اسواق عرب
Aswaq Al-Arab - Aswaq Al-Arab
أسواق العرب
أسواق العرب أسواق موسمية كانت تقوم في أنحاء شتى من بلاد العرب تلتقي فيها القبائل العربية فتتبادل السلع وتلقي فيها قصائد المفاخرة بينها، وتقوم فيها القبائل بافتداء أسراها، وتجري فيها مناشط اجتماعية كالمصاهرة وفض النزاع بين القبائل وعقد المحالفات، فهي أسواق ذات صفة تجارية إلى جانب كونها محافل أدبية وأندية اجتماعية.
ولما كانت التجارة من أشرف الحرف قدراً ومنزلة عند العرب، وكانت التجارة الداخلية بين أنحاء جزيرة العرب، والخارجية مع بلاد الشام والعراق، تجارة برية تحمل في قوافل، كان العامل في نشوء هذه الأسواق وقوعها على أحد الطريقين الرئيسين للتجارة، الطريق الشرقي الذي يمتد من نجران إلى عُمان ويمرّ بالبحرين (أي ما يعرف اليوم بسواحل الخليج العربي الغربية التي تشمل الأحساء واليمامة والبحرين) حتى يصل إلى العراق وينتهي بأسواق البادية في الشام، وتنقل فيه بضائع اليمن والهند وفارس والعراق وسورية. والطريق الغربي، وهو أهم من الأول، ويمتد من اليمن إلى بلاد الشام مجتازاً الحجاز، ويقوم التجار على هذا الطريق بنقل بضائع الشام إلى اليمن حيث تصدّر بحراً إلى الحبشة والهند.
وكانت مقاليد التجارة في البدء في يد العرب اليمنيين الذين سعوا إلى السيطرة على الطرق البرية وأقاموا مواضع لحراستها من قطّاع الطرق ومن تحرش القبائل بها. غير أنه نتيجة للأحوال السياسية والطبيعية في اليمن، من ظلم الحكام وانهيار سدّ مأرب وهجرة كثير من القبائل إلى الشمال، انتقلت السيطرة التجارية إلى عرب الحجاز تدريجياً، وكان لبعض المدن شأن كبير في ازدهار التجارة ونشوء الأسواق داخل الجزيرة العربية وعلى أطرافها، ومن هذه المدن: مكة والبتراء وتدمر والحيرة. وقد استفاد أهل مكة من الأحداث التي وقعت في اليمن ولاسيما بعد عام الفيل وموت أبرهة، فانتقلت معظم مقاليد تجارة جزيرة العرب إليها، حتى غدت مكة أعظم محطة تجارية قامت في الجزيرة العربية بسبب موقعها على الطريق التجاري ومهارة أبنائها في التجارة، ولقُدسيتها التي أكدتها قريش بحلف الفضول، الذي نص على أن يكون أهل مكة مع المظلوم حتى يُؤدى إليه حقه. فكان الناس يؤمون مكة مطمئنين موقنين بأن أمن الحرم يسعهم جميعاً. وكان ذلك من أسباب قيام أهم أسواق العرب قربها، وغدا أهل مكة تجاراً ووسطاء في التجارة، فكان لهم رحلتان كبريان في السنة يسيرون فيهما قوافلهم هما: رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى بلاد الشام، إضافة إلى رحلاتهم إلى الحيرة. وكان القرشيون، المسافر منهم والمقيم، والغني والفقير يشتركون في تجارة تلك القوافل وتوزع الأرباح فيما بينهم بحسب حصصهم.
وقد مارس العرب التجارة رجالاً ونساءً على السواء، وكان التجار يحرصون على خروج تجارتهم في قوافل كبيرة، تُوفر لها الحماية اللازمة، وفي أزمنة محددة معروفة، وكانت القوافل تستريح في محطات وأسواق تجارية، أقيمت على طول الطريق التجاري، يجري فيها البيع والشراء. وكان تجار قريش يسترضون سادات القبائل التي تمر القوافل في أراضيها بأساليب مختلفة، منها إشراكهم في رأس المال بأخذ ما عندهم من سلع يتوسطون لهم ببيعها، أو شراء ما يريدون شراءه من تلك الأسواق، ومنها مصاهرتهم ودعوتهم إلى زيارة مكة والحج إلى الكعبة، ومنها دفع الأتاوى لهم. وكانوا يوثقون كل ذلك بعقود (إيلاف) تحدد قواعد مرور قوافل مكة وأصولها وحقوقها، فكانت القوافل تمر بسلام من دون أن تتعرض لأذى أو يعترضها أحد، وكان سيد القبيلة بنفوذه وسيادته على قبيلته كفيلاً بأن يعيد إلى القافلة ما انْتُهِبَ منها في أرضه إن حدث ذلك.
