصف جبال اللكام بظهور الصخور الخضراء الاندفاعية في بنية كتلتها الجنوبية وفي أجزاء من الكتلة الشمالية، في حين تتنوع الصخور في معظم بنية كتلتها الشمالية فتظهر فيها الصخور الكلسية والدولوميتية والرملية وغيرها من صخور الحِقَب الجيولوجية الأربعة.
    تنتهي جبال اللكام في الجنوب بخانق نهر العاصي الأدنى، الذي ترتفع جنوبه كتلة جبل الزيارة (1234م) وجبل الأقرع (1728م) في الغرب وتِلال القُصَير في الشرق.
    ويبرز جبل الأقرع بشكله المخروطي وصخوره الكلسية عالياً عند نهاية الحدود بين اللواء ومحافظة اللاذقية على البحر. أما في جبل الزيارة وتِلال القُصَير فتتنوع الصخور مع غلبة الصخور المارنية والكلسية والخضراء العائدة للحقبين الثاني والثالث، في حين تغلب التوضعات اللحقية الرباعية في وادي العاصي، الذي يرسم فيها أكواعه المترنحة. كما تتألف من الترسبات الرباعية توضعات الشريط السهلي الساحلي الضيق في سهل اسكندرونة وسهل أرسوز.
    ب ـ الغور: يمتد الغور إلى الشرق من جبال اللّكام وإلى الشمال من تلال القصير، وجبال باريشا والوسطاني والأعلى في أراضي محافظة إدلب[ر]، وإلى الغرب من جبل الأكراد. وهو منخفض انهدامي ضيق في الشمال (15-20كم) ومتسع في الجنوب (نحو 50كم)، ومتوسط ارتفاعه بين 130-140م فوق سطح البحر، ويؤلف شريطاً غورياً منبسط القاع، يضم وادي النهر الأسود (قره صو) في الشمال، ومنخفض سهل العمق في الجنوب. وللغور امتداد في الشمال ينتهي في منطقة مرعش. وتقع أخفض أقسامه على ارتفاع 80م فوق سطح البحر، حيث كانت بحيرة العمق ومستنقعاتها قبل التجفيف. ويتسع سهل العمق بلسان شرقي يؤلف المجرى الأدنى لنهر عفرين ومصبه في البحيرة. ويمكن التمييز في شريط الغور بين القسم الشمالي الأكثر ارتفاعاً ويتألف في معظمه من صخور اندفاعية ومسكوبات بركانية ثلاثية العمر تعرف باللّجاة (أو اللجة)، والقسم الجنوبي وأودية الأنهار التي تنتهي إليه، وهو أخفض وتغلب عليه الترسبات الرباعية اللحقية والبحيرية ـ المستنقعية.
    وتجدر الإشارة إلى أن نهر العاصي يجري على الأطراف الجنوبية لسهل العمق قريباً جدا ً من منخفض البحيرة ومستنقعاتها (نحو 900م) من دون أن يصب فيها، بل يتابع جريانه نحو الغرب والجنوب الغربي، ويتلقى مياه شريط الغور كلها عن طريق النهر الأسود الذي كان يفرغ فائض البحيرة والمستنقعات من المياه. وكان يطلق على هذا الجزء من النهر الأسود اسم نهر العاصي الصغير.
    2ـ المناخ والمياه: تغلب في أنحاء لواء الاسكندرونة أحوال المناخ المتوسطي لشرق البحر المتوسط، الموسومة بصيف جاف وحار وشتاء مطير معتدل إلى بارد. وتبين المعطيات التالية متوسطات حرارة الساحل (مركز الاسكندرونة) والداخل (مركز أنطاكية) بالدرجات المئوية:
    المركز المتوسط السنوي متوسط الصيف متوسط الشتاء الحرارة الدنيا المطلقة الحرارة العظمى المطلقة
    الاسكندرونة 19.5 28.1 10.6 -6 43
    أنطاكية 18.1 27.7 8 -14.6 42.7
    وتبلغ معدلات الأمطار السنوية 899مم في الاسكندرونة و1142مم في أنطاكية. وترتفع الرطوبة الجوية في الشريط الساحلي المنخفض، وتصبح مزعجة ومعوقة للنشاط السكاني عندما ترافق حرارة الصيف، فيلجأ السكان إلى مصايف اللكام. كذلك يسبب التبخر في الصيف ازدياد رطوبة جو سهل العمق والغور، ولكن بدرجة أقل مما تقدم.
    إن لخليج الاسكندرونة وموقعه في أقصى الزاوية الشمالية الشرقية للبحر المتوسط، ولعروضه الجغرافية الانتقالية والشمالية للمناخ المتوسطي، وللتباينات في الارتفاعات بين شريطي الجبال والغور، أكبر الأثر في الاختلافات المناخية بين مكان وآخر في اللواء.
    أما المياه فاللواء غني بالمياه السطحية، وتمثلها شبكة نهر العاصي الأدنى ورافداه: النهر الأسود ونهر عفرين. وتقدر غزارة العاصي قبيل مصبه بنحو 86م3/ثا وسطياً. ويتلقى العاصي ورافداه مياه كثير من النهيرات والجداول والسيول الهابطة من الجبال المشرفة على أوديتها. وهناك أنهار قصيرة وسريعة الجريان تهبط من السفوح الغربية لجبال اللكام وتنتهي في البحر مباشرة، منها أنهار: باياس ودرباني والقشلة وزللي ومنطرة وغيرها. وكانت بحيرة العمق، ومساحتها نحو 100كم2، تحتل قلب سهل العمق وتحيط بها مستنقعات تزيد مساحتها على 200كم2، تنتهي إليها مياه شبكتي النهر الأسود ونهر عفرين. لكن البحيرة ومعظم مستنقعاتها جففت بجر مياه نهر عفرين بقناة إلى النهر الأسود مباشرة، مما زاد في مساحة الأرض الزراعية وقلل من الفاقد المائي بالتبخر. ومع ذلك مازالت بقايا المستنقعات موجودة في الغور، كما توجد عند مصب العاصي وفي أشرطة السهل الساحلي.
    تتألف نباتات اللواء من أنواع متوسطية متقهقرة أزال الإنسان معظمها من البقاع التي عمرها. وتتدرج الأنواع مع الارتفاع فتبدأ بأحراج الماكي حتى علو 1200م، تليها أشجار البلوط والسنديان والصنوبر والمخروطيات وغيرها. أما في الغور والمنخفضات فتظهر الأعشاب والنباتات المائية.
    السكان: يرجع بدء إعمار المنطقة إلى العصر الحجري القديم، إذ عثر على بعض من آثاره في مغارة السويدية وغيرها. واستمر الإعمار في العصور التالية، فكان سهل العمق مركز حضارة تدل عليها المواقع والتلال التي كشف عنها في تل عطشانة (ألالاخ)[ر] وعشرات المواقع الأخرى. ويرجع سبب الإعمار المستمر للمنطقة إلى الأوضاع الجغرافية الطبيعية الملائمة وإلى أهمية الموقع الجغرافي. لذا كانت المنطقة ملتقى عناصر سكانية منذ القدم.
    يتألف سكان اللواء من العرب وهم الغالبية والأتراك والأكراد والشركس وقلة من الأرمن. ولقد تغيرت نسبة هذه العناصر بحسب الأوضاع والأحوال السياسية التي مرت بها مسألة اللواء حتى اقتطاعه. ومازال العرب يؤلفون الأكثرية الساحقة حتى اليوم وخاصة في الأرياف، وأسطورة الهجرة العربية غير دقيقة إذ لم يهاجر من عرب اللواء أكثر من 4000 نسمة من أصل 180ألف نسمة، وكان العرب في عام 1937 يؤلفون 65٪ من نسبة السكان وظلوا كذلك حتى اليوم، والباقي من الأتراك والأرمن والأكراد والشركس عندما كان مجموع السكان 297080 نسمة، ومنذ عام 1939 أخذت نسبة السكان الأتراك ترتفع مع تحول اللواء إلى ولاية تركية سميت «هاتاي». ولاتعترف الإحصاءات والنشرات التركية بوجود عناصر غير تركية في اللواء اليوم، مع وجود أعداد كبيرة من العرب في كل مكان تقريباً في ريف اللواء ومدنه ووجود الأكراد في شماله الغربي والشركس في منطقة الريحانية ويني شهر وفي مدن جركس وأنطاكية وقرقخان. وثمة قلة من الأرمن تعيش على يمين نهر العاصي قرب مصبه. ويقدر عدد سكان لواء الاسكندرونة بنحو 890000 نسمة (1997)، يعيشون في 275 قرية وبلدة ومدينة تتبعها عشرات المزارع. وتبلغ الكثافة السكانية 170ن/كم2. وتزيد هذه الكثافة في المدن والسهول الساحلية وشريط الغور الجنوبي وتلال القصير، وتتراجع في المرتفعات والجبال. ويعيش أكثر من نصف السكان في مدن يزيد عدد سكانها على 10.000 نسمة. أبرزها: الاسكندرونة وأنطاكية (مركز الولاية) والسويدية وأوردو وقرقخان والريحانية والحربية. وتقدر نسبة الذكور بنحو 51.7٪ مقابل 48.3٪ للإناث، كما بلغت نسبة النمو السكاني 23 بالألف سنوياً في عقد الثمانينات والتسعينات.
