استعمالات صورية يعبر كل بها عن إحساساته ومشاعره ، ويبنيها بناء خاصاً أبعد ما يكون عن التجريد والتعميم ، وأقرب ما يكون إلى التخصيص والتجسيد ، ولعل هذه أن تكون بعض صفات الشعر العظيم أو الميزات التي يطمح إليها ويود أن يحققها الشعر العظيم .
ويجب أن نبعد عن أذهاننا كل ما توحيه هاتان الكلمتان : الطفولة والبدئية من سذاجة وجهالة حين نقرن بهما لفظة الشاعرية ، فنحن حين نربط هذا الربط بين الطبائع الثلاث لانشير إلى مثل هذه السذاجة ولا إلى ما يوازيها من القيم الدنيا ، فكل ما نعنيه هو أن الشاعر يحاول بعد أن مرّ بمرحلة إنفصال الذات عن الموضوع وأضحى ذهنه أقرب إلى التجريد أن يسترجع الوحدة الكلية العضوية التي فقدها بمرور العصر ، وأن يقدم إلينا الأشياء في رؤية نسقية وفي أعلى درجة ممكنة من مستوى الوعي إنه يطمح في الوصول إلى رتبة اللغة البدئية لأنه يريد أن يعبر بلغة مخلوفة جديدة طازجة ونضرة وأن يستكشف طهارة الكلمات وبراءتها وشيئيتها وعلاقاتها الحية ، ويقدمها خالصة من كل استعمال نفعي يتعارض مع طبيعتها (۷) .
ولعلنا نجد ظاهرتين في هذا الصدد يشترك فيها الشاعر مع الطفل والبدئي : أولاهما ظاهرة الدهشة وأخراهما ظاهرة الإدراك الفراسي الخصائص الأشياء ، والظاهرة الأولى هي القدرة على رؤية الأشياء كما لو كان ينظر إليها لأول مرة ، ومع أنها بالنسبة للشاعر ليست سوى دهشة الطفولة امتدت إلى مرحلة الرشد إلا أنها تزيد عليها في أنها تذكر لصور التجارب الماضية ، ومعاناة واعية للتجربة الأصلية نفسها ، أما الظاهرة الثانية فترتبط بعالم كل من هؤلاء الثلاثة الطفل والبدئي والشاعر الذي هو عالم قوى متفاعلة ليس له حظ واضح من الإستقلال ، وإن كان له حظه الكبير في خاصته النوعية الإستبصارية .
ورغم ذلك فثمة فروق عديدة بين لغة البدئي ولغة الشاعر دعك الآن فالبدئي كما أشرنا - كان معجمه اللغوي محدداً لا يحوي سوى العدد الضئيل من المجموعات أو من الكلمات الجذرية التي يتوسل بها هنا وهناك وتحمل العديد من الدلالات ، أما الشاعر فأمامه اللغة كاملة معقدة مبسوطة ، كل كلمة فيها لها دلالتها وصوتها الذي يرتبط بمعناها الخاص ، وعمله تجاهها يقوم على الإنتخاب لتحويلها من عاديتها ودلالتها المعجمية المفردة وجعلها في بؤرة التجربة الشعرية توحي عن طريق وضعها في نسق خاص، وإقامة علاقات بالعديد من الدلالات جديدة مستمرة بينها وبين غيرها .
ويبدو أنا قد اتكأنا كثيراً على وجوب الشيئية في الكلمات ، وفي الحق أنا لا نحاول أن نعلي في صنيعنا هذا من شعر الأشياء في مقابل شعر الأفكار وعلى حسابه فهذه ثنائية أخرى لا يعرفها سوى المجردين ، فالفكر الشعري فكر صوري يتوسل بالكلمة كشيء أو غاية في ذاتها ، وكوسيلة في الوقت نفسه ، إنها الغاية والوسيلة معاً ، وهذا ما تشير إليه طبيعة الشعر العظيم وطبيعة اللغة البدئية ذاتها ، أما وقد ظهر عبر التاريخ ميل إلى شعر الأشياء الخالص . أو ميل إلى شعر الأفكار الخالص في مقابل بعضهما بعضاً فليس ذلك سوى عيب جمالي أو انحراف في طبيعة الشعر كذلك الإنحراف الذي لاحظناه في النزعتين الرمزية الفرنسية والصورية الإنجليزية، إن الفن الشعري فكر إنفعالي شيئي يتوسل بالصورة الموقعة وليست له موضوعات خاصة ولا ألفاظ خاصة بل ولا حتى أفكار خاصة كما تذهب إلى ذلك هذه المدرسة أو تلك فكل شيء يمكن أن يكون موضوعاً للشعر أو ألفاظاً وأفكاراً له حين تنتظمه تجربة الشاعر وتعبر به وتخلقه (۱) .
