فرنسا
فرنسا في العصر الوسيط
تعرضت بلاد الغال (غاليا Gallia - فرنسا الحالية) منذ مطلع القرن الخامس الميلادي إلى غزوات قبائل الفرنجة[ر] (الفرانك Franks) الذين أعطوا غاليا اسمهم، فصارت تعرف بـ «فرنسا» France. وتمكن هؤلاء من تأسيس مملكة كُتب لها البقاء والاستمرار، وحلت تدريجياً محل الامبراطورية الرومانية في القسم الغربي من العالم الروماني. فبعد أن عبر هؤلاء الراين واستقروا في بلجيكا وحوض الراين الأدنى، أخذوا بالتوسع في المناطق الغربية من غاليا الرومانية، من دون أن يتركوا مناطق استقرارهم عند نهر الراين الأدنى، وإنما أخذوا ينتشرون منها إلى غاليا، ويضيفون إلى أملاكهم إقليماً بعد آخر. وقد تمكن كلوفيس Clovis (Chlodwig) أحد قادة الفرنجة من أن يفتح غاليا بأسرها، ويقضي على الممالك الجرمانيـة القائمة على أرضـها، ويقيم على أنقاضـها المملكة المـيروفنجية[ر] Mérovingienne مـا بـين (481-751م)، فاتخذ من آخن Aachen (اكس لاشابل Aix-La-Chappelle) عاصمة دولته وأحسن إلى سكان البلاد، واعتنق المسيحية الكاثوليكية عام 496م، وتبعه قومه، فأصبح لهم مكانة دينية كبيرة بين مسيحيي غربي أوربا، وأصبح كلوفيس وخلفاؤه حماة لها. ونزل ملوك الميروفنجيين عن كثير من صلاحياتهم الدينية لمصلحة الكنيسة مقابل احتضان الكنيسة مملكتهم ودعمهم في مشروعاته السياسية والعسكرية ضد كل القوى الجرمانية في غاليا.
اتبَّع الميروفنجيون نظام تقسيم المُلك بين الأبناء، وهو أمر أدى إلى كثير من الفوضى والحروب الأهلية، كلما توفي الملك، مما أثر في استقرار البلاد، واستغل رجال البلاط الخلافات بين أبناء الأسرة الحاكمة وتمتعوا بنفوذ كبير، وبرز من رجال البلاط بِيبن الثاني أو بِيبن هرستال Pépin de Herstal منذ أواخر القرن السابع الميلادي، فسيطر على الدولة الميروفنجية، وتبعه في ذلك ابنه شارل Charles Martel ما بين (714-741م) الذي دعم نفوذه، وجعل السلطة الفعلية في يده من دون الملك، وخاض ضد المسلمين معركة بواتييه Poitiers «بلاط الـشهداء» (732م) التي اسـتشهد فيها القائد العربي عبد الرحمن الغافقي[ر]. وقد أضفى هذا النصر على شارل مكانة وقوة أكسبته لقب مارتل «المطرقة»، وأصبح بذلك بطل أوربا الأول.
ظهر ضعف ملوك الميروفنجيين، فاجتمع المجلس العام لشعب الفرنجة، وعـزل آخر ملوك هذه الدولة، وأحلَّ مكانه ِبيبن القصير le Bref ابـن شـارل مارتل (751-768م)، وبدأ حكـم دولـة فرنجية جـديدة هي الدولة الكارولنجية[ر] Carolingienne ما بين (751-987م) - من سلالـة رؤسـاء بلاط أوستراسيا Austrasie - فأصبحت هذه الدولة أعظم قوة سياسية في غربي أوربا بفضل تحالفها مع البابوية، وكان البابا يتوّج ملوكها بيده.
يعد شارلمان[ر] Charlemagne بن ِبيبن القصير والذي حكم بين عامي 768-806م وتوج عام 800م امبراطوراً على الغرب، أعظم ملوك الكارولنجيين، إذ حقق انتصارات كثيرة في أوربا، وتمكن من إحياء الامبراطورية الرومانية، إلا أنه هُزم أمام الجيوش الإسلامية في الأندلس، وخسر معظم قادته، وعلى رأسهم رولان Roland في معركة رونسفو Roncevaux عام 778م. ولم يقتصر اهتمام شارلمان على السياسة والحرب، بل شجع الأدباء والعلماء، واهتم بالمكتبات ونسخ الكتب وتصحيحها، واستحدث كثيراً من التشريعات الإدارية والقضائية، واهتم بالزراعة والصناعة، وبدأت تظهر في عهده بذور النقابات لحماية الصناعيين من المنافسة الخارجية، كما اهتم بتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتشجيعها، وجمع في قبضته القوية زمام السلطتين الدينية والزمنية.
