اصطنبول
Istanbul - Istanbul
اصطنبول
اصطنبول Istanbul أكبر مدن تركية وواحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها شهرة. وهي مركز ولاية اصطنبول التي تتألف أرضها من تلال متوسط ارتفاعها نحو 250م، وتخددها أودية كان معظمها مغموراً بمياه البحر ثم انحسرت عنها، باستثناء لسان القرن الذهبي المسمى «الخليج».
يخترق مضيق البوسفور[ر] ولاية اصطنبول من الشمال إلى الجنوب فاصلاً بين قارتي آسيا في الشرق وأوربة في الغرب. وتتألف المدينة من قسمين يمتدان على جانبي البوسفور في شمال غربي تركية.
الموقع
ويقع هذا الثلث عند المدخل الجنوبي للبوسفور عند تقاطع خط الطول 29 درجة شرقاً مع خط العرض 41 درجة شمالاً. وبذلك تتبوأ اصطنبول موقعاً جغرافياً يتوسط عوالم البحر الأسود[ر] في الشمال، والبحر المتوسط[ر] في الجنوب وآسيا في الشرق وأوربة في الغرب. ولهذا الموقع ميزة السيطرة على الممرات البحرية في البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة بينهما، والتحكم بالمعابر بين القارتين وبطرق التجارة البرية والبحرية. كذلك يتمتع هذا الموقع بحماية طبيعية لوقوعه بعيداً عن البحار المفتوحة، وتحيط به مياه عميقة يكملها سور مزدوج متين من جهة الغرب، مما درأ عن المدينة أخطاراً كثيرة. كذلك فإن هدوء مياه بحر مرمرة والمضيق نسبياً تجعل من ذلك البحر ميناءً طبيعياً نموذجياً. وقد كان لميزات هذا الموقع الجغرافي شأن مهم في اختياره مقر عاصمة البيزنطيين، ثم عاصمة العثمانيين التي تبوأت مكان الصدارة بين عواصم العالم في عصرها. وتبرز أهمية موقع اصطنبول جغرافياً بتمسك سكانها بها وعدم هجرها، على كثرة الكوارث التي حلت بها لوقوعها في نطاق الزلازل التي ضربتها مرات كثيرة.
ولقد توسعت المدينة في القرن العشرين بسرعة مذهلة وحافظت على مكانتها الأولى بين المدن التركية مع أن أنقرة هي التي غدت عاصمة البلاد بعد إلغاء السلطنة العثمانية وقيام الجمهورية التركية.
النشأة والسكان
مجرى القرن الذهبي المائي في اصطنبول حيث معظم معالم المدينة التاريخية |
كذلك ملأت المساكن والمنشآت العمرانية والاقتصادية المساحات الخلاء بين الأودية التي تنتهي في المضيق، وتزيد مساحة اصطنبول اليوم على 320 كم2 منها نحو 162 كم2 في الجزء الآسيوي ونحو 147كم2 في الجزء الأوربي ونحو 11كم2 هي مساحة جزر قيزيل في بحر مرمرة التابعة للمدينة إدارياً. وتقسم المدينة إلى ثلاثة عشر قضاءً تضم نواحي (بوجاك) مقسمة إلى أحياء (محلات) كثيرة. وترافق نمو المدينة مع ازدياد عدد سكانها الذي مر بمراحل مد وجزر، فقد كان عددهم نحو 1.500.000 نسمة عام 1700، ثم تراجع إلى 691.000 نسمة عام 1927 بعيد نقل مقر العاصمة التركية إلى أنقرة عام 1923. لكنه عاد فتزايد حتى تجاوز 7774169 نسمة عام 1995. وتصل الكثافة العددية إلى أكثر من 17000ن/كم2، وتزيد على 80.000 ن/كم2 في الأحياء القريبة من الخليج . وترجع الزيادات السريعة لأعداد السكان إلى تدفق المهاجرين الريفيين وغيرهم إلى اصطنبول، ومعظمهم من الداخل التركي في الأناضول. وقد زادت أعداد هؤلاء بوصول اللاجئين الأتراك من أصل بلغاري في أواخر الثمانينات. وأدى ذلك كله إلى عجز في الإمداد بالمياه التي يقنن توزيعها في الصيف خاصة، وكذلك إلى تخلف الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها عن مواكبة الضغط السكاني المتزايد. كما أن نسبة مهمة من السكان تعيش في أحياء البؤس المعروفة باسم غيجه كوندو gecekondu وتعني المتَوَضع ليلاً.
