الفكاهة في الأدب
الإنسان الفكِه، لغةً، هو من كان طيِّب النَفْس مَزَّاحاً مُضْحِكاً. ويدلُّ المصدر، فُكاهة humour/humor على حالة عقلية تنطوي على إحساسٍ بالمضْحِك في الوجود البشري، علماً أن الطابع السلبي لـ «ما يثير الضحك» يكشف دائماً عن الجانب الإيجابي في الإنسان. والفكاهة ليست، ببساطة، موقفاً حكيماً عن بُعدٍ، مزداناً بابتسامة متعقلة، بل هي تنتج عموماً من حالة حيرة ودهشة مباشرة. وهي ليست دائماً لطيفة غير مؤذية، بل غالباً ما تتخفى وراء قناع السخرية irony والهجاء satire أو المبالغة المُشوِّهة grotesque. لكن حتى الضحك الأسود من عبثية الحياة، يُبدي خصوصية المشاعر الإنسانية وفرادتها، فالفكاهة ترى فيما هو جدي وسامٍ الجانبَ التافهَ والحقيرَ أيضاً، ولكن من دون أن تنبذه عبر نقد تحليلي كاشف، ومن ثم تفتقد الفكاهة الحدةَ التي تميز الهجاء، فتبقى محمولة على جناحي الجدِّية والحب في أجواء حرية الفكر، مما يدلّ على صلتها الوثيقة بالموقف الفلسفي تجاه العالم. وهناك من الفلاسفة من يميِّز بين «الفكاهة الكبرى» بوصفها موقفاً عقلياً من العالم، وبين «الفكاهة الصغرى» المتصلة بالحياة اليومية، لا لأن هذه الحياة تافهة غير ذات قيمة، بل لأنها تسهم بقسط كبير من أجل التعايش الطيب بين الناس. فالفكاهة هي أسمى أشكال ضبط النفس، المؤسس على قوة الشخصية تجاه تفاهات الوجود وصغائره، وحيال ما ينطوي عليه من شرور محتملة ومفاجئة. كما تعدُّ الفكاهة أهم وسيلة لإدراك الذات بصورة صحيحة، حيث لا يُعلي المرء من قيمة نفسه أكثر مما تستحق، ولا يُجحفها حقها. ويرى الأديب الألماني غوته: «أن من لا يبذل جهداً ذاتياً ليبلغ مرتبة الأفاضل، فهو حتماً ليس منهم». والأفاضل غالباً أصحاب فكاهة.
إن مصطلح الفكاهة في استخدامه الحديث يعني المضحك the comic أو ما يتعلق به. أما من الناحية التاريخية، فإن هذه الكلمة في اللاتينية كانت تعني: أحد الأخلاط (السوائل) الرئيسية في جسم الإنسان المسؤولة عن تحديد مزاجه، وهي: الدم blood والبلغم phlegm والصفراء yellow bile والسوداء black bile؛ فإن توازنت فيما بينها كان الإنسان متوازناً سوياً في كلامه وأفعاله وردود أفعاله، وإن اضطربت النِسب بحيث تطغى كمية خلطٍ معين على الثلاثة الأخرى، يختل توازن الإنسان فيهيمن عليه إما المزاج الدموي (مرح، كثير العشق. متفائل، طيب) أو المزاج البلغمي (جبان، بليد، عديم الفطنة، كسول) أو المزاج الصفراوي (عنيد، ضجر، غضوب، منتقم) أو المزاج السوداوي (متأملٌ، مكتئب، متكلف، نهم، هجَّاء). واختلال التوازن يشير إلى الخروج عن السواء، مما يتطلب إعادة الأمر إلى نصابه، أي تصحيحه. ووسيلة التصحيح المتفق عليها منذ القدم، هي الضحك، للتخلص من حالة الإفراط المثيرة للضحك. والإنسان الذي يعاني إفراطاً في أحد الأمزجة يصير موضوعاً للضحك. أما الإنسان الفكِه بالتعبير الأدبي - الفني، فهو الذي يمتلك القدرة إرادياً على إثارة ضحك الآخرين، ووسائله لذلك متعددة، كالكلام والكتابة والتمثيل وارتجال المواقف التي تستدعي الضحك.
