الفن الساخر في المسرح
يهدف فن السخرية satire عامة إلى إبراز العيوب ومكامن الضعف والقصور في الفرد والمجتمع على حد سواء، على الصعيد الجسدي والأخلاقي والسياسي، بغرض تعريتها وتسليط ضوء النقد عليها، ليصار إلى تجاوزها نحو الأفضل ما أمكن. والهجاء والهزء والتهكم هي من أدوات السخرية التقليدية في آداب العالم كافة، واللغة هي وسيلة تعبيرها. أما في الفنون التشكيلية فوسيلة السخرية هي التصوير والنحت، وقد بلغت ذروتها في الرسم الساخر (الكاريكاتوري) caricature. وعلى صعيد المسرح، أبي الفنون، تتضافر الوسائل السمعية البصرية، أو بعضها، لتحقق للسخرية إمكاناتها التعبيرية المؤثرة، بوساطة اللغة (النص المنطوق) والتمثيل (التعبير بحركات الجسم gesture والوجه mimic) والأزياء costumes وغيرها. وفي تاريخ المسرح عالمياً، ارتبط فن السخرية غالباً بالملهاة (الكوميديا) comedy، لكنَّه لم يقتصر عليها فحسب. وعندما يكون موضوع السخرية (الشخص أو الجماعة) معروفاً من قبل الجمهور، ولاسيما إن كان من علّْية القوم، يكون وقع السخرية أبلغ تأثيراً، إذ يفترض الجمهور في هؤلاء عموماً الكمال في المظهر والسلوك. وعندما تلتقي شمولية النص الجيد بالممثل المقتدر والمخرج المثقف تبلغ السخرية أوجها وتحقق هدفها، على نقيض المسرح الهزلي الذي يهدف إلى الإضحاك فحسب بوساطة وسائل التهريج clownery.
إن أقدم نص مسرحي معروف يعتمد السخرية سلاحاً لتحقيق صدمة الوعي، هو النص البابلي مجهول المؤلف «حوارية السيد والعبد» الذي يعود إلى منتصف الألفية الثانية ق.م. وعلى الرغم من فرادته ونضجه الدرامي، إلا أن الكاتب لم يستخدم فيه من إمكانات السخرية سوى اللغة.
أما في العصر الإغـريقي فقد قارب أريستوفانِس Aristophanes الكمال في كوميدياته عندما استخدم السخرية لتعرية مثالـب عصره سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، معتمداً بذكـاء على قـدرات ممثليه في تجنيح الكلمة المنطوقة بالحركات التعبيرية التي تصعِّد تأثيرها فتعمقه، ولاسيما في مسرحية «الضفادع» Batrachoi عام (405ق.م) وعرَّى في جزئها الأول البطولات الأسطورية الزائفة، وتحزَّب ضمنياً في جزئها الثاني، في الموازنة الشعرية بين أسخيلوس Aeschylos وأوربيديس Euripides للأخير الأقرب إلى مواقفه الاجتماعية العملية؛ وقد كان كلاهما من الشخصيات المرموقة في عصر الكاتب.
حتى أواخر عصر النهضة الأوربية، لم يظهر ما يلفت النظر حقاً على صعيد السخرية في المـسرح، إلا في بعض أعمال شـكسـبير Shakespeare، كما في «الليلة الثانية عشرة» Twelfth Night عـام (1602) مثلاً. إلا أن حركة الكوميديا المرتجلة (ديلارتَه) Commedia dell’arte التي امتدت في إيطاليا على مدى قرنين بدءاً من منتصف القرن السادس عشر، وأثَّرت في المسارح المجاورة بعمق، أبرزت شكلاً فنياً، زاوج بحرفية عالية وفعالية راهنة، بين السيناريو المرتجل اعتماداً على حدوتة بسيطة وبين الأداء التمثيلي الفني المذهل. وكانت موضوعات عروض هذه الحركة مستمدة غالباً من الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية لرجال البلاط والإكليروس الكاثوليكي، إلى جانب الأنماط البشرية المألوفة كالبخيل والمتبجح والمتعالم والجشع والنمام وغيرها. وقد بلغ تأثير هذه العروض حداً دفع بالسلطات إلى منعها وسجن مدراء الفرق أو مطاردتهم ونفيهم. وكان من نتائج هجرة بعض هذه الفرق إلى باريس، ظهور موليير Molière الذي تتلمذ على عروضها وشارك في بعضها ممثلاً، والذي قدَّم في بعض أعماله أرقى نماذج السخرية المسرحية، كما في «طرطوف»Tartuffe عام (1665) و«البرجوازي النبيل»Le bourgeois gentilhomme عام (1670) مثلاً، وفيها سلَّط سهام نقده الساخر على الدجالين الذين يرتدون مسوح الدين، وعلى البرجوازيين الذين يحاولون تقليد الأرستقراطيين فيخسرون أصلهم ويصيرون موضع استغلال الطبقة الأعلى.
