المسرح في فرنسا
تعود بداية العروض المسرحية في فرنسا إلى نهاية القرن الثالث عشر، وهي من نوع المسرح الديني الذي كان يقدم في الساحات العامة أمام الكنائس الكبرى. وأشهر الأسماء آنئذ آدم دي لاهال Adam de la Halle. وفي أثناء القرنين 14-15 قُدّمت في الساحات أيضاً عروض من نوع مسرحيات الحمقى Soties والهزليات Farce من مثل «المعلم بيير باتلان» Maître Pierre Pathelin عام (1470) المجهولة المؤلف. أما الممثلون فقد كانوا هواةً يمارسون مختلف المهن، إلى أن ظهر المحترفون في القرن 16 ليقدموا عروضهم المأساوية والملهاوية في باحات الفنادق أو على خشبات بدائية. وكانت النصوص إما لإيتين جوديل Étienne Jodelle، أو لبيير دي لاريفي Pierre de Larivey اللذين تأثرا بحركة «الكوميديا ديلارتي» Commedia dell‘arte وبالكوميديا الإيطالية Comédie Italienne.
بلغ المسرح الفرنسي أُولى ذُراه في القرن 17 مع مآسي كورني Corneille وراسين Racine وملاهي موليير في عصر الاتباعية (الكلاسيكية) حين أُسِّس المسرح القومي الفرنسي باسم «كوميدي فرانسيز» Comédie Française عام 1860، وذلك بدمج أهم فرقتين مسرحيتين تحت إشراف البلاط.
صار مسرح الـ«كوميدي فرانسيز» في القرن 18 المسرح الرائد على مستوى أوربا، ولاسيما أن ممثلاته وممثليه كانوا من أبرز النجوم حينذاك. وفي إطار التقاليد الكلاسيكية برزت مسرحيات فولتير Voltaire وماريفو Marivaux، ثم المسرحيات البرجوازية لكل من ديتوش Destouches وديدرو Diderot، وبومارشيه Beaumarchais الذي عُدَّت مسرحيته «زواج الفيغارو» Le Marriage de Figaro عام (1784) تمهيداً لثورة 1789 التي ألغت احتكار «الكوميدي فرانسيز»، مما أدى إلى ظهور مسارح خاصة عدة، أشهرها مسرح «أوديون» Odéon. وكان من أبرز عروض هذه المسارح من نوع البولفار Boulevard (المسرحيات الاجتماعية الخفيفة المسلية التي تعتمد على نجوم التمثيل في جذب الجمهور)، إلى أن نافست عروض «الكوميدي فرانسيز» الذي جدده نابليون عام 1812 وجعله مسرح الدولة الرسمي. لم تنتج الثورة أي أدب مسرحي مميَّز، حتى جاء الرومنسيون دوما (الأب) Dumas، ودي فينيي de Vigny، وهوغو Hugo الذين قدَّموا للمسرح موضوعات جديدة. وفي الوقت نفسه برز اسم دي موسّيه de Musset كاتباً كوميدياً. وقد أدى تعدد المسارح وهيمنة مشاهير الممثلات والممثلين على خشباتها إلى تنوع الكتابة الدرامية. وفي تلك المرحلة وصل سكريب Scribe «بالمسرحية المتقنة الصنع» Pièce-bien-faite إلى درجة الكمال. وبرزت في الدراما نحو منتصف القرن 19 بوادر نقد للأوضاع الاجتماعية الفاسدة في أعمال أوجيه Augier، ودوما (الابن)، وتابع ساردو Sardou تقاليد سكريب.
يعد «المسرح الحر» Théâtre-Libre الذي أسَّسه أندريه أنطوان A.Antoine في باريس عام 1887 مفصلاً رئيسياً في التحول نحو مركزية أثر المخرج في العمل المسرحي، ونحو استقلالية المسرح فكرياً وفنياً ومالياً عن هيمنة السلطة السياسية. وقد كان هذا المسرح أهمَّ داعيةٍ لحركة المسرح الطبيعي[ر. الطبيعية] أوربياً، وكان من أبرز كتابه الفرنسيين هنري بِك H.Becque. أما الحركة المضادة للمسرح الطبيعي فقد كانت المسرح الرمزي[ر. الرمزية] الذي مثـّـلَه البلجيكي مترلينك Maeterlinck ومسرح دي لوفر Théâtre de l’OEuvre المنفتح على الأدب العالمي، الذي أداره الممثل - المخرج لونييه - بو Lugné-Poe.