ولعل الفترة البدئية الثرية بمعطياتها أن تقدم لنا شيئاً آخر في نطاق الكل العضوي لا يقف عند حدود وحدة عناصر الفن الشعري وإنما يمتد ليشمل الأشكال الأنفعالية وصورها التعبيرية المختلفة ، ، ففي الأولى وجد الرقص والشعر والدين في نطاقات بعضها بعضاً ، وكان الإنسان الذي يتعبد مظاهر الطبيعة ويؤدي في محرابها شعائره وينفعل بأشيائها ، يغني في الوقت نفسه أحاسسيه ويرقص وينشد الأشعار ، وقد أشار ( كاسيرر ) (۲) إلى أنه لم يكن يوجد أي كيان مستقل يقوم بذاته وينفصل عن غيره فجميع أشكال التعبير الإنفعالية ووسائطها الرمزية والأسطورية وجدت جنباً إلى جنب في مجال الحلبة ، وبدأت تنفصل وتتمايز وتتحرر من النطاق الواحد مع تقدم الإنسان الحضاري ، ويظهر أن هذه الوحدة أكثر من مقولة معقولة سواء أكانت عن صلة الدين بالشعر هذه الصلة الشهيرة أم كانت عن طبيعة الرمز والأسطورة الشعريين وغير الشعريين . وسنرى حين نتحدث عن هذين الشكلين الرمز والأسطورة في الشعر المعاصر (١) كيف أنهما بطبيعتهما وبقصد الشعراء إليهما كانا ينزعان ويتغيان هذه الوحدة (۲)
ولو أنا عدنا نتفحص هذه الوحدة البدئية الإنفعالية لأشكال التعبير في نطاق اللغة التي وصفناها بالشاعرية لوجدنا أنا وسمناها بسمتين متلازمتين ومتداخليتين : أولاهما الإيقاع فقلنا إنها لغة موقعة ، وأخراهما التصوير فزعمنا أنها لغة تتوسل بالصورة (۳) ، وفيما يتعلق بالسمة الأولى فقد نشأ الحديث عن الطبيعة الإيقاعية للغة البدئية وعلاقتها بالموسيقا والإيقاع منذ القرن السابع عشر ثم تطور مع نهاية الفترة التقليدية وبلغ ذروته في نظرية التعبير والفترة الرومانسية ، وربما لانحتاج إلى تأكيدات تاريخية تبين صحة هذه النشأة وأسبقية الشعر على النثر فيها ، فقد استفاضت بذلك البحوث ، بيد أنا نحب أن نلفت النظر إلى أن الإيقاع الذي هو خاصة جوهرية من خواص الصورة كان موجوداً في الطبيعة قبل ظهور الشعر ومايزال ، ومن الحقائق المعروفة كما يقول « ديوي » أن - الطبيعة تحتوي على نماذج من الإيقاعات لا حصر لها مثل حر والجزر ودورة التغيرات والفصول والبناء والهدم ، ومافي الطبيعة من إطراد وانتظام في التغير كتعاقب الليل والنهار ، والضوء والظلام ، والظل والحرارة . . . . ومن أجل ذلك فان العلوم كلها من الرياضيات إلى الفلك فعلم طبقات الأرض فالحيل .. ليست سوى وسائل لتسجيل هذه الإيقاعات الطبيعية التي تجد مايقابلها في الجسم الإنساني سواء أكان ذلك في التوازي أم في إنتظام دورة الدم أم في نبضات القلب ، وبالنسبة للانسان البدئي الذي كان ينفعل بالظواهر الخارجية عبر عن هذه الإيقاعات كلها بصورة طبيعية في كلامه المبدع ، ثم جاءت العصور فوجدت أ الإيقاع عامل هام يساعد الذاكرة على حفظ الأثر واخترانه أكثر مما يساعدها القول العاطل من التنغيم فحافظت عليه ، ومارسته في تعبيراتها . . وقد قلنا إن هذه السمة المعروفة للشعر أبلغ من أن تقرر فلنغادرها إلى السمة الثانية التصويرية نتبين خصائصها وطبيعتها .