تتخذ السخرية في المسرح أحياناً قالب المحاكاة التهكمية parody، ولاسيما لأغراض سياسية، قد تكون محض دعائية. وفي النصف الأول من القرن العشرين كان المسرحي الألماني برتولد برِشت B.Brecht أبرع من استخدم المحاكاة التهكمية ليكشف زيف السياسات النازية ويفضح ممارسات رجالها الديماغوجية. ومن أبرز مسرحياته على هذا الصعيد «صعود آرتورو أوي الذي لا يمكن إيقافه» Der unaufhaltsame Aufstieg des Arturo Ui عام (1941) فيشبِّه أدولف هتلر A.Hitler وأعوانه بعصابة مافيوية تسيطر على سوق الخضار في مدينة شيكاغو. وفي النصف الثاني من القرن العشرين كان الإيطالي داريو فو Dario Fo أحد أبرز من وظَّف السخرية بأشكال فنية متعددة في مسرحه السياسي الذي استمد كثيراً من تقاليد الكوميديا المرتجلة، لمعالجة قضايا ساخنة محلياً وعالمياً، بأسلوب يحرّض المتفرج على التفكير العقلاني، ومن ثمَّ على المبادرة إلى الفعل للمشاركة في صياغة حياة المستقبل. ومن أبرز أعماله «امرأة للزبالة» La Signora è da buttare عام (1967) فيه تنوب المرأة عن أمريكا الامبريالية، و«موت فوضوي مصادفة»Accidentale di un anarchio عام (1970) التي يسخر فيها من أساليب التحقيق والتعذيب الممارسة من قبل السلطة السياسية بحق التيارات المعارضة.
ويتَّضح مما تقدم، أن أبرز من نجح في توظيف فن السخرية في المسرح كانوا من رجال المسرح، الذين مارسوا الكتابة والتمثيل والإخراج على حد سواء، وليس الكتابة فحسب. وهذا ما يتبدى على صعيد المسرح العربي أيضاً عند استعراض أعمال نجيب الريحاني[ر] في مصر، وعبد اللطيف فتحي[ر]، ومحمد الماغوط، ودريد لحام في سورية، وزياد الرحباني في لبنان.
نبيل الحفار
يهدف فن السخرية satire عامة إلى إبراز العيوب ومكامن الضعف والقصور في الفرد والمجتمع على حد سواء، على الصعيد الجسدي والأخلاقي والسياسي، بغرض تعريتها وتسليط ضوء النقد عليها، ليصار إلى تجاوزها نحو الأفضل ما أمكن. والهجاء والهزء والتهكم هي من أدوات السخرية التقليدية في آداب العالم كافة، واللغة هي وسيلة تعبيرها. أما في الفنون التشكيلية فوسيلة السخرية هي التصوير والنحت، وقد بلغت ذروتها في الرسم الساخر (الكاريكاتوري) caricature. وعلى صعيد المسرح، أبي الفنون، تتضافر الوسائل السمعية البصرية، أو بعضها، لتحقق للسخرية إمكاناتها التعبيرية المؤثرة، بوساطة اللغة (النص المنطوق) والتمثيل (التعبير بحركات الجسم gesture والوجه mimic) والأزياء costumes وغيرها. وفي تاريخ المسرح عالمياً، ارتبط فن السخرية غالباً بالملهاة (الكوميديا) comedy، لكنَّه لم يقتصر عليها فحسب. وعندما يكون موضوع السخرية (الشخص أو الجماعة) معروفاً من قبل الجمهور، ولاسيما إن كان من علّْية القوم، يكون وقع السخرية أبلغ تأثيراً، إذ يفترض الجمهور في هؤلاء عموماً الكمال في المظهر والسلوك. وعندما تلتقي شمولية النص الجيد بالممثل المقتدر والمخرج المثقف تبلغ السخرية أوجها وتحقق هدفها، على نقيض المسرح الهزلي الذي يهدف إلى الإضحاك فحسب بوساطة وسائل التهريج clownery.
