الإنسانية تجمعنا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإنسانية تجمعنا

    الإنسانية تجمعنا

    في ذروة أحداث مدينة حلب عام 2014 حيث كانت قذائف الغدر تسقط خبط عشواء على أحياء المدينة الجريحة و يتخطف الموت أرواح الأبرياء في كل مكان
    صدفة جمعتني به في أحد العيادات كان في أوائل العقد الخامس من عمره يجلس منتظرا دوره وعلى وجهه تبدو ملامح الهم و الحزن حال من عايشو تلك الفترة العصيبة ولم يبقى في الانتظار سوانا دخل أحدهم العيادة و أخذ يجادل الممرضة يريد الدخول مباشرة للكشف و هي تصر على الالتزام بالدور فما كان من صديقي إلا أن خاطبه متنازلا له عن دوره عن طيب خاطر ونظر إلي إن كنت أوافق فأومأت برأسي بالقبول ، قمت و جلست بجانبه ، و أعربت له عن إعجابي بموقفه النبيل و أخلاقه العالية و دار بيننا حديث مقتضب عن الوضع العام و من خلال حديثه ذكر بعض الكلمات التي جعلتني أسأله بعد أن استأذنته هل أنت مسلم أم مسيحي ؟ أجابني بأنه مسيحي أرمني .. استغربت و قلت له لكنك تجيد اللهجة الحلبية أفضل مني.. قال و أيضا أجيد اللغة العربية حتى أنني كنت أعمل في الفاتيكان مترجما للمخطوطات العربية .. أجبته و علائم الدهشة بادية على وجهي الفاتيكان !!! كنت في الفاتيكان !!! ما الذي أتى بك إلى هذه المدينة المنكوبة ، قال أنا إبن الشرق إبن مدينة حلب لم أستطع التأقلم مع حياة الغرب ثم إن والدتي طاعنة في السن ولا يوجد من يرعاها غيري .
    جاء دور صديقي فودعني ودخل غرفة المعاينة جلست أفكر بكلامه و عندما خرج اقتربت منه و أعربت له عن سعادتي بالتعرف عليه و رجوت أن تجمعنا الظروف مرة أخرى وبادرني نفس الشعور و انصرف ، أنهيت المعاينة و خرجت و تفاجأت به ينتظرني عند باب العمارة أعربت له عن سعادتي ببادرته الطيبة وسألت عن وجهته و طلبت منه أن أرافقه فاتجهنا باتجاه ساحة المدينة الرئيسية ( ساحة سعدالله الجابري ) و تابعنا حديثنا ، أخبرني عن خوفه من الوضع العام وعن معاناة المسيحيين الذين هاجر كثير منهم خوفا من الجهات المتشددة دينيا و أخبرني أنه كاهن مسيحي لم يخلع في حياته الثوب الكنسي ولكنه اضطر للبس الزي المدني خوفا من التعرض له من قبل المتشددين ، هنا وصلنا منتصف الساحة بعد الغروب ، أخذنا الحديث و نسينا أننا نقف وسط منطقة من أخطر المناطق لطالما تعرضت للقصف و سقط فيها العديد من الأبرياء ، قلت له أنا مسلم لأنني ولدت في أسرة مسلمة و أنت مسيحي لأنك ولدت في أسرة مسيحية ترى لو أنعكست الآية لكنت أنا المسيحي و أنت المسلم و اتفقنا على أن البشر مهما كانت انتماءاتهم و أديانهم و عقائدهم و أعراقهم هم أخوة في الإنسانية ولا مبرر لأي حقد أو عداوة مبنية على أساس ديني أو عرقي أو عقائدي ..
    صحونا على أصوات انفجارات و كانت هي الحالة السائدة طيلة فترة الأزمة تبادلنا بسرعة أرقام الهواتف و ودعته و انطلق كل منا يعدو باتجاه متعاكس هاربين من ساحة الموت ...
    استمرت علاقتي معه حوالي سنتين عن طريق الاتصالات الهاتفية فقط ولم نتقابل نهائيا خلال هذه الفترة العصيبة ، كنا نقضي ساعات نتناقش في أمور كثيرة حيث تبين لي أنه إنسان طيب القلب مسالم رقيق المشاعر متسامح لا يحمل حقدا على أحد واسع الثقافة و الإطلاع على الأديان و التاريخ و الفلسفة و علم النفس و يتقن اللغة العربية بقواعدها و أصولها و يحفظ الكثير من الأشعار العربية ولديه مكتبة زاخرة بالكتب ، وكان يمتلك ذاكرة حديدية فكثيرا ما كان يذكر لي إسم الكتاب و المؤلف و رقم الصفحة المذكور فيها موضوع نقاشنا ، تعلمت منه الكثير ، تقابلنا بعدها عدة مرات و استمر تواصلنا عن طريق وسائل التواصل إلى أن أرسل لي يوما مقطوعة موسيقية معلقا تحتها بما يلي :
    - كنت سنة أولى حقوق لما سمعت هذه المقطوعة بعدها بدأت رحلتي مع الموسيقى الكلاسيكية وما زالت مستمرة
    المؤلف لم يتم هذا العمل وكأنه كان يرثي ذاته
    - اسمعها و أعطيني رأيك ...
    وكان ردي عليه :
    - رائعة تدل على ذوق رفيع و إحساس مرهف
    - هذه المقطوعة بالذات هي المفضلة لدي و عندما أسمعها أحس بشعور من الراحة و الهدوء و الروحانية
    بعدها لم يعد يتواصل معي و خطوطه دائما مغلقة
    أرسلت له رسالة لم يستلمها قلت فيها :
    صديقي العزيز
    حاولت الاتصال معك و ما من مجيب
    طمني عنك إنشاء الله تكون بخير ..

    مضت أيام بدون رد ذهبت لمنزله .... لا أحد
    سألت الجوار عنه وتبين أنه .... قد توفي .....
    عندها علمت أنه عندما راسلني آخر مرة كان يرثي نفسه وهو يحس أن نهايته قد اقتربت .
    كورين أورتشينيان


    .عماد دهمان
يعمل...
X