يرجع الحديث عن الطبيعة الصورية للغة البدئية إلى تلك الآراء التي قال بها ( لو كرينتس ) عن تلقائية التعبير عن الشعور في العصر الأول . وقد دعمت هذه الفكرة وطورت بأبحاث أجراها « فيكو » « Vico » عام ١٧٢٥ عن لغات قبائل جزر الهند الغربية ، وتوصل منها إلى افتراض أن ذهن شعوب العصر البدئي كان ذهناً حسياً ، وكان يتكلم هؤلاء لغة صورية انفعالية تتضمن البذور الأولى للفنون والمعارف كلها والتي انفصلت فيما بعد ، وتقول النظرية في هذا الصدد (۱) : . . . . إن
ويجب أن نبعد عن أذهاننا كل ما توحيه هاتان الكلمتان : الطفولة والبدئية من سذاجة وجهالة حين نقرن بهما لفظة الشاعرية ، فنحن حين نربط هذا الربط بين الطبائع الثلاث لانشير إلى مثل هذه السذاجة ولا إلى ما يوازيها من القيم الدنيا ، فكل ما نعنيه هو أن الشاعر يحاول بعد أن مرّ بمرحلة إنفصال الذات عن الموضوع وأضحى ذهنه أقرب إلى التجريد أن يسترجع الوحدة الكلية العضوية التي فقدها بمرور العصر ، وأن يقدم إلينا الأشياء في رؤية نسقية وفي أعلى درجة ممكنة من مستوى الوعي إنه يطمح في الوصول إلى رتبة اللغة البدئية لأنه يريد أن يعبر بلغة مخلوفة جديدة طازجة ونضرة وأن يستكشف طهارة الكلمات وبراءتها وشيئيتها وعلاقاتها الحية ، ويقدمها خالصة من كل استعمال نفعي يتعارض مع طبيعتها (۷) .
ولعلنا نجد ظاهرتين في هذا الصدد يشترك فيها الشاعر مع الطفل والبدئي : أولاهما ظاهرة الدهشة وأخراهما ظاهرة الإدراك الفراسي الخصائص الأشياء ، والظاهرة الأولى هي القدرة على رؤية الأشياء كما لو كان ينظر إليها لأول مرة ، ومع أنها بالنسبة للشاعر ليست سوى دهشة الطفولة امتدت إلى مرحلة الرشد إلا أنها تزيد عليها في أنها تذكر لصور التجارب الماضية ، ومعاناة واعية للتجربة الأصلية نفسها ، أما الظاهرة الثانية فترتبط بعالم كل من هؤلاء الثلاثة الطفل والبدئي والشاعر الذي هو عالم قوى متفاعلة ليس له حظ واضح من الإستقلال ، وإن كان له حظه الكبير في خاصته النوعية الإستبصارية .
ورغم ذلك فثمة فروق عديدة بين لغة البدئي ولغة الشاعر دعك الآن فالبدئي كما أشرنا - كان معجمه اللغوي محدداً لا يحوي سوى العدد الضئيل من المجموعات أو من الكلمات الجذرية التي يتوسل بها هنا وهناك وتحمل العديد من الدلالات ، أما الشاعر فأمامه اللغة كاملة معقدة مبسوطة ، كل كلمة فيها لها دلالتها وصوتها الذي يرتبط بمعناها الخاص ، وعمله تجاهها يقوم على الإنتخاب لتحويلها من عاديتها ودلالتها المعجمية المفردة وجعلها في بؤرة التجربة الشعرية توحي عن طريق وضعها في نسق خاص، وإقامة علاقات بالعديد من الدلالات جديدة مستمرة بينها وبين غيرها .
ويبدو أنا قد اتكأنا كثيراً على وجوب الشيئية في الكلمات ، وفي الحق أنا لا نحاول أن نعلي في صنيعنا هذا من شعر الأشياء في مقابل شعر الأفكار وعلى حسابه فهذه ثنائية أخرى لا يعرفها سوى المجردين ، فالفكر الشعري فكر صوري يتوسل بالكلمة كشيء أو غاية في ذاتها ، وكوسيلة في الوقت نفسه ، إنها الغاية والوسيلة معاً ، وهذا ما تشير إليه طبيعة الشعر العظيم وطبيعة اللغة البدئية ذاتها ، أما وقد ظهر عبر التاريخ ميل إلى شعر الأشياء الخالص . أو ميل إلى شعر الأفكار الخالص في مقابل بعضهما بعضاً فليس ذلك سوى عيب جمالي أو انحراف في طبيعة الشعر كذلك الإنحراف الذي لاحظناه في النزعتين الرمزية الفرنسية والصورية الإنجليزية، إن الفن الشعري فكر إنفعالي شيئي يتوسل بالصورة الموقعة وليست له موضوعات خاصة ولا ألفاظ خاصة بل ولا حتى أفكار خاصة كما تذهب إلى ذلك هذه المدرسة أو تلك فكل شيء يمكن أن يكون موضوعاً للشعر أو ألفاظاً وأفكاراً له حين تنتظمه تجربة الشاعر وتعبر به وتخلقه (۱) .
