استقلاليه
Autonomy - Autonomie
الاستقلالية
الاستقلالية autonomy (الأوتونومية) هي قدرة المنظومات الحية وبعض المنظومات غير الحية على إدارة ذاتها غير خاضعة خضوعاً كلياً لعوامل الوسط الخارجي، فهي حينئذ تسلك سلوكاً تحدده عوامل داخلية فيها.
أما «السِبِرْنِيَّة» cybernetics فكلمة مستحدثة للدلالة على الاستقلالية صاغها عام 1948 مؤسس هذا العلم نوربرت وينر Norbert Wiener من الكلمة اليونانية Kubernetes ومعناها الضابط أو الموجه أو الحاكم، وتطلق السبرنية على مجموعة من الدراسات النظرية للعمليات الناظمة لضبط الأجهزة الإلكترونية والميكانيكية بوجه عام والأجهزة البيولوجية على وجه الخصوص. وهي تعتمد على التحليل الرياضي لانتقال المعلومات في هذه الأجهزة، سواء أكانت آلية أم حيوية. وتعد السبرنية العلم الأساسي الذي تقوم عليه اليوم صناعة الحاسوب وصناعة الأطراف الصنعية، وتنظيم المشابك العضلية العصبية. كما يمكن للسبرنية توجيه المنظومة التي تنفذ برنامجها للقيام بمجموعة حركات ذاتية موجَّهَةٍ لتحقيق غاية مقصودة بعيدة عن تَحَكُّم قوانين المصادفة أو قوانين ما وراء الطبيعة، وغير متأثرة بشروط الكنف الذي تعيش المتعضية فيه.
الاستقلالية في الكائنات الحية
تتبدى مسيرة الاستقلالية في الكائنات الحية بتفاعلات معقدة، منها ما يُجيب عن رسائل العالم الخارجي إجابةً غريزية من دون تدخل رئيس للخبرة الشخصية، ومنها ما يجيب عن رسائل العالم الخارجي إجابة مخصصة بالسريرة الفردية المرتبطة بذاكرة الفرد وضميره الذاتي وغير منقادة للتفاعلات الغريزية. وهكذا تنتظم الاستقلالية في الكائنات الحية في مسيرتين، هما الاستقلالية الغريزية والاستقلالية الفردية (الإدارة الذاتية) التي تمثِّل الاستقلالية الحقيقية.
آفاق الاستقلالية الحقيقية
تبرز الاستقلالية الحقيقية في ثلاثة آفاق، هي: الإجازة والحرية والقرار.
وتتمثل الإجازة بقدرة المتعضية على رفض المعلومات الواردة من الوسط الخارجي (أي رفض إجازتها). وتتمثل الحرية بقدرة المتعضية على اختيار ما تراه مناسباً من المعلومات الواردة من الوسط الخارجي. أما القرار فيتمثل بقدرة المتعضية على اتخاذ القرار المتفق مع سريرةٍ أخذتْ بالحسبان جميع المعلومات الواردة أو المتوافرة في الوسط الخارجي.
وتعتمد هذه الآفاق الثلاثة المتحكِّمة في مسيرة الاستقلالية الحقيقية على المعلومات المسجلِّة في الجملة العصبية، كما تعتمد على الطرائق المستخدمة في حفظ المعلومات ونشرها، وهي التي أصبحت مجال علم جديد يعرف بالمعلوماتية[ر] informatics وهو علم يدرس الآليات التي تُيَسِّر حفظ المعلومات ونشرها بغية تطبيق التقانات في كثير من الميادين العلمية والإدارية والصناعية والتجارية وغيرها مما له صلة باستخدام الحواسيب المنظِّمة لنقل الحركة في مجال الاتصالات البعيدة، أو في مجال نقل الحركة المنظَّمة بين الإنسان والآلة، أو في مجال نقل الحركة من آلة إلى أخرى. ففي المعلومات المسجَّلة في نطاق الاختيار يقع أفق الإجازة، وفي المعلومات المسجَّلة، في نطاق فرص الاختيار يقع أفق الحرية، وفي المعلومات المسجَّلة في نطاق الإعلام عن نمط الاختيار يقع أفق القرار.
يتبين مما تقدم وجود مجاليْن من الاستقلالية، أحدهما يبرز في المنظومات الحية، وثانيهما يبرز في المنظومات غير الحية.