    الأوضاع الاقتصادية
    توجد في اللواء مكامن للحديد والكروم والأسبست وبعض الذهب في الجبال، لكن احتياطي هذه الثروات قليل جداً واستخراجها غير مجدٍ اقتصادياً. لذا قام الاقتصاد المحلي على استثمار الثروات الطبيعية السطحية من مياه وأحوال مناخية ملائمة، وعلى استغلال الترب الخصبة في السهول وأودية الأنهار والتلال والسفوح القدمية للجبال لممارسة الزراعة وتربية الحيوانات. وكان القطاع الزراعي ومازال عماد الإنتاج والعيش في اللواء على ما حققه القطاع الصناعي والسياحي من تطور واضح ونمو متزايد.
    1 ـ الزراعة: يدخل اللواء في نطاق الأقاليم المناخية الزراعية ذات الشروط الجيدة لممارسة العمل الزراعي، فعلى تخوم إقليم الغابات الزراعي الانتقالي في الغرب يمتد إقليم الأشجار المثمرة والخضر، وإقليم الزراعات الواسعة في الشرق. وتؤلف الزراعة العنصر الرئيس للحياة الاقتصادية في اللواء، وعمادها الأرض الزراعية التي تقترب مساحتها من نصف مساحة اللواء، وتدخل في منطقة الاستقرار الزراعي الأولى، فالزراعة مضمونة باعتماد الأمطار وازدياد المساحات المروية.
    وينتشر استثمار الغابات في شريط جبال اللكام، في حين تستثمر المرتفعات الجنوبية مراعي بالدرجة الأولى. أما السفوح والمنبسطات والسهول الصالحة للزراعة فيستغلها الإنسان في الزراعات الحقلية كالحبوب والقطن والأشجار المثمرة كالزيتون والحمضيات والكرمة. وينتج اللواء أصنافاً جيدة من القمح، أشهرها ما يزرع في تلال القصير لصناعة النشا. وتراجعت زراعة الأرز بعد تجفيف مستنقعات العمق وحل القطن محلها في معظم المساحات، إذ احتل هذا المحصول المركز الأول بين المحصولات الصناعية. وتنتج بساتين اللواء الفواكه من دراق وتفاح وأجاص (كمثرى) ومشمش ولوز في وادي العاصي والمرتفعات الجنوبية، في حين تزدهر بساتين الحمضيات على الساحل. كذلك تنتشر زراعة الخضر حول التجمعات السكنية وبساتين اللواء المختلفة، وخاصة في البقاع المروية ولبعض أنواع الدراق والحمضيات شهرة حسنة.
    تربى في اللواء حيوانات مختلفة أهمها الماعز والضأن ثم الأبقار، كما يعنى السكان بتربية الدواجن في كل مكان. أما الحيوانات الأخرى فقد تراجعت أعدادها بدخول الآلة والسيارات في ميدان الأعمال التي كانت تقوم بها الخيول والجمال والحمير وغيرها.
    وتقدم مياه الخليج أنواعاً مختلفة من السمك والسلاحف البحرية والقريدس، يتم اصطيادها محلياً. وتتجه الزراعة وتربية الحيوانات وصيد السمك اتجاهاً علمياً يعتمد البحوث ونتائجها، والآلة والري والطاقة حيثما توافرت. لكن الأساليب القديمة والتقليدية مازالت معمولاً بها.
    2 ـ الصناعة: قامت الصناعة في اللواء على المواد الأولية المحلية المتوافرة من المنتجات الزراعية والحيوانية والغابية. وكانت مدينة أنطاكية مركز أبرز الصناعات التي كانت تقليدية، كالصناعة الغذائية وصناعة الصابون والأدوات الزراعية والمنزلية وغيرها. ثم انتقل مركز الثقل الصناعي إلى الاسكندرونة بعد قطع أنطاكية عن ظهيرها الاقتصادي، سورية، منذ عام 1939. وهكذا أخذت مدينة الاسكندرونة تنمو وتتركز فيها الصناعات الحديثة، وأصبح ميناؤها أهم ميناء في اللواء.
    من ابرز الصناعات التي تنتشر معاملها حول المدينة وشمالها وفي أنحاء اللواء الأخرى، الصناعات الغذائية والزيوت وحفظ الخضر والفواكه، ثم صناعة الصابون والصناعات المعدنية من الصلب إلى الخراطة وورشات تصليح الآلات، والصناعة النسيجية ومحالج القطن وصناعة الأخشاب ومواد البناء، والصناعة الكيمياوية والسماد، وعدد آخر من الصناعات الخفيفة والاستهلاكية.



  • #2
    3 ـ التجارة والمواصلات: عاشت تجارة اللواء مرحلة ازدهار قبل عام 1939، عندما كان مرتبطاً بالداخل السوري، وله علاقات تجارية تاريخية وتقليدية بحلب والموصل وظهيريهما الجغرافيين. وكانت أنطاكية محطة تجارية وسوقاً مهمة تستقبل قوافل الجمال والبغال القادمة من سورية وآسيا على طريق الحرير وتفرعاته. كذلك كان ميناء الاسكندرونة أنشط موانئ بلاد الشام وكانت تمر منه صادرات وواردات بلغ مجموعها نحو 21% من مجموع ما يمر بموانئ سورية الأربعة (بيروت وطرابلس واللاذقية والاسكندرونة) بين عامي 1922 و.1933 لكن تجارة «المرور» (الترانزيت) هذه توقفت. وانقطعت جميع العلاقات بعد ضم اللواء إلى تركية، وركد النشاط التجاري فيه، وأخذت خطوط التجارة تتجه من اللواء المبتور نحو تركية. لكنها لم تتمكن من استعادة مكانتها، لأن الارتباط الطبيعي للواء هو مع سورية الشمالية لا مع آسيا الصغرى أو تركية وراء الجبال. أما طرق مواصلات أنطاكية الحديثة نسبياً فأهمها طريق الساحل ـ بيلان ـ أنطاكية ـ أوردو ـ اللاذقية، وطريق أنطاكية ـ الريحانية ـ حلب وطريق بيلان ـ قرقخان ـ الريحانية ـ حلب ويتفرع عن هذه الطريق طريق تتجه شمالاً في وادي الغور إلى مرعش. وفي اسكندرونة مطار صغير ومرفأ مهم يستقبل سفن الشحن والنقل. وتلقى السياحة والاصطياف اهتماماً متزايداً لما تمتلكه أنحاء اللواء من مواقع أثرية وتاريخية ومصايف وساحل دافئ المياه نسبياً، فإلى جانب المصايف الجبلية هناك منتجع أرسوز الساحلي ومسابحه وحمامات المياه المعدنية في موقع الحمّام على حدود الاسكندرونة ـ حلب، والآثار في أنطاكية والحربية وخليج السويدية ـ ونفق تيتوس على البحر ومغاور في قرية المغاور وغيرها.
    عادل عبد السلام
    التاريخ
    كان لواء الاسكندرونة جزءاً من أراضي الجمهورية السورية وبقي حتى حزيران 1939 وحدة إدارية بوضع خاص إلى أن تم إلحاقه بتركية بالتواطؤ مع فرنسة، الدولة المنتدبة ومن دون إرادة السوريين وموافقتهم. وقد نجمت عن ذلك قضية لواء الاسكندرونة التي تعد مثالاً على بعض قضايا النزاع التي تُركت من دون حسم في تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى بين دول الحلفاء والدولة العثمانية في مؤتمر لوزان (1923). وجاءت الجمهورية التركية بعد سقوط السلطنة العثمانية، تسعى لتحقيق مطامح إقليمية في العراق (ولاية الموصل) وفي سورية (لواء الاسكندرونة). وقد حسمت قضية الموصل لصالح العراق بقرار من عصبة الأمم (1925). أما لواء الاسكندرونة فقد وافقت فرنسة، الدولة المنتدبة على سورية، على ضمه إلى تركية (1939) وتخلت عن واجبها دولةً منتدبة في المحافظة على وحدة الأراضي السورية الموضوعة تحت الانتداب لتسوية مصالح دولية خاصة بها في أوربة.
    نشأت قضية الاسكندرونة في الأصل عن موقف فرنسة المناوئ لإنكلترة قبيل مؤتمر لوزان، إذ نزلت لتركية في اتفاقية أنقرة (20 تشرين الأول 1921) عن امتيازات خاصة للعناصر التركية في الاسكندرونة طلباً لصداقة الحكومة التركية، ووعدت بمنح لواء الاسكندرونة مركزاً إدارياً خاصاً ضمن الإدارة الانتدابية الفرنسية في سورية. وحين أقرّت معاهدة لوزان اتفاقية أنقرة، أتيح لتركية مجال مهم للتدخل في شؤون اللواء، ومن ثم للإصرار على ضمّه، باستغلال الوضع الدولي المتدهور، وضعف مركز عصبة الأمم، وتحكم الدول الكبرى، وفي مقدمتها فرنسة وبريطانية، في قراراتها.
    عدّ علماء الجغرافية في جميع العصور منطقة الاسكندرونة جزءاً من سورية (بلاد الشام). فالجغرافيون العرب والمسلمون يؤكدون أن جبال طوروس تؤلف الحدود الشمالية لسورية، وهي تشمل في سورية مدن طرسوس وأضنة ومرعش ومصيصة. وترجع أهمية الاسكندرونة إلى ارتباطها بممر بيلان (وهو إيسوس الذي كان باب سورية في عصور التاريخ)، والمدخل الطبيعي إلى سهول سورية الشمالية التي كانت حاضرتاها حلب ثم أنطاكية منذ القدم. كما كانت الاسكندرونة مرفأها المهم.
