أما كيف كان يتم ذلك فأمر بسيط يمكن تصوره في ذلك المثال الشهير اللغات ، وأقصد به كلمة ( روح ) فهذه الكلمة تعني عدة دلالات هي : الروح والروح والريح . ولكن كان لها في القديم معناها الفرد المتميز بنفسه الذي يضم هذه المعاني كلها في وحدة أو جذر واحد ، وقد لا نستطيع أن نحدد الفترة التي انفصلت فيها دلالات الكلمة انفصالاً لا نقول نهائياً بل مميزاً وكل الذي نستطيع أن نقوله إنه مع تقدم الفكر الإنساني اللغوي والحضاري انقسم المعنى الكلي ، وأصبح لكل كلمة مدلول خاص بها وإن لم ينفصل هذا المدلول انفصالاً تاماً . مدلول شقيقه في الفصيلة نفسها (٥) .
وفي الحق أن الحديث عن طبيعة اللغة الشعرية يدفع دائماً إلى حديثين متلازمين أولهما الحديث عن لغة الإنسان البدئي أو نشأة اللغة وأصلها على العموم ، وهو الحديث الذي ذكرنا بعضه ، وثانيهما الحديث عن لغة الطفل ، وإن بيان ( طبيعة إحداهما ( ليلقي بالضوء على طبيعة غيرها . صحيح أن معظم اللغويين لا يرضون بذلك ، في حين يغالي علماء النفس في الاتجاه ذاته ، بيد أن الحقيقة التي تتفاعل في تكوينها عناصر متعددة لا يمكن الإقتراب منها إلا من خلال هذه العناصر ، ومما لاشك أن علم النفس أمدنا بمعلومات جديدة عن طبيعة لغة الطفل وذهنه ، وقدم لنا علم الأنتروبولوجيا النفسي والإجتماعي معلومات أخرى عن طبيعة فيه الرجل البدئي .
وقد وضحت كلتا الدراستين طبيعة اللغة الشعرية ، فالبدئي كان دائماً في موقف الإنفعال ، موقف إلغاء المسافة بين الذات والموضوع ودمجهما معاً في وحدة ، وكان ذهنه متصلاً اتصالاً وثيقاً بالموضوعات الخارجية ومرتبطاً بها ، الطبيعة المنطلقة المنتشرة بانفساح واسع عنده عليه الآن (٦) ، وهو أمامها في مي وضع الدهشة والتقديس والعبادة والإنبهار يحاول دائماً أن يتصل بها أو يدركها باحساساته أو بغريزته الداخلية، ويتصورها بأشكال مجسدة مشخصة تقمصية ، أما خياله الذي كان عنده وسيلة للمعرفة فقد كان يجمع بين العالمين الطبيعي ومافوق الطبيعي في وحدة واحدة ، بل إنه لم يكن يعرف مثل هذين العالمين ، فقد كان . واحداً يتمثله عن طريق محسوس ويستحضره بخياله ، الإله عنده في الطبيعة وليس فوقها ، والمجهول هو المنظور وليس خلفه (۱) ولغته الجذرية التي أشرنا إليها كانت تشمل وحدات كل وحدة منها هي تعبير استعاري أو مجازي يستعمله لا ليفهم الأشياء فحسب بل ليعيشها أيضاً وينفعل بها .
وربما يحتاج منا هذا الموقف إلى مثال يقربه فلنفترض أن حريقاً شاملاً وكبيراً شب في إحدى القرى ، وأتى على بيادرها ، ثم انسحب إلى بيوتها ، وبدأ أهل القرية يهرعون زرافات ووحدانا إلى الحريق المروع ، وعندما يقتربون وهم في حالة الذعر الشديد ينفعلون بالمشهد أي انفعال ويطلقونها صيحات تصف ألسنة النار فيقولون إن النار ( تلتهم ) القرية ، وهاهو ( زئيرها ) الشديد يملأ الأسماع . . . وهم في ذلك يتكلمون تلقائياً وانفعالياً بصورة ( حرفية ) لا ( مجازية ) ، إن المجاز لديهم حقيقة ، فهم يدركون أن النيران تلتهم حقاً ، بل إنهم يسمعون . وهم لا يظنون أن ثمة وحشاً مفترساً وإنما هم يرون هذا الوحش يعمل عمله ، يلتهم ويزأر .