آلية الاستقلالية في المنظومات الحية
توجهَّ آلية الاستقلالية في المنظومات الحية بوجود نزعة داخلية في المتعضية ممثَّلة بالمحافظة على الوسط الداخلي. وتتحقق هذه النزعة بسلسلة من تفاعلات فيزيولوجية تحفظ حرارة جسم الثدييات، على سبيل المثال، في ظروف تتبدل فيها الحرارة الخارجية. وهذا ما سماه و.ب. كَنْون W.B.Cannon «الاستتباب» homeostasis الذي يتمثل بقدرة المنظومات الحية على المحافظة على تركيب كيمياوي مغاير للتركيب الكيمياوي المطروح في الكنف الخارجي، كما يتمثل الاستتباب بقدرة الإنسان على المحافظة على حرارة ثابتة غير متغيرة بتغير حرارة الأحوال الخارجية.
وقد تعمَّق ب.فِنْدريس Pierre Vendryes في دراسة الأسس النظرية الموجِّهة لفزيولوجية الاستقلالية الحقيقية المعتمدة على السريرة التي تُملي على المنظومة الحية مجموعة ردود أفعالٍ محاكيةٍ لمجموعة المنبهات الصادرة عن الوسط الذي تعيش فيه المتعضية فوجد أن المشابك العصبية هي التي تنظِّم الاختيار الأنسب، وهي تمثِّل في رأيه الأدوات أو الآلات المستخدمة في تحقيق الاستقلالية. وهذا ما دعا فنْدريس إلى المناداة بضرورة دراسة عالم الأفكار والنوايا وعلم الاجتماع وعلم النفس، كما دعا إلى الانطلاق والتوسع في دراسات اللسانيات Linguistics التي تدرس الظواهر اللغوية وتستنبط قوانينها المقارنة.
آلية الاستقلالية في المنظومات غير الحية
تماثل الاستقلالية للمنظومات غير الحية الاستقلالية في المنظومات الحية وتُدانيها وتُباريها. والتماثل هنا يعني أداء الوظيفة نفسها بأدوات مختلفة ويُنسَّق التماثل بين الاستقلالية الآلية والاستقلالية الحيوية في ثلاث منظومات هي: الاستقبال والفاعلية والإنجاز.
وتتمثل منظومة الاستقبال بدراسة أدوات نقل المعلومات من الوسط الخارجي نحو مركز العضوية أو الآلة، وتدعى هذه بالمنظومة الجابذة أو المستقبلة.
وتتمثل منظومة الفاعلية بدراسة أدوات تنظيم طرح المعلومات من الوسط الداخلي إلى الوسط الخارجي، أي خارج المتعضية أو الآلة، وتدعى هذه المنظومة بالمنظومة النابذة أو الفاعلة.
وتتمثل منظومة الإنجاز بدراسة أدوات تنظيم اختيار المعلومات الملائمة، وهي مجموعة نظم مرتبطة بالذاكرة.
وكشفت الدراسات المقارنة بين الاستقلالية لدى المنظومات الحية وغير الحية عن افتقار الحضارة الإنسانية المعاصرة إلى الأفكار والأجهزة التي تمكن من الدنو من الدراسات المرتبطة بالاستقلالية الحقيقية المرتبطة بالسريرة وبالذاكرة وهما هبتان فرديتان لا تظهران إلا في المجتمعات.
وهكذا ترتقي الاستقلالية في المنظومات الحية من مستوى الاستتباب الفردي إلى مستوى تعددية الاستتباب، التي ترتكز فيها كل فردية مُسْتَتِبَّةٍ على نموذج خاص من نماذج الذاكرة التي تطرح سلوكاً محدداً في ظروف بيئية مختلفة.
ويتبين مما تقدم وجود نموذجين من الاستتباب: الاستتباب السائب ويتمثل بالمنظومات العضوية المزوَّدة بوسائل إدارة ذاتية غير موجَّهة نحو هدف معين، وهي تُعرف باسم طارحها، أشْبي Ashby، والاستتباب الهادف ويتمثل بالمنظومات العضوية المزودة بوسائل إدارة ذاتية موجهة نحو هدف معين تقودها مجموعة معقدة من آليات الاستتباب المعتمدة على ذاكرة نشطة تجاوزت مرحلة الغريزة وسَمَتْ نحو إنجاز غاية قصوى معتمدة على مداخل الذاكرة المستمدة من الماضي، ومداخل التصور للحادثات المتوقعة.