    ومن الناحية البشرية فإن العرب أساس سكان البلاد منذ فجر التاريخ، ولم يكن الفاتحون دائماً إلا أقليات تأثرت بالعرب أبناء البلاد أكثر مما تأثروا هم بها. والنظرية التركية الكمالية التي ترى أن الترك في لواء الاسكندرونة الذي يدعونه اليوم «هاتاي» ينحدرون من الحثيين القدماء، لا تحظى بتأييد علماء التاريخ والأجناس. وعلى الرغم من أن سكان بعض المناطق يتكلمون اللغة التركية، فإن اللغة العربية كانت هي السائدة في منطقتي الاسكندرونة وأنطاكية قبل ضم اللواء إلى تركية، وإن أغلب السكان عرب لغةً وثقافةً. وبقيت مدينة أنطاكية مركزاً إدارياً وثقافياً سورياً ما يقرب من ألف عام وفي عهود متعاقبة.
    مراحل تطور قضية لواء الاسكندرونة
    في أثناء المراسلات الجارية مع الإنكليز لفصل البلاد العربية عن الدولة العثمانية، كتب الشريف حسين في 14/7/1915 إلى السير هنري مكماهون، أن الحدود الشمالية للدولة العربية المنشودة يجب أن تمتد إلى مرسين وأضنة (أذنة)، وإلى خط عرض 37 ْ شمالاً لتضم منطقة الاسكندرونة وأنطاكية. وحين أجاب مكماهون مقترحاً فصل هذه المنطقة بزعم أن سكانها ليسوا عرباً خلّصاً، رفض الشريف حسين هذا الزعم في كتابه المؤرخ 5/11/1915، وأصرّ على أن سكان المنطقة عرب، ولكنه رضي أخيراً بالنزول عن مرسين وأضنة فقط. وأعلن المؤتمر السوري (المجلس النيابي التأسيسي) الذي عقد بدمشق في 8/3/1920، وضم ممثلين من المناطق السورية كلها، استقلال سورية بحدودها الطبيعية، كما رسمتها تعهدات بريطانية للشريف حسين، وجعلت جبال طوروس حدودها الشمالية، كما هو معروف تاريخياً، وكانت هدنة مودْرُس (30/10/1918) Moudros قد نصت على أن يتخلى الأتراك العثمانيون عن كيليكية ومعابر طوروس، وأن يحلّ الحلفاء محلهم، كما انسحبت قوات الجيش العربي التابع لحكومة دمشق من المنطقة الساحلية، أي من أنطاكية وطرابلس وبيروت، لأن الجنرال ألِّنبي القائد الأعلى لقوات الحلفاء لم يوافق على بقائها فيها، كما انسحبت منها القوات البريطانية، وحلت القوات الفرنسية محلهما وفقاً للاتفاق الإنكليزي ـ الفرنسي (15/8/1919) المبني على اتفاقية سايكس ـ بيكو. وفي معاهدة سيفر Sevres التي أبرمها الحلفاء مع الدولة العثمانية (10/8/1920) تخلّت هذه الدولة عن منطقتي الاسكندرونة وكيليكية لسورية. ولكن الحركة الوطنية التركية رفضت الاعتراف بالمعاهدة، وأعلنت (ميثاق المجلس الوطني الكبير)، وبمقتضاه تتألف تركية الحديثة من أجزاء الدولة العثمانية ذات الغالبية التركية، وشنّت على الفرنسيين هجمات استمرت حتى عام 1921. واستفادت من الأوضاع الدولية المواتية الناجمة عن اختلاف فرنسة وإيطالية مع بريطانية نتيجة سياستها في الشرق الأدنى. وتقارب الوطنيون الأتراك من حكومة الاتحاد السوفييتي وتمكنوا من التفاهم مع فرنسة وإيطالية فاعترفت هذه الدول بالمجلس الوطني الكبير الذي رفض الاعتراف بمعاهدة سيفر ووقعت بعد ذلك اتفاقية أنقرة (20/10/1921) بين الأتراك وفرنسة، ونصت المادة (8) فيها على أن يسود السلام بين الطرفين، وأن يتراجع خَط الحدود بين تركية وسورية إلى الجنوب مسافة خمسين كيلومتراً تقريباً، لتبدأ من جنوب بلدة باياس على خليج الاسكندرونة، وتتجه شرقاً إلى ميدان إكبس، على أن تبقى محطة سكة الحديد والمركز داخل الأراضي السورية، ثم يمتد شرقاً فجنوباً وتبقى مدينة كلّس ضمن الحدود التركية. ثم يتجه الخط شرقاً حتى يتصل بنهر دجلة عند جزيرة ابن عمر ومعنى هذا أن فرنسة نزلت لتركية عن مساحة قدرها 18000 كيلو متر مربع من الأراضي السورية بما في ذلك كيليكية بحسب الحدود المرسومة لسورية في معاهدة سيفر. كما نصت اتفاقية أنقرة في المادة (7) على منح السكان الأتراك في لواء الاسكندرونة وأنطاكية امتيازات خاصة ليتمتعوا بكل التسهيلات لنماء ثقافتهم، وجعل اللغة التركية لغة رسمية في اللواء. وأعقب ذلك تدفق اللاجئين من هذه المناطق السورية المقتطعة.
    قسمت سورية في أيلول 1920 إلى خمس دول مستقلة إدارياً بشؤونها الداخلية وهي دولة الشام (دمشق) ودولة حلب ودولة العلويين (اللاذقية) ودولة جبل الدروز ودولة لبنان الكبير. وبوشر بتطبيق أحكام المادة المتصلة بإدارة لواء الاسكندرونة، وتقرر إلحاقه بدولة حلب، وتطبيق جميع قوانينها فيه، وأن يكون له نواب في مجلس دولة حلب التمثيلي.
    قاوم السوريون سياسة التجزئة فاضطر المفوض السامي الجنرال غورو Gouroud إلى العدول عنها، وأعلن في حزيران 1921 تكوين اتحاد سوري يضم دول دمشق وحلب والعلويين، ولكن خلفه الجنرال ويغان Weygand حلّ الاتحاد المذكور في كانون الأول 1924، وضم دولة حلب إلى دمشق لتكونا دولة سورية، وأمر بجعل لواء الاسكندرونة منفصلاً عن حلب ومتصلاً بدولة سورية. وجاء بعده الجنرال سراي Sarrail فقرر أن يخطو خطوة أخرى نحو فصل اللواء، فأيّد النظام الإداري والمالي الخاص باللواء وأقرّ جعل اللغتين العربية والتركية لغتين رسميتين فيه.
    وفي حين نفّذ الجانب الفرنسي ما يخصه من اتفاقية أنقرة، وأنهى حالة الحرب مع تركية فإن الجانب التركي لم ينفذ كل تعهداته، وإنما غض الطرف عن الإغارات المسلحة التركية التي تفاقمت على الحدود السورية في أوائل عام 1924. وبينما كانت لجنة رسم الحدود بين الطرفين تجتمع في أيلول 1925، وقد باشرت عملها، إذا الأتراك يطلبون ضم محطة سكة حديد باياس، وبعض القرى العربية التابعة لمدينة كلّس التركية، وأقساماً أخرى على الحدود الشرقية. فأوقفت اللجنة عملها بانتظار المفوض السامي الجديد دي جوفنيل De Jouvenel الذي وصل إلى سورية في وقت تصاعد فيه مدّ الثورة السورية الكبرى، وأحسّ بخطورة الوضع، فتوجّه إلى أنقرة في شباط 1926 لإنهاء الأزمة. واتفق مع وزير الخارجية على تلبية مطالب الأتراك في باياس وقرى كلّس، ووقع الطرفان على الاتفاقية بالأحرف الأولى مؤقتاً، لاعتراض لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم بجنيف عليها. حتى إذا زالت الأوضاع التي دعت الى تأخير التوقيع، أُبرمت الاتفاقية، وتمّ تخطيط الحدود نهائياً. وتركزت الأنظار بعد ذلك على مصير لواء الاسكندرونة المهدّد.
    وكانت الوقائع تؤيد صلات لواء الاسكندرونة الوثيقة مع سورية، ففي أيار 1926 وافق المجلس التمثيلي في اللواء على قرار يؤكد أن هذه المنطقة جزء من سورية. وفي عام 1928 أرسل اللواء ممثليه إلى الجمعية التأسيسية السورية. وفي14 أيار 1930 أقرَّ القانون الأساسي الذي يحدد النظام الخاص الإداري والمالي، الممنوح للِّواء ضمن الأراضي السورية، ويثبت ارتباطه بالحكومة السورية من حيث التشريع والميزانية وتعيين كبار الموظفين والحكام. وفي عام 1932 جرت الانتخابات للمجلس النيابي السوري، فأرسل اللواء نوابه إلى المجلس، وكان الرئيس المؤقت وهو أكبر الأعضاء سناً أحد نواب اللواء، وقد شارك في الوزارات التي تعاقبت منذ عام 1932 ممثل عن اللواء. يتضح من هذا أن اللواء شارك في حياة سورية السياسية مدة خمسة عشر عاماً، ولم تحتج الحكومة التركية على هذا الاشتراك الفعلي في حينه، بل أيدته بالنصوص.
