شليغل (أوغُسْت فيلْهِلْم، وفريدريش ـ)
ينحدر الأخوان شليغل من أسرة ذات باع طويل وراسخ في الأدب والفكر في عصر التنوير Aufklärung الألماني، فوالدهما هو الأديب والمسرحي والصحفي ورجل الدين البروتستنتي يوهان أدولف شليغل Johann Adolf Schlegel ت(1721- 1793) الذي قام بدور بالغ الأهمية في تطوير المسرح الألماني بموضوعات برجوازية راهنة، سواء على صعيد المأساة أو الملهاة، ولاسيما في علم جمال المسرح؛ وعمهما هو الكاتب المسرحي والباحث الأدبي يوهان إلياس شليغل Johann Elias Schlegel ت(1719- 1749) الذي طالب الأدباء بالالتفات إلى المسائل الوطنية والقومية، وباستلهام الواقع الألماني، وهو الذي هاجم، بحجة تقليد المسرحيين الألمان، أساليب الاتباعية (الكلاسيكية) الفرنسية المحدَثة Classicisme ولفت أنظارهم، قبل لِسينغ Lessing، إلى أهمية شكسبيرShakespeare ومعاصريه على صعيد الأشكال الفنية والموضوعات الأدبية والتاريخية.
ولد أوغست فيلهلم شليغل August Wilhelm Schlegel عام 1767 في هانوفر وتوفي عام 1845 في بون، وهو ناقد وعالم جمال وشاعر وعالم لغوي، ومترجم ومستشرق، ويعد مع أخيه فريدريشFriedrich الممهدين البارزين للحركة الإبداعية (الرومنسية)[ر] في ألمانيا. درس اللاهوت وعلم اللغة في مدينة غوتِّنغن Göttingen، وعمل مدرساً خاصاً في أمستردام بين عامي 1792ـ 1795، عاد بعد ذلك إلى مدينة ييناJena حيث عمل ناقداً أدبياً في مجلة شيلرSchiller «هورِن» Horen (ربات الفصول الأربعة) ومجلة «موزِن ألمناخ»Musenalmanach (تقويم ربات الفنون) وفي «جريدة الأدب العامة» Allgemeine Literaturzeitung. وفي عام 1796 تزوج كارولينِه ميشائليس Karoline Michaelis، التي تزوجت بعد طلاقها منه في عام 1803 الفيلسوف شيلنغ Schelling، وتعد أحد أهم الوجوه الثقافية المؤثرة في الحركة الأدبية والفكرية الإبداعية من خلال عملها صحافية ومترجمة وسياسية، وفي صالونها الأدبي. وفي عام 1798 مُنح أوغست فيلهلم لقب أستاذ جامعي فوق العادة، وفي العام نفسه أسس مع أخيه مجلة «أتِنايوم» Athenäum(معبد الربة أثينة) التي استمرت حتى عام 1800، فكانت النشرة البرنامجية للحركة الإبداعية الألمانية. ومنذ عام 1801 عاش أوغست فيلهلم متفرغاً للبحث والتأليف في برلين، حيث تعرف مدام دي ستال Mme.de Staël ورافقها في عدة رحلات إلى سويسرا وإيطاليا وفرنسا والسويد وإنكلترا. ويرى النقاد أن كتابها «من ألمانيا» De l‘Allemagneت(1810) ذا التأثير الواضح في الإبداعية الفرنسية، يحمل أفكار أ.ف.شليغل وآراءه.
في عام 1809 صار أوغست فيلهلم مستشاراً للشؤون الخارجية لدى حكومة السويد، ثم سكرتيراً لولي عهد السويد بين 1813 و1814 وحصل في عام 1815 على لقب النبالة، فصار اسمه أوغست فيلهلم فون شليغل، وشغل منذ عام 1819 منصب الأستاذية للغة والأدب السنسكريتي في جامعة بون، ومدير متحف الآثار فيها، فكرس جل وقته للبحوث اللغوية والأدبية، بعيداً عن صخب الأوساط الأدبية والفنية.