كانت نظرية الأخلاط هذه شائعة في علوم الطب عند العرب والأوربيين في القرون الوسطى. أما فيما يتعلق بالضحك كعلاج لاختلال التوازن، فقد رأى أرسطو[ر] منذ القرن الرابع ق.م أن الكوميديا (الملهاة) عندما تُعرض على المسرح أمام الجمهور فإنها تقوم بوظيفة تطهيرية katharsis أو تنفيسية release of inhibition مثلها مثل التراجيديا (المأساة) تماماً. وفي أواخر القرن السادس عشر أحيا الأدب الإنكليزي نظرية الأخلاط التي امتد تأثيرها في الأدب والمسرح طوال القرن السابع عشر، ويرجع الفضل في ذلك إلى الكاتب المسرحي بِن جونسون[ر] Ben Jonson، من معاصري شكسبير وأحد «ظرفاء الجامعة» University Wits، الذي طبَّق جوهر النظرية في كوميدياته، مبتكراً نوعاً مسرحياً جديداً أسماه «كوميديا الأمزجة» Comedy of humours. إلا أن هذه النظرية هي واحدة من عدد كبير من النظريات التي تعالج الفكاهة والضحك والمضحك. وعند استعراضها يبدو أنه لا توجد نظريتان تتفقان في كل جزئية، كما أنه لا توجد أي نظرية تشمل جميع سمات الفكاهة، غير أنها جميعاً تتقاطع إلى هذا الحد أو ذاك. ويمكن تقسيم هذه النظريات إلى فئتين: تلك التي ترى أن الفكاهة والضحك شأن فاسد وعدواني ومهين، وتلك التي ترى أنها شأن بريء، غير مؤذٍ وممتع. وابتغاء للدقة تقسم الفئتان السابقتان إلى ثلاث مجموعات:
1- نظريات الفوقية أو الدونية superiority or degradation.
2- نظريات التنافر incongruity وإحباط الآمال frustration of expectation والترافق bisociation.
3- نظريات تخفيف التوتر relief of tension، أو تنفيس الكبت release of inhibition.
1- كانت نظريات المجموعة الأولى هي الأكثر استمراراً عبر العصور، وبناءً عليها يتخذ الضحك موقعاً فوقياً في حين يوجد موضوع الضحك في موقع دوني، وقد كان أفلاطون[ر] يعتقد «بأن الإنسان يضحك مما هو سخيف ونافر غير منسجم»، في حين قال أرسطو إن «الكوميديا قد ولدت من السخيف المثير للضحك المتفرع من البشاعة. ويمكن تعريف المضحك على أنه خطأ أو تشوه». وقد أثنى شيشرون[ر] على تعريف أرسطو للمضحك، أما كوينتليانوس[ر] Quintilianus فقد رأى أن «الضحك والهزء صنوان»، في حين اعتقد ديكارت أن المتعة التي تسبب الضحك تنطوي أحياناً على مسحة من الكراهية. إن المعتقدين بفوقية الضاحك ودونية موضوع الضحك، يستمدون أفكارهم من توماس هوبز[ر] T.Hobbes في مؤلفه «لِوياثان» Leviathan، أو يمهدون له. فهو يلح على أن سبب الضحك هو المتعة، إلا أن تعريفه للمتعة يؤكد الشعور بالانتصار الذي ينتاب الضاحك. ويبدو أن جوناثان سويفت[ر] J.Swift وجوزيف أديسون[ر] J.Addison يوافقان هوبز رأيه، إذ يؤكد سويفت على أن البشر يضحكون على حساب بعضهم بعضاً، كما يؤكد أديسون أن ما يجعلنا نضحك هو اللامعقولية والغرابة والنقائص، في حين يخالف ألكسندر بين A.Bain هوبز إلى حد ما، إذ يرى أنه ليس ضرورياً أن نكون واعين بفوقيتنا عندما نضحك من أناس آخرين، كما يرى أن هزأنا لا ينحصر بالبشر فحسب، بل قد يمتد إلى الأفكار والمؤسسات. أما الفرنسي هنري برغسون[ر] H.Bergson فيصر على شعور المرء بالتفوق عندما يرى السلوك الآلي قد تلبَّس البشر؛ وأن الإنسان يجد في الضحك دائماً رغبة لا يمكن تجنبها في إذلال الآخر، ومن ثم لتصحيح موقف جيرانه، نتيجة لذلك.