    ولكن تركية خشيت أن تسفر معاهدة الصداقة والتحالف التي عقدت بين سورية وفرنسة، عام 1936 عن تثبيت عودة اللواء إلى سورية ورأت أنه لا بدّ لفرنسة قبل المصادقة على استقلال سورية أن تعيد النظر في وضع اللواء وتمنح سكانه الأتراك الاستقلال، وهم في نظرها الغالبية. ولذلك شجعت الأقلية التركية هناك على المطالبة بالانفصال عن سورية، وضم اللواء إلى تركية في الوقت الذي كانت تجري فيه المفاوضات بين سورية وفرنسة في باريس مابين 26/3 و9/9/1936، وقدموا عرائض بهذا المعنى إلى المفوض السامي، ولكن المعاهدة التي وقعت لم تتضمن أي إشارة إلى وضع اللواء، لأن الالتزامات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقات التي عقدتها فرنسة المنتدبة باسم سورية، سوف تنتقل إلى الحكومة السورية مع انتهاء الانتداب والمصادقة النهائية على المعاهدة في الجمعية الوطنية الفرنسية. ولكن وردت إشارة إلى لواء الاسكندرونة في حاشية المراسلة رقم (6) بأنه «من المفهوم» أن النظام الخاص الإداري والمالي المشار إليه في المادة الثانية من المشروعين أعلاه، سيكون النظام الذي يستفيد منه حالياً لواء الاسكندرونة. ويبدو واضحاً أن الحكومة السورية، بموجب المعاهدة المذكورة، حافظت على الوحدة السورية بمجرد تطبيق النظام الإداري والمالي اللامركزيين في بعض المناطق السورية، في الوقت الذي تشكل جميع المناطق السورية وحدة سياسية تحقق لسورية الوحدة والاستقلال.
    تبدل الموقف التركي بعد عقد المعاهدة، وطالب الأتراك بفتح ملف اللواء، وحاولوا إحراج الوفد السوري عند مروره بتركية في طريقه إلى باريس ثم في إيابه بطريق البرّ عبر تركية، ووسطوا نوري السعيد وزير خارجية العراق، ولكن الوفد السوري برياسة هاشم الأتاسي تجنب المذاكرة في الموضوع، واكتفى بالقول إن الأتراك في سورية (أي في لواء الاسكندرونة) لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وقال إن لواء الاسكندرونة جزء من سورية. ولم تستقبل الصحافة التركية هذا التصريح بالارتياح، وامتعضت الحكومة التركية التي كانت تأمل الحصول من الوفد السوري على وعد بحلّ قضية اللواء. ولكن مهمة الوفد كانت محصورة بالمفاوضة مع الحكومة الفرنسية لعقد معاهدة التحالف بين البلدين، فضلاً عن أن سورية بحكم الانتداب لم تكن قد نالت الاستقلال، ولا تملك حق التفاوض مع تركية إلا بوساطة فرنسة. وشنت الصحف التركية حملة جائرة على رجال الوفد السوري وعلى السوريين وجرت صدامات في اللواء بين العرب والأتراك، وسرعان ما ألّف الأتراك جمعية استقلال هاتاي (الاسم الذي أطلقوه على لواء الاسكندرونة) بتشجيع دائب من حكومة أنقرة، وادَّعوا أن مدينة الاسكندرونة أسسها الحثيون أجداد الأتراك! لا الاسكندر المقدوني! وبينما يقبل العرب في اللواء على الانتخابات العامة للمجلس النيابي السوري في نهاية تشرين الثاني 1936، وفقاً للمعاهدة، قاطعها الأتراك، بتحريض من جمعية هاتاي. وردّ العرب بتأليف «جبهة الدفاع عن الاسكندرونة»، وانبرت «عصبة العمل القومي» التي كانت تقود الحركة العربية للردّ على الدعايات التركية وتقوية الجبهة العربية. وأرسلت الحكومة التركية الكثير من الأتراك لمساندة الحركة الانفصالية التركية هناك. وبادر رئيس الجمهورية التركية أتاتورك. إثر موجة الهياج التي أثارتها الحملات الصحفية، إلى التصريح بأن ما يشغل بال الشعب التركي هو مصير منطقة الاسكندرونة وأنطاكية التي يسكنها عنصر تركي، لذا لابد من النظر إلى هذه القضية بجدية وثبات. وادَّعى وزير الخارجية التركي أمام مجلس العصبة في جنيف أن اللواء يضم غالبية تركية وأن لتركية حقوقاً فيه، وطلب من فرنسة فتح باب التفاوض لحل القضية. ورد فينو Viénot ممثل فرنسة في العصبة ووكيل الخارجية الفرنسية، بأن الحكومة السورية ستتولى تنفيذ التعهدات المتصلة بلواء الاسكندرونة، وفق أحكام المعاهدة الفرنسية السورية، ولكنه أبدى استعداد حكومته للتفاوض مجدداً مع الحكومة التركية، ضمن إطار أحكام اتفاقية أنقرة للعام 1921، وبمشاركة الحكومة السورية.
    رأت الحكومة التركية في تصريح فينو تلميحاً بقبول فرنسة مبدأ التفاوض وإعادة النظر في وضع اللواء، فسارعت إلى استغلال التصريح، وتبادلت مع الحكومة الفرنسية مراسلات مهمة بهذا الشأن دامت حتى 7/12/1936، بدأتها بطلب عقد معاهدة مع اللواء تمنحه الحرية والاستقلال أسوة بسورية ولبنان، بحجة أن اللواء تسكنه أكثرية تركية. وردّ دلبوس Delbos وزير الخارجية الفرنسية بأنه ليس في وسع حكومته «أن تقتطع من الأراضي السورية شيئاً مقابل منحها استقلالاً، كما أنها لا تستطيع منح السنجق (اللِّواء) استقلالاً خاصاً به، لأن معنى ذلك تكوين ثلاث دول في سورية بدل دولتين، وهو أمر مخالف لصك الانتداب، وفرنسة مسؤولة عن وحدة سورية، وأن المادة (7) من اتفاقية أنقرة تنص على إدارة خاصة باللواء وحَسْب».
    وأصرت فرنسة على موقفها الأول، وهو القبول بإعادة النظر في وضع اللواء الخاص ضمن إطار اتفاقية أنقرة، وأكدت أن فصل اللواء مخالف لتعهدات فرنسة في ميثاق العصبة (المادة 22)، واتفاقية سان ريمو 25/4/1920 ومناقض لصك الانتداب. ولكن لتمسك الحكومة التركية بموقفها، أعلنت الحكومة الفرنسية استعدادها لإحالة موضوع النزاع بينهما على مجلس عصبة الأمم.

    تعليق


    • #3
      عرض النزاع على عصبة الأمم
      وفي عصبة الأمم دار جدل سياسي قانوني بين وجهتي النظر التركية والفرنسية، فقد ذكر المندوب التركي آراس أن الانتداب الفرنسي لم يشمل الاسكندرونة، لأن مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو (نيسان 1920) لم يكن يعرف ما تشمله الحوزة السورية جغرافياً، ولا حدودها السياسية والقانونية، ولو أن الانتداب شمل كل البلاد الواقعة تحت الاحتلال العسكري، لكانت فرنسة قد أخلّت بتعهداتها دولةً منتدبة، حين ردّت كيليكية إلى تركية بموجب اتفاقية أنقرة. وإذا كانت حدود سورية لا تشمل تلك البلاد، فلا يمكن الادعاء أن الانتداب شمل أراضي لم يعيّن بعدُ وضعها القانوني مثل الاسكندرونة، ثم إن تركية نزلت عن البلاد المنسلخة عنها، بشرط أن يتمتع السكان الأتراك فيها باستقلال ذاتي ضمن السلطة الفرنسية، لا أن يُتركوا تحت حكم السكان غير الأتراك. وطالب آراس بمنح اللواء استقلاله ورفع ما سماه (الظلم والاضطهاد) عن سكان اللواء الذين أكثرهم أتراك في زعمه بسحب القوات الفرنسية من اللواء، لتحلّ محلها قوات أمن محايدة بإشراف العصبة.
      ورد المندوب الفرنسي فينو، فقال إن بلاده تولت الإدارة في لواء الاسكندرونة دولة منتدبة في مؤتمر سان ريمو، استناداً إلى المادة (22) من ميثاق العصبة التي تعترف باستقلال البلاد المنسلخة عن الامبراطورية العثمانية، وإن فرنسة عقدت اتفاقية أنقرة مع تركية باسم سورية ودولة منتدبة، لأنها لا تملك السيادة على هذه البلاد. ثم إن إخلاء كيليكية من جانب فرنسة لا يمكن عدُّه دليلاً على إخلالها بالانتداب، لأن البلاد السورية كانت تحت الاحتلال العسكري، ولم تُعرف الحدود التي يشملها ذلك الاحتلال، ما دامت معاهدة الصلح التي تحدّد الحدود لم تكن قد عقدت بعد. ولذا فإن إخلاء كيليكية لا يدلّ على أن فرنسة لم تكن دولة منتدبة وقتذاك، وحين عقدت بعد ذلك اتفاقية أنقرة لتعيين الحدود. تركت تركية لواء الاسكندرونة خارج حدودها، بموجب المادة (8). كما أن المادة (7) من الاتفاقية نفسها، نصت على أن يكون اللواء إدارة خاصة، تشمل بعض تسهيلات لغوية وثقافية للسكان الأتراك. وهذا لا يخرج عما نص عليه دستور سورية الذي صادقت عليه عصبة الأمم، والذي ضمن للأقليات حقوقها. إن وضع اللواء هذا دليل على أنه جزء من وحدة سياسية كبرى، وقد أقرّت معاهدة لوزان (1923) الحدود التي رسمتها اتفاقية أنقرة نهائياً، ولم تغير فيها شيئاً.
