الفصل الرابع
مناهج دراستة الصورة الفنية
تصنف المناهج الحديثة التي درست الصورة الشعرية حسب مفهوم المصطلح إلى ثلاثة مناهج : المنهج النفسي ، والرمزي ، والفني أو البلاغي.
أولاً - المنهج النفسي :
تعني الصور الشعرية بالدلالة النفسية الإنطباعات الحسية المسترجعة التي يبني بها الفنان عمله ويتلقاها المتلقي ويتأثر بها حين تنبهها كلمات القصيدة ، وكل فنان يختلف عن غيره في طبيعة صوره ، فبينما يرى واحد أنماطاً معينة فان الآخر أنماطاً غيرها أو يلمسها ، في حين يسمع يشم الثالث أو الرابع أنماطاً مباينة ، والوقوف على هذا الإختلاف أو دراسته هو وقوف عند طبيعة ذهن الشاعر ، ودراسة الجوهر تركيبه النفسي ، وبيان لرؤيته المبدعه وخصوصيتها .
وقد قدمت في هذا المجال عدة دراسات : منها دراسات « بري و ( بونل ) و ( دونوي ) و ( توف ) و ( فوغل ) وغيرها (۱) . . .
وربما تكون أشهرها الدراستان الأخيرتان ، وفي الأولى (۱) تزعم الباحثة أن طبيعة بحثها هي التي فرضت عليها هذا الفهم النفسي للصورة لأن الإتجاه الغالب في الشعر الإليزابيتي في القرنين السادس والسابع عشر كان يميل إلى الإنطباع الحسي ، ويتكيء عليه ، وتتساءل الكاتبة بعد إيراد الأمثلة أين تكمن المتشابهات ، بل أين تبدأ وأين وتخلص إلى أن الصورة بغير الدلالة التي آثرتها مضللة في حدود دراستها وتقول : ( إننا يجب ألا نطلب من الصورة سوى أن تحمل إلينا التجربة الحسية الآنية .
أما الدراسة الأخرى فقد قام بها » فوغل » في كتابه « صور كيتس وشللي دراسة مقارنة (۲) وكان يهدف من ورائها إلى أن يرد على تلك الشائعة التي تداولها النقد الحديث ومؤداها أن « شللي » شاعر تجريدي مقفر ، وأن « كيتس » شاعر تجسيدي يطفح فنه بالتلوين واعتمد الباحث في الرد على هذه الشائعة النتائج التي وصلت إليها من قبله دونوي في حديثها عن الخيال الخلاق وأنماط الصور النفسية (۳) ، والمتحركة ، والذوقية ، والشمية ، والسمعية ، واللمسية ، والعضوية .. وانتهى إلى أن الإختلاف بينهما ليس كما صوره النقد الحديث ، فهما يشتر كان أو يقتربان أحدهما من الآخر في الصور الحركية والذوقية والشمية والسمعية ، ويختلفان في بقية الصور ، فكيتس يبدع في استعمال الصور اللمسية والعضوية ، في حين يبدع شللي في الصور المتحركة ، أي أن الإختلاف بينهما يكمن في النوع وليس في القيمة . .