تكمن أهمية أوغست فيلهلم في بحوثه النقدية، وفي دوره كوسيط ومترجم أدبي وفكري، من عدة لغات أوربية ومن السنسكريتية إلى الألمانية، التي كان تمرسه بإمكاناتها، وتفرد أسلوبه في التعبير بها، عاملين حاسمين في تميز ترجماته الأدبية، وتأثيرها في القراء أو المتفرجين المسرحيين. وفي أثناء فعاليته ناقداً في مرحلة يينا كانت مفاهيمه الفنية مستمدة في المقام الأول من حركة الاتباعية الألمانية، ولاسيما من مفاهيم غوته Goethe وشيلر، فكانت مقالاته التحليلية اللماحة لأعمال هذه الحركة دليلاً مهمَّاً لفهم عوالمها الفكرية وتصوراتها الفنية، علماً بأنه لم يبدِ تفهماً لنظرية غوته حول جدلية العلاقة بين الفن والواقع، مما صبغ تحليلاته أحياناً بالنزعة الجمالية الأحادية الجانب. كذلك كان الأمر بصدد تحليلاته لأعمال الإبداعيين الألمان، من مثل فاكِنْرودَر Wackenroder ونوفاليسNovalis بحيث لم يلتفت إلى توجهاتهما الدينية الغيبية بقدر اهتمامه بالجوانب الفنية الجمالية على صعيد الشكل واللغة. وفي المرحلة اللاحقة كرس الناقد جل اهتمامه للترجمة، وكانت ترجمته المبدعة لأعمال شكسبير عاملاً مهماً في جعل الأديب الإنكليزي يحظى بشعبية واسعة بين القراء الألمان. وقد استغرق منه العمل أربعة عشر عاماً (1797ـ 1810)، إلى جانب ترجماته المتعددة واللافتة عن المسرح الإسباني ولبعض الشعراء البرتغاليين والإيطاليين. ومن أهم أعماله التي أبرزته باحثاً ومحللاً هي «محاضرات في الأدب والفنون الجميلة»Vorlesungen über schöne Literatur und Kunst التي ألقاها في برلين بين 1801 ـ 1804، ومحاضراته التي ألقاها في فيينا بين 1808 ـ 1809 بعنوان «محاضرات في الفن المسرحي والأدب» Über dramatische Kunst und Literatur التي حلل فيها العلاقة بين فلسفة الحركة الإبداعية الألمانية وجماليتها، ولكن من دون أن يربطها بواقع التطورات التاريخية في أوربا آنئذ. وحال صدور هذه المحاضرات كتباً، تُرجمت إلى معظم اللغات الأوربية، فكان لها عميق الأثر في تطور الآداب الأوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
صحيح أن أشعار أوغست فيلهلم لم تلق كبير اهتمام من جانب النقد، لإغراقها في التجريب الشكلاني formalistisch واللغوي، لكن بحوثه في العلوم اللغوية كانت ذات تأثير عميق في تطور هذه الدراسات في ألمانيا، ولاسيما حول اللغات الشرقية، فقد نشر بين 1823 ـ 1830 ثلاثة مجلدات بعنوان «المكتبة الهندية» Indische Bibliothek.