إن أقدم نص مسرحي معروف يعتمد السخرية سلاحاً لتحقيق صدمة الوعي، هو النص البابلي مجهول المؤلف «حوارية السيد والعبد» الذي يعود إلى منتصف الألفية الثانية ق.م. وعلى الرغم من فرادته ونضجه الدرامي، إلا أن الكاتب لم يستخدم فيه من إمكانات السخرية سوى اللغة.
أما في العصر الإغـريقي فقد قارب أريستوفانِس Aristophanes الكمال في كوميدياته عندما استخدم السخرية لتعرية مثالـب عصره سياسياً واجتماعياً وأخلاقياً، معتمداً بذكـاء على قـدرات ممثليه في تجنيح الكلمة المنطوقة بالحركات التعبيرية التي تصعِّد تأثيرها فتعمقه، ولاسيما في مسرحية «الضفادع» Batrachoi عام (405ق.م) وعرَّى في جزئها الأول البطولات الأسطورية الزائفة، وتحزَّب ضمنياً في جزئها الثاني، في الموازنة الشعرية بين أسخيلوس Aeschylos وأوربيديس Euripides للأخير الأقرب إلى مواقفه الاجتماعية العملية؛ وقد كان كلاهما من الشخصيات المرموقة في عصر الكاتب.
حتى أواخر عصر النهضة الأوربية، لم يظهر ما يلفت النظر حقاً على صعيد السخرية في المـسرح، إلا في بعض أعمال شـكسـبير Shakespeare، كما في «الليلة الثانية عشرة» Twelfth Night عـام (1602) مثلاً. إلا أن حركة الكوميديا المرتجلة (ديلارتَه) Commedia dell’arte التي امتدت في إيطاليا على مدى قرنين بدءاً من منتصف القرن السادس عشر، وأثَّرت في المسارح المجاورة بعمق، أبرزت شكلاً فنياً، زاوج بحرفية عالية وفعالية راهنة، بين السيناريو المرتجل اعتماداً على حدوتة بسيطة وبين الأداء التمثيلي الفني المذهل. وكانت موضوعات عروض هذه الحركة مستمدة غالباً من الفضائح السياسية والمالية والأخلاقية لرجال البلاط والإكليروس الكاثوليكي، إلى جانب الأنماط البشرية المألوفة كالبخيل والمتبجح والمتعالم والجشع والنمام وغيرها. وقد بلغ تأثير هذه العروض حداً دفع بالسلطات إلى منعها وسجن مدراء الفرق أو مطاردتهم ونفيهم. وكان من نتائج هجرة بعض هذه الفرق إلى باريس، ظهور موليير Molière الذي تتلمذ على عروضها وشارك في بعضها ممثلاً، والذي قدَّم في بعض أعماله أرقى نماذج السخرية المسرحية، كما في «طرطوف»Tartuffe عام (1665) و«البرجوازي النبيل»Le bourgeois gentilhomme عام (1670) مثلاً، وفيها سلَّط سهام نقده الساخر على الدجالين الذين يرتدون مسوح الدين، وعلى البرجوازيين الذين يحاولون تقليد الأرستقراطيين فيخسرون أصلهم ويصيرون موضع استغلال الطبقة الأعلى.
مشهد من مسرحية «البورجوازي النبيل» لموليير |
ويتَّضح مما تقدم، أن أبرز من نجح في توظيف فن السخرية في المسرح كانوا من رجال المسرح، الذين مارسوا الكتابة والتمثيل والإخراج على حد سواء، وليس الكتابة فحسب. وهذا ما يتبدى على صعيد المسرح العربي أيضاً عند استعراض أعمال نجيب الريحاني[ر] في مصر، وعبد اللطيف فتحي[ر]، ومحمد الماغوط، ودريد لحام في سورية، وزياد الرحباني في لبنان.
نبيل الحفار