المخطط
يظهر مخطط المدينة مراحل نموها وأشكاله، ويتألف من الأقسام الحديثة الخاضعة لمخططات تنظيمية عصرية والأحياء القديمة، وأحياء البؤس المخالفة للتنظيم أو الخارجة عنه. وقد فرضت طبيعة الأرض وتضاريسها على المدينة نماذج مختلفة من المخططات، ففي مثلث النواة الأولى يظهر مخطط مروحي ينفرج غرباً وترسمه خمسة محاور من الشوارع والطرقات تتجه من منطقة المتاحف والحدائق في الشرق إلى السور المزدوج وخارجه في الغرب. وتتقاطع الشوارع الأخرى معها باتجاهات مختلفة فرضتها طبوغرافية الأرض والتخطيط المتأخر. واتسع العمران خارج السور مسايراً لمحاور الطرق المؤدية إلى أدرنة ولطريق ساحل بحر مرمرة إلى باكير كوي وفلورية ومطار يشيل كوي. كما تعد الطرق الموجودة على جانبي الخليج وعلى طول ساحل المضيق محاور توسع عمراني، فرضت نفسها على مخطط الأحياء الشمالية الأحدث والزاحفة باتجاه قريتي ساريَر وكيليوس، حيث تتقاطع هذه المحاور مع كثير من الطرقات والشوارع بزوايا مختلفة. وينطبق ذلك على مخطط الجانب الآسيوي أيضاً حيث توسعت المدينة انطلاقاً من نواة اسكودار نحو الشمال والجنوب الشرقي على طول الساحل. وثمة ثلاثة جسور تربط أجزاء اصطنبول على جانبي القرن الذهبي (الخليج)، وجسر البوسفور الضخم الذي يربط القسم الأوربي بالآسيوي منذ عام 1973، كذلك جسر آخر أقيم في عام 1988، إضافة إلى المعديّات والمراكب والزوارق التي مازالت تقوم بنقل الركاب والسلع عبر المضيق والخليج. وتكثر في الأحياء القديمة وفي أحياء البؤس الحارات الضيقة والمتعرجة، والمساكن المتواضعة والفقيرة، تجاورها الطرقات المستقيمة والعريضة والشوارع ذات المحلات التجارية والمخازن والحوانيت الفخمة والعمارات العالية وأبنية السكن الجميلة في الأحياء الحديثة. وتعد الجوامع والمساجد والتكايا والقصور والمناهل والسبلان والمواقع الأثرية والأوابد التاريخية عناصر أساسية في مخطط اصطنبول، تزيدها رونقاً واتساقاً ولاسيما في أجزائها التي ترجع إلى العهد العثماني.
الوظائف
مدينة اصطنبول أكثر مدن تركية حركة ونشاطاً، تتعدد وظائفها وأعمال سكانها. فهي ميناء تركية الأول، وقاعدتها التجارية الرئيسة المفتوحة على العالم، وهي أنشط عقدة مواصلات برية وبحرية تخدم أكثر من مليون عابر سنوياً، يستخدمون الطرق البرية والسكك الحديدية والطرق البحرية ومطار يشيل كوي. وهي أيضاً أضخم مركز صناعي يضم الكثير من المصانع والمعامل الحديثة وآلاف الحيازات الصناعية الصغيرة الآلية والحرفية التقليدية. وتسهم اصطنبول الكبرى بنحو 30% من قيمة الناتج الصناعي التركي، وتنتج المصنوعات الورقية والجلدية، والأدوات الكهربائية والمواد الطبية والأدوية والإسمنت والزجاج والسكر والتبغ، والأدوات والسلع المعدنية وغيرها. وتتركز غالبية الصناعات في منطقة الخليج وباكير كوي وكازي تششمه وبيكوزدَرَه وفي الضواحي. وتعد اصطنبول أقدم مركز ثقافي علمي في تركية، ففيها جامعتان عريقتان وخمس جامعات حديثة ومكتبات مهمة بعضها غني بالمخطوطات العربية، ومعاهد ومؤسسات ثقافية وعلمية ودور طباعة وأكثر من 790 مدرسة. أما وظيفتها الإدارية فقد تراجعت بعدما غدت عاصمة ولاية صغيرة تدير شؤونها بلدية. لكن مؤسسات عصرها الذهبي ما زالت شاهدة على دورها عاصمة للسلطنة العثمانية. أما وظيفتها السياحية ففي نمو وازدهار يتماشى مع تطور الصناعة السياحية العالمية لغنى اصطنبول بالكنوز المعمارية والقصور والمتاحف والمساجد والجوامع والأسوار والحصون وخزانات المياه وغيرها من الآثار والأوابد الفنية. ويمارس عدد كبير من السكان صيد السمك وتسويقه على امتداد سواحل المدينة حيث يباع طازجاً.