حسية مدر كة وتعترضنا في هذا المنهج النفسي عدة عقبات منها عقبة المفهوم وارتباطه بالحواس ، وعقبة الإلحاح على العنصر الحسي في الشعر بعامة ، وفي الصورة بخاصة ، وفيما يتعلق بالأولى فقد ذهب بعض الدارسين إلى الإعتقاد بأن أي إدراك حسي مسترجع هو صورة . وبلفظ آخر إن أية كلمة يمكن أن تكون صورة ، وهو اعتقاد واسع وعريض فان أية صورة إدراكاً مسترجعاً ترمز رغم مباشرتها إلى شيء ، أو تشير إلى شيء غير مرئي ، شيء داخلي . وقد تكون تقديماً وتمثيلاً : ( لقد طار ليل الخفاش الأسود إن أمامنا على البعد تنبسط صحارى الخلود الشاسعة . . . ) فهل يمكن أن نعتبر الصور بالدلالة هذه ، وكما تراها عين الذهن صوراً واحدة يتفق عليها ؟ أليس كل إدراك . قائماً على الإنتقاء (۱) ؟ ثم هل تنبه القصيدة أو العمل الواحد في أذهان المتلقين أنماطاً واحدة متشابهة من الصور أم أنماطاً تختلف و وتثير أنماطاً متعددة (۲)؟.. ... حسي وسواء أكان الجواب عن هذا التساؤل سلباً أو إيجاباً فان النتيجة الطبيعية لذلك أن أولئك الذين لهم قدرة على تركيب أو رؤية صور متنوعة أفضل من أولئك العاطلين إلا من نمط واحد . وهؤلاء أفضل من العاطلين بتاتاً ، وهكذا فان القصيدة الواحدة تتوقف في طبيعة صورها وأنماطها وعددها على استعدادات المتلقين الطبيعية المختلفة ، كما تتوقف على الأوقات التي يتلقون فيها الأعمال وعلى طبيعة تمرسهم وعادات قراءاتهم ونشاطاتهم ورغباتهم وميولهم ونوازعهم الحسية التي تؤثر وتتأثر لا محالة بالآثار ، وتوجه الصور نحو غايات معينة .
وربما تظهر المشكلة بشكل أعمق عندما نتصور مجموعة من الباحثين أوتوا استعدادات مختلفة ، ثم نموا قدراتهم بمفاهيم دراسية مختلفة ، ثم قدمت إليهم أعمال واحدة فان الأمر المتوقع أن الإتفاق حول طبيعة صور العمل وأنماطها يصل في الغالب إلى درجة الاستحالة . وإذا كانت النتيجة الأولى لذلك كله أن الصور المنبهة عن طريق الحواس المختلفة تقع بين حدين : العدم والتنوع ، فان النتيجة الثانية هي التوصيل في الشعر ، ورأي «ريتشاردز » في هذا الصدد جلي وواضح(۱). والسؤال الآن إذا كنا لا نستطيع أن نصنف المتلقين في مجموعات معينة فكيف نستطيع أن نقدم دراسة منهجية وبطريقة علمية موضوعية نقترب فيها وبها من الصورة الشعرية أو من الفن الأدبي على العموم ؟ . لقد اقترحت ( دونوي ) متأثرة بأبحاث ( ريبو ) (٢) ( ومقدمة مفاهيم جديدة في كتابها الذي كان له أثر بالغ في الدراسات النفسية والأدبية - أن تكون النتيجة المشتركة التي تخلص إليها أعداد كبيرة من المتلقين يعرض عليهم نص واحد في ظروف مختلفة الحكم الفصل في الحديث عن الصور الشعرية (۱) ، ولكن أليست هذه الطريقة الجماعية أصلح ماتكون في المختبرات العلمية منها في المباحث الأدبية ؟ ومع ذلك فربما تكون أفضل من الطريقة الفردية المقابلة التي تثير عادة القضية التقليدية وهي من سيضع المنهج ، ومن سيحدد الصور ؟ ! .
وإذا انتقلنا إلى العقبة الثانية وهي العنصر الحسي في الصورة وفي العمل الشعري فانا نجد أن ثمة معادلة في هذا المجال تقول : صورة تجربة معاشة» ، أي أننا حين نعثر على صورة نعثر على تجربة معاشة حقاً ، وبكلمة أخرى ان الشاعر لابد أن يكون قد رأى أو أدرك حسياً ما يستطيع أن يتخيله ، وعلى هذا الأساس أقامت إحدى الباحثات دراستها عن تراهيرن Traherne معتمدة على صوره وحدها لتتحدث عن حياته دون أن تكون لديها سواها من الوثائق الأدبية ظناً . منها أن تلك الصور نابعة حقاً حياته التي عاشها (٢) ، وهذا الإتجاه خاطيء تماماً فلنعد إلى مناقشة دور الحسية في الصورة الشعرية التي ربطت بها غالباً لأنها من مسبار المنهج .
وفي الحق أن هذا الدور قد اختلف فيه وتباينت وجهات النظر حوله، لابل إن أهميته قد تطورت حسب تطور الفلسفة نفسها ، فحين يقول البعض إن البناء الشعري بناء حسي وتجسيدي ، ينفي فريق آخر هذا
مناهج دراستة الصورة الفنية
تصنف المناهج الحديثة التي درست الصورة الشعرية حسب مفهوم المصطلح إلى ثلاثة مناهج : المنهج النفسي ، والرمزي ، والفني أو البلاغي.