كان ڤولتير[ر] معارضاً لنظرية الفوقية والدونية، وكان يرى أن الضحك ينشأ دائماً عن ابتهاج نابع من مزاج أصيل يتعارض مع الازدراء والسخط. وأحد المنشقين الآخرين عن النظرية هو الشاعر الفرنسي الألماني يان باول ريشتر J.P.Richter الذي كتب: «إن على من يراقب حالة فكاهية أن يتماهى ذاتياً مع موضوع الضحك... إن الفكاهة لا تكشف أفراداً أغبياء، إنما غباءً فحسب في عالم غبي، ولهذا فإنها متسامحة بلطف».
2- انتشرت نظريات التنافر وإحباط الآمال والترافق انتشار نظريات المجموعة الأولى، وإن لم تكن بمثل قِدَمِها، وينطلق فيليب سيدني[ر] Sir Ph.Sidney من أن مسبب الضحك هو التنافر، من منظورنا ومن منظور الطبيعة أيضاً، في حين يؤكد بليز باسكال Blaise Pascal على عنصر إحباط الآمال، إذ لا شيء - حسبه - يجعل الإنسان يضحك أكثر من التفاوت بين ما يتوقعه وما يراه. ولاشك في أن كانت[ر] Kant يوافقه الرأي عندما يقول إن الضحك يعود إلى «التنافر الذي يستثير الإحساس بالمفاجأة». أما وليم هازلِت W.Hazlitt فيعتقد أن جوهر المضحك يكمن في المتنافر، أو في عدم ترابط الفكرة بالأخرى، أو في تصادم حالتين شعوريتين، أي «شر البلية ما يضحك».
يقول الفيلسوف آرتور شوبنهاور[ر] Arthur Schopenhauer «إن سبب الضحك هو ببساطة إدراك التباين فجأة بين مفاهيمنا وواقع الحال». وقد استُخدم أحد أمثلته من قبل مختلف منظري الفكاهة، وهو: «سمح بعض حراس السجن لأحد المحكومين بأن يشاركهم لعب الورق، وعندما اكتشفوا غشه في اللعب طردوه خارج السجن». ومنذ وقت غير بعيد قدَّم الأديب الألماني الأمريكي أرثر كوستلر A.Koestler نظريته الشاملة في الفكاهة التي دعاها نظرية الترافق، وحسبها تكون الحالة مضحكة حتماً عندما تنتمي في الوقت نفسه إلى سلسلتين من الأحداث مستقلتين كلياً، وقابلة لتأويلين مختلفين تماماً، في الوقت نفسه أيضاً، مما يفجر الضحك كمتنفس من التوتر الناتج من التأرجح ما بين السلسلتين والتأويلين.
3- إن نظرية كوستلر بتأكيدها ثنائية المضحِك تشمل المجموعتين السابقتين، وكذلك المجموعة الثالثة، أي نظريات تخفيف التوتر وتنفيس الكبت. على الرغم من الارتباط الوثيق بين هذه المجموعة الثالثة وعالم النفس سيغموند فرويد[ر]، لابد من ذكر فلاسفة مثل شارل برنار رينوڤييه Ch.B.Renouvier وأُغوست بنجون A.Penjon وجون ديوي[ر] J.Dewey، فثلاثتهم يرون في الضحك دلالة على النجاح بعد بذل الجهد، مما يولد ارتياحاً نابعاً من الشعور بمزيد من الحرية. ويعتقد فرويد أن الضحك هو نتيجة لتحرر الطاقة الجسدية من وظيفتها الثابتة، إلى هذا الحد أو ذاك، في كَبْت الأفكار الممنوعة، ويرى أن أصل النكتة يصدر عن ميل عدواني. وعلى هذا الميل أن يُبقى بعيداً عن الوعي، فيختفي في اللاوعي، حيث يمتزج هناك مع نزوعٍ للمزاح مكبوتٍ منذ الطفولة، فيخفف هذا المزيج من الميل العدواني، فيصير مقبولاً اجتماعياً، ومن ثم تتحرر الطاقة الجسدية الضرورية لكبح العدوان متحولة إلى ضحك. إن التحرر من الكبت وتحرير الفكر يولِّدان صدمة ممتعة تُنتج ضحكاً مبتهجاً. وقد شرح فرويد تفاصيل ذلك في كتابه الشهير «النكتة وعلاقتها باللاوعي»Der Witz und seine Beziehung zum Unbewussten عام (1905).