      وشرح فينو كيف أن فرنسة طبقت الانتداب في لواء الاسكندرونة منذ 15 عاماً، من دون أن يثير ذلك استياء أهالي اللواء أو الحكومة التركية، التي لم تعترض أيضاً على مشاركة اللواء في حياة سورية القومية، أو على مشاركة ممثليه في المجلس النيابي السوري، ووضع القوانين وتصديق الموازنة، وتولّي وزيرين من اللواء منصبيهما في الحكومة السورية. كما أشار إلى تقرير لجنة الانتدابات الدائمة لعام 1930 الذي أوضح بجلاء أن القانون الأساسي للواء خاضع لدستور سورية. وأوضح أن تنفيذ أحكام الدستور في إدارة اللواء من دون تمييز صان مصالح سكانه من الأتراك، وإن مواد المعاهدة الفرنسية ـ السورية لا تؤثر في وضع اللواء الخاص، ولا في حقوق سكانه من الأتراك، ولكنه عارض بشدة فصل اللواء ومنحه استقلالاً خاصاً به ليكوّن دولة مستقلة، وأبدى دهشته من تصريح آراس الذي قال فيه: إنه تألم بسبب أفعال الإرهاب التي وقعت في اللواء، وشكا من اضطهاد الطائفة التركية هناك، وأوضح أن الدولة المنتدبة بوصفها مسؤولة عن الأمن وعن سلامة الأرواح، رأت نفسها مضطرة إلى إرسال قوات عسكرية للحيلولة دون اعتداء مثيري الشغب على الناس بعد أن تعمّدوا منح حرية الانتخابات. وعبّر فينو عن الأمل في موافقة عصبة الأمم على استقلال سورية ولبنان، فالعرب يحرصون كل الحرص على بلادهم واستقلالهم، والدولة المنتدبة هي المسؤولة عن الأمن وحسب، وأنها تسمح بإرسال مراقبين محايدين لمراقبة ما يجري على الحدود، وللدلالة على حسن نواياها.
      وعُيِّن ممثل السويد ساندلر Sandler ليعمل مقرراً ويسهل توصل الطرفين إلى حل النزاع عن طريق وساطة بينهما. وحين صرَّح ساندلر بأنه لم يتمكن من التوفيق بين وجهتي نظر الطرفين، أُرسلت لجنة مؤلفة من ثلاثة مراقبين، هولندي ونروجي وسويسري، في مهمة لمراقبة جانبي الحدود فحسب، وموافاة العصبة بنتيجة مشاهداتهم، على أن تنتهي مهمتهم في غاية شباط 1937، وتعهد المندوب الفرنسي بأن حكومته سوف تؤجل إبرام المعاهدة الفرنسية ـ السورية، ريثما يتوصل مجلس العصبة إلى حل قضية الاسكندرونة، كما سيتم خفض حجم القوات التي أرسلت إلى اللواء بعد أن تصل لجنة المراقبين الدولية.
      وأخفقت المفاوضات التي جرت في باريس بين تركية وفرنسة (21/12/1936 - 18/1/1937) بسبب تشبث آراس بموقفه الداعي إما إلى فصل اللواء عن سورية، أو الموافقة على مشروع الاتحاد الكونفدرالي الذي اقترح تأليفه من الدول الثلاث سورية ولبنان ولواء الاسكندرونة. ويقضي باحتفاظ كل دولة بحكومتها الخاصة وسيادتها، ومشاركتها في الشؤون الخارجية، واتحادها في الجمارك والعملة، وعدّ اللواء دولة محايدة غير مسلحة ضمن الاتحاد، وضمان عدم الاعتداء على حدوده.
      ويلاحظ أن هذا المشروع ينطوي على دلالات خطيرة، أولها أن تركية مصرّة على فصل اللواء عن سورية، والاعتراف بكيانه الخاص على أن تكون التركية اللغة الرسمية فيه، ويُفهم من رغبة تركية في عقد اتفاقية مع فرنسة تحل محل الاتفاقات السابقة بينهما، وإجراء الانتخابات لأول برلمان يقام في اللواء، أن تركية تهدف إلى ضمان هيمنة الأتراك على شؤون اللواء. وثانيهما، أن تركية التي ترمي إلى إدخال لبنان ضمن الاتحاد، تعلم جيداً أن السياسة الفرنسية متمسكة بأن يكون لبنان دولة مستقلة عن سورية، وأنه لا سبيل إلى إقامة الاتحاد الكونفدرالي المقترح، لأنه يتعارض مع صك الانتداب على سورية ولبنان. ويبدو أن هذا المشروع لم يكن سوى مناورة سياسية لتحقيق هدف مزدوج. فهو من ناحية، يظهر مناوأته الصريحة للسياسة الفرنسية في سورية بالضغط عليها لتتنازل أمام المطالب التركية. وهو من ناحية أخرى يتقرب من سورية ويداعب أحلامها باقتراح إدخال لبنان في اتحاد معها.
      وإزاء الرفض الفرنسي، اشتدت لهجة الصحف التركية وهددت الحكومة الفرنسية والشعب السوري باستخدام القوة واحتلال اللواء. وبدأ الوهن في الموقف الفرنسي حين أنهى المندوب الفرنسي فينو للوفد السوري صراحة أن فرنسة ليست مستعدة لإهراق نقطة دم من جيشها إذا شنت تركية الحرب عليها في اللواء، وكان الوفد السوري قد توجه إلى جنيف وباريس للدفاع عن حق سورية في اللواء والتقيد بأحكام اتفاقية أنقرة التي أعطت الأتراك السوريين امتيازات ثقافية، تشمل استعمال اللغة التركية، وحضر أعضاء الوفد السوري مجلس العصبة مع الوفد الفرنسي. واتضح لهم، أن الأتراك بذلوا في باريس أموالاً طائلة لاستكتاب المقالات المؤيدة لهم في الصحف والمجلات، في محاولة لكسب الرأي العام الفرنسي. وترافق ذلك مع مظاهرة عسكرية قام بها الرئيس أتاتورك، إذ سافر في 6/1/1937 إلى مركز القيادة العسكرية الجنوبية في قونية، وعقد اجتماعاً في إسكي شهر ضم رئيس الوزراء ووزيري الخارجية والداخلية ورئيس الأركان، وأعلن أنه على استعداد لخوض غمار الحرب ما لم تنل تركية مطالبها. والقصد من المظاهرة إقناع فرنسة بأن تركية جادة في استعدادها لاستخدام القوة لتحقيق مطالبها إذا أخفقت المفاوضات. وفي غضون ذلك تقابل السفير التركي في باريس مع فينو وكيل الخارجية وأكد له تمسك بلاده بوجهة نظرها، الأمر الذي وضع الحكومة الفرنسية في موقف دقيق، وتوجب عليها إذا اختارت التصلب أن تقابل تهديد الأتراك بمثله وتستعد لمحاربتهم. ولم تكن الأوضاع الدولية العامة في أوربة في مطلع عام 1937 تسمح لفرنسة بالدخول في حرب مع تركية من أجل قضية الاسكندرونة، وقد اتضح منذ أن عملت فرنسة وبريطانية في مؤتمر مونترو (20تموز 1936) Montreux على استرضاء تركية والسماح لها بتسليح المضائق، تحرّزاً من تفاقم خطر إيطالية وتزايد أطماعها في شرق البحر المتوسط، أن فرنسة تميل إلى التساهل مع تركية، والإبقاء على صداقتها، مدفوعة من حليفتها إنكلترة التي كانت تسعى إلى اجتذاب تركية إلى صف الحلفاء، وإعطائها اللواء خوفاً من ميلها إلى محور ألمانية وإيطالية الذي كان يهدد بالحرب.
      لقد كانت الأوضاع الدولية المضطربة عاملاً خطيراً في تقرير مصير لواء الاسكندرونة، وكان على فرنسة أن تختار إما التمسك بالتزاماتها الدولية والأخلاقية ومواجهة التهديد الإيطالي في البحر المتوسط، أو القبول بفصل اللواء عن سورية، فاختارت التضحية باللواء تأييداً لمصالحها، إذ لوحظ بعد زيارة السفير التركي للخارجية الفرنسية، أن الصحف نشرت نبأ عودة أتاتورك من قونية إلى أنقرة. وفي اليوم التالي 8 كانون الثاني عام 1937، اجتمعت الحكومة التركية برئاسة أتاتورك، وقدمت خيارات ثلاثة إلى الحكومة الفرنسية :1ـ فصل اللواء عن سورية . 2ـ القبول بالاتحاد الكونفدرالي. 3 ـ استخدام القوة لفصل اللواء وضمه إلى تركية.
      أجاب ليون بلوم L.Blum رئيس الحكومة الفرنسية ناصحاً الحكومة التركية بأن تتشبث بوجهة النظر القانونية، لأن القانون يؤيد وجهة النظر الفرنسية لا التركية. وشكك في جدوى مشروع الاتحاد الكونفدرالي لأنه لا يحقق الرغبات التركية. ولما كان مجلس العصبة، لا فرنسة، هو الذي يملك تقرير مصير اللواء، فقد تفاهم الطرفان الفرنسي و التركي في كانون الثاني 1937على مشروع يوفق بين وجهتي نظريهما، ويكون لمجلس العصبة الدور الأول في دعمه. وبموجب المشروع، يمر فصل اللواء عن سورية في دورين، يبدأ أولهما بعد إبرام المعاهدة الفرنسية السورية ومصادقة المجالس التشريعية عليها في البلدين، ولا يتمتع اللواء في هذا الدور بالاستقلال كسورية، وإنما بنوع من الانتداب يتحول إلى نظام خاص يقوم على مبدأ الاستقلال الذاتي للواء بكفالة عصبة الأمم، ويحكمه مفوض سام فرنسي يعينه مجلس العصبة، وبذلك يتحقق المطلب الرئيسي للحكومة التركية، وفي الدور الثاني يقام في اللواء نظام خاص منفصل نهائياً عن سورية، يضمن المطالب التركية من النواحي الإدارية والثقافية ونزع السلاح والاستفادة من ميناء الاسكندرونة، ويمكن للجنة الانتدابات الدائمة تسوية بعض الأمور المتصلة بحاكم اللواء، وتبقى مشاركة نواب اللواء في المجلس النيابي السوري قائمة. رحبت الحكومة التركية بالمشروع، واتفقت مع الحكومة الفرنسية على نقاطه الرئيسة قبل عرضه للتصديق عليه في مجلس العصبة. وعلى أساسها وضع ساندلر السويدي مشروع النظام الخاص للواء، وهو يمثل «الصفقة» التي تم التوصل إليها بين الدولتين لاقتطاع اللواء من سورية، وكانت أداتها الشرعية هي عصبة الأمم التي تسيطر عليها الدول الكبرى.
