أفلام مختارة
فيلم ميموريا وسينما التأمل
سبنما العالم
هناك حقائق لا يمكن تجاوزها. منها استحالة نقل صورة كاملة ومطابقة تماما إلى شخص آخر، عن حلم أو لون أو رائحة أو صوت، مهما وصفنا وقلنا وحاولنا. وهناك أيضا فرضية علمية تقول إن الصوت لا ينتهي إلى العدم وإن كل الأصوات التي سمعتها الكرة الأرضية وأنتجتها منذ الأزل موجودة في مكان ما في الأجواء المحيطة بنا، لكن الإنسان لا يملك حاليا قدرات تقنية تمكنه من التقاطها.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم بعضا مما حاول المخرج التايلندي "أبيشاتبونغ ويراسيتاكول" عرضه في فيلمه "الذاكرة Memoria" وهو فيلم غموض مع نَفَس غرائبي يقودنا إلى نهاية غير متوقعة.
كان أول عرض لهذا الفيلم في مهرجان كان حيث حصل على جائزة لجنة التحكيم وهو من إنتاج 2021. وهو أيضا أول فيلم للمخرج خارج بلده، وبلغة مختلفة، ويعتمد على دراما ذات معان عديدة مضمرة إضافة لكونها تنتمي إلى نوع السينما البطيئة، أو سينما التأمل.
في القصة امرأة اسكتلندية متخصصة في علم النبات تصل إلى كولومبيا لزيارة شقيقتها هناك. وهي تتحدث الإسبانية بما يكفي لتدبير أمورها والتفاهم مع الآخرين. وقبيل الفجر بقليل تستيقظ على صوت دوي لم تفهم ولم تعرف مصدره، وستستمر عدم المعرفة هذه حتى النهاية.
اسمها جيسيكا ويبدو أنها الوحيدة التي تسمع ذلك الصوت الذي راح يتكرر مرات ومرات. ولكي تفهم أكثر حاولت الاستعانة بفني ستوديو ليساعدها في إنتاج الصوت نفسه، اعتمادا على وصفها. وهو أمر مستحيل بالطبع.
وضمن مسعاها للفهم تقودها خطواتها إلى خارج المدينة حيث تلتقي رجلا يحمل اسم فني الستوديو نفسه ويقول إنه يتذكر كل شئ. وقبل ذلك تلتقي بعالمة آثار تحدثها عن الماضي، ثم عن الحاضر.
وهنا بيت القصيد كما يبدو. فالمخرج مغرم بظواهر ما وراء الطبيعة وبالأسرار التي تحيط بوجود الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي يولد ويعيش ويفكر ويموت دون أن يفهم على وجه التحديد لماذا وُجد ولماذا يموت.
هذه الهموم تقود هذا المخرج نحو توظيف قضايا لا يمكن إعادة إنتاجها على الإطلاق. مثل الصوت … ومثل الذكريات أيضا. رجل الغابة يتذكر كل شئ ويؤكد أنه لم يغادر موقعه على الإطلاق لأن أي تجربة جديدة ستضر بذاكرته. أما هي فتتذكر ما يتذكر !!! وتستعيد أصواتا من خارج هذا العالم ومن خارج الحياة التي عاشتها وخبرتها ومرت بها.
يرى نقاد أن نهاية القصة لا تعني الكثير بل رحلة هذه المرأة ومرورها بتفاصيل عديدة هي المهمة وهو ما يركز عليه المخرج. فهو يرصد كل التفاصيل الصغيرة التي تروي القصة في النهاية ضمن ما يدعى بسينما التأمل.
فما هي سينما التأمل ؟
تلك طريقة في صناعة الأفلام لها مريدوها وأبطالها. وأهم ما يميزها أنها لا تعتمد الكثير من الحوار إذ يمكن عرض القصة كلها بلقطات ومشاهد طويلة وثابتة تُشعر المشاهد أحيانا أن خللا ما أصاب جهاز العرض. ولكن لا، هذه المشاهد الطويلة الثابتة حيث لا تتحرك الكاميرا إلا قليلا هي التي تروي القصة وهي التي تشحذ البصر والفكر، كما إنها تطرح نظرة فلسفية خاصة جدا.
سينما التأمل وتُسمى أيضا السينما البطيئة تبتعد عن اللقطات المتتابعة السريعة وتفسح المجال للتفكير والانغماس وتحمل في طياتها معاني عديدة مضمرة، منها سياسية بالطبع.
في ميموريا نعود إلى تاريخ كولومبيا الدامي، حيث يختبئ أطفال من رجال يمارسون العنف، بغض النظر عن دوافعهم.
وما يميز هذا النوع من الأفلام أيضا دقة استخدام الأصوات المرتبطة بالمشهد، أي الأصوات الطبيعية جدا.