أولاً - المنهج النفسي :
تعني الصور الشعرية بالدلالة النفسية الإنطباعات الحسية المسترجعة التي يبني بها الفنان عمله ويتلقاها المتلقي ويتأثر بها حين تنبهها كلمات القصيدة ، وكل فنان يختلف عن غيره في طبيعة صوره ، فبينما يرى واحد أنماطاً معينة فان الآخر أنماطاً غيرها أو يلمسها ، في حين يسمع يشم الثالث أو الرابع أنماطاً مباينة ، والوقوف على هذا الإختلاف أو دراسته هو وقوف عند طبيعة ذهن الشاعر ، ودراسة الجوهر تركيبه النفسي ، وبيان لرؤيته المبدعه وخصوصيتها .
وقد قدمت في هذا المجال عدة دراسات : منها دراسات « بري و ( بونل ) و ( دونوي ) و ( توف ) و ( فوغل ) وغيرها (۱) . . .
وربما تكون أشهرها الدراستان الأخيرتان ، وفي الأولى (۱) تزعم الباحثة أن طبيعة بحثها هي التي فرضت عليها هذا الفهم النفسي للصورة لأن الإتجاه الغالب في الشعر الإليزابيتي في القرنين السادس والسابع عشر كان يميل إلى الإنطباع الحسي ، ويتكيء عليه ، وتتساءل الكاتبة بعد إيراد الأمثلة أين تكمن المتشابهات ، بل أين تبدأ وأين وتخلص إلى أن الصورة بغير الدلالة التي آثرتها مضللة في حدود دراستها وتقول : ( إننا يجب ألا نطلب من الصورة سوى أن تحمل إلينا التجربة الحسية الآنية .
أما الدراسة الأخرى فقد قام بها » فوغل » في كتابه « صور كيتس وشللي دراسة مقارنة (۲) وكان يهدف من ورائها إلى أن يرد على تلك الشائعة التي تداولها النقد الحديث ومؤداها أن « شللي » شاعر تجريدي مقفر ، وأن « كيتس » شاعر تجسيدي يطفح فنه بالتلوين واعتمد الباحث في الرد على هذه الشائعة النتائج التي وصلت إليها من قبله دونوي في حديثها عن الخيال الخلاق وأنماط الصور النفسية (۳) ، والمتحركة ، والذوقية ، والشمية ، والسمعية ، واللمسية ، والعضوية .. وانتهى إلى أن الإختلاف بينهما ليس كما صوره النقد الحديث ، فهما يشتر كان أو يقتربان أحدهما من الآخر في الصور الحركية والذوقية والشمية والسمعية ، ويختلفان في بقية الصور ، فكيتس يبدع في استعمال الصور اللمسية والعضوية ، في حين يبدع شللي في الصور المتحركة ، أي أن الإختلاف بينهما يكمن في النوع وليس في القيمة . .