أما البلدان المجاورة فكان القرشيون يعقدون معها المعاهدات التجارية، فقد عقد هاشم بن عبد مناف معاهدة مع بيزنطة ومع أمراء الغساسنة تضمن له تجارة قومه في الشام وارتياد أسواقها آمنين. وعقد أخوه عبد شمس اتفاقاً آخر مع ملوك الحبشة بأكسوم، ونال مثل هذا الإذن أخوه نوفل من الفرس ومناذرة العرب، أما أخوه المطلب فعقد المعاهدات مع العباهلة من ملوك اليمن.
وكانت الأسواق التي تحط فيها القوافل رحالها تُحمى بطرائق شتى. فأما ماكان منها في مناطق النفوذ الفارسي، كأسواق الحيرة والبحرين وعمان وهَجَر والمُشَقّر، فيتولى حمايتها عمال الفرس في تلك المناطق، وتغلب عليها الصبغة الفارسية، وأما ما كان منها في سلطان الروم، كأسواق بُصرى وأَذْرَعات (درعا) وأيلة (العقبة) وغزّة، فيحميها عمال الروم ويغلب عليها التنظيم الروماني، وما كان منها في جزيرة العرب فيحميها سيد القوم القريب من السوق كأمير دُومة الجندل في سوقها وأمير اليمامة في سوق هجر، أو يحميها موقعها في الأرض الحرام التي تقام عليها (كأن تقام في أرض حرّم العرب على أنفسهم سفك الدماء فيها كالكعبة وما حولها) أو يحميها الموسم الذي تقام فيه السوق كالأشهر الحرم (وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب الأصم). فإذا أخرت حرمة المحرم في بعض السنين بسبب النسيء وأُحلَّ الغزو في ذلك الموسم فلا تقوم السوق. وكان العرب ينسِؤون لإلحاق السنة القمرية بالسنة الشمسية فيضيفون إلى سنتهم شهراً لتثبت مواسم سلعهم في حالة واحدة، وقد حرَّم الإسلام ذلك.
ساعد على قيام الأسواق في أوقات مختلفة تباين أنواع المحاصيل والغلات ومواسمها في كل قطر من بلاد العرب، فالبخور في ظَفار وهَجَر والبحرين، والبُرود والسيوف في اليمن، والجلود المدبوغة في الطائف، والأعناب والزيت والخمر والزبيب والمنسوجات الحريرية في الشام. وكان التجار يمكثون في الأسواق يبيعون ويشترون حتى ينتهوا من تجارتهم. ولهم في البيع والشراء أساليب مختلفة، منها بيع الملامسة، وهو أن يُلزَم المشتري بشراء السلعة إذا لمسها، ومثلها بيع الهمهمة والإيماء (خوف الحلف والكذب) والبيع برمي الحصاة أو إلقاء الحجر، وبيع الملاقيح (أي ما ستحمله إناث الإبل) وبيع المضامين (أي بيع ما سينتج من فحول الإبل) وبيع المعاودة (وهو بيع نتاج الإبل لعدة أعوام سلفاً) وبيع المعاومة (وهو ثمر الشجر عامين أو أكثر) وبيع المزابنة (وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر كيلاً) وبيع التصرية (وهي امتناع البائع عن حلب شاته أياماً قبل بيعها حتى يظنّ أن لبنها كثير) وبيع ضربة القانص (وهو ما سيخرج من صيد البحر أو البر) وبيع ضربة الغائص (وهو ما سيخرجه الغوّاص من اللآلئ) وبيع المخاضرة (وهو بيع الثمار خضراً قبل أن يبدو صلاحها). وقد نهى الإسلام عن هذه الأنواع من البيع وأقرّ البيع الناجز، وهو البيع العام المعروف للناس جميعاً، والواضح المعلوم للمتبايعين، والقائم على الرضى الكامل. كما تتبع الإسلام معاملات الجاهليين التجارية، فأبطل كل ما فيها من غش أو ضرر، وشرّع لهم في التجارة والبيوع ما ضمن خير الناس جميعاً، بائعهم ومشتريهم، ورفع عنهم الحيف الذي كان يحيق بهم مما اعتادوه في جاهليتهم، وجاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تنصّ على أحكام البيع والشراء وتنهى عن الاحتكار والربا، كما تنهى عن تجارة ممقوتة كانت معروفة في بعض الأسواق وهي تأجير الإماء للرجال ثم أخذ ما يكسبنه.