أما فريدريش شليغل فقد ولد عام 1772 في هانوفر، وتوفي عام 1829 في درِسْدن، وهو باحث أدبي وعالم جمال ولغة وفيلسوف وشاعر. درس القانون في جامعة غوتنغن ثم اللغات القديمة والفلسفة في جامعة لايبزيغ، وتفرغ للبحث العلمي والكتابة الأدبية في درسدن، وبعد إقامة قصيرة في يينا انتقل إلى برلين حيث عمل مدرساً خصوصياً، وأسهم مع أخيه في إصدار مجلة «أتِنايوم». ارتبط بعلاقات صداقة مع أدباء الإبداعية الألمانية، من مثل شلايرمَخَرSchleiermacher وفاكِنْرودَر وتيك Tieckونوفاليس. وفي عام 1802 غادر فريدريش إلى باريس حيث عمل مدرساً خصوصياً وكرس وقته لدراسة لغات الرومانس[ر] واللغات الشرقية. تزوج في عام 1804 الكاتبة والمترجمة دوروتيا Dorothea ابنة الفيلسوف موزِس مندلسون Moses Mendelssohn. وفي عام 1808 تحول البروتستنتي فريدريش وزوجته اليهودية دوروتيا إلى الكاثوليكية، وانتقلا إلى فيينا حيث عمل فريدريش مستشاراً في البلاط، وحصل عام 1815 على لقب النبالة. ثم شغل بين 1815 و1818 منصب مستشار الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني في مدينة فرانكفورت، وعاد بعد ذلك إلى فيينا حيث وقف جل وقته على إصدار مؤلفاته. ومنذ عام 1828 بدأ بتدريس الفلسفة في جامعة درسدن، وخلال العقدين الأخيرين من حياته تمحورت آراؤه حول رومنسية مسيحية تمجد ماضيَّاً ذهبيَّاً افتراضيَّاً، عاش فيه الإنسان في انسجام شبه كامل بين ذاته والواقع والكنيسة.
كان فريدريش شليغل ناقداً حاد الذكاء، عميق الفكر، وكاتباً ألمعيّاً ذواقة، إلا أنه كان يتطرف في طرح وجهات نظره التي كانت صياغاتها تبدو متناقضة أحياناً، مما كان يستفز معاصريه ويؤدي إلى نوع من الجدل المثري للحركة الفكرية. وقد بدأت مؤلفاته بكتاب مهم بعنوان «في دراسة الشعر الإغريقي» Über das Studium der griechischen Poesie ت(1797) تابع فيه المواقف البرجوازية التقدمية للكلاسيكيين الألمان في دراسة الإغريق. كما أصدر في العام نفسه «مقاربة لمفهوم الجمهوريانية»Versuch über den Begriff des Republikanismus متأثراً بالثورة الفرنسية 1789 ومدافعاً من حيث الموقف الفلسفي السياسي عن مواقع التنويريين لسينغ وفورستر Forster الذي خص شليغل أعماله بكتاب نقدي بعنوان «كتابات غيورغ فورستر» Die Schriften von Georg Forsterنشره في أواخر عام 1797، إلا أنه، وبتأثير فلسفة فيختِه (فيشتِه) Fichte، تحول إلى مواقع المثالية الذاتانية Subjektiver Idealismus التي شكلت من ثم مهاد الخلفية الفكرية للإبداعية (الرومنسية) الألمانية. وبدراساته: «خطاطات نقدية» Kritische Fragmente ت(1797) و«خطاطات»Fragmente ت(1798) و«أفكار» Ideenت(1800) اعتبر فريدريش شليغل المؤسس الجمالي ästetisch للحركة الإبداعية، إذ صاغ فيها عوضاً عن النظرية الكلاسيكية (الاتباعية) الواقعية في الفن نظرية فردانية ـ فانتازية individualistisch-phantastisch أنكر فيها