      ويقضي المشروع بأن يؤلف لواء الاسكندرونة وحدة منفصلة مستقلة في الشؤون الداخلية، وتتولى الحكومة السورية شؤونه الخارجية، بشرط أن توافق عصبة الأمم مسبقاً على أي اتفاقية تعقدها، إذا كانت تؤثر على استقلال اللواء وسيادته. وتعقد اتفاقية فرنسية تركية تضمن سلامة اللواء ووحدته، ومعاهدة بين فرنسة وتركية وسورية تضمن احترام الحدود التركية السورية وتمنع الإخلال بالنظام والأمن في البلدين وتمنح تركية الحقوق والتسهيلات الكفيلة بانتفاعها الأقصى من ميناء الاسكندرونة.
      وافق مجلس العصبة 29 أيار 1937 بالأكثرية على المشروع، وعلى اقتراح ساندلر جعل العربية لغة رسمية بجانب التركية، كما وافق على تأليف لجنة خبراء سداسية من: بلجيكي، وفرنسي، وإنكليزي، وهولندي، وتركي، وسويدي (ممثلاً للمقرر ساندلر) لوضع مشروع القانون الأساسي (الدستور) في اللواء. وفي اليوم نفسه عقدت اتفاقية فرنسية تركية لضمان المحافظة على استقلال اللواء، ونظامه الجديد، وحمايته من أي هجوم خارجي عليه.
      وبذلك أصبح لواء الاسكندرونة وحدة سياسية منفصله لها استقلالها الداخلي التام ويديره مجلس تنفيذي إلى جانب مجلس تشريعي خاص، وتحدد الوضع الجديد للواء دولياً ودستورياً في نظام خاص حدد للواء مركزه الدولي، عرف باسم «القانون الأساسي» ويضمن تنظيم اللواء الدستوري وتوزيع السلطات وممارستها فيه.
      وقد حدد تاريخ 29 تشرين الثاني 1937 لوضعهما موضع التنفيذ. وبموجبها تتولى فرنسة سلطاتها الانتدابية في اللواء، وتحافظ على الأمن في مدة الانتقال من الإدارة السورية تحت الانتداب، إلى إدارة اللواء المستقلة في الشؤون الداخلية. وتكون هذه المدة مابين 29 تشرين الثاني 1937 حتى تاريخ انعقاد مجلس اللواء التمثيلي، ومباشرة حكومة اللواء شؤونه الإدارية الداخلية في 15نيسان 1938، ويظل نظام الانتداب نافذ المفعول حتى ينتهي أجله، ويتحرر اللواء منه. وواضح أنه ما دامت سورية تابعة للانتداب، تبقى إدارة الشؤون الخارجية للواء بيد فرنسة، وتتولى سورية بعد استقلالها التمثيل القنصلي والدبلوماسي للواء، وتعقد معاهدات باسمه بعد موافقته، وتشترك معه في إدارة الجمارك وفي العملة. وعلى الرغم من أن سكان اللواء يتمتعون بالجنسية السورية من الوجهة الدولية فإن لهم صفة المواطنة الخاصة في اللواء، وهي مسألة داخلية تدل على انتماء المواطن إلى لواء الاسكندرونة وإلى بقية أجزاء سورية.
      وبعد زوال الانتداب عن اللواء، يصبح محمية ذات إدارة دولية مشتركة: تتولى فيها سورية الشؤون الخارجية و الجمارك والعملة. وتتولى تركية وفرنسة حماية أمن اللواء الخارجي. وتراقب عصبة الأمم تنفيذ أحكام النظام والقانون الأساسي، ولها حق الفصل في الخلافات الناشئة بين سورية واللواء في المسائل المشتركة بينهما، ويلاحظ أن الوضع الجديد للواء ، يظهر قدراً كبيراً من التعقيد بشأن ممارسة السيادة والسلطة فيه.
      فصل اللواء عن سورية
      كان لقرار مجلس العصبة أصداء عميقة متباينة ففي حين استقبلته الأوساط التركية بالغبطة والترحيب. فقد عدته سورية، حكومة وشعباً، ضربة قاضية موجهة إلى سيادتها الوطنية في جزء غال من أرضها وترابها، وضاعف جرحها أن فرنسة ساومت على اللواء، ورضخت لسياسة بريطانية القاضية بكسب تركية إلى جانب الحلفاء، وسخّرت عصبة الأمم لتنفيذ انتهاكها لميثاق العصبة، وصك الانتداب، وبنود المعاهدة الفرنسية ـ السورية التي لم يجف مدادها بعد. وقد جرى ذلك على الرغم من حرص الحكومة السورية على أن يحظى جميع سكان اللواء، من عرب وأتراك وأرمن وغيرهم، بمعاملة حسنة، وذلك لإبطال مفعول الدعايات التركية التي كانت تزيف الوقائع وتقلب الحقائق. ومع أن نسبة الأتراك لم تكن تتجاوز 38.4٪ من مجموع سكان اللواء، فقد بلغت نسبة موظفيهم 41٪، لأن الحكومة السورية كانت تراعي التمثيل النسبي للسكان الأتراك في إدارة اللواء، وفي تطوره الثقافي والتعليمي والاقتصادي والعمراني، وتضاعفت الدعاية التركية المضادة حين اتضح أن سورية على وشك أن تنال الاستقلال بموجب معاهدة أيلول 1936، وردت الحكومة السورية بالعمل على تقوية الروح المعنوية لعرب اللواء، وإمدادهم بالمال ليؤسسوا أنديتهم وجمعياتهم ومدارسهم، وطلبت نقل دوريو Durieux مندوب المفوض السامي في اللواء من منصبه، لاستبداده وإدارته الفاسدة التي جعلت همها مناهضة النزعات الوطنية العربية، وحرصت على ترويج اللغة الفرنسية والثقافة التركية، ومقاومة الصحافة السورية الداعية إلى الارتباط بسورية، واضطهاد الشبان العرب من مختلف الطوائف، تقرباً من الأتراك، وبادرت فرنسة إلى تعيين غارو Garreau سفير فرنسة في مصر مكانه وأطلعت الحكومة السورية أعضاء اللجنة الدولية على تفاصيل الوضع في اللواء، وأكدت لهم أن الغالبية السورية لا تقبل بفصل اللواء إدارياً، وأن العرب والأرمن والشركس، وهم أغلب سكان اللواء، يصرون على البقاء ضمن الوطن السوري كما استنكرت في مذكرة الخارجية الفرنسية اقتطاع لواء الاسكندرونة، الذي تشهد عوامل التاريخ والعنصر واللغة الغالبة ومعاهدات ما بعد الحرب، أنه سوري خالص، وأن الحياة الاقتصادية بطريقيها التجاريين من الاسكندرونة إلى حلب، ومن حلب إلى الاسكندرونة وأنطاكية، جعلت من اللواء ومينائه منفذاً بحرياً لشمالي سورية، وأن النظام الجديد تم إقراره من دون أن يؤخذ رأي السكان فيه، فهو انتهاك لحق تقرير المصير، ولاسيما من جانب عصبة الأمم، وتقييد لسيادة سورية الخارجية، خلافاً لمبادئ القانون الدولي، وأنه يؤلم سورية، وهي على أهبة الدخول في عصبة الأمم، أن تجد نفسها محرومة من حق التشريع، والإدارة والقضاء في أهم بقعة من أرضها ، وإن كرامتها ومصالحها الحيوية المشروعة لتأبى عليها ذلك.
      ولم يكن بمقدور الحكومة السورية أن تفعل الكثير، لأن فرنسة كانت تسيطر على مقدرات البلاد، ولذا اكتفت بالاحتجاج و التنديد، وصرح سعد الله الجابري وزير الخارجية أمام المجلس النيابي (25أيار 1937) بأن قضية الاسكندرونة أثيرت بغير علم الحكومة، وقبل تسلمها الحكم، وقبل اجتماع المجلس النيابي، وكان ذلك مفاجأة غير منتظرة، وأن وفداً رسمياً ذهب إلى باريس وجنيف للدفاع عن مصالح الأمة، وأن الحكومة سحبت المندوب السوري الملحق بالوفد الفرنسي إلى اجتماعات العصبة، حين انتهجت لجنة الخبراء نهجاً لا يضمن حقوق سورية، وقال: «إننا اتخذنا كل ماتستطيع أمة مثلنا جَبهها هذا الحادث و لم تكن مستعدة له، وليس لديها من وسائل الدفاع ما تدافع به عن حق البلاد». ورفض المجلس النيابي السوري (31 أيار 1937)، ومن ضمنه نواب اللواء، قرار العصبة رفضاً باتاً، مستشهداً بالدستور الذي ينص على أن سورية وحدة سياسية لا تتجزأ، وبالمعاهدة الفرنسية التي تلزم فرنسة الدفاع عن سلامة الأراضي السورية ووحدة التراب السوري، ومقاطعة الاسكندرونة جزء منه وإن الأمة التي علقت على الضمير الدولي أسمى آمالها، لا تعترف بأي حال يمزق وحدتها ويعطل نهضتها. وأرسل المجلس نص قراره التاريخي إلى عصبة الأمم مسجلاً حقه الأبدي في اللواء، ومنتقداً مؤامرة فرنسة ومهزلة عصبة الأمم.