والوظيفة السكنية تأتي في المقام الأول بين وظائف المدينة، فهي تؤوي ملايين السكان. وتنتشر دور السكن والأبنية والعمارات العالية في كل مكان تقريباً، وتتداخل مع الأسواق والمناطق التجارية. إلا أن تخطيط الأحياء الحديثة راعى إقامة مناطق سكنية صرفة، كما في منطقة ليفانت السكنية التي أنشئت عام 1949 وغيرها بعد ذلك وتضم وحدات سكنية وعمارات حديثة.
عادل عبد السلام
التاريخ
عرفت مدينة اصطنبول منذ نشأتها في أواخر القرن الثامن ق.م بأسماء متعددة تعكس مراحل تاريخها ووجوه حضارتها. فقد بدأت مستوطنة هيلّينية باسم بيزانتيون Byzantion أو بيزانتيوم Byzantium (بيزنطة)، ومنحها الامبراطور الروماني سبتيميوس سيفروس سنة 196 ق.م اسم أغوستا أنتونينا تكريماً لابنه بعد أن جدد بناءها، وقد ظلت المدينة تعرف بإسميها هذين حتى عام 330م عندما جَدد بناءها الامبراطور قسطنطين الكبير (274 -337م) أول امبراطور روماني يعتنق المسيحية، واتخذها عاصمة له وسماها «رومة الجديدة» في مقابل رومة القديمة، ونسبت إليه فصار اسمها القسطنطينية Konstantinopolis، وغدت منذئذ عاصمة الامبراطورية الرومانية كلها قبل أن تتحول إلى عاصمة للامبراطورية الرومانية الشرقية سنة 395م، وهي تدعى في التراث البيزنطي «ملكة المدن» أو «الملكة». أما الأتراك العثمانيون فقد اختاروا لها بعد فتحها في القرن الخامس عشر اسم «اصطنبول» الذي اعتاد الجغرافيون العرب إطلاقه عليها منذ القرن الثالث عشر، وهو تحوير لعبارة «استانبولين» Eis ten Polin باليونانية وتعني «إلى المدينة».
كما تذكرها المراجع العربية والتركية من العصر العثماني باسم «الأستانة». أما اسمها الرسمي منذ عام 1926 فهو اصطنبول. وهي تعد اليوم المدينة الثانية في الجمهورية التركية.
لم تنل عاصمة في التاريخ مانالته مدينة اصطنبول من اهتمام ورعاية، فقد كانت عاصمة امبراطوريتين كبيرتين هما الامبراطورية البيزنطية، ثم السلطنة العثمانية، وظلت عاصمة للجمهورية التركية الحديثة بدءاً من إلغاء نظام السلطنة عام 1922 حتّى 29 تشرين الأول 1923 عندما أصبحت أنقرة هي العاصمة. وتعد اصطنبول كذلك عاصمة أول دولة مسيحية في التاريخ حين اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية، وفيها مقر الكرسي البطريركي، كما عُقدت فيها أربعة مجامع كنسية عامة (381 و553 و680-681 و 869 -870م)، وقد حافظت اصطنبول على مكانتها هذه في الشرق الروماني طوال أحد عشر قرناً إلى أن سقطت في يد محمد الفاتح عام 1453م وغدت مركز الثقل السياسي في العالم الإسلامي بعد استيلاء السلطان سليم الأول (1516) على بلاد الشام ومصر وسقوط دولة المماليك.
بقيت اصطنبول عاصمة الدولة العثمانية حتى ما بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط السلطنة العثمانية وإلغاء الخلافة. وهي اليوم مقر المفتي العام للجمهورية التركية، ومقر بطريرك القسطنطينية المسكوني، وبطريرك القسطنطينية للأرمن الأرثوذكس.