لدى استعراض جميع هذه النظريات تبدو نظرية الفوقية والدونية ممتازة عند التعامل مع الهجاء والقدح والسخرية والضحك بسبب سوء الحظ، إلا أنها أقل تميزاً عند التعامل مع النزوات والسفاسف والتورية والتنافر والبذاءة. وبالمقارنة تبدو نظريات المجموعة الثانية، ولاسيما نظرية الترافق أكثرها شمولية. وإذا ما نُحي فرويد جانباً فإن نظريات المجموعة الثالثة أكثر محدودية من نظريات المجموعة الأولى. أما إن بقي فرويد في إطارها فلاشك أن شموليتها ستصير بوزن المجموعة الثانية. وإذا تركز الاهتمام على تأثير هذه النظريات في سياق القرن العشرين، فإن فرويد وبرغسون هما أبرز منظرين للفكاهة وأكبرهما أهمية وتأثيراً.
إلا أن الفكاهة بالتأكيد متعددة ومتنوعة، فقد تكون عدوانية وساخرة، وبإمكانها معالجة السفاسف والتنافر، ويمكنها أن تكون متعاطفة ومتفهمة، وقد تدلُّ على التحرر من التوتر والانعتاق من الهم والقلق، ويُحتمل أن تكشف عن جوانب ذكية عند تعاطيها مع قضية ما من جميع جوانبها، وقد تكون هازلة أو ذكية، بل جادة كما في الهجاء وفي الكوميديا السوداء، ولكنها لا يمكن أن تكون مزيَفة، فمهما بلغت الفكاهة من المكر والخبث، ومهما كانت درجة مبالغتها فإنها لا يمكن أن تتخلى عن الحقيقة.
رافقت الفكاهة الإنسان منذ الأزل، وأول شاهد أدبي معروف على تجليها في الأدب هو «حوارية السيد والعبد» البابلية، المجهولة المؤلف، والتي تعود إلى النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث تدلُّ أجوبة العبد المثقف على سخرية مبطنة وهجاء مرير لسيده شاعر البلاط الذي أعمته كثافة الغابة عن رؤية وإدراك خصوصية كل شجرة على حِده. وفي القرن الخامس قبل الميلاد، لجأ أريستوفانس إلى مختلف عناصر الفكاهة/المضحك كي يبلغ التأثير الذي يريده في المشاهدين، فاستخدم الهجاء والسخرية والبورلسك burlesque (أي الجمع ما بين المتنافرات التي تولّد مفارقات مضحكة) والغروتسك grotesque (أي معاملة السامي بابتذال والمبتذل بسمو، والمبالغة الكاريكاتيرية) إلى جانب التلاعب بالألفاظ والتهريج الحركي، فحقق نضجاً أدبياً مسرحياً مازال أثره باقياً حتى العصر الحاضر. وهناك في ملحمتي «المهابهارتا» و«الرامايانا»[ر] السنسكريتيتين من المواقف الفكاهية ما يُضحِكُ أشدَّ الضحك نتيجة المتنافرات والمفارقات في العلاقة ما بين الآلهة بعضها مع بعض من جهة، وبين الآلهة والبشر على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية من جهة أخرى. وهناك في الأدب العربي القديم هجائيات جرير والفرزدق خير نموذج على الفكاهة الراقية والفعالة، إلى جانب أدب المقامات الذي زخرت حكاياته وشخصياته بعناصر الفكاهة.
ومنذ عصر النهضة الأوربي، أدت شخصية المهرج سواء في الكوميديا (الملهاة) أو التراجيديا (المأساة) دوراً أساسياً في الهجاء والنقد والتنوير، ومن أشهر هؤلاء مهرجو شكسبير، والكوميديا المرتجلةCommedia dell‘arte في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا. ثم لابد من ذكـر رابليه[ر] وثـربانتس[ر] ومـوليير[ر] وتشيخوف[ر] وبرنارد شو[ر] وداريو فو، باعتبارهم قمماً في استخدام عناصر الفكاهة في أعمالهم الأدبية. وفي الأدب العربي المعاصر على سبيل الذكر لا الحصر، هناك إبراهيم عبد القادر المازني في مصر، وحسيب كيالي ومحمد الماغوط في سورية، ومارون عبود في لبنان، ممن كانت الفكاهة سمة بارزة في كتاباتهم، سواء على صعيد القصة أم المسرحية أم المقالة.