وقد تطورت الأسواق التجارية الموسمية إلى أسواق من نوع خاص لا تقتصر على البيع والشراء بل أصبحت أسواقاً تقضى فيها الشؤون الاجتماعية والسياسية، ويتبارى فيها الأدباء والشعراء. وكلما كبرت السوق زاد روادها وتعاظم شأنها واتسعت أغراضها، فيجري فيها فداء الأسرى ودفع الديات والقضاء بين القبائل وجمع الأتاوى وطلب الزواج، ويعرض فيها نتاج الأدباء من شعر وخطب، وتجري فيها الدعوات الدينية المختلفة، كما كان يفعل قس بن ساعدة، ثم محمد r في سوق عُكاظ.
ومع أنه لا يوجد اتفاق حول عدد هذه الأسواق وتحديد أوقاتها تحديداً دقيقاً بين قدامى المؤلفين الذين كتبوا عنها أمثال محمد بن حبيب (ت245هـ) في كتابه «المحبَّر» وأبي الحسن الهمداني (ت334هـ) في كتابه «صفة جزيرة العرب» والمرزوقي (ت421هـ) في كتابه «الأزمنة والأمكنة» وأبي العباس القلقشندي (ت821هـ) في «صبح الأعشى» واليعقوبي (ت897هـ) في تاريخه، والبغدادي (ت1093هـ) في «خزانة الأدب» فإنه يمكن أن تصنف هذه الأسواق أصنافاً ثلاثة:
ـ أسواق تخضع لنفوذ أجنبي وتدار بنظم خاصة وتتضاءل فيها الصبغة العربية (وهي الأسواق التي تقام في أراض يسيطر عليها الفرس أو الروم).
ـ أسواق أنشأها العرب في الجزيرة العربية لحاجتهم إليها، فصارت تمثل عاداتهم في البيع والشراء والخصام والدين والزواج والحقوق، كعُكاظ.
ـ أسواق ذات صبغة مختلطة كأن تكون على ساحل البحر كعدن وصُحار ودَبَى، وفيها يجتمع تجار من شتى البلاد.
وكان العرب من تجار ومستهلكين ينتقلون بين هذه الأسواق الموسمية، فلا يحول الحول حتى يعودوا إلى السوق الأولى. وهناك زهاء عشرين سوقاً تعد من أشهر تلك الأسواق (انظر الخريطة).
خريطة تبين مواقع أسوا العرب بحسب تتابعها الزمني |
وقد بقيت هذه الأسواق تقام في مواسمها حتى جاء الإسلام وسكن العرب المدن الكبرى من بلاد الشام والعراق ومصر وفارس والروم فتضاءلت أهميتها ثم أمحت قبل انقضاء القرن الثاني للهجرة ورسخت أقدام التجارة في المدن والثغور. وفيما يلي ذكر لأشهر أسواق الجاهلية ولسوق المِربَد الإسلامية التي قامت بعد ذلك.
سوق دُومة الجندل: تقع دومة الجندل في منطقة الجوف شمالي الحجاز على حدود الشام في نقطة متوسطة بين المدينة المنورة والخليج العربي والشام. وهي حصن منيع تحيط به قرى لبني كنانة من قبيلة كلب وقد جرت عادة القوم أن تقام عندها سوق في أول شهر ربيع الأول وتستمر حتى منتصف الشهر تقريباً.
وكان يرتاد السوق القادمون إليها من العراق والشام ومن أنحاء الجزيرة العربية كلها، وتحميها قبيلتا كلب وجديلة طيء. وكانت هذه السوق كثيرة الرواد على مخاطر طريقها ووعورة مسالكها وطول السفر إليها لأن فوائدها وافرة. وكان التنافس بين بني كلب وبني غسان كل موسم للإشراف عليها يجري عن طريق الأحاجي، وكان البيع فيها يتم بالرمي بالحصاة أو بالحجارة، ولم يكن فيها نشاط أدبي وتقتصر على التجارة والمتعة، وكان بعض العرب يُكْرِهون فيها فتياتهم وإماءهم على البغاء ويأخذون كسبهن، فلما جاء الإسلام حرّم هذه العادة القبيحة.