الفيلم العادي يروي لك القصة بطريقته الخاصة من خلال الحوار والحركات وتتابع المشاهد واللقطات ويوفر على المتفرج جهد الفهم والتعمق. أما الفيلم البطئ فيضعك أمام كادر وداخل مشهد تتنقل في كل زواياه كي تفهم، وهذا الجهد هو ما يميز بين النوعين من الأفلام.
ومع ذلك، لا يمكن القول بأن الكل يحب مشاهدة هذا النوع لأنها بطيئة ولأن البعض يعتبرها مملة.
يتفق نقاد على أن أداء تيلدا سوينتون في فيلم ميموريا فاق كل أدوارها السابقة وأسماها البعض ملكة الشاشة الثابتة. أما المخرج أبيشاتبونغ ويراسيتاكول Apichatpong Weerasethakul فهو معروف بغرابة أطواره وغرائبية أفلامه وهو تايلندي سبق أن حصل فيلمه "العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة" على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في عام 2010.
مما يجدر ذكره هنا هو أن هذا الفيلم لم يُعرض على منصات عرض الأفلام على الإطلاق بل تم التعامل معه على أنه إنتاج فني، مثل معرض فن حقيقي، حيث نُظمت له جولة في مدن مختلفة لا يُعرض فيها إلا مرة واحدة في وقت واحد.
وأعود إلى السينما البطيئة لأذكر بأهم مخرجيها المعروفين وهم السويدي إنغمار بيرغمان والروسي أندريه تاركوفسكي ومواطنه الكسندر سوكوروف والفليبيني لاف دياز والهنغاري بيلا تار والروماني كرستيان مونغيو ومواطنه كورنيليو بورومبيو والياباني ياشوجيرو اوزو والفرنسي جاك ريفيت والإيطالي مايكل انجلو انتونيوني، والتركي نوري بيلغي سيلان والبريطاني بيتر واتكنز واليوناني ثيو انجيلوبولوس، والبلجيكية شانتال آكرمان وأخيرا وأهمهم جميعا هو تساي منغليانغ من تايوان.
من الأفلام البطيئة أو أفلام التأمل الأخرى وهي لمخرجين آخرين فيلم "دوغفيل" للدنماركي لارس فون تريير Lars Von Trier من إنتاج عام 2003 وبطولة نيكول كيدمان و "يوم القيامة الآن" لفرنسيس فورد كوبولا من إنتاج 1979 وفيلم "روما" للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون إنتاج 2018، وفيلم البقرة الأولى إنتاج 2019 للأميركية كيلي ريتشاردت.
فيلم ميموريا وسينما التأمل
سبنما العالم
هناك حقائق لا يمكن تجاوزها. منها استحالة نقل صورة كاملة ومطابقة تماما إلى شخص آخر، عن حلم أو لون أو رائحة أو صوت، مهما وصفنا وقلنا وحاولنا. وهناك أيضا فرضية علمية تقول إن الصوت لا ينتهي إلى العدم وإن كل الأصوات التي سمعتها الكرة الأرضية وأنتجتها منذ الأزل موجودة في مكان ما في الأجواء المحيطة بنا، لكن الإنسان لا يملك حاليا قدرات تقنية تمكنه من التقاطها.
من هذا المنطلق يمكن أن نفهم بعضا مما حاول المخرج التايلندي "أبيشاتبونغ ويراسيتاكول" عرضه في فيلمه "الذاكرة Memoria" وهو فيلم غموض مع نَفَس غرائبي يقودنا إلى نهاية غير متوقعة.
كان أول عرض لهذا الفيلم في مهرجان كان حيث حصل على جائزة لجنة التحكيم وهو من إنتاج 2021. وهو أيضا أول فيلم للمخرج خارج بلده، وبلغة مختلفة، ويعتمد على دراما ذات معان عديدة مضمرة إضافة لكونها تنتمي إلى نوع السينما البطيئة، أو سينما التأمل.
في القصة امرأة اسكتلندية متخصصة في علم النبات تصل إلى كولومبيا لزيارة شقيقتها هناك. وهي تتحدث الإسبانية بما يكفي لتدبير أمورها والتفاهم مع الآخرين. وقبيل الفجر بقليل تستيقظ على صوت دوي لم تفهم ولم تعرف مصدره، وستستمر عدم المعرفة هذه حتى النهاية.
اسمها جيسيكا ويبدو أنها الوحيدة التي تسمع ذلك الصوت الذي راح يتكرر مرات ومرات. ولكي تفهم أكثر حاولت الاستعانة بفني ستوديو ليساعدها في إنتاج الصوت نفسه، اعتمادا على وصفها. وهو أمر مستحيل بالطبع.
وضمن مسعاها للفهم تقودها خطواتها إلى خارج المدينة حيث تلتقي رجلا يحمل اسم فني الستوديو نفسه ويقول إنه يتذكر كل شئ. وقبل ذلك تلتقي بعالمة آثار تحدثها عن الماضي، ثم عن الحاضر.