نشبت الخلافات بين أبناء شارلمان بعد وفاته، وخسرت فرنسا المناطق التي كانت تحكمها خارج حدودها، وتعرَّض صغار الملاك للضغط، مما دفعهم إلى البحث عن قوة تحميهم،فوجدوا ذلك في كبار الأمراء الإقطاعيين، وانقسمت فرنسا بذلك إلى أقسام إدارية إقطاعية أو كونتينات تجاوزت الثلائمئة كونتينة، وكانت كل واحدة مستقلة عن الأخرى، يحكمها كونت إقطاعي نائب عن الملك الميروفنجي أو الكارولنجي. وظلت فرنسا على هذا التنظيم الإقطاعي منذ القرن العاشر حتى الثاني عشر.
تعد الفترة بين 855-887م من أحلك عصور تاريخ فرنسا، لعجز الملك عن الوقوف في وجه الغزوات الخارجية بسبب نظام الإقطاع الذي فَرَّق وحدة الدولة، وتعرضت البلاد لغزوات الفايكنغ Vikings الذين وصلوا إلى باريس وحاصروها، وعجز الملك عن صدهم، ولولا وقوف أودو Odo كونت باريس في وجههم لسقطت في أيديهم، وقد أدى موقف كونت باريس ودفاعه عن المدينة إلى ظهوره بمظهر القوي في وجه الملكية، وأصبح له مكانة كبيرة، واستمر الأمر على ذلك حتى نجح هيو كابيه Hugués Capet الباريسي في إسقاط الملك الكارولنجي، وتُوِّج ملكاً على فرنسا (987-996م) وبدأ بذلك حكم أسرة كابيه Les Capétiens الباريسية التي حكمت ما بين عامي 987-1328م، وأصبحت باريس عاصمة فرنسا. وحدثت في فترة حكم هذه الأسرة الحروب الصليبية، وحمل لواء الدعوة لها البابا أوربانوس الثاني Urbanus II الفرنسي، وشارك الفرنسيون فيها بكثرة، وعليه دعي الصليبيون باسم الفرنجة.
لم تستطع أسرة كابيه السيطرة على فرنسا وتوحيدها تحت طاعتها، بسبب سلطات الإقطاعيين والكنيسة، ولذلك حاولت تدريجياً إضعاف سلطتهما، فقد عملت على جعل الأسقفيات والأديرة التي تتمتع بثروة كبيرة خاضعة للملكية، وفرضت عليها دفع مبالغ مالية أنفقتها على تنظيم وقوة الملكية وتدعيمها،كما أخذت بإخضاع الأتباع والفصائل، إلا أنها عجزت عن إخضاع كبار الأمراء الإقطاعيين كلياً، وكل ما استطاعت تحقيقه كان اعتراف الإقطاعيين بسلطة اسمية للملك. وقد دعم ذلك وضع الملكية، وزاد من قوتها بداية ظهور الطبقة البرجوازية.
حاول الملوك ربط الملكية في فرنسا بالطبقة البرجوازية وتحالفوا معها، مما اضطر الإقطاعيين إلى الرضوخ والقبول بمبدأ وراثة العرش، وتعيين الوريث في حياة الملك، ودعمت الكنيسة هذا التوجه وأصبحت سلطة الملك شاملة البلاد كلها، ومسيطرة على جميع الإقطاعيين فيها، ولم يعد الملك مجرد سيد بين الأسياد الإقطاعيين، بل أصبح الممثل الحي للقانون والمسؤول عنه، واتجهت سياسة الملوك نحو توحيد فرنسا تحت سيادة الملك، ومد حدودها، وتحقيق زعامتها على غربي أوربا.
بدأت فرنسا تنهض في المجالات العلمية والأدبية والمعمارية كافة، وأخذت تظهر مرهوبة الجانب في السياسة الأوربية بعد انتصار فيليب الثاني أوغست Philippe II Auguste (على الإنكليز) وعلى التحالف الأوربي، وصار لجامعة باريس في عهده دور كبير في الإشعاع الثقافي الأوربي، فقصدها الفلاسفة والعلماء والفنانون لبناء أعظم الكاتدرائيات والكنائس والمعالم العمرانية والجامعات والمراكز العلمية، وقد تمكن لويس التاسع التقي Louis IX، على الرغم من هزيمته في الحملة الصليبية السابعة على مصر التي قادها بنفسه، إلى أن يجعل فرنسا أقوى دولة في أوربا، فقد تمكن من إصلاح الإدارة والقضاء والمالية، وجعل لفرنسا عملة موحدة صالحة للتداول في كل أنحائها، وانحصر التداول في العملات الخاصة في الإقطاعية التي كانت تصدرها.
