المنشق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المنشق

    قراءات
    ــــــــــــــــــ
    المُنشـَق
    تأليف : ايليني كازانتزاكي
    ترجمة : محمد علي اليوسفي
    عدد الصفحات : 534 صفحة من القَطع الكبير

    هذا واحدٌ من الكتب التي لم أرتوِ من قراءةٍ واحدة لها ، و هو من الكتب التي أعودُ اليها بين فترة و أخرى للتطهير و الغنى المعرفي و الروحي ، و لا أنسى ــ في قراءتي الأولى له ــ دقائقَ انهمار دموعي التي رافقت قراءتي للصفحات الأخيرة من هذا السِفر الإنساني العميق الذي وثـّق طبيعة حياة و عمل و انشغالات و هموم و طموحات واحدٍ من أعظم و أجلِّ كتاب القرن العشرين " نيكوس كازانتزاكي " .
    كتاب ( المُنشق ) وضعته " ايليني كازانتزاكي " ، الزوجة الثانية للكاتب ، و التي شاركته السنواتِ الأهمَّ و الأعمقَ من رحلته في الحياة حتى لحظة إغماضة عينيه الى الأبد بين يديها ، فدوّنت كل ذلك برقّةٍ وعمقٍ و تأثرٍ في هذا الكتاب الذي سأنقل منه اليكم ثلاثاً من رسائل " نيكوس " اليها .
    ولكن قبل ذلك ، سأنقل بعضاً من مقدمة مترجم هذا الكتاب المؤثر ، الأستاذ " محمد علي اليوسفي " ، المترجم التونسي المعروف الذي أغنى المكتبة العربية بترجماته المختارة بحرص و دقةٍ أثرى بهما ذائقتنا الثقافية و عمّق حساسيتَنا الإبداعية و أنار سُبُلَنا المعرفية .
    هادي ياسين
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    من مقدمة المترجم :
    لا يستطيع قارئُ هذا الكتاب أن يخرج سليماً من " عدوىً " ما ، و حتى اذا كان هذا القارئ من غير المتحمسين لأعمال " نيكوس كازنتزاكي " ، مثل " زوربا " و " الإغواء الأخير " و " الإخوة الأعداء " و " تقرير الى آل غريكو " و " المسيح يُصلب من جديد " وغيرها ، فإنه يجد نفسَه ، هذه المرّة ، أمام عملٍ من نوع خاص ، هو عملٌ نسجَهُ " كازنتزاكي " في عزلته الأثيرة ، خيطاً خيطاً ، على غرار بعض الكائنات التي تبكّر فجراً من أجل اصطياد ما تجودُ به الدنيا و تتلهف اليه الروح .
    هذا العملُ المختلفُ و الرائع هو حياته التي أرادها كما عاشها . وعاشها أيضا كما أرادها ، لأنه كان يرفض كلَّ ما هو مختلف عمّا رسمه لنفسه من مبادئَ و رغباتٍ و سلوكٍ ، و رؤيةٍ للعالم قبل كل شيء . تلك الرؤية التي لم تقتصر على الإرث الاغريقي و سِيَر عظماء اليونان ، بل اغتنت أيضاً ، منذ البدء ، برؤىً اشراقيةٍ متأتية من تأثر " كازنتزاكي " العارم بـ " فريدريك نيتشه " ، و " هنري برغسون " ( و قد تتلمذ على يديه في باريس ) و التصوف البيزنطي و الإسلامي ، لذلك نجد قاموسَه اللغوي غنياً بمفرداتٍ و مصطلحاتٍ مثل : الروح ، الجسد ، في ثنائيتهما الأبدية ، و كذلك الوثبة الخلاقة ( أو الوثوب الخلاق ) و لحظة الحدس الاشراقي و الأحاسيس بمختلف معادلاتها اللغوية الممكنة و الكائن الأسمى المتفوق .. الخ .