وهنا بيت القصيد كما يبدو. فالمخرج مغرم بظواهر ما وراء الطبيعة وبالأسرار التي تحيط بوجود الإنسان نفسه، هذا الإنسان الذي يولد ويعيش ويفكر ويموت دون أن يفهم على وجه التحديد لماذا وُجد ولماذا يموت.
هذه الهموم تقود هذا المخرج نحو توظيف قضايا لا يمكن إعادة إنتاجها على الإطلاق. مثل الصوت … ومثل الذكريات أيضا. رجل الغابة يتذكر كل شئ ويؤكد أنه لم يغادر موقعه على الإطلاق لأن أي تجربة جديدة ستضر بذاكرته. أما هي فتتذكر ما يتذكر !!! وتستعيد أصواتا من خارج هذا العالم ومن خارج الحياة التي عاشتها وخبرتها ومرت بها.
يرى نقاد أن نهاية القصة لا تعني الكثير بل رحلة هذه المرأة ومرورها بتفاصيل عديدة هي المهمة وهو ما يركز عليه المخرج. فهو يرصد كل التفاصيل الصغيرة التي تروي القصة في النهاية ضمن ما يدعى بسينما التأمل.
فما هي سينما التأمل ؟
تلك طريقة في صناعة الأفلام لها مريدوها وأبطالها. وأهم ما يميزها أنها لا تعتمد الكثير من الحوار إذ يمكن عرض القصة كلها بلقطات ومشاهد طويلة وثابتة تُشعر المشاهد أحيانا أن خللا ما أصاب جهاز العرض. ولكن لا، هذه المشاهد الطويلة الثابتة حيث لا تتحرك الكاميرا إلا قليلا هي التي تروي القصة وهي التي تشحذ البصر والفكر، كما إنها تطرح نظرة فلسفية خاصة جدا.
سينما التأمل وتُسمى أيضا السينما البطيئة تبتعد عن اللقطات المتتابعة السريعة وتفسح المجال للتفكير والانغماس وتحمل في طياتها معاني عديدة مضمرة، منها سياسية بالطبع.
في ميموريا نعود إلى تاريخ كولومبيا الدامي، حيث يختبئ أطفال من رجال يمارسون العنف، بغض النظر عن دوافعهم.
وما يميز هذا النوع من الأفلام أيضا دقة استخدام الأصوات المرتبطة بالمشهد، أي الأصوات الطبيعية جدا.
الفيلم العادي يروي لك القصة بطريقته الخاصة من خلال الحوار والحركات وتتابع المشاهد واللقطات ويوفر على المتفرج جهد الفهم والتعمق. أما الفيلم البطئ فيضعك أمام كادر وداخل مشهد تتنقل في كل زواياه كي تفهم، وهذا الجهد هو ما يميز بين النوعين من الأفلام.
ومع ذلك، لا يمكن القول بأن الكل يحب مشاهدة هذا النوع لأنها بطيئة ولأن البعض يعتبرها مملة.
يتفق نقاد على أن أداء تيلدا سوينتون في فيلم ميموريا فاق كل أدوارها السابقة وأسماها البعض ملكة الشاشة الثابتة. أما المخرج أبيشاتبونغ ويراسيتاكول Apichatpong Weerasethakul فهو معروف بغرابة أطواره وغرائبية أفلامه وهو تايلندي سبق أن حصل فيلمه "العم بونمي الذي يتذكر حيواته السابقة" على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في عام 2010.
مما يجدر ذكره هنا هو أن هذا الفيلم لم يُعرض على منصات عرض الأفلام على الإطلاق بل تم التعامل معه على أنه إنتاج فني، مثل معرض فن حقيقي، حيث نُظمت له جولة في مدن مختلفة لا يُعرض فيها إلا مرة واحدة في وقت واحد.
وأعود إلى السينما البطيئة لأذكر بأهم مخرجيها المعروفين وهم السويدي إنغمار بيرغمان والروسي أندريه تاركوفسكي ومواطنه الكسندر سوكوروف والفليبيني لاف دياز والهنغاري بيلا تار والروماني كرستيان مونغيو ومواطنه كورنيليو بورومبيو والياباني ياشوجيرو اوزو والفرنسي جاك ريفيت والإيطالي مايكل انجلو انتونيوني، والتركي نوري بيلغي سيلان والبريطاني بيتر واتكنز واليوناني ثيو انجيلوبولوس، والبلجيكية شانتال آكرمان وأخيرا وأهمهم جميعا هو تساي منغليانغ من تايوان.
من الأفلام البطيئة أو أفلام التأمل الأخرى وهي لمخرجين آخرين فيلم "دوغفيل" للدنماركي لارس فون تريير Lars Von Trier من إنتاج عام 2003 وبطولة نيكول كيدمان و "يوم القيامة الآن" لفرنسيس فورد كوبولا من إنتاج 1979 وفيلم "روما" للمخرج المكسيكي ألفونسو كوارون إنتاج 2018، وفيلم البقرة الأولى إنتاج 2019 للأميركية كيلي ريتشاردت.