وبالمقابل تدهورت علاقة الملكية الفرنسية مع البابوية نتيجة محاولة ملوك فرنسا تحجيم دور الكنيسة في الحياة السياسية الفرنسية. وما لبثت أسرة كابيه أن ضعفت بسبب الحرب التي خاضتها والنزاع مع إنكلترا، إضافة إلى الصراعات حول وراثة العرش بعد وفاة آخر ملوكها، واختيار فيليب فالوا Philippe de Valois ملكاً على فرنسا، ولقب بـ «فيليب السادس» وتأسست بذلك أسرة فالوا (1328-1792م).
خاضت هذه الأسرة حرب المئة عام[ر] (1337-1440م) مع إنكلترا، بسبب تنافس الدولتين على إقليم الفلاندر، فأدى ذلك إلى توقف التوسع الزراعي وحدوث مجاعات وأمراض أنقصت عدد السكان، واضطرب الاقتصاد، ولم تعد أسعار النقد مستقرة، وعمت الفوضى والثورات التي قام بها الإقطاعيون والطبقة البرجوازية وعامة الشعب، ثم ما لبث الإقطاعيون أن عانوا مصاعب مالية فبدؤوا بالتخلي عن أراضيهم، وأخذ الأقنان بالتحرر في الأراضي الفرنسية كافة على حساب الإقطاعيين، وانتهت حرب المئة عام، لكن الحروب الفرنسية مع بقية دول أوربا لم تنته.
عانت فرنسا في القرن السادس عشر الحروب الدينية التي نشبت بين الكاثوليك والبروتستنت، وذهب ضحيتها عدة آلاف من البروتستنت، ولم تنته هذه الحروب إلا سنة 1598م بالسماح للبروتستنت بأداء شعائرهم الدينية بحرية، ومع ذلك فقد تكررت الحروب الدينية بسبب تعصب الفرنسيين للكاثوليكية.
بدأت فرنسا منذ الثلث الأخير للقرن السابع عشر سياسة الاستعمار خارج أوربا، وأخذت بالاستيلاء على كندا ولويزيانا والهند، لكن هذه السيطرة لم تستمر إذ رجحت كفة الدعوة الاستعمارية البريطانية، وخسرت فرنسا ممتلكاتها.
قويت الطبقة البرجوازية مرة أخرى في فرنسا، وظهرت طبقة من الفلاحين الميسورين انضمت إلى البرجوازية الوطنية، ونظمت تعاونيات مدنية لتنمية صناعة الحرير، وتقاربت طبقتا النبلاء والبرجوازية من بعضهما، وأصبح لفرنسا جيش نظامي، وبدأ تحرر الشعب وانتشار الأفكار الديمقراطية، واشتدت المطالبة بالإصلاحات الجذرية، فقرر الملك لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا معارضتها بالقوة. وحاول إرضاء الشعب بحل الأزمة المالية الخانقة، وانتهج سياسة اقتصادية زادت الأزمة تفاقماً، فاستاء الصناعيون والعمال الفرنسيون بسبب الخسائر التي منوا بها، واجتمع مجلس طبقات الأمة في فرساي 5 أيار/مايو 1789م، وطالب أعضاؤه بمطالب لم تتحقق، فأعلنوا أنفسهم جمعية وطنية، وقرروا وضع دستور للبلاد، فعارضهم الملك، مما أدى إلى الهجـوم على البـاسـتيل Bastille في 14 تموز/يوليو 1789م، وصدور مقدمة إعلان حقوق الإنسان الشهيرة والجمهورية الأولى، وأُشيعت أنباء عن خيانة الملك وزوجته ماري أنطوانيت Marie -Antoinette، فأعلنت الجمهورية الأولى، وحوكم الملك بتهمة الخيانة فأُعدم وزوجته في كانون الثاني 1793م، ولكن حكومة الثورة لم تحسن إدارة البلاد، وانتهى الأمر باستيلاء نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte على السلطة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1799م، لتبدأ مع حكمه مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا، بل القارة الأوربية برمتها.
