محمد علي جميل
هذه ترجمة لمقال الكاتب الأسترالي بيتر سالمون حول الأسرار، وفلسفتها، وتاريخها السياسي والاجتماعي، ودورها في إعادة تشكيل هويتنا.
نحن معتادون على اعتبار الأسرار نوعًا من الأمور المخادعة، لأننا عندما نُحاول إخفاء حقيقة ما، فإننا بالأساس نُحاول استغفال شخص ما. مع ذلك، قد تكون الغايات التي نأمل تحقيقها في بعض الأحيان نافعة، مثل الأكاذيب البيضاء التي نخبرها لأصدقائنا، أو كما في حالة حركات المناهضة، بكافة مسمياتها، التي يقسم أعضاؤها على "السرية". لكننا، بشكل عام، اعتدنا على النظر إلى الأسرار بشكل سلبي، وربطها بالأكاذيب دائمًا. أن نملك سرًا ونحافظ عليه، يعني أن نقدّم وجهًا زائفًا للعالم. وعند المواجهة، يتحتّم علينا أن نقول شيئًا غير صحيح. فأن يكون لديك "سرّ" إنما هو شكل من أشكال الخيانة، لأنه عندما أعرف شيئًا لا تعرفه، فأنا أمنعك بالضرورة من الحصول على هذه المعرفة.
قد يكمن الجانب المحدِّد للسرّ في الفعل المتعمد المتمثل في حجب المعرفة عن الآخرين، سواء كانوا أفرادًا أو مجموعة أو حتى مجتمعًا. إذ إنه لا يمكن أن يكون لأحد ما سرًا لا يدركه، بمعنى أن يُقرر المرء عن قصد ووعي عدم الإخبار. ولهذا فالسر شيء لا نصفه بالكلمات ولكننا نقوله لأنفسنا. لا يكون السر سرًا إلا إذا قرر المرء بوعي أن يُعلن لنفسه ما يرغب في الحفاظ عليه كـ "سر"، ويتخذ في الوقت ذاته قرارًا بعدم السماح لأي شخص آخر بسماع الكلمات التي قالها لنفسه.
يرى جاك دريدا أن هناك تاريخًا سريًا للأسرار، وأن هذا التاريخ هو سياسي بالضرورة
إن فكرة الأسرار كانت تثير اهتمامًا كبيرًا لدى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مؤسس "التفكيكية". وعلى غرار الفلاسفة بشكل عام، أظهر دريدا افتتانًا كبيرًا بما يمكن تعريفه على نطاق واسع بأنه "الوعي"، أي الجزء الذي ندركه ونشعر بالارتباط به بشكل وثيق من تفكيرنا. ولهذا يُنظر إلى هذا الجانب من تفكيرنا على أنه جوهر فرديتنا، ذلك أنه يشمل آرائنا الشخصية وتفضيلاتنا وأفكارنا حول مختلف الأمور. كانت هذه الفكرة مركزية في الفلسفة الغربية. فعلى سبيل المثال، ادعى رينيه ديكارت بأن معرفتنا بأننا واعون هو كل ما يمكننا التأكد منه (أنا أفكر إذًا أنا موجود). ومن ناحية أخرى، يعتقد جان بول سارتر بأن الوعي هو أصل حريتنا وضمانها.
في أواخر القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، قام عدد من الفلاسفة ومن بينهم دريدا بتقديم نقد جذري لهذا الموقف. فالافتراض الذي يقول إن لدينا نوعًا من الوصول المباشر إلى الوعي، وأن الوعي في الواقع هو عبارة عن نوع من التعبير الخالص عن ذواتنا، مشكوكٌ فيه بشدة إن لم يكن زائفًا تمامًا. فقدرتنا على الوعي هي بطريقة ما مماثلة لقدرتنا على العد، كلاهما يمكن اكتسابه من التعلّم. وما يثبت ذلك هو أننا عندما ننخرط في تواصل ذاتي – هذا الصوت الذي في رؤوسنا – فإننا نتواصل باستخدام اللغة التي اكتسبناها من المجتمع الذي ننغمس فيه، ما يعني أنني لو كنت في وقت أو مكان مختلف، فسوف "أفكر" حينها بشكل مختلف في كل شيء. ترى الحجة أنه لا يوجد "أنا" أساسي نقي تحت جميع أنماط التفكير التي اكتسبتها. الصوت الذي في رأسي ليس صوتي.
تجربته الخاصة كانت مثيرة، فإن هشاشة الهوية وعدم القدرة على التنبؤ بها هي جوانب مشتركة، إلى حد ما، بين جميع البشر. الشخص الذي أنا عليه أثناء الكتابة مختلف عن الشخص الذي أُصبح عليه عندما أقضي الوقت مع الأصدقاء، أو عندما أنخرط في علاقة حميمة، أو حتى عندما أزور الطبيب. ويمكن أن يختلف وضعي القانوني اعتمادًا على التغييرات في القوانين سواء في أوقات الحرب أو عند الانتقال أو طلب اللجوء (أظهر دريدا اهتمامًا خاصًا بهذا الموضوع؛ فإذا طلب الفرد اللجوء، فإنه يتم تصنيفه على أنه "لاجئ". هذا التمييز يتجاوز مهنته السابقة. تقول إحداهن: "كنت طبيبة في أوكرانيا، وأنا الآن عامة نظافة في لندن").
