مدخل
كانت دراسات الشعر حتى وقت قريب إما أن توثق صلته بالبيئة فتعده صورة لعصره ، وتدرسه في ضوء ملابساته الخارجية ، أي في ضوء علاقاته الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية ... ، وإما أن توثق صلته بالفنان - خالق الشعر - فتعده صورة لنفسه ، وتدرسه في ضوء ظروفه الخاصة ، ومدى مطابقته الحياة صاحبه ، أو مدى مطابقة حياة هذا له . . . ، ، وإما أن توثق ثالثة صلته بهما والنفس فتعده أثراً لكليهما ، وتدرسه في ضوء علاقاته الوشيجة بهما .
ورغم النتائج الباهرة التي قدمتها هذه الدراسات فإن الباحث يستطيع أن أنه مهما قيل عن الحالات الدافعة الخارجية والداخلية التي تدفع الفنان لكي ينتج عمله فانه يترك أمامنا في النهاية عملاً ما، قد لا تعنينا في غالب الأحيان صلاته بعصره أو بموجده بقدر ما يعنينا هو كواقعة جمالية تتسم بالموضوعية والتجريب ، وإذا أضفنا إلى هذا أن معظم الدارسين الذين كانوا وما يزالون يسلكون إحدى السبل السابقة يقولون الشيء الجم الغزير عن الملابسات والظروف التي تحيط بالآثار أكثر مما يقولون عن الآثار أدركنا لاندعي عقم هذه الدراسات بل عدم كفايتها وحدها وغنائها للوقوف على طبيعة النتاج الشعري بوصفه من الفنون الجميلة .
من هذا المنطلق بدأنا منذ فترة نحاول أن نتلمس طريقاً جديدة لدراسة الشعر تقوم على رؤيته رؤية بنائية تعتمد أساساً جوهره ، تحدده ثم تمضي في تحليله وبما أن جوهر كل فن هو واسطته التي يتوسل بها للتشكل والظهور لذلك فان دراسة هذه الواسطة هي دراسة لهذا الفن بل دراسة لدقائق عملية الخلق الشعري، ولطبيعة العمل الفني على السواء. وأي تغير يطرأ على أحدهما ( الفن والواسطة ( لا بد أن يرافقه تغير يطرأ على آخرهما ماداما وجهين لعملة واحدة ، أو مادام أولهما عالماً رحباً وثانيهما باباً له ، بمعنى أن الوقوف عند الفن يجب أن يبدأ من الوقوف عند وحدة بنائه الأساسية التي يحاكي بها الفنان أو يعبر أو يخلق وفي ضونها، فهي وحدها تقريباً تقربنا من داخله ، وطالما كان الاقتراب إليه من خارجه ، كما أنها تضع أيدينا ليس فقط على ماهيته بل وعلى جملة الفروق والاختلافات بين مذاهبه وتياراته وأعصره وشعرائه أيضاً .
ولدراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن نمهد بمقدمة نظرية تتناول عدة نقاط كنا نراها في البداية لا تمت إلى ميدان البحث بعلاقة وشيجة فضلاً عن أنها يمكن أن تطور إلى دراسات قائمة بذاتها ، إلا أننا نشعر الآن بأنها المدخل الطبيعي ، أو المعبر الوحيد إلى البحث لأنها تحدد جوانب كثيرة كان علينا أن نقننها ونقف عندها قبل المضي في الدراسة ، ويمكن أن نرد معظم هذه النقاط إلى مصطلح « صورة (( وما يثيره من ارتباطات ومشكلات ، فالكلمة توحي أول ماتوحي بذلك الإقتراب الوثيق والسيء من فن الرسم ، وهذا مادفعنا إلى أن ننشر بحثنا عن " الشعر بين الفنون الجميلة » توطئة لنشر هذا البحث عن طبيعة الواسطة التي يتوسل بها فن الشعر كي يبرز للعيان .