      وفي لواء الاسكندرونة، استقبل قرار العصبة، بمشاعر الغضب من جانب العرب، مسلمين ومسيحيين، مؤيدين من الأكراد والشركس، ووقف الأرمن موقفاً معادياً للأتراك، لكنهم انقسموا بشأن القرار، ففريق أيد السلطة المنتدبة، وفريق أيد العرب وبقاء اللواء ضمن سورية. وقد انتظم معظم عرب اللواء في صفوف «عصبة العمل القومي» التي عرفت بمواقفها الصلبة في مقاومة استقلال اللواء، وأي مؤسسة أخرى تعترف به أو تتعاون مع الفرنسيين.
      كما رفضت التعاون مع الكتلة الوطنية الحاكمة في دمشق، واتهمتها بالتهاون والميل إلى تسليم اللواء للأتراك. وأصدرت جريدة «العروبة» الناطقة باسمها، وأسست نادي العروبة في انطاكية ثم في الاسكندرونة لبث الدعاية العربية وتوحيد الصفوف وتنظيم المقاومة.
      أما الأتراك، فقد شنوا في اللواء حملة دعائية معادية لسورية، مصحوبة بالاستفزاز والتهديد، لحمل الأتراك السوريين على طلب الانفصال، والتصويت في الانتخابات المرتقبة لصالح الالتحاق بتركية. كما أثاروا مشاعر العداء ضد العرب، وهددوهم بالعدوان والقتل إذا لم يصوتوا معهم. واقتصر تأييد البلاد العربية لحق سورية على الصعيد الصحفي، وعلى برقيات الاحتجاج إلى عصبة الأمم.
      الانتخابات في اللواء
      بوشر بتطبيق النظام الموضوع لإدارة اللواء، فنشر الدستور الذي حصر سلطة التشريع بمجلس منتخب يتألف من أربعين عضواً يمثلون عناصر الأهالي. وعين رئيس مجلس العصبة اللجنة الدولية لتنظيم الانتخابات ومراقبتها في اللواء، فاجتمع أعضاؤها الخمسة وهم: بلجيكي وهولندي وإنكليزي ونروجي وسويسري. وانتخب الإنكليزي ريد Reid رئيساً لها. ودرست اللجنة أحوال اللواء مابين20 تشرين الأول و19تشرين الثاني 1937، وحصلت على إحصاءات الطوائف وقابلت ممثليها، ووقفت على أحوال السكان في الأقضية والنواحي، وأعلنت أن قانون الانتخابات يعد «ناخباً» كل من ولد في اللواء قبل أول كانون الثاني 1918، وإن الانتخابات تجري على درجتين أولى وثانية، وإن الناخبين في الدرجة الأولى يسجلون أسماءهم بحسب طوائفهم. وتشرف على التسجيل هيئة مؤلفة من ممثلي الطوائف ومخاتير القرى أو الأحياء، ومديري النواحي، ويرأسها عضو من اللجنة الدولية أو مندوب عنها، وله حق الفصل في الشكاوى. وبعد انتهاء عملية التسجيل، تعلن اللجنة قائمة المرشحين على أساس طائفي في انتخابات الدرجة الأولى مع أسماء محلاتهم وطوائفهم، ثم تعين عدد مرشحي انتخابات الدرجة الثانية، وعدد النواب لكل طائفة، على أن يكون لكل منها نائب واحد عن كل 100 ناخب في انتخابات الدرجة الثانية. ويحدد عدد نواب كل طائفة بحسب عدد المسجلين في قائمتها على أن لا يقل عن العدد المسجل بجانب اسمها، فللطائفة التركية ـ 8 نواب و للطائفة العلوية ـ 6 نواب وللطائفة العربية ـ نائبان وللطائفة الأرمنية ـ نائبان ولطائفة الروم الأرثوذكس ـ نائب واحد، ومثله للطائفة الكردية والطوائف الأخرى، وهكذا جعل نظام الانتخابات لخدمة الأهداف التركية. ففي حين عد الأتراك كلهم على اختلاف أصولهم طائفة واحدة، عُدَّ السوريون طوائف متعددة، من دون وجه حق خلافاً لكل منطق، وانتقد قانون الانتخابات بشدة، لتصنيف بعض الطوائف على الأساس العنصري أو الديني، وبذلك أضعف من أهمية العرب في اللواء، في حين أنه زاد في قيمة الأتراك وقد عبر العرب عن استيائهم الشديد من هذه السياسة التقسيمية، كما أن هذا النظام أفسح في المجال للتأثير على الناخبين الثانويين لقلة عددهم، في حين يصعب التأثير على جماهير الشعب عموماً. كذلك سمح قانون الانتخابات بالتسجيل لكل من ولد في اللواء قبل أول كانون الثاني 1918، سواء أكان مقيماً في اللواء أم مهاجراً منه و منتمياً لدولة أخرى. وقد انتقد عرب اللواء هذا الإجراء لأنه ألحق الغبن بحقوقهم، وعدوه امتيازاً لبعض الأتراك الذين ولدوا في اللواء ثم هاجروا إلى الجمهورية التركية حيث اكتسبوا الجنسية التركية، ولكنهم توجهوا إلى اللواء لاستعمال حقهم الانتخابي. وحين وجدت الحكومة التركية القانون الانتخابي لا يحقق «للأقلية» العددية التركية طموحها إلى اصطناع «الغالبية»، احتجت بشدة لدى مجلس العصبة على تطبيق القانون (كانون الأول 1937)، مدعية بأن اللجنة الدولية لم تتعاون معها، كما اعترضت على الصلاحيات المخولة للجنة في مراقبة الانتخابات، وعلى قسوة مواد العقوبات ضد المخالفين للقانون الانتخابي، وعلى تحديد انتماء المسجلين لطوائفهم، والبت في من له حق في الانتخابات، وعدّت أن كل ذلك يحول دون تحقيق مصلحة ما زعم بأنه «غالبية» تركية في اللواء. وعلى الرغم من أن المستر «ريد» رئيس اللجنة الدولية نفى مزاعم الحكومة التركية، وفندها بقوة، فإن مجلس العصبة رضخ لطلب تركية، وألف لجنة خماسية شارك فيها ممثل تركية، فعدلت قانون الانتخابات على النحو الذي أرضى تركية. ولما عاين«ريد» انحياز بعض أعضاء اللجنة إلى الأتراك، قدم استقالته، وحل محله مندوب السويد. وحققت الحكومة التركية بهذا التعديل فائدة كبرى، إذ إنه ألغى المادة التي تمنع السلطات من تأييد المرشحين للنيابة، وخفف من وطأة العقوبات على المخالفين، فأفسح في المجال أمام الأتراك لممارسة الضغط على عرب اللواء، من دون خشية عقاب السلطة. ثم أتاح القانون المعدل للناخب أن يسجل نفسه في الطائفة التي يصرح أنه ينتمي إليها. وكان هذا لصالح الأتراك الذين صار بإمكانهم التأثير على الناخبين غير الأتراك حتى يسجلوا أنفسهم أتراكاً باستخدام وسائل الترغيب والترهيب.
      ولو اتفق العرب في اللواء على أن يسجلوا أنفسهم كافة في الطائفة العربية، لاستطاعوا الحصول على سبعة نواب، إضافة إلى ما يمكن أن يحصلوا عليه بالتسجيل في الطائفة العربية أصلاً. ومعلوم أن القانون الأصلي يمنع الناخب من أن يسجل نفسه في غير طائفته التي ينتمي إليها.
      باشر أعضاء اللجنة الدولية عملية التسجيل لانتخابات الدرجة الأولى يوم 13 أيار 1938، بعد أن أعلنت تقسيم اللواء إلى 8 مناطق: الاسكندرونة، وناحيتها، وناحية أرسوز، وقرقخان، وناحيتها، وناحية بيلان، وناحية أقاتبّة، وناحية الريحانية. وتفاءل العرب بحياد اللجنة ونزاهتها، وشهدت عمليات الانتخاب إقبال العرب على التسجيل، على الرغم من الصعوبات التي اعترضتهم، والدعايات التركية العنيفة ضدهم، وحصلوا على أكثرية في مناطق الاسكندرونة وأنطاكية وقرقخان، وهي المناطق التي يدعي الأتراك أنها تضم أكثرية تركية.