أمينة بيطار
فرنسا في العصر الوسيط
تعرضت بلاد الغال (غاليا Gallia - فرنسا الحالية) منذ مطلع القرن الخامس الميلادي إلى غزوات قبائل الفرنجة[ر] (الفرانك Franks) الذين أعطوا غاليا اسمهم، فصارت تعرف بـ «فرنسا» France. وتمكن هؤلاء من تأسيس مملكة كُتب لها البقاء والاستمرار، وحلت تدريجياً محل الامبراطورية الرومانية في القسم الغربي من العالم الروماني. فبعد أن عبر هؤلاء الراين واستقروا في بلجيكا وحوض الراين الأدنى، أخذوا بالتوسع في المناطق الغربية من غاليا الرومانية، من دون أن يتركوا مناطق استقرارهم عند نهر الراين الأدنى، وإنما أخذوا ينتشرون منها إلى غاليا، ويضيفون إلى أملاكهم إقليماً بعد آخر. وقد تمكن كلوفيس Clovis (Chlodwig) أحد قادة الفرنجة من أن يفتح غاليا بأسرها، ويقضي على الممالك الجرمانيـة القائمة على أرضـها، ويقيم على أنقاضـها المملكة المـيروفنجية[ر] Mérovingienne مـا بـين (481-751م)، فاتخذ من آخن Aachen (اكس لاشابل Aix-La-Chappelle) عاصمة دولته وأحسن إلى سكان البلاد، واعتنق المسيحية الكاثوليكية عام 496م، وتبعه قومه، فأصبح لهم مكانة دينية كبيرة بين مسيحيي غربي أوربا، وأصبح كلوفيس وخلفاؤه حماة لها. ونزل ملوك الميروفنجيين عن كثير من صلاحياتهم الدينية لمصلحة الكنيسة مقابل احتضان الكنيسة مملكتهم ودعمهم في مشروعاته السياسية والعسكرية ضد كل القوى الجرمانية في غاليا.
اتبَّع الميروفنجيون نظام تقسيم المُلك بين الأبناء، وهو أمر أدى إلى كثير من الفوضى والحروب الأهلية، كلما توفي الملك، مما أثر في استقرار البلاد، واستغل رجال البلاط الخلافات بين أبناء الأسرة الحاكمة وتمتعوا بنفوذ كبير، وبرز من رجال البلاط بِيبن الثاني أو بِيبن هرستال Pépin de Herstal منذ أواخر القرن السابع الميلادي، فسيطر على الدولة الميروفنجية، وتبعه في ذلك ابنه شارل Charles Martel ما بين (714-741م) الذي دعم نفوذه، وجعل السلطة الفعلية في يده من دون الملك، وخاض ضد المسلمين معركة بواتييه Poitiers «بلاط الـشهداء» (732م) التي اسـتشهد فيها القائد العربي عبد الرحمن الغافقي[ر]. وقد أضفى هذا النصر على شارل مكانة وقوة أكسبته لقب مارتل «المطرقة»، وأصبح بذلك بطل أوربا الأول.
ظهر ضعف ملوك الميروفنجيين، فاجتمع المجلس العام لشعب الفرنجة، وعـزل آخر ملوك هذه الدولة، وأحلَّ مكانه ِبيبن القصير le Bref ابـن شـارل مارتل (751-768م)، وبدأ حكـم دولـة فرنجية جـديدة هي الدولة الكارولنجية[ر] Carolingienne ما بين (751-987م) - من سلالـة رؤسـاء بلاط أوستراسيا Austrasie - فأصبحت هذه الدولة أعظم قوة سياسية في غربي أوربا بفضل تحالفها مع البابوية، وكان البابا يتوّج ملوكها بيده.
يعد شارلمان[ر] Charlemagne بن ِبيبن القصير والذي حكم بين عامي 768-806م وتوج عام 800م امبراطوراً على الغرب، أعظم ملوك الكارولنجيين، إذ حقق انتصارات كثيرة في أوربا، وتمكن من إحياء الامبراطورية الرومانية، إلا أنه هُزم أمام الجيوش الإسلامية في الأندلس، وخسر معظم قادته، وعلى رأسهم رولان Roland في معركة رونسفو Roncevaux عام 778م. ولم يقتصر اهتمام شارلمان على السياسة والحرب، بل شجع الأدباء والعلماء، واهتم بالمكتبات ونسخ الكتب وتصحيحها، واستحدث كثيراً من التشريعات الإدارية والقضائية، واهتم بالزراعة والصناعة، وبدأت تظهر في عهده بذور النقابات لحماية الصناعيين من المنافسة الخارجية، كما اهتم بتنظيم التجارة الداخلية والخارجية وتشجيعها، وجمع في قبضته القوية زمام السلطتين الدينية والزمنية.