ولعل الفترة البدئية الثرية بمعطياتها أن تقدم لنا شيئاً آخر في نطاق الكل العضوي لا يقف عند حدود وحدة عناصر الفن الشعري وإنما يمتد ليشمل الأشكال الأنفعالية وصورها التعبيرية المختلفة ، ، ففي الأولى وجد الرقص والشعر والدين في نطاقات بعضها بعضاً ، وكان الإنسان الذي يتعبد مظاهر الطبيعة ويؤدي في محرابها شعائره وينفعل بأشيائها ، يغني في الوقت نفسه أحاسسيه ويرقص وينشد الأشعار ، وقد أشار ( كاسيرر ) (۲) إلى أنه لم يكن يوجد أي كيان مستقل يقوم بذاته وينفصل عن غيره فجميع أشكال التعبير الإنفعالية ووسائطها الرمزية والأسطورية وجدت جنباً إلى جنب في مجال الحلبة ، وبدأت تنفصل وتتمايز وتتحرر من النطاق الواحد مع تقدم الإنسان الحضاري ، ويظهر أن هذه الوحدة أكثر من مقولة معقولة سواء أكانت عن صلة الدين بالشعر هذه الصلة الشهيرة أم كانت عن طبيعة الرمز والأسطورة الشعريين وغير الشعريين . وسنرى حين نتحدث عن هذين الشكلين الرمز والأسطورة في الشعر المعاصر (١) كيف أنهما بطبيعتهما وبقصد الشعراء إليهما كانا ينزعان ويتغيان هذه الوحدة (۲)
ولو أنا عدنا نتفحص هذه الوحدة البدئية الإنفعالية لأشكال التعبير في نطاق اللغة التي وصفناها بالشاعرية لوجدنا أنا وسمناها بسمتين متلازمتين ومتداخليتين : أولاهما الإيقاع فقلنا إنها لغة موقعة ، وأخراهما التصوير فزعمنا أنها لغة تتوسل بالصورة (۳) ، وفيما يتعلق بالسمة الأولى فقد نشأ الحديث عن الطبيعة الإيقاعية للغة البدئية وعلاقتها بالموسيقا والإيقاع منذ القرن السابع عشر ثم تطور مع نهاية الفترة التقليدية وبلغ ذروته في نظرية التعبير والفترة الرومانسية ، وربما لانحتاج إلى تأكيدات تاريخية تبين صحة هذه النشأة وأسبقية الشعر على النثر فيها ، فقد استفاضت بذلك البحوث ، بيد أنا نحب أن نلفت النظر إلى أن الإيقاع الذي هو خاصة جوهرية من خواص الصورة كان موجوداً في الطبيعة قبل ظهور الشعر ومايزال ، ومن الحقائق المعروفة كما يقول « ديوي » أن - الطبيعة تحتوي على نماذج من الإيقاعات لا حصر لها مثل حر والجزر ودورة التغيرات والفصول والبناء والهدم ، ومافي الطبيعة من إطراد وانتظام في التغير كتعاقب الليل والنهار ، والضوء والظلام ، والظل والحرارة . . . . ومن أجل ذلك فان العلوم كلها من الرياضيات إلى الفلك فعلم طبقات الأرض فالحيل .. ليست سوى وسائل لتسجيل هذه الإيقاعات الطبيعية التي تجد مايقابلها في الجسم الإنساني سواء أكان ذلك في التوازي أم في إنتظام دورة الدم أم في نبضات القلب ، وبالنسبة للانسان البدئي الذي كان ينفعل بالظواهر الخارجية عبر عن هذه الإيقاعات كلها بصورة طبيعية في كلامه المبدع ، ثم جاءت العصور فوجدت أ الإيقاع عامل هام يساعد الذاكرة على حفظ الأثر واخترانه أكثر مما يساعدها القول العاطل من التنغيم فحافظت عليه ، ومارسته في تعبيراتها . . وقد قلنا إن هذه السمة المعروفة للشعر أبلغ من أن تقرر فلنغادرها إلى السمة الثانية التصويرية نتبين خصائصها وطبيعتها .
يرجع الحديث عن الطبيعة الصورية للغة البدئية إلى تلك الآراء التي قال بها ( لو كرينتس ) عن تلقائية التعبير عن الشعور في العصر الأول . وقد دعمت هذه الفكرة وطورت بأبحاث أجراها « فيكو » « Vico » عام ١٧٢٥ عن لغات قبائل جزر الهند الغربية ، وتوصل منها إلى افتراض أن ذهن شعوب العصر البدئي كان ذهناً حسياً ، وكان يتكلم هؤلاء لغة صورية انفعالية تتضمن البذور الأولى للفنون والمعارف كلها والتي انفصلت فيما بعد ، وتقول النظرية في هذا الصدد (۱) : . . . . إن
تعليق