نبيل الحفار
الإنسان الفكِه، لغةً، هو من كان طيِّب النَفْس مَزَّاحاً مُضْحِكاً. ويدلُّ المصدر، فُكاهة humour/humor على حالة عقلية تنطوي على إحساسٍ بالمضْحِك في الوجود البشري، علماً أن الطابع السلبي لـ «ما يثير الضحك» يكشف دائماً عن الجانب الإيجابي في الإنسان. والفكاهة ليست، ببساطة، موقفاً حكيماً عن بُعدٍ، مزداناً بابتسامة متعقلة، بل هي تنتج عموماً من حالة حيرة ودهشة مباشرة. وهي ليست دائماً لطيفة غير مؤذية، بل غالباً ما تتخفى وراء قناع السخرية irony والهجاء satire أو المبالغة المُشوِّهة grotesque. لكن حتى الضحك الأسود من عبثية الحياة، يُبدي خصوصية المشاعر الإنسانية وفرادتها، فالفكاهة ترى فيما هو جدي وسامٍ الجانبَ التافهَ والحقيرَ أيضاً، ولكن من دون أن تنبذه عبر نقد تحليلي كاشف، ومن ثم تفتقد الفكاهة الحدةَ التي تميز الهجاء، فتبقى محمولة على جناحي الجدِّية والحب في أجواء حرية الفكر، مما يدلّ على صلتها الوثيقة بالموقف الفلسفي تجاه العالم. وهناك من الفلاسفة من يميِّز بين «الفكاهة الكبرى» بوصفها موقفاً عقلياً من العالم، وبين «الفكاهة الصغرى» المتصلة بالحياة اليومية، لا لأن هذه الحياة تافهة غير ذات قيمة، بل لأنها تسهم بقسط كبير من أجل التعايش الطيب بين الناس. فالفكاهة هي أسمى أشكال ضبط النفس، المؤسس على قوة الشخصية تجاه تفاهات الوجود وصغائره، وحيال ما ينطوي عليه من شرور محتملة ومفاجئة. كما تعدُّ الفكاهة أهم وسيلة لإدراك الذات بصورة صحيحة، حيث لا يُعلي المرء من قيمة نفسه أكثر مما تستحق، ولا يُجحفها حقها. ويرى الأديب الألماني غوته: «أن من لا يبذل جهداً ذاتياً ليبلغ مرتبة الأفاضل، فهو حتماً ليس منهم». والأفاضل غالباً أصحاب فكاهة.
إن مصطلح الفكاهة في استخدامه الحديث يعني المضحك the comic أو ما يتعلق به. أما من الناحية التاريخية، فإن هذه الكلمة في اللاتينية كانت تعني: أحد الأخلاط (السوائل) الرئيسية في جسم الإنسان المسؤولة عن تحديد مزاجه، وهي: الدم blood والبلغم phlegm والصفراء yellow bile والسوداء black bile؛ فإن توازنت فيما بينها كان الإنسان متوازناً سوياً في كلامه وأفعاله وردود أفعاله، وإن اضطربت النِسب بحيث تطغى كمية خلطٍ معين على الثلاثة الأخرى، يختل توازن الإنسان فيهيمن عليه إما المزاج الدموي (مرح، كثير العشق. متفائل، طيب) أو المزاج البلغمي (جبان، بليد، عديم الفطنة، كسول) أو المزاج الصفراوي (عنيد، ضجر، غضوب، منتقم) أو المزاج السوداوي (متأملٌ، مكتئب، متكلف، نهم، هجَّاء). واختلال التوازن يشير إلى الخروج عن السواء، مما يتطلب إعادة الأمر إلى نصابه، أي تصحيحه. ووسيلة التصحيح المتفق عليها منذ القدم، هي الضحك، للتخلص من حالة الإفراط المثيرة للضحك. والإنسان الذي يعاني إفراطاً في أحد الأمزجة يصير موضوعاً للضحك. أما الإنسان الفكِه بالتعبير الأدبي - الفني، فهو الذي يمتلك القدرة إرادياً على إثارة ضحك الآخرين، ووسائله لذلك متعددة، كالكلام والكتابة والتمثيل وارتجال المواقف التي تستدعي الضحك.