التقسيم الواضح للأنواع الأدبية، داعياً لـ «فن كوني» Universalkunst لا حدود لـه ولا نهاية، وجعل من «السخرية الإبداعية»romantische Ironie مبدأ أدبياً بشكل غاية في التعسف، فقال: «إن شعر الأدب الرومانسي هو شعر تقدمي كوني .. والسخرية الرومنسية كمبدأ تمنحك الحرية الأكبر، بحيث تتجاوز حتى ذاتك». ولكن على الرغم من مبالغات خطاطاته وتطرفها فإنها تتضمن الكثير من المقولات النقدية الجريئة والصائبة حول الأوضاع الاجتماعية في عصره. وتعد دراسته «سمات فيلهلم مايستر»Charachteristik des‘ Wilhelm Meisterت(1798) نموذجاً جليّاً، ليس فقط عن مفاهيمه الفنية، وإنما عن رهافة حسه وعمق نظرته عند عرضه لرواية غوته الشهيرة «فيلهلم مايستر» Wilhelm Meister التي اعتبرها ذروة الأدب الألماني حتى يومه. أما روايته الوحيدة وغير الكاملة «لوسيندِه»Lucinde ت(1799) فقد أحدثت جدلاً حادَّاً في الأوساط الأدبية بتأكيدها الأحادي الجانب على العنصر الحسي، ولاقت نقداً شديداً من قبل شيلر، في حين لم يدافع عن مضمونها الاجتماعي الجريء والسابق لعصره سوى شلايرمَخَر صديق فريدريش. كما تضمنت الرواية قصيدة بعنوان «في مديح التنْبلة» Idylle über den Mussiggang يناقش فيها فريدريش حياة التبطل باعتبارها عاملاً مساعداً على تفتح الشخصية الإنسانية، في محاولة منه للرد على طروحات غوته وشيلر حول الموضوع نفسه ورفضهما إياه وتأكيدهما أن العمل الفعال هو ما يمنح الفرد جوهره فيؤدي إلى تطور المجتمع.
وعلى الرغم من أن مؤلفات فريدريش شليغل النثرية والشعرية لم تلق ذلك الاهتمام في الوسط الأدبي حينذاك، فانحصر مكانها في تاريخ الأدب، إلا أن تاريخ العلوم اللغوية يعتبر شليغل مؤسس الدراسات السنسكريتية في أوربا، والممهد الرئيسي لعلم اللغات المقارن، ولاسيما في كتابه «في لغة وحكمة الهنود» Von der Sprache und Weisheit der Inder ت(1808) وفي دراساته عن اللغة الألمانية وأدبها في العصور الوسطى، وعن فلسفة اللغة.
نبيل الحفار
ينحدر الأخوان شليغل من أسرة ذات باع طويل وراسخ في الأدب والفكر في عصر التنوير Aufklärung الألماني، فوالدهما هو الأديب والمسرحي والصحفي ورجل الدين البروتستنتي يوهان أدولف شليغل Johann Adolf Schlegel ت(1721- 1793) الذي قام بدور بالغ الأهمية في تطوير المسرح الألماني بموضوعات برجوازية راهنة، سواء على صعيد المأساة أو الملهاة، ولاسيما في علم جمال المسرح؛ وعمهما هو الكاتب المسرحي والباحث الأدبي يوهان إلياس شليغل Johann Elias Schlegel ت(1719- 1749) الذي طالب الأدباء بالالتفات إلى المسائل الوطنية والقومية، وباستلهام الواقع الألماني، وهو الذي هاجم، بحجة تقليد المسرحيين الألمان، أساليب الاتباعية (الكلاسيكية) الفرنسية المحدَثة Classicisme ولفت أنظارهم، قبل لِسينغ Lessing، إلى أهمية شكسبيرShakespeare ومعاصريه على صعيد الأشكال الفنية والموضوعات الأدبية والتاريخية.