والواقع أن حديثنا عن الشعر بين الفنون الجميلة لم يكن حديثاً منصباً على تاريخ هذه الفنون ولا على نظريات تصنيفها عبر المدارس والتيارات بقدر ما كان حديثاً مقتصراً على بيان أوجه العلاقات بينها ، وقد انتهينا منه إلى أن هناك علاقات من نوع ما بين الفنون إلا أنها لا تحيل أحدها إلى الآخر أو تجعله يطغى بقوانينه ومصطلحاته عليه ، إنها ليست تأثيرات تبدأ في فن ما عند نقطة معينة ثم تنقل تأثيرها إلى فن آخر بل هي علاقات تقوم على الجدل والتأثيرات المتبادلة . وفيما يخص الشعر وجدنا أنه فن ينقل إلينا زمنكانية التجربة الشعورية في تشكيلتين إحداهما متعاقبة والأخرى متزامنة ، وأن المتلقي يتلقاه بجميع حواسه وخبراته ، وأن العصور حين أعلت أحد عنصريه على حساب الآخر كانت خاطئة فيما صنعته لسبب بسيط هو أن القيمتين التصويرية والموسيقية تنبعان من داخله ولا تفرضان عليه من الخارج .
أما حديثنا في هذه المقدمة فقد خلصنا منه إلى عدة أمور : ففي الفصل الأول انتهينا إلى أن لغة الفن لغة انفعالية ، والإنفعال ( بالدلالة الكلية الشاملة له ) لا يتوسل بالكلمة التقريرية المجردة وإنما يتوسل بوحدة تركيبية معقدة حيوية لاتقبل الإختصار هي الصورة » التي هي الرئيسة ، وكل قصيدة من القصائد وحدة كاملة تنتظم في داخلها وحدات متعددة هي لبنات بنائها العام ، وكل لبنة هذه اللبنات صورة تشكل مع أخواتها الصورة الكلية التي هي العمل نفسه. واسطته من هي .
من نقطة تدور حول وفي بقية الفصول كان علينا أن نجابه أكثر الصورة ، وفي مقدمتها قضية المصطلح » فعلاوة على أنه يستعمل في شتى الميادين بدلالات متباينة فهو يلعب أدواراً متعددة في نطاق الأنواع الأدبية ، خذ مثلاً دوره في الشعر تجده يختلف عن دوره في المسرحية أو حتى عن دوره في ضروب الشعر نفسها كالشعر الغنائي والمسرحي والقصصي والموسيقي وغيرها . . . حيث يتوسل كل" بالواسطة بطريقة بنائية ليست واحدة ، وباتكاء عليها غير متشابه .
وثمة علاقة الصورة بالأشكال البلاغية القديمة التي تعرضنا لها في الفصل الثالث ، وكانت وجهة نظرنا أنها - أي الأشكال أبنية مهدمة استنفدت طاقاتها ، وخلقت جدتها ، وطال عليها الزمن ، وقد رفضنا طبيعتها ووظائفها ، واتهمنا الدراسات التي قامت تبحثها بأنها عالجتها بطريقة سطحية وخارجية وباعتبارها منعزلة عن الآثار الأدبية التي تحتويها ، أما رأينا فهو أن الشعر يقوم في جوهره وبشكل مركزي على الصورة التي يجب أن تدرس في ضوء منهج تكاملي لا يعلي من أحد عناصرها على حساب الآخر
خاتمة وكانت هذه النقطة «مناهج دراسة الصورة الفنية » هي مطافنا حيث عنينا في الفصل الرابع بالتركيز على ثلاثة مناهج : المنهج النفسي والمنهج الرمزي والمنهج الفني ، وفيما يخص المنهجين الأولين اللذين يحاول فيهما أصحابهما إستغلال نتائج العلوم الإنسانية الأخرى وتطبيقها على الشعر رأينا خطر ذلك وأهميته في آن ، أما الخطر فينبع من الإنجراف وراء هذه النتائج إلى الدرجة التي يتناسى معها أننا في ميدان آخر هو ميدان الشعر ، وأما الأهمية فتأتي من قدرة هذه النتائج على إلقاء المزيد من الضوء على فن الشعر ، ولعلنا في استخدامنا المنهج الثالث الفني الذي يبدأ من المفهوم البلاغي للمصطلح ما يبعدنا عن خطر النتائج ، ويحقق لنا قدرتها الفائقة في الوقت نفسه .
وإذن فان الصفحات القادمة لم تكن في بدايتها سوى مقدمة لدراسة أخرى ، وقد طالت وامتدت حتى آثرنا لها أن تستقل بذاتها ، وإني لأرجو أن تسد بعض النقص الذي تعانيه مكتبتنا العربية في هذا الميدان . وتقدم للدارسين الذين يرتادون الشعر عن طريق الصورة بعض العون وخيره .