كانت نظرية الأخلاط هذه شائعة في علوم الطب عند العرب والأوربيين في القرون الوسطى. أما فيما يتعلق بالضحك كعلاج لاختلال التوازن، فقد رأى أرسطو[ر] منذ القرن الرابع ق.م أن الكوميديا (الملهاة) عندما تُعرض على المسرح أمام الجمهور فإنها تقوم بوظيفة تطهيرية katharsis أو تنفيسية release of inhibition مثلها مثل التراجيديا (المأساة) تماماً. وفي أواخر القرن السادس عشر أحيا الأدب الإنكليزي نظرية الأخلاط التي امتد تأثيرها في الأدب والمسرح طوال القرن السابع عشر، ويرجع الفضل في ذلك إلى الكاتب المسرحي بِن جونسون[ر] Ben Jonson، من معاصري شكسبير وأحد «ظرفاء الجامعة» University Wits، الذي طبَّق جوهر النظرية في كوميدياته، مبتكراً نوعاً مسرحياً جديداً أسماه «كوميديا الأمزجة» Comedy of humours. إلا أن هذه النظرية هي واحدة من عدد كبير من النظريات التي تعالج الفكاهة والضحك والمضحك. وعند استعراضها يبدو أنه لا توجد نظريتان تتفقان في كل جزئية، كما أنه لا توجد أي نظرية تشمل جميع سمات الفكاهة، غير أنها جميعاً تتقاطع إلى هذا الحد أو ذاك. ويمكن تقسيم هذه النظريات إلى فئتين: تلك التي ترى أن الفكاهة والضحك شأن فاسد وعدواني ومهين، وتلك التي ترى أنها شأن بريء، غير مؤذٍ وممتع. وابتغاء للدقة تقسم الفئتان السابقتان إلى ثلاث مجموعات:
1- نظريات الفوقية أو الدونية superiority or degradation.
2- نظريات التنافر incongruity وإحباط الآمال frustration of expectation والترافق bisociation.
3- نظريات تخفيف التوتر relief of tension، أو تنفيس الكبت release of inhibition.
1- كانت نظريات المجموعة الأولى هي الأكثر استمراراً عبر العصور، وبناءً عليها يتخذ الضحك موقعاً فوقياً في حين يوجد موضوع الضحك في موقع دوني، وقد كان أفلاطون[ر] يعتقد «بأن الإنسان يضحك مما هو سخيف ونافر غير منسجم»، في حين قال أرسطو إن «الكوميديا قد ولدت من السخيف المثير للضحك المتفرع من البشاعة. ويمكن تعريف المضحك على أنه خطأ أو تشوه». وقد أثنى شيشرون[ر] على تعريف أرسطو للمضحك، أما كوينتليانوس[ر] Quintilianus فقد رأى أن «الضحك والهزء صنوان»، في حين اعتقد ديكارت أن المتعة التي تسبب الضحك تنطوي أحياناً على مسحة من الكراهية. إن المعتقدين بفوقية الضاحك ودونية موضوع الضحك، يستمدون أفكارهم من توماس هوبز[ر] T.Hobbes في مؤلفه «لِوياثان» Leviathan، أو يمهدون له. فهو يلح على أن سبب الضحك هو المتعة، إلا أن تعريفه للمتعة يؤكد الشعور بالانتصار الذي ينتاب الضاحك. ويبدو أن جوناثان سويفت[ر] J.Swift وجوزيف أديسون[ر] J.Addison يوافقان هوبز رأيه، إذ يؤكد سويفت على أن البشر يضحكون على حساب بعضهم بعضاً، كما يؤكد أديسون أن ما يجعلنا نضحك هو اللامعقولية والغرابة والنقائص، في حين يخالف ألكسندر بين A.Bain هوبز إلى حد ما، إذ يرى أنه ليس ضرورياً أن نكون واعين بفوقيتنا عندما نضحك من أناس آخرين، كما يرى أن هزأنا لا ينحصر بالبشر فحسب، بل قد يمتد إلى الأفكار والمؤسسات. أما الفرنسي هنري برغسون[ر] H.Bergson فيصر على شعور المرء بالتفوق عندما يرى السلوك الآلي قد تلبَّس البشر؛ وأن الإنسان يجد في الضحك دائماً رغبة لا يمكن تجنبها في إذلال الآخر، ومن ثم لتصحيح موقف جيرانه، نتيجة لذلك.