ماذا عن السر إذًا؟ إذا كان السر حقًا هو ما أخبره لنفسي وحسب، فالسؤال هنا: هل يوجد ما يجعلني "أنا" بشكل خاص، متجاوزًا حتى الأدوار الاجتماعية التي أُشارك فيها؟ من دون الآخر، هل يمكن أن يكون هناك سر؟ وهل يعتمد السر حقًا على وجود الآخرين؟
إجابة دريدا على هذه الفكرة تعدّ معقدة (كما هو حال علاقة دريدا بأي فكرة أخرى). ما يثير اهتمامه دومًا هو مكامن السرية في حياتنا وخطاباتنا وعلاقاتنا. يرى دريدا أن هناك تاريخًا سريًا للأسرار، وهذا التاريخ هو تاريخ سياسي بالضرورة، فالدولة الشمولية يمكن تعريفها بالنسبة إليه كدولة لا يسمح لأفرادها بامتلاك الأسرار، وتُعد رواية جورج أورويل "1948" أقرب مثال على هذه الفكرة. فالسر الذي يحتفظ به وينستون سميث هو حبه لجوليا. إنه مجبر على الكشف عن هذا السر، وكنتيجة لذلك تتحول مشاعره نحو حُب "الأخ الأكبر". وهذا الأمر موجود في دول شمولية أخرى، فأن يكون لديك سر يعني أن تكون خائنًا، والهدف من محاكمتك هنا ليس المعاقبة فقط، بل إظهار هيمنة الدولة على كل جانب من جوانب حياة الفرد. ففي مثل هذه الأنظمة القمعية يكون من المحرّم على الأفراد امتلاك أسرار.
في الوقت الذي يمكننا فيه اعتبار هذه الحالات متطرفة، فإنه من المهم أيضًا ملاحظة أن هذا الوضع لا يقتصر على الأنظمة الشمولية وحدها، ففي المجتمعات الديمقراطية مثلًا، هناك دومًا نقاش يدور حول ما تستطيع الدولة فعله للوصول إلى أسرارنا، وهذه بالأساس قضايا خلافية، فمحاكمتك من قِبل الدولة تعني مصادرة جوانب مختلفة من خصوصيتك بما في ذلك الأسرار. لو تنبهنا إلى إن عددًا كبيرًا من ضماناتنا القانونية بُني على المبدأ الأساسي المتمثل في أننا لا نستطيع الوصول بحرية إلى أسرار الآخرين، سنلاحظ أنه من الضروري إثبات النيّة الإجرامية أو القصد الجنائي للإدانة، ومع ذلك فإن فكرة النيّة نفسها تظل مفهومًا معقدًا ومراوغًا.
إن فكرة السر عند دريدا مرتبطة ارتباطًا معقدًا بفكرة "الاعتراف"، سواء كان ذلك سياسيًا أو شخصيًا أو دينيًا. والأهم من ذلك هو أنه ليس بالضرورة أن يتم الإكراه على الاعتراف أو فرضه. يمكن أن يكون الاعتراف تعبيرًا عن الحُبّ. فعندما أفصح عن "أعمق أسراري" يعني، ووفقًا للاعتقاد الشائع، أنني "أخبرك من أكون"، أو بالأحرى أُظهر لك من أنا حقًا. هذا النوع من الإفصاح يجعلني بإرادتي شفافًا ومنفتحًا مع الآخر، وأدعو للانفتاح المتبادل. أثق بك/ أحبك كثيرًا حتى أنه ليس لدي أي أسرار. ويمكن أن يكون الاعتراف أيضًا بمثابة تعبير عن الصداقة العميقة، وهو موضوع آخر استكشفه دريدا. فعندما يقول أحدهم: هل تريد أن تعرف سرًا؟ لا يأسرنا السؤال غير المشروع بقدر ما نشعر بالاندماج داخل مجتمع، حتى ولو كان مكونًا من شخصين فقط، نتشارك فيه أسرارنا.
ومن خلال ما ذُكر سابقًا يكون الاعتراف في الواقع، سواء كان بالإكراه أو غير ذلك، فعل للكشف عن الذات. في رواية جورج أورويل "1984"، يكشف وينستون عن سره ويُدمِّر "ذاته". إذا اعترفت لك بأسراري، فستصبح حينها جزءًا من ذاتي، وتشاركني هذا الجانب. ولهذا ثمة اعتقاد شائع ومتجذّر، في الفهم المشترك والنُظم القانونية، بأن هناك علاقة مباشرة بين أسرارنا وهوياتنا الفردية. ولهذا الاعتقاد أهمية كبيرة في التقاليد الدينية، حيث العلاقة بين الدين والأسرار عميقة وطويلة الأمد.