ولد أوغست فيلهلم شليغل August Wilhelm Schlegel عام 1767 في هانوفر وتوفي عام 1845 في بون، وهو ناقد وعالم جمال وشاعر وعالم لغوي، ومترجم ومستشرق، ويعد مع أخيه فريدريشFriedrich الممهدين البارزين للحركة الإبداعية (الرومنسية)[ر] في ألمانيا. درس اللاهوت وعلم اللغة في مدينة غوتِّنغن Göttingen، وعمل مدرساً خاصاً في أمستردام بين عامي 1792ـ 1795، عاد بعد ذلك إلى مدينة ييناJena حيث عمل ناقداً أدبياً في مجلة شيلرSchiller «هورِن» Horen (ربات الفصول الأربعة) ومجلة «موزِن ألمناخ»Musenalmanach (تقويم ربات الفنون) وفي «جريدة الأدب العامة» Allgemeine Literaturzeitung. وفي عام 1796 تزوج كارولينِه ميشائليس Karoline Michaelis، التي تزوجت بعد طلاقها منه في عام 1803 الفيلسوف شيلنغ Schelling، وتعد أحد أهم الوجوه الثقافية المؤثرة في الحركة الأدبية والفكرية الإبداعية من خلال عملها صحافية ومترجمة وسياسية، وفي صالونها الأدبي. وفي عام 1798 مُنح أوغست فيلهلم لقب أستاذ جامعي فوق العادة، وفي العام نفسه أسس مع أخيه مجلة «أتِنايوم» Athenäum(معبد الربة أثينة) التي استمرت حتى عام 1800، فكانت النشرة البرنامجية للحركة الإبداعية الألمانية. ومنذ عام 1801 عاش أوغست فيلهلم متفرغاً للبحث والتأليف في برلين، حيث تعرف مدام دي ستال Mme.de Staël ورافقها في عدة رحلات إلى سويسرا وإيطاليا وفرنسا والسويد وإنكلترا. ويرى النقاد أن كتابها «من ألمانيا» De l‘Allemagneت(1810) ذا التأثير الواضح في الإبداعية الفرنسية، يحمل أفكار أ.ف.شليغل وآراءه.
في عام 1809 صار أوغست فيلهلم مستشاراً للشؤون الخارجية لدى حكومة السويد، ثم سكرتيراً لولي عهد السويد بين 1813 و1814 وحصل في عام 1815 على لقب النبالة، فصار اسمه أوغست فيلهلم فون شليغل، وشغل منذ عام 1819 منصب الأستاذية للغة والأدب السنسكريتي في جامعة بون، ومدير متحف الآثار فيها، فكرس جل وقته للبحوث اللغوية والأدبية، بعيداً عن صخب الأوساط الأدبية والفنية.
تكمن أهمية أوغست فيلهلم في بحوثه النقدية، وفي دوره كوسيط ومترجم أدبي وفكري، من عدة لغات أوربية ومن السنسكريتية إلى الألمانية، التي كان تمرسه بإمكاناتها، وتفرد أسلوبه في التعبير بها، عاملين حاسمين في تميز ترجماته الأدبية، وتأثيرها في القراء أو المتفرجين المسرحيين. وفي أثناء فعاليته ناقداً في مرحلة يينا كانت مفاهيمه الفنية مستمدة في المقام الأول من حركة الاتباعية الألمانية، ولاسيما من مفاهيم غوته Goethe وشيلر، فكانت مقالاته التحليلية اللماحة لأعمال هذه الحركة دليلاً مهمَّاً لفهم عوالمها الفكرية وتصوراتها الفنية، علماً بأنه لم يبدِ تفهماً لنظرية غوته حول جدلية العلاقة بين الفن والواقع، مما صبغ تحليلاته أحياناً بالنزعة الجمالية الأحادية الجانب. كذلك كان الأمر بصدد تحليلاته لأعمال الإبداعيين الألمان، من مثل فاكِنْرودَر Wackenroder ونوفاليسNovalis بحيث لم يلتفت إلى توجهاتهما الدينية