في عتمة الأنفاق تحت الأرض، تبني فئران الخلد أعشاشها آمنة من كل المخاطر عميقًا تحت التراب. الغريب، أن نوعًا معينًا من هذه الفئران دائمًا ما يفضل بناء أعشاشه في الاتجاه الجنوبي الشرقي من الوكر.
يبقى تفضيلها لهذا الاتجاه لغزًا، لكن المُثير للدهشة أنه حتى في ظلمة الأنفاق الكاحلة تبقى لهذه الفئران الحافرة، التي بالكاد تستطيع الرؤية في أفضل الظروف، القدرة على معرفة الاتجاه.
لطالما عرفنا أن بعض الكائنات الحية كالطيور تستطيع استشعار المجال المغناطيسي لكوكب الأرض، وحديثًا اكْتُشِفَ أن الكلاب وفئران الخلد أيضًا تستطيع فعل هذا. لكن ما يبقى سرًا هو الآلية البيولوجية لهذه الحاسة. فالعلماء لا يعلمون حتى مكان تموضع هذه المستشعرات المغناطيسية ضمن جسد هذه الحيوانات.
اقترحت فرضية حديثة أن منشأ الحاسة المغناطيسية لفأر الخلد قد يكون من بكتيريا مغنطيسية التكتيك magnetotactic bacteria (أي أنها تعتمد على المجال المغناطيسي لتعرف بيئتها) تعيش ضمن جسده. لكن مجموع الأدلة الحالية تشير إلى أن هذه الحاسة تنشأ من جزيئات وعناصر ذات خواص مغناطيسية تسمى مغنيتيت magnetite.
يوضح بعض الباحثين من جامعة دويسبورغ إيسن في ألمانيا بعد دراستهم المعمقة لفأر الخلد إلسن ذي الاسم العلمي Fukomys anselli أن حاسته في استشعار المجال المغناطيسي لكوكب الأرض تعمل مستقلةً عن الضوء، فهي لا تتأثر بموجات الراديو، إنما بالنبضات المغناطيسية القوية.
تعيش فئران الخلد ضمن مُستعمرات تضم نحو عشرة أفراد وهي الوحيدة من بين جميع الثدييات (باستثناء الإنسان) القادرة على بناء أطول الأنفاق تحت الأرض. ما يميز هذه الفئران أنها كائنات اجتماعية متعاونة بشدة لدرجة أنها في بعض الأحيان تكون ودودةً مع جيرانها في المستعمرات القريبة وقد تربط بعض المستعمرات مع بعضها عبر أنفاق قصيرة.
مجموعة من فئران الخلد تعانق بعضها في المخبر. المصدر (Kai Robert Caspar).
يكون فأر الخلد كثير الزغب بجسد متطاول مع ذيل قصير سميك وأسنان كبيرة بارزة تتموضع فوق شفتين مغلقتين. تستطيع قواطع الفك السفلي أن تتحرك مستقلة عن بعضها. وبالإضافة إلى استخدامها في مهامه الاعتيادية مثل الحفر، فإنها تُستَخْدم عادةً في القتال في أثناء اللعب. تكون أعينها صغيرةً، يصل قطرها لحدود مليمترين فقط، ما يجعل قدرتها على الرؤية ضعيفةً جدًا، ويكون الاستخدام الوحيد لها هو التفرقة بين الظلام والنور.
وفي هذا يقول عالم الحيوانات والباحث الرئيسي كاي كاسبر لمجلة New scientist في وصفه لأعين فأر الخلد «لا يستخدم فأر الخلد البصر للتنقل ضمن بيئته، فالرؤية ليست مهمة إطلاقًا له».
وجدت دراسة سابقة أن تعطيل وظيفة العينين لفأر الخلد باستخدام التخدير يقضي على قدرته في بناء الأعشاش في موقعه المفضل، أي الجزء الجنوبي الشرقي من الوكر، بينما بقيت قدرته على التمييز بين الضوء والظلام موجودة. لكن لم يستطع الباحثون في هذه الدراسة نفي عدم وصول المادة المخدرة إلى الدم وتأثيرها بذلك في أعضاء أخرى غير العين.
لهذا قرر كاسبر مع مجموعة من زملائه اعتماد طريقة أكثر جزمًا في تحديد الموقع الرئيسي لحساسات المجال المغناطيسي عند فأر الخلد.
هذا عنى للأسف استئصال أعين بعض فئران الخلد الموجودة في المخبر بعملية جراحية تسمى استئصال العين التام enucleation.
بعد سنة ونصف من العملية، درس الباحثون الفئران التي اسْتُئصِلت أعينها، ووجدوا أن السلوك اليومي لهذه الفئران لم يختلف بتاتًا عن الفئران الأخرى السليمة التي لم تخضع للعملية. فالفئران التي بلا أعين كانت قادرةً تمامًا على الحفر، والعناية ببعضها واللعب والقتال.
قال فريق الباحثين في ورقتهم: «إن كل الفئران مُستَأصَلة الأعين كانت أعضاءً فاعلةً ضمن أسرها، واستطاع الكثير منها الإنجاب والتربية والاعتناء بأطفالها».
فور تمام العملية الجراحية، أنشأ الباحثون بيئةً مناسبةً وخاصة لفئران الخلد للتعشيش فيها. ما يميز هذه البيئة أن للباحثين التحكم الكامل في اتجاه الحقل المغناطيسي الموجود فيها.
ثم، اختبر الباحثون قدرة الفئران مستأصلة الأعين على بناء الأعشاش وذلك ضمن أربعة توجهات مختلفة للحقل المغناطيسي، ولاستبعاد أن يكون لطوبوغرافيا (سمات سطح الأرض) البيئة تأثير في المكان المفضل لبناء الأعشاش، استُخدمت مجموعة مرجعية تضم فئرانًا أخرى تتمتع بنظرها الكامل أبدت تفضيلًا واضحًا لبناء الأعشاش بالاتجاه الجنوبي الشرقي من الوكر.
والنتيجة أن الفئران مستأصلة الأعين بنت أعشاشها في مواقع عشوائية لا تتبع اتجاه أي حقل مغناطيسي وذلك مقارنة بفئران المجموعة المرجعية.
قال الفريق: «نستنتج أن استئصال العينين أدى إلى تعطيل تام في الحاسة المغناطيسية. ومنه تكون دراستنا الأولى من نوعها في تحديد حاسة مغناطيسية عند حيوان من الثدييات».
في النهاية، يقترح كاسبر وفريقه فحص العين بدقة باستخدام المِجهر الإلكتروني ومجهر الطيف الضوئي لإيجاد هذه المستقبلات المغناطيسية الثديية.