ظلت اصطنبول أكثر من 2500 عام، لأسباب استراتيجية أو دينية، محلَّ تنازع القوى الدولية للسيطرة على طرق المواصلات البحرية والبريّة بين آسيا وأوربة عبر المضايق (البوسفور وبحر مرمرة والدردنيل)، والجسور الواصلة بين القارتين، ومعبراً للشعوب والثقافات المحيطة بها في البلقان والأناضول وحوضي البحرين الأسود والمتوسط. وقد تعرضّت، على منعتها وقوة تحصيناتها، للغزو مرات عدة (من الآفار والبلغار والعرب والتركمان والروس واللاتين)، كما تعرضت لكثير من الكوارث الطبيعية، وضربتها الزلازل الأرضية أكثر من خمسين مرة في تاريخها. وكانت اصطنبول كذلك ملتقى ثقافات الشرق والغرب، ولاسيما في الفنون والأوابد المعمارية. وهي المركز الروحي للكنيسة المسيحية الشرقية، في ظل نظام امبراطوري روماني أعاد للعالم الهيليني وحدته المفقودة وللغة اليونانية رونقها بجعلها من دون اللاتينية، اللغة الرسمية للامبراطورية البيزنطية. وكانت القسطنطينية هي العاصمة التي وجد فيها الحقُ الإلهي المقدّس للملوك تطبيقه الفعلي بوصفهم حماة الإيمان المسيحي والمدافعين عنه، وهو الحق الذي أضحى نموذجاً لقياصرة أوربة وملوكها حتى القرن الثامن عشر.
تأسيس المدينة وتطورها من مستوطنة هيلّينية إلى عاصمة امبراطورية
تحتل اصطنبول موقعاً فريداً تحيط به المياه من أطراف ثلاثة: القرن الذهبي والمضائق. وعندما جاء الهيلينيون إلى المنطقة في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد أنشأوا مستعمرة لهم عند كالسيدون (خلقدونية أو قاضي كوي) الواقعة على الطرف الآسيوي خارج حدود المدينة، ولكن بيزاس Byzas وهو مغامر من مدينة ميغارا، أسس مستعمرة أخرى على الطرف الأوربي عُرفت باسم بيزانتيون (بيزانطيون) صارت فيما بعد نواة لمدينة اصطنبول. وقد احتل الفرس ذلك الموقع في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، إبان الحروب الميدية، وفي القرن الخامس تنافس للسيطرة عليها كلٌّ من أثينة والحلف الديلوسي من جهة وإسبرطة من جهة أخرى، وحاصرها فيليب المقدوني نحو ثلاث سنوات، ثم استولى عليها ابنه الاسكندر الكبير في القرن الرابع ق.م وعندما قاومت بيزانطيون الاحتلال الروماني تعرّضت لتخريب شديد (أواخر القرن الثاني الميلادي)، على يدي قوات الامبراطور سبتيموس سيفيروس الذي أعاد ابنه كركلا إعمارها ودعاها أُغُستا أَنطونينا. ثم تعرّضت للدمار مرّة أخرى على يدي غاليانوس (القرن الثالث م). لكن الامبراطور قسطنطين رفعها إلى مرتبة العاصمة الثانية للامبراطورية الرومانية عام 324م وسماها رومة الجديدة، وأطلق عليها اسم القسطنطينة إلا أنها ظلت تحتفظ باسمها القديم بيزانتيون الذي أطلق على الامبراطورية البيزنطية بعد أن انفصل الجناح الشرقي من الامبراطورية الرومانية عن رومة إثر وفاة الامبراطور تيودوسيوس (395م) وترسخ انقسام الامبراطورية النهائي. وكان قرار قسطنطين حاسماً عند إعلان العاصمة الجديدة في 11 أيار 330م في احتفالين وثني ومسيحي في آن واحد، لكي يكون فيها أقرب إلى مجرى الأحداث في امبراطوريته من رومة التي أضحت متطرفة بعد تصدُّع حدودها الغربية أمام تحرك الشعوب الجرمانية، إذ كانت القسطنطينية تقبع عند نهاية خط المواصلات الاستراتيجي بين حوضي الراين والدانوب، قريباً من مراكز التموين بالحبوب من بلاد الشام ومصر، وإليها تنتهي طرق التجارة الدولية مع بلاد الشرق، وهي أكثر اتصالاً بمراكز الحضارات والثقافات العريقة في الشرق الهيلّيني.
وفي ماعدا الحقبة التي وقعت فيها المدينة في قبضة الغزاة اللاتين إبَّان الحروب الصليبية (1204-1261) ظلت القسطنطينية حتى القرن الحادي عشر عاصمة أقوى دول أوربة، وبقيت ما يزيد على ألف عام، وحتى سقوطها بيد السلطان العثماني محمد الفاتح في 29 أيار 1453، عاصمة دولة عظمى في الحوض الشرقي للبحر المتوسط.