الغيبية بقدر اهتمامه بالجوانب الفنية الجمالية على صعيد الشكل واللغة. وفي المرحلة اللاحقة كرس الناقد جل اهتمامه للترجمة، وكانت ترجمته المبدعة لأعمال شكسبير عاملاً مهماً في جعل الأديب الإنكليزي يحظى بشعبية واسعة بين القراء الألمان. وقد استغرق منه العمل أربعة عشر عاماً (1797ـ 1810)، إلى جانب ترجماته المتعددة واللافتة عن المسرح الإسباني ولبعض الشعراء البرتغاليين والإيطاليين. ومن أهم أعماله التي أبرزته باحثاً ومحللاً هي «محاضرات في الأدب والفنون الجميلة»Vorlesungen über schöne Literatur und Kunst التي ألقاها في برلين بين 1801 ـ 1804، ومحاضراته التي ألقاها في فيينا بين 1808 ـ 1809 بعنوان «محاضرات في الفن المسرحي والأدب» Über dramatische Kunst und Literatur التي حلل فيها العلاقة بين فلسفة الحركة الإبداعية الألمانية وجماليتها، ولكن من دون أن يربطها بواقع التطورات التاريخية في أوربا آنئذ. وحال صدور هذه المحاضرات كتباً، تُرجمت إلى معظم اللغات الأوربية، فكان لها عميق الأثر في تطور الآداب الأوربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
صحيح أن أشعار أوغست فيلهلم لم تلق كبير اهتمام من جانب النقد، لإغراقها في التجريب الشكلاني formalistisch واللغوي، لكن بحوثه في العلوم اللغوية كانت ذات تأثير عميق في تطور هذه الدراسات في ألمانيا، ولاسيما حول اللغات الشرقية، فقد نشر بين 1823 ـ 1830 ثلاثة مجلدات بعنوان «المكتبة الهندية» Indische Bibliothek.
أما فريدريش شليغل فقد ولد عام 1772 في هانوفر، وتوفي عام 1829 في درِسْدن، وهو باحث أدبي وعالم جمال ولغة وفيلسوف وشاعر. درس القانون في جامعة غوتنغن ثم اللغات القديمة والفلسفة في جامعة لايبزيغ، وتفرغ للبحث العلمي والكتابة الأدبية في درسدن، وبعد إقامة قصيرة في يينا انتقل إلى برلين حيث عمل مدرساً خصوصياً، وأسهم مع أخيه في إصدار مجلة «أتِنايوم». ارتبط بعلاقات صداقة مع أدباء الإبداعية الألمانية، من مثل شلايرمَخَرSchleiermacher وفاكِنْرودَر وتيك Tieckونوفاليس. وفي عام 1802 غادر فريدريش إلى باريس حيث عمل مدرساً خصوصياً وكرس وقته لدراسة لغات الرومانس[ر] واللغات الشرقية. تزوج في عام 1804 الكاتبة والمترجمة دوروتيا Dorothea ابنة الفيلسوف موزِس مندلسون Moses Mendelssohn. وفي عام 1808 تحول البروتستنتي فريدريش وزوجته اليهودية دوروتيا إلى الكاثوليكية، وانتقلا إلى فيينا حيث عمل فريدريش مستشاراً في البلاط، وحصل عام 1815 على لقب النبالة. ثم شغل بين 1815 و1818 منصب مستشار الشؤون الخارجية في البرلمان الألماني في مدينة فرانكفورت، وعاد بعد ذلك إلى فيينا حيث وقف جل وقته على إصدار مؤلفاته. ومنذ عام 1828 بدأ بتدريس الفلسفة في جامعة درسدن، وخلال العقدين الأخيرين من حياته تمحورت آراؤه حول رومنسية مسيحية تمجد ماضيَّاً ذهبيَّاً افتراضيَّاً، عاش فيه الإنسان في انسجام شبه كامل بين ذاته والواقع والكنيسة.