كانت دراسات الشعر حتى وقت قريب إما أن توثق صلته بالبيئة فتعده صورة لعصره ، وتدرسه في ضوء ملابساته الخارجية ، أي في ضوء علاقاته الثقافية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية ... ، وإما أن توثق صلته بالفنان - خالق الشعر - فتعده صورة لنفسه ، وتدرسه في ضوء ظروفه الخاصة ، ومدى مطابقته الحياة صاحبه ، أو مدى مطابقة حياة هذا له . . . ، ، وإما أن توثق ثالثة صلته بهما والنفس فتعده أثراً لكليهما ، وتدرسه في ضوء علاقاته الوشيجة بهما .
ورغم النتائج الباهرة التي قدمتها هذه الدراسات فإن الباحث يستطيع أن أنه مهما قيل عن الحالات الدافعة الخارجية والداخلية التي تدفع الفنان لكي ينتج عمله فانه يترك أمامنا في النهاية عملاً ما، قد لا تعنينا في غالب الأحيان صلاته بعصره أو بموجده بقدر ما يعنينا هو كواقعة جمالية تتسم بالموضوعية والتجريب ، وإذا أضفنا إلى هذا أن معظم الدارسين الذين كانوا وما يزالون يسلكون إحدى السبل السابقة يقولون الشيء الجم الغزير عن الملابسات والظروف التي تحيط بالآثار أكثر مما يقولون عن الآثار أدركنا لاندعي عقم هذه الدراسات بل عدم كفايتها وحدها وغنائها للوقوف على طبيعة النتاج الشعري بوصفه من الفنون الجميلة .
من هذا المنطلق بدأنا منذ فترة نحاول أن نتلمس طريقاً جديدة لدراسة الشعر تقوم على رؤيته رؤية بنائية تعتمد أساساً جوهره ، تحدده ثم تمضي في تحليله وبما أن جوهر كل فن هو واسطته التي يتوسل بها للتشكل والظهور لذلك فان دراسة هذه الواسطة هي دراسة لهذا الفن بل دراسة لدقائق عملية الخلق الشعري، ولطبيعة العمل الفني على السواء. وأي تغير يطرأ على أحدهما ( الفن والواسطة ( لا بد أن يرافقه تغير يطرأ على آخرهما ماداما وجهين لعملة واحدة ، أو مادام أولهما عالماً رحباً وثانيهما باباً له ، بمعنى أن الوقوف عند الفن يجب أن يبدأ من الوقوف عند وحدة بنائه الأساسية التي يحاكي بها الفنان أو يعبر أو يخلق وفي ضونها، فهي وحدها تقريباً تقربنا من داخله ، وطالما كان الاقتراب إليه من خارجه ، كما أنها تضع أيدينا ليس فقط على ماهيته بل وعلى جملة الفروق والاختلافات بين مذاهبه وتياراته وأعصره وشعرائه أيضاً .
ولدراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن نمهد بمقدمة نظرية تتناول عدة نقاط كنا نراها في البداية لا تمت إلى ميدان البحث بعلاقة وشيجة فضلاً عن أنها يمكن أن تطور إلى دراسات قائمة بذاتها ، إلا أننا نشعر الآن بأنها المدخل الطبيعي ، أو المعبر الوحيد إلى البحث لأنها تحدد جوانب كثيرة كان علينا أن نقننها ونقف عندها قبل المضي في الدراسة ، ويمكن أن نرد معظم هذه النقاط إلى مصطلح « صورة (( وما يثيره من ارتباطات ومشكلات ، فالكلمة توحي أول ماتوحي بذلك الإقتراب الوثيق والسيء من فن الرسم ، وهذا مادفعنا إلى أن ننشر بحثنا عن " الشعر بين الفنون الجميلة » توطئة لنشر هذا البحث عن طبيعة الواسطة التي يتوسل بها فن الشعر كي يبرز للعيان .