كان ڤولتير[ر] معارضاً لنظرية الفوقية والدونية، وكان يرى أن الضحك ينشأ دائماً عن ابتهاج نابع من مزاج أصيل يتعارض مع الازدراء والسخط. وأحد المنشقين الآخرين عن النظرية هو الشاعر الفرنسي الألماني يان باول ريشتر J.P.Richter الذي كتب: «إن على من يراقب حالة فكاهية أن يتماهى ذاتياً مع موضوع الضحك... إن الفكاهة لا تكشف أفراداً أغبياء، إنما غباءً فحسب في عالم غبي، ولهذا فإنها متسامحة بلطف».
2- انتشرت نظريات التنافر وإحباط الآمال والترافق انتشار نظريات المجموعة الأولى، وإن لم تكن بمثل قِدَمِها، وينطلق فيليب سيدني[ر] Sir Ph.Sidney من أن مسبب الضحك هو التنافر، من منظورنا ومن منظور الطبيعة أيضاً، في حين يؤكد بليز باسكال Blaise Pascal على عنصر إحباط الآمال، إذ لا شيء - حسبه - يجعل الإنسان يضحك أكثر من التفاوت بين ما يتوقعه وما يراه. ولاشك في أن كانت[ر] Kant يوافقه الرأي عندما يقول إن الضحك يعود إلى «التنافر الذي يستثير الإحساس بالمفاجأة». أما وليم هازلِت W.Hazlitt فيعتقد أن جوهر المضحك يكمن في المتنافر، أو في عدم ترابط الفكرة بالأخرى، أو في تصادم حالتين شعوريتين، أي «شر البلية ما يضحك».
يقول الفيلسوف آرتور شوبنهاور[ر] Arthur Schopenhauer «إن سبب الضحك هو ببساطة إدراك التباين فجأة بين مفاهيمنا وواقع الحال». وقد استُخدم أحد أمثلته من قبل مختلف منظري الفكاهة، وهو: «سمح بعض حراس السجن لأحد المحكومين بأن يشاركهم لعب الورق، وعندما اكتشفوا غشه في اللعب طردوه خارج السجن». ومنذ وقت غير بعيد قدَّم الأديب الألماني الأمريكي أرثر كوستلر A.Koestler نظريته الشاملة في الفكاهة التي دعاها نظرية الترافق، وحسبها تكون الحالة مضحكة حتماً عندما تنتمي في الوقت نفسه إلى سلسلتين من الأحداث مستقلتين كلياً، وقابلة لتأويلين مختلفين تماماً، في الوقت نفسه أيضاً، مما يفجر الضحك كمتنفس من التوتر الناتج من التأرجح ما بين السلسلتين والتأويلين.
3- إن نظرية كوستلر بتأكيدها ثنائية المضحِك تشمل المجموعتين السابقتين، وكذلك المجموعة الثالثة، أي نظريات تخفيف التوتر وتنفيس الكبت. على الرغم من الارتباط الوثيق بين هذه المجموعة الثالثة وعالم النفس سيغموند فرويد[ر]، لابد من ذكر فلاسفة مثل شارل برنار رينوڤييه Ch.B.Renouvier وأُغوست بنجون A.Penjon وجون ديوي[ر] J.Dewey، فثلاثتهم يرون في الضحك دلالة على النجاح بعد بذل الجهد، مما يولد ارتياحاً نابعاً من الشعور بمزيد من الحرية. ويعتقد فرويد أن الضحك هو نتيجة لتحرر الطاقة الجسدية من وظيفتها الثابتة، إلى هذا الحد أو ذاك، في كَبْت الأفكار الممنوعة، ويرى أن أصل النكتة يصدر عن ميل عدواني. وعلى هذا الميل أن يُبقى بعيداً عن الوعي، فيختفي في اللاوعي، حيث يمتزج هناك مع نزوعٍ للمزاح مكبوتٍ منذ الطفولة، فيخفف هذا المزيج من الميل العدواني، فيصير مقبولاً اجتماعياً، ومن ثم تتحرر الطاقة الجسدية الضرورية لكبح العدوان متحولة إلى ضحك. إن التحرر من الكبت وتحرير الفكر يولِّدان صدمة ممتعة تُنتج ضحكاً مبتهجاً. وقد شرح فرويد تفاصيل ذلك في كتابه الشهير «النكتة وعلاقتها باللاوعي»Der Witz und seine Beziehung zum Unbewussten عام (1905).