نشبت الخلافات بين أبناء شارلمان بعد وفاته، وخسرت فرنسا المناطق التي كانت تحكمها خارج حدودها، وتعرَّض صغار الملاك للضغط، مما دفعهم إلى البحث عن قوة تحميهم،فوجدوا ذلك في كبار الأمراء الإقطاعيين، وانقسمت فرنسا بذلك إلى أقسام إدارية إقطاعية أو كونتينات تجاوزت الثلائمئة كونتينة، وكانت كل واحدة مستقلة عن الأخرى، يحكمها كونت إقطاعي نائب عن الملك الميروفنجي أو الكارولنجي. وظلت فرنسا على هذا التنظيم الإقطاعي منذ القرن العاشر حتى الثاني عشر.
تعد الفترة بين 855-887م من أحلك عصور تاريخ فرنسا، لعجز الملك عن الوقوف في وجه الغزوات الخارجية بسبب نظام الإقطاع الذي فَرَّق وحدة الدولة، وتعرضت البلاد لغزوات الفايكنغ Vikings الذين وصلوا إلى باريس وحاصروها، وعجز الملك عن صدهم، ولولا وقوف أودو Odo كونت باريس في وجههم لسقطت في أيديهم، وقد أدى موقف كونت باريس ودفاعه عن المدينة إلى ظهوره بمظهر القوي في وجه الملكية، وأصبح له مكانة كبيرة، واستمر الأمر على ذلك حتى نجح هيو كابيه Hugués Capet الباريسي في إسقاط الملك الكارولنجي، وتُوِّج ملكاً على فرنسا (987-996م) وبدأ بذلك حكم أسرة كابيه Les Capétiens الباريسية التي حكمت ما بين عامي 987-1328م، وأصبحت باريس عاصمة فرنسا. وحدثت في فترة حكم هذه الأسرة الحروب الصليبية، وحمل لواء الدعوة لها البابا أوربانوس الثاني Urbanus II الفرنسي، وشارك الفرنسيون فيها بكثرة، وعليه دعي الصليبيون باسم الفرنجة.
لم تستطع أسرة كابيه السيطرة على فرنسا وتوحيدها تحت طاعتها، بسبب سلطات الإقطاعيين والكنيسة، ولذلك حاولت تدريجياً إضعاف سلطتهما، فقد عملت على جعل الأسقفيات والأديرة التي تتمتع بثروة كبيرة خاضعة للملكية، وفرضت عليها دفع مبالغ مالية أنفقتها على تنظيم وقوة الملكية وتدعيمها،كما أخذت بإخضاع الأتباع والفصائل، إلا أنها عجزت عن إخضاع كبار الأمراء الإقطاعيين كلياً، وكل ما استطاعت تحقيقه كان اعتراف الإقطاعيين بسلطة اسمية للملك. وقد دعم ذلك وضع الملكية، وزاد من قوتها بداية ظهور الطبقة البرجوازية.
حاول الملوك ربط الملكية في فرنسا بالطبقة البرجوازية وتحالفوا معها، مما اضطر الإقطاعيين إلى الرضوخ والقبول بمبدأ وراثة العرش، وتعيين الوريث في حياة الملك، ودعمت الكنيسة هذا التوجه وأصبحت سلطة الملك شاملة البلاد كلها، ومسيطرة على جميع الإقطاعيين فيها، ولم يعد الملك مجرد سيد بين الأسياد الإقطاعيين، بل أصبح الممثل الحي للقانون والمسؤول عنه، واتجهت سياسة الملوك نحو توحيد فرنسا تحت سيادة الملك، ومد حدودها، وتحقيق زعامتها على غربي أوربا.
بدأت فرنسا تنهض في المجالات العلمية والأدبية والمعمارية كافة، وأخذت تظهر مرهوبة الجانب في السياسة الأوربية بعد انتصار فيليب الثاني أوغست Philippe II Auguste (على الإنكليز) وعلى التحالف الأوربي، وصار لجامعة باريس في عهده دور كبير في الإشعاع الثقافي الأوربي، فقصدها الفلاسفة والعلماء والفنانون لبناء أعظم الكاتدرائيات والكنائس والمعالم العمرانية والجامعات والمراكز العلمية، وقد تمكن لويس التاسع التقي Louis IX، على الرغم من هزيمته في الحملة الصليبية السابعة على مصر التي قادها بنفسه، إلى أن يجعل فرنسا أقوى دولة في أوربا، فقد تمكن من إصلاح الإدارة والقضاء والمالية، وجعل لفرنسا عملة موحدة صالحة للتداول في كل أنحائها، وانحصر التداول في العملات الخاصة في الإقطاعية التي كانت تصدرها.
