Saad Fansa
والدي بشير فنصة 1917-1996
سعد فنصة - خاص بالعربي القديم
كان والدي قد أصدر في العام 1975 مؤلفه الأول بعنوان "برج الصمت" عن احدى دور النشر الشهيرة في بيروت، مع بداية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، في صيف ذات العام كنا للتو قد قمنا وأخي الأكبر بابتكار جهاز بث اذاعي منزلي بمعدات بدائية، مكونة من ميكروفون وآلة تسجيل، وبيك آب قديم، وما الى هنالك من وسائط نقل الصوت بأدوات الكترونية منزلية من ذلك الزمان، نقدم بها عبرها برامج للتسلية والضحك، ونسجل عليها أغاني ساخرة ومقاطع فكاهية من حياتنا اليومية الأسرية، نستهدف فيها بعض الأقرباء والأصدقاء من ثقلاء الظل، ولم تفلت من برامجنا الناقدة بعض الجارات والجيران المجاورين لنا أو القاطنين في حينا السكني آنذاك.
هل يتخيل أحدكم كيف استطعنا قطع الإرسال عن والدي، خلال برنامجه اليومي الإعتيادي المنتظم، بالإستماع بعد وجبة الغداء مباشرة الى نشرة أخبار الساعة الثانية من إذاعة لندن، حيث قدر لنا بعد تجارب سرية وشاقة، دون أن يلتفت الينا أحد، قطع نشرة الأخبار، لحظة اصغاء والدي للموجز، وبث الخبر التالي:
(خلال الأحداث المؤسفة التي تدور رحاها الآن في بيروت، وخلال تبادل القصف المدفعي والصاروخي، بين حزب الكتائب والفصائل الفلسطينية المقاتلة التي يترأسها أبو عمار(ياسر عرفات)، انفجر احد الصواريخ على احدى دور النشر الكبرى في شارع الحمراء بالعاصمة اللبنانية، مما ادى الى احتراق الدار، وقد أورد مراسلنا في بيروت، أن كتاب المؤلف بشير فنصة الصادر منذ أيام قد احترقت جميع نسخه، مع ما احترق من كتب صدرت مؤخرا عن هذه الدار).
.. كان كل شيء معد بعناية ولم يكن ليخطر على افكار والدي المسكين، الذي اضطرب في تلك اللحظة، أن ولداه استطاعا النفاذ الى البث الإذاعي، وايقاف البث الإذاعي الأصلي، وبث هذه الرسالة الإخبارية المزيفة، بصوت مذيع واثق من مستمعه، بعد أن عدَّل من حباله الصوتية لتبدو للمستمع جهيرا.
للوهلة الأولى، وفي تقنيات تلك الأيام لا يمكن لأي سامع إلا أن يُصدق المذاع الذي تبثه الراديو .. فقد كان مقلبا متقنا .. لكنه عرف الحقيقة بعد لحظات من انفجارنا بالضحك.
كنت في حينها في العاشرة من عمري، وشقيقي الأكبر في الخامسة عشر.
بعد عشر سنوات على هذه الحادثة كنت صحفيا شابا، تَنْشُر نصوصي ومقالاتي صحافة بيروت، وأول نقد أدبي تناولت به أدب والدي بعد اصداره مؤلفه (رسالة الراح والأرواح) التي ألفها على غرار نهج رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، بصور هي جد فيها من النقد القاس والمتهكم، الذي لم أندم يوما كما ندمت عليه بعد رحيله، حين وقفت في حفلة تأبينه في عام 1996، وأنا أدير الحوار بين الأدباء الضيوف، أقرأ على مسامع الحشد الغفير، المستغرب، كيف يُقدَّر لصحفي شاب أن ينقد أدب والده، بهذه الجرأة، بل وينشره بالصحافة المقروءة.