    لكنّ ذلك لم يمنع " كازنتزاكي " من النهل انطلاقا من روح الشعب المعذبة في جزيرته " كريت " كما في أرجاء العالم ، معتبراً أن الروحَ السامية تلعب دورَ " المحامي " الذي يرافع أمام محكمة الكون و دفاعاً عن عامة الناس و قضاياهم النبيلة . غير أن ذلك الدفاع يُثري الروحَ بدورها لأنها كما في " زوربا " تقارع فلسفة ً أخرى ، هي فلسفة العيش التي يرسمها رجلٌ من عامة الشعب يُدعى " زوربا " و سوف نجده في هذا الكتاب رجلاً من لحم و دم ، عبر رسائله ، متابعاً لعبتَه العبثية هرباً من العجز والشيخوخة ( لم أتزوج إلاّ من باب المزاح . السيدة زوجتي توفيت ، و حسناً فعلت . لا أخشى الموت و لا أخشى أخطر عناصر الطبيعة حتى اذا جاء ذنَبُ نيزكٍ ليضربنا و يحوّلنا الى سلاطة طماطم .. الشيخوخة تخيفني و أجد نفسي تحت رحمة قرارٍ عائلي يأمرني بمراقبة وحشٍ ، طفلٍ صغير ، حتى لا يحرق نفسَه ، حتى لا يسقط ، حتى لا يتعلم الرذالات ) . ذلك ما يكتبه في رسالة الى " كازنتزاكي " بعد هجرته الى مناجم أخرى في صربيا بحثا عن المال الذي " يستر " به شيخوخته .
    و ليس الشخوص وحدهم هم الذين يتقاطعون في حياة " كازنتزاكي " و أعماله ، كما لاحظنا مع " زوربا " بل هناك اللغة أيضاً ، اذ أن بعض المقاطع في رسائله تتشابه و الكثير من المقاطع في مؤلفاته ولا سيما " الأوديسة " * التي ظلت ترافقه طيلة حياته " كمشروع عمر " .
    و يضيف المترجم ، الأستاذ " اليوسفي " ، في مقدمته :
    إن كتاب ( المُنشَق ) الذي ألّفته " ايليني " زوجة " كازانتزاكي " الثانية ، من خلال جمعِ رسائله و مذكراته و بعضِ نصوصه غير المنشورة ، يبيّنُ أن حياته ، على خلاف الكثير من الكتّاب الكبار ، كانت متطابقة مع أعماله الى حد التداخل . و يكشفُ هذا الكتاب عن كفاح رجلٍ لم يتزحزح عن مواقفه برغم كل المصائب التي حلّت به . لكنه يتصمّن أيضاً قصة حبٍ فريدة ، يمكن أن تشكّل زاويةً أخرى لقراءة الكتاب .
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    من رسائل " نيكوس كازانتزاكي " الى زوجته " ايليني " :
    مدريد ، 8 ديسمبر 1932
    .. أدركتُ من خلالِ أغنيةٍ شعبية ، سمعتُها أولَ أمس ، أنني عشتُ حياتي سُدىً . و لو عدت الى هذه الأرض لاخترتُ ، بالتأكيد ، طريقاً آخر . لكنني لا أتمنى العودة اليها . عندما أشم رائحة التربة المبلولة ، ينقبض قلبي و تملأني العودة الى حضن الأرض بفرح مُر .
    أتذكر أنني التفتُ ، عند منعطف الشارع ، أثناء توجهي الى الميناء ، و رأيتُ أمي ــ لآخر مرة ــ واقفة ً على العتبة تبكي . و هي الآن موجودة في الضفة الأخرى و تناديني . و لم تعد الأرض تزدريني . لا يمر يومٌ دون أن تتملكني هذه الرؤيا ، و لا تمر ليلةٌ دون رؤية أمي في الحلم . لقد اكتسب الجحيمُ تـألقاً غير معهود ، و أعتقد أنك الوحيدةُ القادرةُ على استبقائي في هذه الأرض .
    ليس ذلك ما أريد التحدثَ عنه .. أحتاجُ الى ( الأوديسة ) أكثر من أي وقت مضى ، كي أمنع قلبي من التفتت ، إنها تشبه الخمرة التي تزوّد بالنسيان . لكنني لم أتوصل الى الإنتشاء و فقدان الذاكرة مطلقاً .
    ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    ليلة 21 فبراير 1935
    مازلنا في قناة السويس الشهيرة . على يسارنا صحراءُ العرب ، رتيبة ٌ بلا أشجار ، و لا حتى بيت واحد . و على يميننا الأرض المصرية منبسطة بنخيلها و قُراها . و هكذا ننزل الى البحر الأحمر، بين افريقيا و آسيا .
    تعرفتُ الى ياباني مسيحي ! تحدثنا مطولاً عن الدين . تحمّس و بدأ يؤلف كتاباً سوف يحمل عنوان " كوكورو مان " ( كوكورو ، باليابانية ، تعني " قلب " ) لأنني سمّيت له المسيح بذلك الإسم . لقد فتنته الفكرة و هاهوذا يشرع ، منذ الآن ، في تأليف كتابٍ ليتحدث فيه عن رؤية اليابانيين للديانة المسيحية .. إن البشرَ في كل مكان متعطشون للكلمة الطيبة ، و كثيراً ما تكون الكلمة الطيبة خصبة ..
    تجلس الى المائدة ، بجانبي ، تلك المرأة الفرنسية السَمجة ، و لم أكلّمها و لن أفعل ذلك . نتناول وجبات نصف أوروبية ، نصف يابانية . و الفرنسية تشم و تشَمشِم ، و تمط شفتيها اشمئزازاً ، فالأكل لا يروق لها . أما أنا فآكل بنهم ، لقد بدأت أتأقلم ..
    ـــــــــــــــــــــــــ
    25 فبراير 1935
    أحياناً يثب دلفين ، و حولنا تطير النوارس ، و في هذا الصباح جاء طائرٌ أحمر من الحبشة . غرّد مرة أو مرتين ثم طار . هذا المساء ندخل المحيط الهندي . المسافرون يتململون من شدة الضجر . لا أحد يطالع . يشغّلون الفونوغراف ( الحاكي ) و يرقصون . في البداية كلُّ واحدٍ بمفرده ، و لا يتحدث الى أحد ، و الآن بدأ الجميعُ يتبادلون الحديث ، و حيثُما كنتَ يقتربُ منكَ أحدُهم محاولاً التحدثَ بتعلّة السؤالِ عن الساعة .. و بهذه الطريقة تعرّفت الى إنجليزيةٍ ثرية ، حيوية ، ثقيلة الفك ، تسافر الى الصين برفقة زوجها .. ألعب " الدك ـ غولف " أحياناً .. لكنني أمضي النهارَ كله تقريباً في القراءة .. خلالَ ثمانيةِ أيامٍ نبلغ كولومبو .. و تبقى لنا خمسة عشر يوماً لبلوغ شنغهاي .. أنها رحلة طويلة مُضْجِرة ، و لاسيّما الآن ، لأننا لم نعد نرى اليابسة ، و لا شيء غير البحر ، بلا نهاية و لا فائدة ..
    صارت الرحلةُ رتيبة ً ، و المسافرون يفقدون صوابَهم .. فيلعبون الألعابَ نفسَها و يُعيدون الدعاباتِ نفسَها ، لكنهم يَضْحُون أقل ..
    أطالع ، يومياً ، كتابين أو ثلاثة من المكتبة الفظيعة التابعة للباخرة ، و أعيد قراءة قصائدك فأعدّل قليلاً ، لكن بشكل مُجْدٍ .
    كنت أودّ كتابة نشيدٍ جديد غير أن الأجواءَ غيرُ مناسبة . حرارة ٌ عالية .. كلَّ يومٍ نقدّم ساعاتِنا بقَدْرِ نصفِ ساعة . حبيبتي ، أنت الوحيدة ُ التي توجدين ، و حتى السفر في المحيط الهندي ما هو إلاّ أسطورة ..
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    * ( الأوديسة ) عملٌ شعري كتبه " كازانتزاكي " على مدى تسع سنوات ( 1929 ــ 1938 ) في 33333 بيتاً شعرياً .. باعتماد وزن مبتكر .
يعمل...
X