توجد في معظم خلايا الجسم مكتبتان جينيتان، إحداهما في النواة والأخرى في عُضيَّات خلوية تُسمى «الميتوكوندريا» وتعرف أيضًا باسم «منزل الطاقة في الخلية»، ولم نستطع قبل الآن إدخال التعديلات إلا على إحداهما فقط وهي «المكتبة الجينية النووية».
أدى تضافر جهود عدة فرق بحثية من الولايات المتحدة إلى التوصل إلى عملية قد تسمح لنا في المستقبل بتعديل التعليمات التي تكوِّن الجينوم «الآخر» في الخلية وهو «الجينوم الميتوكوندري» وقد يساعدنا هذا على علاج الكثير من الحالات التي تؤثر في آلية تزويد الجسم بالطاقة.
يكمن الأساس الجزيئي لطريقة تعديل الجينات الثورية هذه في سم حيوي بروتيني «ذيفان» يسُمى DddA تفرزه بكتيريا تُسمى Burkholderia cenocepacia لتخريب الميكروبات الأخرى عندما يشتد التنافس على مصادر الغذاء.
أثارت هذه الذيفانات اهتمام الباحثين من جامعة واشنطن، واكتشفوا أنها تحوِّل إحدى القواعد النيتروجينية للحمض النووي المُسمَّاة «سايتوسين» إلى قاعدة أخرى توجد عادة في الحمض النووي الريبوزي RNA تُسمى «اليوراسيل».
وهذه ليست المرة الأولى التي يدرس فيها العلماء الأسلحة البكتيرية بحثًا عن طرق تساعدهم على تعديل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA بهذه الطريقة، إذ استُخدِمت كل عائلة «الإنزيمات النازعة للأمين» في الهندسة الجينية. لكن الإنزيمات النازعة للأمين لا تؤدي وظيفتها في مبادلة الشفرات إلا على الخيوط المنفردة من الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA.
لتجاوز هذه المشكلة، جمع فريق بحثي آخر من معهد برود التابع لمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفرد بين تقنية مبادلة الشفرات النازعة للأمين وتقنية كريسبر التي تسمح باستخدام مرصاف الحمض النووي الريبوزي RNA لتحديد التسلسل واستخدام الإنزيمات النازعة للأمين بعد ذلك لتفكيك خيوط الحمض النووي وإدخال التغييرات اللازمة.
لا توجد صعوبة في تعديل الخيوط المزدوجة للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA في نواة الخلية التي يسهل الدخول إليها، لكن تكمن الصعوبة في إدخال مرصاف الحمض النووي الريبوزي RNAعبر الغشاء الميتوكوندري الأكثر انتقائية.
وذلك لأن الميتوكوندريا كانت كائنات مستقلة منذ أكثر من مليار سنة، وتطورت عبر الزمن لتتشارك بعض المسؤوليات مع الخلايا التي تعيش فيها فأصبحت مسؤولة عن تفكيك الغلوكوز للحصول على الطاقة اللازمة للخلية.
ورغم أن الكثير من الجينات الميتوكوندرية قد خُزِّنت داخل نواة الخلية المضيفة، احتفظت وحدات الطاقة الدقيقة هذه لنفسها ببعض التسلسلات المهمة داخل مجموعة من الأغشية التي لا تنفتح بسهولة أمام كل جزيء RNA عابر.
لكن ذيفان DddA يتمتَّع لحسن الحظ بالقدرة على تغيير كلا خطي ال DNA فيُغني بذلك عن تقنية كريسبر فاتحًا المجال لاستخدام تقنيات بديلة في استهداف التسلسلات التي نرغب في تغييرها.
واستخدم الباحثون أيضًا آلية قديمة في الهندسة الوراثية تسمى «المستجيب المشابه لمنشط النسخ» أو TALE، يُصمَّم هذا الصنف من الإنزيمات لإيجاد شفرات معينة من الأحماض النووية وتقسيمها، ويُستخدَم في توجيه ذيفانات السايتوسين المبادِلة للشفرات إلى الموقع الهدف.
استطاع الباحثون باستخدام ذيفان DddA وإنزيمات TALE النوعية استهداف تسلسلات معينة داخل الميتوكوندريا وتحويل كل قواعد السايتوسين الموجودة داخلها إلى يوراسيل سيتحول بدوره لاحقًا إلى قاعدة شبيهة بقاعدة الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين DNA المسماة ب «الثايمين» وقد حدث هذا التحول بنسبة 50% في أثناء اختبار هذه الطريقة.
قد لا تبدو هذه النسبة إنجازًا كبيرًا لكنَّ عدم حدوث أي تغييرات كارثية خارج التسلسلات المُستهدَفة يجعلها آلية واعدة في الهندسة الوراثية. ويزيد من أهمية هذه التقنية أيضًا -رغم انخفاض نسبة نجاحها- غياب التقنيات المنافِسة في مجال تعديل جينات الميتوكوندريا.
وكما تؤدي طفرات ال DNA في نواة الخلية إلى حدوث الكثير من المشكلات الصحية، تؤثر طفرات الميتوكوندريا الجينية أيضًا في تطور الدماغ ونمو العضلات ومستويات الطاقة والاستقلاب والمناعة في الجسم.
تنتقل الميتوكوندريا وطفراتها من جيل إلى آخر -في معظم الأحيان وليس دائمًا- بواسطة بويضة الأم، والتقنية الوحيدة التي نستطيع استخدامها في الوقت الحاضر لتلافي هذه المشكلة هي دمج خلايا الأم مع خلايا أم أخرى للتخلص من الميتوكوندريات المعيبة.
لكن تقنية ال DddA الجديدة قد تساعدنا على خلق نماذج حيوانية تحاكي مجموعة متنوعة من العيوب التي تصيب الميتوكوندريا البشرية، وقد نستطيع في يوم ما إصلاح الميتوكوندريا الموجودة داخل أجسامنا.