والواقع أن حديثنا عن الشعر بين الفنون الجميلة لم يكن حديثاً منصباً على تاريخ هذه الفنون ولا على نظريات تصنيفها عبر المدارس والتيارات بقدر ما كان حديثاً مقتصراً على بيان أوجه العلاقات بينها ، وقد انتهينا منه إلى أن هناك علاقات من نوع ما بين الفنون إلا أنها لا تحيل أحدها إلى الآخر أو تجعله يطغى بقوانينه ومصطلحاته عليه ، إنها ليست تأثيرات تبدأ في فن ما عند نقطة معينة ثم تنقل تأثيرها إلى فن آخر بل هي علاقات تقوم على الجدل والتأثيرات المتبادلة . وفيما يخص الشعر وجدنا أنه فن ينقل إلينا زمنكانية التجربة الشعورية في تشكيلتين إحداهما متعاقبة والأخرى متزامنة ، وأن المتلقي يتلقاه بجميع حواسه وخبراته ، وأن العصور حين أعلت أحد عنصريه على حساب الآخر كانت خاطئة فيما صنعته لسبب بسيط هو أن القيمتين التصويرية والموسيقية تنبعان من داخله ولا تفرضان عليه من الخارج .
أما حديثنا في هذه المقدمة فقد خلصنا منه إلى عدة أمور : ففي الفصل الأول انتهينا إلى أن لغة الفن لغة انفعالية ، والإنفعال ( بالدلالة الكلية الشاملة له ) لا يتوسل بالكلمة التقريرية المجردة وإنما يتوسل بوحدة تركيبية معقدة حيوية لاتقبل الإختصار هي الصورة » التي هي الرئيسة ، وكل قصيدة من القصائد وحدة كاملة تنتظم في داخلها وحدات متعددة هي لبنات بنائها العام ، وكل لبنة هذه اللبنات صورة تشكل مع أخواتها الصورة الكلية التي هي العمل نفسه. واسطته من هي .
من نقطة تدور حول وفي بقية الفصول كان علينا أن نجابه أكثر الصورة ، وفي مقدمتها قضية المصطلح » فعلاوة على أنه يستعمل في شتى الميادين بدلالات متباينة فهو يلعب أدواراً متعددة في نطاق الأنواع الأدبية ، خذ مثلاً دوره في الشعر تجده يختلف عن دوره في المسرحية أو حتى عن دوره في ضروب الشعر نفسها كالشعر الغنائي والمسرحي والقصصي والموسيقي وغيرها . . . حيث يتوسل كل" بالواسطة بطريقة بنائية ليست واحدة ، وباتكاء عليها غير متشابه .
وثمة علاقة الصورة بالأشكال البلاغية القديمة التي تعرضنا لها في الفصل الثالث ، وكانت وجهة نظرنا أنها - أي الأشكال أبنية مهدمة استنفدت طاقاتها ، وخلقت جدتها ، وطال عليها الزمن ، وقد رفضنا طبيعتها ووظائفها ، واتهمنا الدراسات التي قامت تبحثها بأنها عالجتها بطريقة سطحية وخارجية وباعتبارها منعزلة عن الآثار الأدبية التي تحتويها ، أما رأينا فهو أن الشعر يقوم في جوهره وبشكل مركزي على الصورة التي يجب أن تدرس في ضوء منهج تكاملي لا يعلي من أحد عناصرها على حساب الآخر
خاتمة وكانت هذه النقطة «مناهج دراسة الصورة الفنية » هي مطافنا حيث عنينا في الفصل الرابع بالتركيز على ثلاثة مناهج : المنهج النفسي والمنهج الرمزي والمنهج الفني ، وفيما يخص المنهجين الأولين اللذين يحاول فيهما أصحابهما إستغلال نتائج العلوم الإنسانية الأخرى وتطبيقها على الشعر رأينا خطر ذلك وأهميته في آن ، أما الخطر فينبع من الإنجراف وراء هذه النتائج إلى الدرجة التي يتناسى معها أننا في ميدان آخر هو ميدان الشعر ، وأما الأهمية فتأتي من قدرة هذه النتائج على إلقاء المزيد من الضوء على فن الشعر ، ولعلنا في استخدامنا المنهج الثالث الفني الذي يبدأ من المفهوم البلاغي للمصطلح ما يبعدنا عن خطر النتائج ، ويحقق لنا قدرتها الفائقة في الوقت نفسه .
وإذن فان الصفحات القادمة لم تكن في بدايتها سوى مقدمة لدراسة أخرى ، وقد طالت وامتدت حتى آثرنا لها أن تستقل بذاتها ، وإني لأرجو أن تسد بعض النقص الذي تعانيه مكتبتنا العربية في هذا الميدان . وتقدم للدارسين الذين يرتادون الشعر عن طريق الصورة بعض العون وخيره .
تعليق