كان فريدريش شليغل ناقداً حاد الذكاء، عميق الفكر، وكاتباً ألمعيّاً ذواقة، إلا أنه كان يتطرف في طرح وجهات نظره التي كانت صياغاتها تبدو متناقضة أحياناً، مما كان يستفز معاصريه ويؤدي إلى نوع من الجدل المثري للحركة الفكرية. وقد بدأت مؤلفاته بكتاب مهم بعنوان «في دراسة الشعر الإغريقي» Über das Studium der griechischen Poesie ت(1797) تابع فيه المواقف البرجوازية التقدمية للكلاسيكيين الألمان في دراسة الإغريق. كما أصدر في العام نفسه «مقاربة لمفهوم الجمهوريانية»Versuch über den Begriff des Republikanismus متأثراً بالثورة الفرنسية 1789 ومدافعاً من حيث الموقف الفلسفي السياسي عن مواقع التنويريين لسينغ وفورستر Forster الذي خص شليغل أعماله بكتاب نقدي بعنوان «كتابات غيورغ فورستر» Die Schriften von Georg Forsterنشره في أواخر عام 1797، إلا أنه، وبتأثير فلسفة فيختِه (فيشتِه) Fichte، تحول إلى مواقع المثالية الذاتانية Subjektiver Idealismus التي شكلت من ثم مهاد الخلفية الفكرية للإبداعية (الرومنسية) الألمانية. وبدراساته: «خطاطات نقدية» Kritische Fragmente ت(1797) و«خطاطات»Fragmente ت(1798) و«أفكار» Ideenت(1800) اعتبر فريدريش شليغل المؤسس الجمالي ästetisch للحركة الإبداعية، إذ صاغ فيها عوضاً عن النظرية الكلاسيكية (الاتباعية) الواقعية في الفن نظرية فردانية ـ فانتازية individualistisch-phantastisch أنكر فيها التقسيم الواضح للأنواع الأدبية، داعياً لـ «فن كوني» Universalkunst لا حدود لـه ولا نهاية، وجعل من «السخرية الإبداعية»romantische Ironie مبدأ أدبياً بشكل غاية في التعسف، فقال: «إن شعر الأدب الرومانسي هو شعر تقدمي كوني .. والسخرية الرومنسية كمبدأ تمنحك الحرية الأكبر، بحيث تتجاوز حتى ذاتك». ولكن على الرغم من مبالغات خطاطاته وتطرفها فإنها تتضمن الكثير من المقولات النقدية الجريئة والصائبة حول الأوضاع الاجتماعية في عصره. وتعد دراسته «سمات فيلهلم مايستر»Charachteristik des‘ Wilhelm Meisterت(1798) نموذجاً جليّاً، ليس فقط عن مفاهيمه الفنية، وإنما عن رهافة حسه وعمق نظرته عند عرضه لرواية غوته الشهيرة «فيلهلم مايستر» Wilhelm Meister التي اعتبرها ذروة الأدب الألماني حتى يومه. أما روايته الوحيدة وغير الكاملة «لوسيندِه»Lucinde ت(1799) فقد أحدثت جدلاً حادَّاً في الأوساط الأدبية بتأكيدها الأحادي الجانب على العنصر الحسي، ولاقت نقداً شديداً من قبل شيلر، في حين لم يدافع عن مضمونها الاجتماعي الجريء والسابق لعصره سوى شلايرمَخَر صديق فريدريش. كما تضمنت الرواية قصيدة بعنوان «في مديح التنْبلة» Idylle über den Mussiggang يناقش فيها فريدريش حياة التبطل باعتبارها عاملاً مساعداً على تفتح الشخصية الإنسانية، في محاولة منه للرد على طروحات غوته وشيلر حول الموضوع نفسه ورفضهما إياه وتأكيدهما أن العمل الفعال هو ما يمنح الفرد جوهره فيؤدي إلى تطور المجتمع.
وعلى الرغم من أن مؤلفات فريدريش شليغل النثرية والشعرية لم تلق ذلك الاهتمام في الوسط الأدبي حينذاك، فانحصر مكانها في تاريخ الأدب، إلا أن تاريخ العلوم اللغوية يعتبر شليغل مؤسس الدراسات السنسكريتية في أوربا، والممهد الرئيسي لعلم اللغات المقارن، ولاسيما في كتابه «في لغة وحكمة الهنود» Von der Sprache und Weisheit der Inder ت(1808) وفي دراساته عن اللغة الألمانية وأدبها في العصور الوسطى، وعن فلسفة اللغة.
نبيل الحفار