سوق عكاظ: أجمعت أكثر المصادر أن موقع سوق عكاظ في بلاد الحجاز، خلف عرفة، ويبعد عن مدينة الطائف عشرة أميال وعن مكة مسيرة ثلاثة أيام إلى جنوبها الشرقي. وفيه نخلٌ ومياه، أرضه مستوية واسعة الأرجاء ليس فيها جبل ولا مرتفعات سوى ما كان لأهل الجاهلية من أنصاب عالية.
ولم تكن للسوق حدود معينة لسعة الأرض التي تقام عليها، وقد يتغير موضعها قليلاً أو كثيراً عن العام الذي قبله، أمّا حُماة السوق فقبيلة هوازن من قيس عيلان لأنها تقع في أرضهم، وأكثر من يرتاد السوق من قبائل العرب: قريش وهوازن وغطفان وخزاعة والأحابيش، وهم حلفاء قريش من بني المصطلق وبني خزيمة إضافة إلى جماعات أخرى.
وكانت سوق عكاظ سوقاً عامة شاملة تقام مابين هلال ذي القعدة ومنتصف الشهر، وقد تمتد حتى الثاني من ذي الحجة موعد القيام بشعائر الحج التي تلي مواسم عكاظ وسوق المَجَنّة وسوق ذي المَجاز ولكل قوم من نزلاء السوق منازل يقيمون فيها وترفع عليها راياتهم، وتضرب فيها مضاربهم بعيداً عن مواقع البيع والتجارة والأندية العامة، ويدير شؤون كل قبيلة شيوخها ورؤساؤها. ويقضي بين الناس إذا تنازعوا قضاة معترف بهم، من أشهرهم أكثم بن صيفي حكيم العرب من تميم، وكان يضرب فيه المثل في النزاهة وحب الخير والحكمة، وعامر بين الظَّرِب من بني عَدْوان من قيس عيلان، وحاجب بن زرارة، وعبد المطلب وأبو طالب والعاص بن وائل والعلاء بن حارثة من بني قريش وربيعة حُذار من بني أسد.
كانت عكاظ معرضاً تجارياً ومنتدى اجتماعياً حافلاً بكل أنواع النشاط، وكانت منبراً يبلغ الحاضرُ الغائب بما أعلن فيها، وما عقد من معاهدات بين القبائل، وتذاع أسماء من يُخلعون من قبائلهم فتسقط بذلك حقوق الواحد منهم على قبيلته فلا تحمل له جريرة. وكان بعض الأشراف يتقنعون في السوق كي لا يعرفوا فلا ينال منهم عدو لهم أو يأسرهم طامع ثم يغالي بطلب فديتهم. وكانت سوق عكاظ مجالاً لإطلاق الألقاب والأوصاف على الأفراد والقبائل، كما كانت الأحداث التي تجري فيها مصدراً للأمثال. وكانت ترفع في السوق رايات الحزن إذا نكبت قبيلة، كما فعلت قريش بعد موقعة بدر. وتقام فيها مباريات الفروسية والسباق وغيرها.
وقد سعت قريش لتبقى السوق قائمة في مواقيتها حرصاً على تجارتها، فكانت تهادن قبيلة هوازن وتجنح إلى السلم معها، وكانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى من تختاره العرب، فيبقيها عنده حتى يفرغ أصحابها من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم متى ظعنوا، ومع ذلك فقد وقعت حرب الفِجار في عكاظ [ر. أيام العرب].
وكانت عكاظ من أعظم المنابر الأدبية، لهذا كان للسوق نتائج في حياة العرب وفي لغتهم، فقد كانت قريش أفصحها وأعذبها نطقاً. وكان للشعراء أثرهم في انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل ولاسيما لغة قريش، فكانت عكاظ من أقوى عوامل توحيد لغة العرب وتمازج القبائل والتقارب بينها.
عمرت سوق عكاظ أكثر من قرنين والمرجح أنها بدأت قبل الهجرة بسبعين سنة واستمرت في الإسلام حتى سنة 149هـ حين نهبها الخوارج.
تعليق