لدى استعراض جميع هذه النظريات تبدو نظرية الفوقية والدونية ممتازة عند التعامل مع الهجاء والقدح والسخرية والضحك بسبب سوء الحظ، إلا أنها أقل تميزاً عند التعامل مع النزوات والسفاسف والتورية والتنافر والبذاءة. وبالمقارنة تبدو نظريات المجموعة الثانية، ولاسيما نظرية الترافق أكثرها شمولية. وإذا ما نُحي فرويد جانباً فإن نظريات المجموعة الثالثة أكثر محدودية من نظريات المجموعة الأولى. أما إن بقي فرويد في إطارها فلاشك أن شموليتها ستصير بوزن المجموعة الثانية. وإذا تركز الاهتمام على تأثير هذه النظريات في سياق القرن العشرين، فإن فرويد وبرغسون هما أبرز منظرين للفكاهة وأكبرهما أهمية وتأثيراً.
إلا أن الفكاهة بالتأكيد متعددة ومتنوعة، فقد تكون عدوانية وساخرة، وبإمكانها معالجة السفاسف والتنافر، ويمكنها أن تكون متعاطفة ومتفهمة، وقد تدلُّ على التحرر من التوتر والانعتاق من الهم والقلق، ويُحتمل أن تكشف عن جوانب ذكية عند تعاطيها مع قضية ما من جميع جوانبها، وقد تكون هازلة أو ذكية، بل جادة كما في الهجاء وفي الكوميديا السوداء، ولكنها لا يمكن أن تكون مزيَفة، فمهما بلغت الفكاهة من المكر والخبث، ومهما كانت درجة مبالغتها فإنها لا يمكن أن تتخلى عن الحقيقة.
رافقت الفكاهة الإنسان منذ الأزل، وأول شاهد أدبي معروف على تجليها في الأدب هو «حوارية السيد والعبد» البابلية، المجهولة المؤلف، والتي تعود إلى النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد، حيث تدلُّ أجوبة العبد المثقف على سخرية مبطنة وهجاء مرير لسيده شاعر البلاط الذي أعمته كثافة الغابة عن رؤية وإدراك خصوصية كل شجرة على حِده. وفي القرن الخامس قبل الميلاد، لجأ أريستوفانس إلى مختلف عناصر الفكاهة/المضحك كي يبلغ التأثير الذي يريده في المشاهدين، فاستخدم الهجاء والسخرية والبورلسك burlesque (أي الجمع ما بين المتنافرات التي تولّد مفارقات مضحكة) والغروتسك grotesque (أي معاملة السامي بابتذال والمبتذل بسمو، والمبالغة الكاريكاتيرية) إلى جانب التلاعب بالألفاظ والتهريج الحركي، فحقق نضجاً أدبياً مسرحياً مازال أثره باقياً حتى العصر الحاضر. وهناك في ملحمتي «المهابهارتا» و«الرامايانا»[ر] السنسكريتيتين من المواقف الفكاهية ما يُضحِكُ أشدَّ الضحك نتيجة المتنافرات والمفارقات في العلاقة ما بين الآلهة بعضها مع بعض من جهة، وبين الآلهة والبشر على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية من جهة أخرى. وهناك في الأدب العربي القديم هجائيات جرير والفرزدق خير نموذج على الفكاهة الراقية والفعالة، إلى جانب أدب المقامات الذي زخرت حكاياته وشخصياته بعناصر الفكاهة.
ومنذ عصر النهضة الأوربي، أدت شخصية المهرج سواء في الكوميديا (الملهاة) أو التراجيديا (المأساة) دوراً أساسياً في الهجاء والنقد والتنوير، ومن أشهر هؤلاء مهرجو شكسبير، والكوميديا المرتجلةCommedia dell‘arte في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا. ثم لابد من ذكـر رابليه[ر] وثـربانتس[ر] ومـوليير[ر] وتشيخوف[ر] وبرنارد شو[ر] وداريو فو، باعتبارهم قمماً في استخدام عناصر الفكاهة في أعمالهم الأدبية. وفي الأدب العربي المعاصر على سبيل الذكر لا الحصر، هناك إبراهيم عبد القادر المازني في مصر، وحسيب كيالي ومحمد الماغوط في سورية، ومارون عبود في لبنان، ممن كانت الفكاهة سمة بارزة في كتاباتهم، سواء على صعيد القصة أم المسرحية أم المقالة.
نبيل الحفار