وبالمقابل تدهورت علاقة الملكية الفرنسية مع البابوية نتيجة محاولة ملوك فرنسا تحجيم دور الكنيسة في الحياة السياسية الفرنسية. وما لبثت أسرة كابيه أن ضعفت بسبب الحرب التي خاضتها والنزاع مع إنكلترا، إضافة إلى الصراعات حول وراثة العرش بعد وفاة آخر ملوكها، واختيار فيليب فالوا Philippe de Valois ملكاً على فرنسا، ولقب بـ «فيليب السادس» وتأسست بذلك أسرة فالوا (1328-1792م).
خاضت هذه الأسرة حرب المئة عام[ر] (1337-1440م) مع إنكلترا، بسبب تنافس الدولتين على إقليم الفلاندر، فأدى ذلك إلى توقف التوسع الزراعي وحدوث مجاعات وأمراض أنقصت عدد السكان، واضطرب الاقتصاد، ولم تعد أسعار النقد مستقرة، وعمت الفوضى والثورات التي قام بها الإقطاعيون والطبقة البرجوازية وعامة الشعب، ثم ما لبث الإقطاعيون أن عانوا مصاعب مالية فبدؤوا بالتخلي عن أراضيهم، وأخذ الأقنان بالتحرر في الأراضي الفرنسية كافة على حساب الإقطاعيين، وانتهت حرب المئة عام، لكن الحروب الفرنسية مع بقية دول أوربا لم تنته.
عانت فرنسا في القرن السادس عشر الحروب الدينية التي نشبت بين الكاثوليك والبروتستنت، وذهب ضحيتها عدة آلاف من البروتستنت، ولم تنته هذه الحروب إلا سنة 1598م بالسماح للبروتستنت بأداء شعائرهم الدينية بحرية، ومع ذلك فقد تكررت الحروب الدينية بسبب تعصب الفرنسيين للكاثوليكية.
بدأت فرنسا منذ الثلث الأخير للقرن السابع عشر سياسة الاستعمار خارج أوربا، وأخذت بالاستيلاء على كندا ولويزيانا والهند، لكن هذه السيطرة لم تستمر إذ رجحت كفة الدعوة الاستعمارية البريطانية، وخسرت فرنسا ممتلكاتها.
قويت الطبقة البرجوازية مرة أخرى في فرنسا، وظهرت طبقة من الفلاحين الميسورين انضمت إلى البرجوازية الوطنية، ونظمت تعاونيات مدنية لتنمية صناعة الحرير، وتقاربت طبقتا النبلاء والبرجوازية من بعضهما، وأصبح لفرنسا جيش نظامي، وبدأ تحرر الشعب وانتشار الأفكار الديمقراطية، واشتدت المطالبة بالإصلاحات الجذرية، فقرر الملك لويس السادس عشر آخر ملوك فرنسا معارضتها بالقوة. وحاول إرضاء الشعب بحل الأزمة المالية الخانقة، وانتهج سياسة اقتصادية زادت الأزمة تفاقماً، فاستاء الصناعيون والعمال الفرنسيون بسبب الخسائر التي منوا بها، واجتمع مجلس طبقات الأمة في فرساي 5 أيار/مايو 1789م، وطالب أعضاؤه بمطالب لم تتحقق، فأعلنوا أنفسهم جمعية وطنية، وقرروا وضع دستور للبلاد، فعارضهم الملك، مما أدى إلى الهجـوم على البـاسـتيل Bastille في 14 تموز/يوليو 1789م، وصدور مقدمة إعلان حقوق الإنسان الشهيرة والجمهورية الأولى، وأُشيعت أنباء عن خيانة الملك وزوجته ماري أنطوانيت Marie -Antoinette، فأعلنت الجمهورية الأولى، وحوكم الملك بتهمة الخيانة فأُعدم وزوجته في كانون الثاني 1793م، ولكن حكومة الثورة لم تحسن إدارة البلاد، وانتهى الأمر باستيلاء نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte على السلطة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1799م، لتبدأ مع حكمه مرحلة جديدة في تاريخ فرنسا، بل القارة الأوربية برمتها.
أمينة بيطار