حسية مدر كة وتعترضنا في هذا المنهج النفسي عدة عقبات منها عقبة المفهوم وارتباطه بالحواس ، وعقبة الإلحاح على العنصر الحسي في الشعر بعامة ، وفي الصورة بخاصة ، وفيما يتعلق بالأولى فقد ذهب بعض الدارسين إلى الإعتقاد بأن أي إدراك حسي مسترجع هو صورة . وبلفظ آخر إن أية كلمة يمكن أن تكون صورة ، وهو اعتقاد واسع وعريض فان أية صورة إدراكاً مسترجعاً ترمز رغم مباشرتها إلى شيء ، أو تشير إلى شيء غير مرئي ، شيء داخلي . وقد تكون تقديماً وتمثيلاً : ( لقد طار ليل الخفاش الأسود إن أمامنا على البعد تنبسط صحارى الخلود الشاسعة . . . ) فهل يمكن أن نعتبر الصور بالدلالة هذه ، وكما تراها عين الذهن صوراً واحدة يتفق عليها ؟ أليس كل إدراك . قائماً على الإنتقاء (۱) ؟ ثم هل تنبه القصيدة أو العمل الواحد في أذهان المتلقين أنماطاً واحدة متشابهة من الصور أم أنماطاً تختلف و وتثير أنماطاً متعددة (۲)؟.. ... حسي وسواء أكان الجواب عن هذا التساؤل سلباً أو إيجاباً فان النتيجة الطبيعية لذلك أن أولئك الذين لهم قدرة على تركيب أو رؤية صور متنوعة أفضل من أولئك العاطلين إلا من نمط واحد . وهؤلاء أفضل من العاطلين بتاتاً ، وهكذا فان القصيدة الواحدة تتوقف في طبيعة صورها وأنماطها وعددها على استعدادات المتلقين الطبيعية المختلفة ، كما تتوقف على الأوقات التي يتلقون فيها الأعمال وعلى طبيعة تمرسهم وعادات قراءاتهم ونشاطاتهم ورغباتهم وميولهم ونوازعهم الحسية التي تؤثر وتتأثر لا محالة بالآثار ، وتوجه الصور نحو غايات معينة .
وربما تظهر المشكلة بشكل أعمق عندما نتصور مجموعة من الباحثين أوتوا استعدادات مختلفة ، ثم نموا قدراتهم بمفاهيم دراسية مختلفة ، ثم قدمت إليهم أعمال واحدة فان الأمر المتوقع أن الإتفاق حول طبيعة صور العمل وأنماطها يصل في الغالب إلى درجة الاستحالة . وإذا كانت النتيجة الأولى لذلك كله أن الصور المنبهة عن طريق الحواس المختلفة تقع بين حدين : العدم والتنوع ، فان النتيجة الثانية هي التوصيل في الشعر ، ورأي «ريتشاردز » في هذا الصدد جلي وواضح(۱). والسؤال الآن إذا كنا لا نستطيع أن نصنف المتلقين في مجموعات معينة فكيف نستطيع أن نقدم دراسة منهجية وبطريقة علمية موضوعية نقترب فيها وبها من الصورة الشعرية أو من الفن الأدبي على العموم ؟ . لقد اقترحت ( دونوي ) متأثرة بأبحاث ( ريبو ) (٢) ( ومقدمة مفاهيم جديدة في كتابها الذي كان له أثر بالغ في الدراسات النفسية والأدبية - أن تكون النتيجة المشتركة التي تخلص إليها أعداد كبيرة من المتلقين يعرض عليهم نص واحد في ظروف مختلفة الحكم الفصل في الحديث عن الصور الشعرية (۱) ، ولكن أليست هذه الطريقة الجماعية أصلح ماتكون في المختبرات العلمية منها في المباحث الأدبية ؟ ومع ذلك فربما تكون أفضل من الطريقة الفردية المقابلة التي تثير عادة القضية التقليدية وهي من سيضع المنهج ، ومن سيحدد الصور ؟ ! .
وإذا انتقلنا إلى العقبة الثانية وهي العنصر الحسي في الصورة وفي العمل الشعري فانا نجد أن ثمة معادلة في هذا المجال تقول : صورة تجربة معاشة» ، أي أننا حين نعثر على صورة نعثر على تجربة معاشة حقاً ، وبكلمة أخرى ان الشاعر لابد أن يكون قد رأى أو أدرك حسياً ما يستطيع أن يتخيله ، وعلى هذا الأساس أقامت إحدى الباحثات دراستها عن تراهيرن Traherne معتمدة على صوره وحدها لتتحدث عن حياته دون أن تكون لديها سواها من الوثائق الأدبية ظناً . منها أن تلك الصور نابعة حقاً حياته التي عاشها (٢) ، وهذا الإتجاه خاطيء تماماً فلنعد إلى مناقشة دور الحسية في الصورة الشعرية التي ربطت بها غالباً لأنها من مسبار المنهج .
وفي الحق أن هذا الدور قد اختلف فيه وتباينت وجهات النظر حوله، لابل إن أهميته قد تطورت حسب تطور الفلسفة نفسها ، فحين يقول البعض إن البناء الشعري بناء حسي وتجسيدي ، ينفي فريق آخر هذا
تعليق