ولقد كان الإنسان البدئي في موقفه من الطبيعة وفي استعمال لغته في مثل هذه الحالة من الإنفعال والتعبير الصوري فكل شي جديد ملؤه النضارة والحياة والشكل المجسد الذي يفعل فعله ، ولكي يعبر عن وقع هذا الشيء الحسي الجديد في نفسه كان يلجأ إلى الصورة التي تكاد تكون تعبيراً ( حرفياً ) لديه ينبثق من طبيعة ذهنه الإنفعالي المشخص . . الشمس إلهة عظيمة ، والقمر شاب أو أمير عاشق ، والأرض أم رؤوم وهكذا .
وما قلناه عن البدئي نقوله عن الطفل : موقفه وذهنه وطبيعة لغته ، إن الطفل دائماً في حالة متصلة بالمحيط الذي يرى فيه كل يوم أشياء جديدة نضرة تبهره وتسره ، بيد أنه لا يراها عامة مجردة وإنما يراها مجسدة مشخصة في علاقات كلية عضوية ذات نسق (۱) ، فهو حين عن ( الحصان ) لا يتحدث عنه دون أن يشير إلى هزه ذيله لأن فصل حركة الذيل عن الحيوان عملية تجريدية لم يبلغ بعد مرحلتها ، ويبدو أنه من نوع ( الإنسان ) The Man وليس من نوع « إنسان ) A Man هذا النوع الذي يتميز به اليافع لأنه الإنسان الذي يتلقى الحياة ككل شامل يفتح فيها ذراعيه للمخلوقات ، ويستقبلها بكلتيهما ، فالكلاب والقطط « أشقاؤه » ، والغيوم « أعمامه » . . أما اليافع فعنده الأشقاء » أصدقاء و ( الأعمام » كائنات لا يصل إليها (٢) .
ولقد دلت البحوث النفسية العديدة التي أجريت حول رسوم الأطفال (۱) ، أو حول طبائع صورهم الذهنية وأخيلتهم (۲) على أنهم يخلطون في النطاق الأول بين المكان والزمان ، أو نقول إن التشكيلين المكاني والزماني يتداخلان تداخلاً يصحبه بعض الإضطراب ، في حين تميل معظم الصور الذهنية في النطاق الثاني إلى أن تكون تشخيصية مجسدة ، وسواء أكانت ثابتة أم حركية فانها تحكي ذاتها في صور بلاغية ، وتزعم الباحثة كونراد (۳) Konrad أن الطفل لا يدرك لغة المجاز ومن ثم نحتاج تعبيراته إلى قوة تجريد الصفات المتشابهة ليقيم علاقات بينها وتضرب مثالاً ذكره ماکس دسوار Max Desoir في كتاب صدر له عام ١٩٠٦ حيث قال : . . . إن صياح طفل زنجي شاهد الثلج المتساقط لأول مرة أنظر إلى الفراشات كيف تلعب معاً « فتزعم أن هذا القول خطأ وليس إستعارة . وفي زعمنا أن رأيها الخطأ لأنها تفكر في طبيعة لغة الطفل تفكيراً تجريدياً ، فالطفل عندما يتوسل بالاستعارة لا يفتش عن وجه شبه يقيمه بين علاقتين أو مركبين ، إنه يتكلم بطبيعته التلقائية التي طبيعة ترابطية تعبر عن أحاسيسها بالصورة كما كانت طبيعة البدئي والصورة هنا وهناك لاتقوم على تجريد الصفات المتشابهة وإنما تعبير ( حرفي ) يقيم علاقة بين مركبين ، أو يصهر مركبين بطريقة حدسية لا تنحل إلى التشابه . وقد أشار « همبل في كتابه بحث في أصل الإستعارة صدر في باريس عام ١٩٥٣ إلى أن أرفع أنواع الإستعارة وأقربها إلى روح الشعر لا يصدر عن الشعراء فحسب ، إن طفلاً يصيح « « إنها تنسج بابرة التريكو مشيراً إلى حشرة تمسح قرني استشعارها يكون قد استعمل غريزته الشعرية في إدراك العلاقة ، (۱) .