هيمنت تقاليد مسرح القرن التاسع عشر على بدايات القرن العشرين، ولم يبدأ الوضع بالتغير إلا مع تأسيس «مسرح دي فيو - كولومبييه» Théâtre du Vieux-Colombier بإدارة جاك كوبو J.Copeau الذي أولى الأهمية الكبرى في العرض للنص والتعبير الجسدي. وإلى جانب تلميذيه شارل دولان Ch. Dullin ولويس جوفيه L.Jouvet؛ الذي أخرج مسرحيات جان جيرودو J.Giraudoux، هيمن غاستون باتي G.Baty وجورج بيتوف G.Pitoëff على الساحة المسرحية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1946 انفصل تلميذ دولان السابق جان لويس بارو J.L.Barrault مع الممثلة مادلين رونو M.Renaud عن «الكوميدي فرانسيز» ليؤسِّسا فرقةً خاصةً سُمِّيت «مسرح فرنسا» Théâtre de France وصارت الفرقة الرسمية الثانية التي قدمت عروضها في مسرح «أوديون» حتى عام 1968. وكان من أبرز كتَّاب الأربعينيات أنوي Anouilh وسارتر Sartre وكامو Camus، ثم تلاهم يونسكو Ionesco وبيكيت Beckett وجينيه Genet. وفي عام 1947 أسّس جان فيلار J.Vilar «مهرجان أفينيون الدولي» Avignon، ثم «المسرح القومي الشعبي» Théâtre National Populaire عام 1951، الذي أداره من بعده جورج ويلسون G.Wilson. وفي الأعوام 1954-1956 أحسَّ الوسط المسرحي الفرنسي بالتأثير المتنامي لـ«فرقة برلين» Das Berliner Ensemble في عروضها الزائرة بقيادة برتولد بريخت (بريشت) Brecht وزوجته الممثلة هِلينا فايغل H.Weigel، ولاسيما في مسرح روجيه بلانشون R.Blanchon بالقرب من مدينة ليون Lyon. وفي المرحلة نفسها بذلت محاولات مكثفة لتحقيق اللامركزية الثقافية، بخلق «المراكز الدرامية» centres dramatiques على أنها مسارح مدعومة من قبل الدولة في مختلف المناطق الفرنسية، فما قبل الحرب كانت هذه المناطق تعتمد أساساً على العروض الزائرة القادمة من العاصمة باريس. واقتداء بمهرجان أفينيون كثرت المهرجانات المسرحية الدولية في مدن عدة بعيداً عن العاصمة. وفي عام 1946 قررت الدولة إنشاء خمسة مراكز درامية، صار عددها تسعة عام 1967. وفي العام التالي وقعت الأزمة، عندما انضم الممثلون والمخرجون ومدراء المراكز الدرامية إلى صفوف انتفاضة الطلاب في أيار 1968، فكانت النتيجة أن جمَّدت الدولة معوناتها للمراكز، فعانت معظم هذه المراكز الدرامية ضائقة اقتصادية كارثية، في حين استمر دعم المسارح القومية في العاصمة. ولكن مع بداية رئاسة ميتران Mitterrand الاشتراكية ارتفع الدعم المخصص للمسرح بنسبة (120%) عام 1981، فارتفع نصيب المراكـز الدراميـة من (31%) إلى (32.5%) وخُفِّض نصيب المسارح القوميـة من (49%) إلى (33%). وفي مطلع عام 1983 كان هناك 22 مركزاً درامياً موزعة في مختلف أنحاء فرنسا، تتركز وظيفتها الرئيسة في تقديم العروض المسرحية في مناطقها، وتبادل العروض الزائرة مع المناطق الأخرى. ثم كانت هناك ستة مراكز درامية خاصة بمسرح الأطفال واليافعين، ومركزان للإبداع المسرحي القومي للأطفال، يعملان بالتعاون مع السكان لربط وسائل الإعلام والفنون التشكيلية كافة بعملهم المسرحي. ونتيجة لهذا الانتشار الفعَّال توثَّقت الرابطة بين المشاهدين كباراً وصغاراً وبين فن المسرح الذي لم يتراجع تأثيره على الرغم من هيمنة الإنتاج التلفزيوني. وهناك في فرنسا حالياً خمسة مسارح قومية تتبع لوزارة الثقافة التي تدعمها بمعونة تعادل 33% من ميزانيتها العامة، وتوجهات هذه المسارح فنياً تنسجم مع السياسة الثقافية للدولة، وهي التي تمثل فرنسا مسرحياً في المهرجانات الدولية وعلى صعيد تبادل العروض مع الدول الأخرى.
نبيل الحفار