وبررت موقفي أمام الملأ بأن بشير فنصة كان كاتبا حراً، متسامحا لأقصى درجات الوعي بأهمية حرية التعبير وابداء الرأي، لكل من خالفه أو عارضه، وكنت الأشد بين أولاده الخمسة في مناقشته، بل ومعارضته بآرائي ومواقفي في الحياة والأدب والسياسة.
وكنت مخطئا وكان هو مصيبا في مجمل مواقفه وتاريخه، وصاحب رؤية بعيدة، دونها في مذكراته التي حملت ذات الأسم ومنعت من النشر، ولم تبصر النور حتى اليوم.
عندما كتب مذكراته في الصحافة والسياسة، بعنوان: (النكبات والمغامرات)، جاءت بأسلوبه وشهادته، أعلى من مذكرات لحدث الإنقلابات العسكرية السورية، وأقل من تأريخ بحكم معرفته وقربه وقرابته من أصحاب القرار ومن كان خلفهم، ولم يورط نفسه، مع أي منهم، بحكم استقلاليته الشديدة، وبُعده عن الظهور والأضواء، كما تورط شقيقه الأصغر نذير في الأحداث العاصفة التي دفعته اليها دفعا، قبل وبعد انقلاب حسني الزعيم في العام 1949.
واليوم تكشف وثائق التاريخ، بعد مرور الزمن وظهور أنواع أخرى من إنقلابي البعث، ثم الطائفة، والحكم الوراثي المدمر، أن هؤلاء العسكريين القدماء بالرغم من أخطائهم الكبرى، نوع قد لايكون مثاليا في الوطنية السياسية الضيقة، إلا أنهم لم يكونوا جواسيسا أو عديمي القيم الوطنية، قياسا الى مرتكبي أحداث اليوم الكارثية والتي دمرت البلاد وشردت العباد.
وبالرغم من حياديته الظاهرة ومنهجيته العلمية في تدوين مذكراته، منعت كذلك، طوال ثلاثين عاما، من زمن كتابتها مطلع سبعينات القرن المنصرم، حتى نهاية تسعينات القرن ذاته، حين استطعت التفاوض مع الرقابة، وحذف بعض النصوص، وتغيير مواقع فصول أخرى، حتى قُدِرَ لي طباعة مخطوطته، ومفاجأته بظهوره الى النور قبيل وفاته بأسابيع قليلة.
أعود الى قضية الحرية، عند بشير فنصة، كما فسرها الأديب الراحل وليد اخلاصي في حديثه عن والدي، بقوله : "بشير فنصة كان مشروعا سياسيا فاشلا في سورية، منذ بدايته أراد أن يلعب لعبة الحرية والديمقراطية، فجاء من أوقفه وأوقفها، لذلك عاش عزلته الشخصية متفرغا للتأليف والترجمة وابدع في ذلك ايما ابداع".
أما صديق تجربته الصحافية الطويلة كتب عنه وعنها، مؤرخا الصحافي المهاجر فيكتور كالوس قائلا: " بشير فنصة من جيل الصحافيين الأوائل، امتاز بأسلوبه الرقيق السهل، وأبى الطعن والهجوم في الآخرين، طوال ممارسة مهنته، واختار حياة التقشف والعزلة، كان له شلة من الأصدقاء يرتاح اليهم، ويسهر معهم بعد انتهاء اعماله اليومية، جمع رهطا من أدباء حلب يساهمون معه في اصدار جريدة اللواء الأسبوعية مع عبد الوهاب وأورخان الميسر الأديب والقصصي، وعمر ابو ريشة وخليل هنداوي وعمر ابو قوس، وخير الدين الأسدي وغيرهم من الأدباء المحترفين، فكانت مجلته زاهية بالمواضيع القيمة والأفكار التقدمية، والإنعتاق من من قيود الماضي".
سجن والدي أول مرة عام 1940 في سجن الرملة ببيروت، عندما نشر في جريدته رغما عن تحذيرات سلطة الإنتداب، خطابا ناريا لسعد الله الجابري كان محظور نشره، يطالب فيه بالثورة والإستقلال الناجزعن الإحتلال الفرنسي.