والذي نريد أن نخلص إليه هو أن ذهن البدئي كذهن الطفل وذهن الشاعر واحد ، وموقف الثلاثة كذلك ولغتهم واحدة (۲) ، إنه الذهن المتصل الارتباطي والموقف الذي تندمج فيه الذات بالموضوع أو تلغى فيه الحواجز بينهما ، وعن طريق هذا الموقف والذهن يدرك كل منهم بوضعه الخاص العلاقات الجنينية الكامنة في الأشياء ، ويسعى إلى إقامتها بواسطة الصورة ، فالطفل الذي يرى في الثلج فراشات تلعب ، عندما يشاهد الطل على الأعشاب الأعشاب تبكي كالانسان الشاعر الذي يرى في الفكر طائراً يحلق بأجنحة من السعادة المنسكبة ، أو الذي يرى عيون النرجس تخضل بالعبرات . . . فهذه كلها
وفي الحق أن الحديث عن طبيعة اللغة الشعرية يدفع دائماً إلى حديثين متلازمين أولهما الحديث عن لغة الإنسان البدئي أو نشأة اللغة وأصلها على العموم ، وهو الحديث الذي ذكرنا بعضه ، وثانيهما الحديث عن لغة الطفل ، وإن بيان ( طبيعة إحداهما ( ليلقي بالضوء على طبيعة غيرها . صحيح أن معظم اللغويين لا يرضون بذلك ، في حين يغالي علماء النفس في الاتجاه ذاته ، بيد أن الحقيقة التي تتفاعل في تكوينها عناصر متعددة لا يمكن الإقتراب منها إلا من خلال هذه العناصر ، ومما لاشك أن علم النفس أمدنا بمعلومات جديدة عن طبيعة لغة الطفل وذهنه ، وقدم لنا علم الأنتروبولوجيا النفسي والإجتماعي معلومات أخرى عن طبيعة فيه الرجل البدئي .
وقد وضحت كلتا الدراستين طبيعة اللغة الشعرية ، فالبدئي كان دائماً في موقف الإنفعال ، موقف إلغاء المسافة بين الذات والموضوع ودمجهما معاً في وحدة ، وكان ذهنه متصلاً اتصالاً وثيقاً بالموضوعات الخارجية ومرتبطاً بها ، الطبيعة المنطلقة المنتشرة بانفساح واسع عنده عليه الآن (٦) ، وهو أمامها في مي وضع الدهشة والتقديس والعبادة والإنبهار يحاول دائماً أن يتصل بها أو يدركها باحساساته أو بغريزته الداخلية، ويتصورها بأشكال مجسدة مشخصة تقمصية ، أما خياله الذي كان عنده وسيلة للمعرفة فقد كان يجمع بين العالمين الطبيعي ومافوق الطبيعي في وحدة واحدة ، بل إنه لم يكن يعرف مثل هذين العالمين ، فقد كان . واحداً يتمثله عن طريق محسوس ويستحضره بخياله ، الإله عنده في الطبيعة وليس فوقها ، والمجهول هو المنظور وليس خلفه (۱) ولغته الجذرية التي أشرنا إليها كانت تشمل وحدات كل وحدة منها هي تعبير استعاري أو مجازي يستعمله لا ليفهم الأشياء فحسب بل ليعيشها أيضاً وينفعل بها .
وربما يحتاج منا هذا الموقف إلى مثال يقربه فلنفترض أن حريقاً شاملاً وكبيراً شب في إحدى القرى ، وأتى على بيادرها ، ثم انسحب إلى بيوتها ، وبدأ أهل القرية يهرعون زرافات ووحدانا إلى الحريق المروع ، وعندما يقتربون وهم في حالة الذعر الشديد ينفعلون بالمشهد أي انفعال ويطلقونها صيحات تصف ألسنة النار فيقولون إن النار ( تلتهم ) القرية ، وهاهو ( زئيرها ) الشديد يملأ الأسماع . . . وهم في ذلك يتكلمون تلقائياً وانفعالياً بصورة ( حرفية ) لا ( مجازية ) ، إن المجاز لديهم حقيقة ، فهم يدركون أن النيران تلتهم حقاً ، بل إنهم يسمعون . وهم لا يظنون أن ثمة وحشاً مفترساً وإنما هم يرون هذا الوحش يعمل عمله ، يلتهم ويزأر .
ولقد كان الإنسان البدئي في موقفه من الطبيعة وفي استعمال لغته في مثل هذه الحالة من الإنفعال والتعبير الصوري فكل شي جديد ملؤه النضارة والحياة والشكل المجسد الذي يفعل فعله ، ولكي يعبر عن وقع هذا الشيء الحسي الجديد في نفسه كان يلجأ إلى الصورة التي تكاد تكون تعبيراً ( حرفياً ) لديه ينبثق من طبيعة ذهنه الإنفعالي المشخص . . الشمس إلهة عظيمة ، والقمر شاب أو أمير عاشق ، والأرض أم رؤوم وهكذا .