      وشهد اللواء ضغوطاً شديدة من الملاكين الأتراك والسلطة المنتدبة، لمنع وصول الكثير من العرب إلى مراكز الاقتراع، في قضاء قرقخان وبعض القرى العربية. وأسقط في يد الأتراك، وانتابهم القلق، ولاسيما أن حملات الدعاية والتهديد التركية، لم تفلح في حمل العرب على تسجيل أنفسهم في الطائفة التركية، فصمّموا على استخدام وسائل الإرهاب والعنف. وتطور الصدام بين العرب والأتراك إلى قتال عنيف بلغ أشده في أواسط أيار، وتدخلت السلطة المنتدبة في الأمر، وأوقفت اللجنة التسجيل عدة مرات. وفي 5 أيار قدّمت الطائفة العلوية تقريراً موثقاً إلى اللجنة الدولية، تشكو فيه أن الأتراك يتذرعون بالتضليل والخداع بغية الحصول على أكثرية مصطنعة. وفي 9 أيار قدمت الطائفتان العربية والأرمنية تقريراً مماثلاً. وأغارت العصابات التركية على الحدود، واقترفت حوادث قتل متكررة، وأعقبها قيام المظاهرات العربية احتجاجاً على أفعال الأتراك، فاصطدمت بالقوات الفرنسية، وسقط عدد من القتلى العرب. ومع ذلك سارعت الصحف والإذاعة التركية إلى اتهام السلطة المنتدبة واللجنة الدولية بالانحياز للعرب بالوقوف ضد الأتراك. ومارست الحكومة التركية الضغط على الحكومة الفرنسية منذرة باستخدام القوة لاحتلال اللواء، كما اتهمت اللجنة الدولية بالتحيز، وأعلنت قطع علاقاتها معها وعدم الاعتراف بها. وبتأثير من حليفتها إنكلترة، سعت فرنسة إلى تهدئة تركية واسترضائها. فالموقف الدولي أصبح أسوأ مما كان لدى الحليفتين وذلك بعد مطالبة هتلر بضم الأقسام الألمانية من تشيكوسلوفاكية (السوديت)، ولذلك انتهجت الحليفتان سياسة لينة مع ألمانية وإيطالية التي كان زعيمها موسوليني يهدد السلام في البحر المتوسط الشرقي، ومع تركية أيضاً، حرصاً على صداقتها والتعاون معها في حال اندلاع الحرب وامتدادها إلى الشرق الأدنى. وقد ساعدت الأوضاع الدولية التي سادت أوربة صيف عام 1938 على دفع فرنسة إلى التنازل، مرة أخرى، وتوقيع اتفاقية مع تركية (حزيران 1938) تقضي بمنح الأكثرية للأتراك في انتخابات اللواء. وجمع «غارو» مندوب المفوض السامي ممثلي الأحزاب والطوائف غير التركية وطلب منهم الانصياع لمضمون الاتفاقية المذكورة فرفضوا، وشعر المندوب أن إجراءاته القمعية ضدهم لا تنطبق على القانون، ولا تتفق مع مبادئه الشخصية، فآثر الاستقالة، وقبلتها الدوائر الفرنسية العليا، لأن انحيازه للترك لم يكن كافياً في نظرها، وأسندت منصبه مع القيادة العسكرية في اللواء إلى القومندان كوليه Collet الذي عمد إلى إقصاء أكثر المأمورين والموظفين العرب وغير الأتراك، وأسند مديرية الداخلية إلى أحد زعماء الأتراك الكماليين، وأطلق يده في وقف كل موظف لا تروقه أعماله، كما أسند قيادة الدرك والشرطة في أنطاكية إلى أتراك كماليين. ومارس الضغط والتهديد والإرهاب ضد العرب وغير الأتراك في ظل الأحكام العرفية، في حين خص الأتراك بالحرية التامة، وتجاهل ممارساتهم في العسف والظلم. وضيّق الخناق على الجمعيات العربية، وحلّ «عصبة العمل القومي» وحزب «اتحاد العناصر»، وأغلق نادي العروبة، وألغى حرية الكتابة والاجتماع، ونفى عدداً من الشباب العرب وسجن آخرين، وجهر بانحيازه التام للأتراك حين خطب في جمهور بناحية السويدية في 11 حزيران 1938 طالباً مساعدة السلطة لضمان الأكثرية النيابية للأتراك في الانتخابات طبقاً لمضمون الاتفاقية الفرنسية التركية. كما قام بجولات في القرى والنواحي، منذراً بأن الأكثرية لا بد أن تكون تركية تحت طائلة العقوبة للمخالفين. وتم إبعاد مندوب الحكومة السورية عن اللواء (9 حزيران)، تاركاً للقنصل التركي حرية التصرف.
      راع هذا التدخل السافر اللجنة الدولية لمراقبة سير الانتخابات المقرر انتهاؤها في 31 حزيران 1938، فتوالت احتجاجاتها وتقاريرها ومطالباتها للسلطة المنتدبة بالكف عن التدخل وإطلاق سراح المعتقلين، وإلغاء التدابير التعسفية التي تحول دون ممارسة العرب حقهم الانتخابي. ولما رأت اللجنة تعذّر إكمال التسجيل للانتخابات بروح النزاهة والحياد، اتخذت قراراً إجماعياً بتعليق الانتخابات في اللواء، وأرسلت في 23 حزيران برقية مطولة إلى سكرتير عصبة الأمم، بيّنت فيها أنها احتجت غير مرة إلى المفوض السامي الفرنسي، بعد أن تزايدت أعمال الضغط اليومية من جانب السلطة المنتدبة، وأنها طالبت اتخاذ تدابير فورية تسمح بتطبيق الأنظمة، كما احتجت مراراً لدى مندوب المفوض السامي في اللواء كي يتدخل في الأمر، ولكنه رفض إعطاءها الضمانات المطلوبة وتنفيذ مقترحاتها. وذكرت اللجنة أنها اضطرت إلى التخلي عن مهمتها، وغادرت اللواء في 29 حزيران 1938، وبادرت فرنسة إلى تأييد طلب تركية من سكرتير العصبة، تعليق صلاحية اللجنة الدولية ووقف أعمالها.
      ضم لواء الاسكندرونة إلى تركية
      إزاء التدخل التركي الخطير، والموقف الفرنسي المتخاذل في انتخابات اللواء، طلبت الحكومة السورية في حزيران 1938 أن تتوسط الحكومة العراقية لدى أنقرة لحلّ النزاع مع سورية على أساس تقسيم اللواء. واتفق ناجي شوكت وزير العراق المفوض في أنقرة، مع وزير الخارجية التركي على الأسس التالية:
      1 ـ تقسيم اللواء بين تركية وسورية وإيجاد حدود طبيعية بين البلدين.
      2 ـ تبادل السكان الأتراك والعرب.
      3 ـ بقاء مدينة الاسكندرونة في القسم التركي على أن يفتح ميناؤها للتجارة السورية، وتمنح سورية منطقة حرة في الميناء.
      4 ـ المفاوضة بين البلدين على هذا الأساس، ودعوة فرنسة للمشاركة فيها.
      ولكن الحكومة السورية اشترطت بقاء مدينة أنطاكية في القسم السوري، ولم تفلح جهود ناجي شوكت وعادل أرسلان ممثل سورية السياسي لدى تركية في إقناع حكومة أنقرة، بسبب تشبث الرئيس أتاتورك برأيه واتضح أن تركية كانت تجري مساومة مع فرنسة لعقد صفقة سياسية أفضل، وترمي إلى حصول تركية على اللواء بأكمله. ونجحت المساومة بعقد معاهدة 4 تموز 1938، وبموجبها سمحت فرنسة بأن تشاركها تركية في إجراء انتخابات اللواء، حتى تضمن الحصول على أكثرية تركية. وأبلغ آراس ممثلي العراق وسورية، شوكت وأرسلان في 8 تموز، بأن حكومته عدلت عن مشروع التقسيم. وعبر الجيش التركي الحدود إلى لواء اسكندرونة، وتمركز في مدن الاسكندرونة وبيلان، بينما رابط الجيش الفرنسي في انطاكية والبركة وتألفت لجنة مشتركة، فرنسية ـ تركية، للإشراف على الانتخابات التي جرت في 23 تموز. وبفضل التعاون التركي الفرنسي نجح الأتراك في الحصول على «أكثرية رسمية» في مجلس اللواء التمثيلي، قدرها 22 نائباً من أصل 40 نائباً، وذلك على النحو التالي:
      أتراك 35847: 22 نائباً، علويون 11319: 9 نواب، أرمن 5504: 5 نواب، عرب (مسلمون سنّة) 1845: نائبان، روم أرثوذكس 2098: نائبان.
      وفي 2 أيلول 1938 انعقد المجلس المذكور وانتخب رئيس الدولة الجديدة، وفاز طيفور سوكمان، وأطلق على الدولة اسم «دولة هاتاي» تذكيراً بالحثيين الذين يدعي أتراك اللواء أنهم من نسلهم! مع اقتباس الكثير من القوانين التركية، لتنظيم الشؤون الإدارية.
      وسنحت الأوضاع الدولية المواتية، مرة أخرى لتركية، فعقدت مع فرنسة معاهدة 23 حزيران 1939، وبمقتضاها تمّ إلحاق لواء الاسكندرونة نهائياً بتركية، وذلك مقابل تقديم تركية المساعدة إلى فرنسة في حال نشوب حرب في منطقة البحر المتوسط. وكانت تركية قبل ذلك عقدت معاهدة مماثلة مع إنكلترة. وتعهدت فرنسة بموجب المعاهدة أن تسحب قواتها من اللواء وتسلمه كاملاً إلى تركية. ومعلوم أن تركية لم تف بتعهداتها للدولتين في أثناء الحرب العالمية الثانية، وصَمَت مجلس عصبة الأمم على انتهاك المواثيق الدولية، إلا أن رابار Rappard العضو السويسري في لجنة الانتدابات الدائمة أشار إلى أن الصحف تتحدث من حين إلى آخر عن أحداث جرت في لواء الاسكندرونة وأنه يرى ضرورة البحث فيها. واحتدم نقاش مثير استغرق بضعة اجتماعات، كان مندوب فرنسة روبير دوكي De Coix يردّ على أسئلة الأعضاء ونقدهم في محاولة يائسة لتسويغ موقف بلاده. كما نظرت اللجنة في البرقيات التي تلقتها من عرب لواء الاسكندرونة، وفيها يحتجون على تزييف الانتخابات وفصل اللواء عن سورية. وفي جلسة 23 حزيران 1938 انتقد رابار أمام لجنة الانتدابات الدائمة مسلك فرنسة التي لا تملك حق التخلي عن لواء الاسكندرونة لتركية، وقال: «إن عمل فرنسة كان مناقضاً لحق تقرير المصير، والعدل، والديمقراطية، والمعاهدة الفرنسية ـ السورية وعظمة فرنسة ونفوذها، والعصبة» وتساءل: «أليس عمل فرنسة هذا مناقضاً للمادة (4) من صك الانتداب».
      أحمد طربين

      تعليق

      يعمل...
      X