وتُعتبر الممارسة الكاثوليكية للاعتراف نموذجًا مثاليًا على هذا المفهوم، ففي طقوس الاعتراف أفصح عن أسراري للكاهن وأسمح بالكشف عن ذاتي الحقيقية؛ الذات التي لا يعرفها إلا الله وحسب. وإخفاء الأسرار أثناء الاعتراف يخلق انفصالًا بين الذات التي أقدمها لله والذات الحقيقية التي يعرفها الله بالفعل. ويُنظر إلى حجب المعلومات عن ممثل الله في الأرض على أنه خيانة ممّا يؤدي إلى الشعور بالذنب الكاثوليكي الذي ينشأ من الامتناع عن الاعتراف، ومن التجاوزات غير المعلنة المرتكبة في الأفكار والأفعال.
لقد كان اهتمام دريدا، كما تشير الفيلسوفة أجاتا بيليك روبسون في كتابها المميز "Derrida's Marrano Passover" (2022)، بمجموعة دينية معينة هو الذي فتح حواره الخاص مع فكرة الأسرار. وكانت هذه المجموعة تحديدًا سرية بشكل لا يُتوقع لدرجة أنها نسيت أمر إخفاء وجودها حتى عن نفسها.
في الرابع من حزيران/ يونيو لسنة 1391، وقعت مذبحة لليهود في إسبانيا والبرتغال. هاجمت حشود غاضبة منازل في إشبيلية وأماكن للعبادة وقتلت حوالي 4000 يهودي. لم يهاجم الغوغاء المستوطن اليهودي فحسب، بل كانوا يمثلون أيضًا المظهر الأولي للتعصب الديني الذي سيمهد، بعد قرن من الزمان، الطريق إلى محاكم التفتيش. امتد الهجوم عبر شبه الجزيرة الإسبانية ووصل إلى مدن مثل قرطبة وفالنسيا وبرشلونة، ثم وصل جزر البَليار في غرناطة، ممّا أدى إلى اختفاء اليهود.
يعتقد دريدا أننا قادرون على الحفر واستكشاف الأعماق الخفية لكياننا، لكننا لن نستطيع أبدًا الكشف عن الجوهر الحقيقي أو الطبيعة الأساسية لوجودنا
لم يكن مصير كل يهودي مفقود هو الموت، إذ أُجبر عدد كبير منهم على الخضوع واعتناق الإيمان الكاثوليكي رغمًا عنهم. "المسيحيون الجُدد" الذين أُجبروا على اعتناق المسيحية كانوا قد حصلوا على تسميات مختلفة، مثل "المتحوّلين" أو "الأنوسيم – anusim" (التي تعني اليهود الذين أُجبروا على اعتناق ديانة أخرى)، أو "اليهود المتخفين". لكن التسمية الأكثر شهرة كانت "الخنازير القذرة" (في الإشارة إلى أن رفض اليهود أكل لحم الخنزير لم يكن من قبيل الصدفة): المارانوس¹. وما لفت نظر دريدا هو قدرتهم على التحمُّل التي لا تتزعزع. لقد استخدموا الحيل المعقدة لإخفاء إيمانهم اليهودي المستمر والمستتر في ذات الوقت، مثل إيجاد طرق لتجنب العمل في يوم السبت، وكانت إحدى الطرق الشائعة آنذاك هي وضع طفل خلف طاولات محلاتهم ليُبلغ الذين يستقصون أخبار آبائهم بأنهم قد خرجوا للحظات وسيعودون، بالإضافة إلى أنهم اعتنقوا العادات الكاثوليكية التي كانت متوافقة مع معتقداتهم اليهودية، وتجنبوا عمدًا التعاليم والممارسات التي أعلنت الطبيعة الإلهية للمسيح.
على مدار القرون الستة الماضية لم تحمي هذه الحيل "المارانوس" من الاضطهاد فحسب، بل أدت أيضًا إلى ظهور دين جديد غير مرتبط بمصادره الأصلية. فقد أدت سرية الجماعة إلى تطور ممارساتها بحيث أصبحت مزيجًا من المسيحية الظاهرية واليهودية السرية، ولكنها في الحقيقة منفصلة عن كليهما. وقد ضاعت الكثير من الطقوس اليهودية التقليدية عند المارانوس. والمفارقة أن هؤلاء، "أهل الكتب" لا توجد لديهم نصوص مكتوبة، وأن ممارساتهم الدينية تشكلت دون توجيه من مثل هذه النصوص. ولا يقتصر الأمر على هذا فحسب، إذ إن الطقوس المسيحية نفسها خضعت بدورها للتحول، حيث أدى تشابكها مع العناصر اليهودية إلى تشكيل ممارسات هجينة والعكس صحيح.