وما قلناه عن البدئي نقوله عن الطفل : موقفه وذهنه وطبيعة لغته ، إن الطفل دائماً في حالة متصلة بالمحيط الذي يرى فيه كل يوم أشياء جديدة نضرة تبهره وتسره ، بيد أنه لا يراها عامة مجردة وإنما يراها مجسدة مشخصة في علاقات كلية عضوية ذات نسق (۱) ، فهو حين عن ( الحصان ) لا يتحدث عنه دون أن يشير إلى هزه ذيله لأن فصل حركة الذيل عن الحيوان عملية تجريدية لم يبلغ بعد مرحلتها ، ويبدو أنه من نوع ( الإنسان ) The Man وليس من نوع « إنسان ) A Man هذا النوع الذي يتميز به اليافع لأنه الإنسان الذي يتلقى الحياة ككل شامل يفتح فيها ذراعيه للمخلوقات ، ويستقبلها بكلتيهما ، فالكلاب والقطط « أشقاؤه » ، والغيوم « أعمامه » . . أما اليافع فعنده الأشقاء » أصدقاء و ( الأعمام » كائنات لا يصل إليها (٢) .
ولقد دلت البحوث النفسية العديدة التي أجريت حول رسوم الأطفال (۱) ، أو حول طبائع صورهم الذهنية وأخيلتهم (۲) على أنهم يخلطون في النطاق الأول بين المكان والزمان ، أو نقول إن التشكيلين المكاني والزماني يتداخلان تداخلاً يصحبه بعض الإضطراب ، في حين تميل معظم الصور الذهنية في النطاق الثاني إلى أن تكون تشخيصية مجسدة ، وسواء أكانت ثابتة أم حركية فانها تحكي ذاتها في صور بلاغية ، وتزعم الباحثة كونراد (۳) Konrad أن الطفل لا يدرك لغة المجاز ومن ثم نحتاج تعبيراته إلى قوة تجريد الصفات المتشابهة ليقيم علاقات بينها وتضرب مثالاً ذكره ماکس دسوار Max Desoir في كتاب صدر له عام ١٩٠٦ حيث قال : . . . إن صياح طفل زنجي شاهد الثلج المتساقط لأول مرة أنظر إلى الفراشات كيف تلعب معاً « فتزعم أن هذا القول خطأ وليس إستعارة . وفي زعمنا أن رأيها الخطأ لأنها تفكر في طبيعة لغة الطفل تفكيراً تجريدياً ، فالطفل عندما يتوسل بالاستعارة لا يفتش عن وجه شبه يقيمه بين علاقتين أو مركبين ، إنه يتكلم بطبيعته التلقائية التي طبيعة ترابطية تعبر عن أحاسيسها بالصورة كما كانت طبيعة البدئي والصورة هنا وهناك لاتقوم على تجريد الصفات المتشابهة وإنما تعبير ( حرفي ) يقيم علاقة بين مركبين ، أو يصهر مركبين بطريقة حدسية لا تنحل إلى التشابه . وقد أشار « همبل في كتابه بحث في أصل الإستعارة صدر في باريس عام ١٩٥٣ إلى أن أرفع أنواع الإستعارة وأقربها إلى روح الشعر لا يصدر عن الشعراء فحسب ، إن طفلاً يصيح « « إنها تنسج بابرة التريكو مشيراً إلى حشرة تمسح قرني استشعارها يكون قد استعمل غريزته الشعرية في إدراك العلاقة ، (۱) .
والذي نريد أن نخلص إليه هو أن ذهن البدئي كذهن الطفل وذهن الشاعر واحد ، وموقف الثلاثة كذلك ولغتهم واحدة (۲) ، إنه الذهن المتصل الارتباطي والموقف الذي تندمج فيه الذات بالموضوع أو تلغى فيه الحواجز بينهما ، وعن طريق هذا الموقف والذهن يدرك كل منهم بوضعه الخاص العلاقات الجنينية الكامنة في الأشياء ، ويسعى إلى إقامتها بواسطة الصورة ، فالطفل الذي يرى في الثلج فراشات تلعب ، عندما يشاهد الطل على الأعشاب الأعشاب تبكي كالانسان الشاعر الذي يرى في الفكر طائراً يحلق بأجنحة من السعادة المنسكبة ، أو الذي يرى عيون النرجس تخضل بالعبرات . . . فهذه كلها
تعليق