صدف ان كان معه في زنزانة واحدة المحامي الشهير نجاة قصاب حسن، ونعمة تابت أحد كبار منظري الحزب السوري القومي والذي انشق عن زعيمه انطون سعادة فيما بعد، ويروي لي كيف أنِفَ عن تناول مرقة لحم ذي رائحة منفرة، عرف أنها من بقايا لحوم الخيول التي خرجت من الخدمة، وكانت تذبح وتطبخ وتقدم للسجناء، وبقي طوال مدة سجنه يأكل من بقايا كسر الخبز الجاف التي كانت ترمى اليهم في سجنهم الرهيب. لذلك كان شديد الخوف، حتى أقصى درجات الرعب على أصغر أبنائه، أنا الذي أكتب عنه اليوم، هذه السطور، حين عملت في الصحافة اللبنانية القومية، مطلع نشأتي دون أي تدخل منه، أو موافقته أو حتى اعلامه، وهو الذي مرَّ على معرفته الصحافي الشاب شارل حلو والذي غدا فيما بعد رئيس الجمهورية اللبنانية، حين كان حلو يعمل في صحافة حلب في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، كذلك صداقته مع مؤسس صحافة الفن الناشئ لأول مرة في تاريخ الصحافة العربية، القطب الإعلامي سعيد فريحة، وغيرهم كثر.
أقول كان يخشى ما يخشاه أن يساهم قلمي شديد الوطأة بزجي في غياهب سجون ومعتقلات المنظومة الأمنية القوية لحكم الأسد، بأكثر الأساليب ترويعا وفظاعة مما عاناه هو في مطلع شبابه، لذلك كان يكرر على مسامعي الفروق الجلية بين زمن الإنتداب وزمن حكم الطائفة، بين معتقلات الإنتداب وثقل أيامها وشهورها، وبين سنوات معتقلات التعذيب الأسدية وفظاعة مماراستها، نعم .. لازلت أذكر تحذيراته كما قالها بالأمس، حتى يوم خرجت نهائيا من وطأة وطن الرعب واللصوصية وابواب معتقلاته المشرعة على التهام كل صاحب قلم أو صورة أو صوت أو رأي أو موقف وقفه الى جانب صوت الناس وحراكهم.
في العام 1963 بعد انقلاب البعث ترك والدي دمشق وانتقل الى حلب بعد مرور سنوات من مغادرته، مهنته الصحافية، حين أممت الصحافة رسميا في سورية، وكانت صحيفته الأنباء التي أسسها مع شقيقه الأصغر نذير، قد طويت بقرار التأميم وأصبحت مكاتبها ملكا لجريدة البعث، قبيل مغادرته دمشق نقل اليه في حينه بعض أصدقائه القدماء، مَنْ كان منهم متعاونا أو مصادقا لشعارات حكم البعث الجديد، وسلاطينه آنذاك صلاح الدين البيطار، وميشال عفلق، رئاسة تحرير صحيفة البعث بذات مقرها التي كان يدير منها جريدته السابقة، أو يرأس تحريرها، فرفض قائلا بالحرف:"لست من كان ليُنَصَب صحافيا بين الأقزام" ..
وقد كتبت ذات يوم بعيد الى أديب سوريا الكبير زكريا تامرالذي أعلم علم اليقين انه لم يلتقيه في حياته، بل التقت حروفهم ومدادها على صفحات الجرائد، والجدير ذكره أن أديب القصة القصيرة بفكره الحر والمتجدد، كان يعمل في مطلع سبعينات القرن الماض قارئا للنصوص الأدبية والفكرية لدى وزارة الثقافة بدمشق، وهو الرقيب المُقِر آنذاك بالنشر، الذي سمح بتمرير مؤلف والدي الأول الذي أشرت اليه في مقدمة هذا النص، حين رد الي برسالة رقيقة ختمها بقوله: "والدك كان عملاقا في زمن الأقزام..".
***************************
كل التفاعلات:
Jalal Shekho، وAmer Abdulhai