شاتوبريان (فرانسوا رُنيه، فيكونت دي-)
(1768 ـ 1848)
فرانسوا رُنيه، فيكونت دي شاتوبريانFrançois René, vicomte de Chateaubriandأديب وشاعر ورجل سياسة فرنسي. ولد في مدينة سان مالو St. Malo لعائلة تعمل في التجارة البحرية. تطوّع في الجيش الملكي وأصبح ملازماً في فرساي، مقر البلاط قرب باريس، وهو في السادسة عشرة من عمره. افتتن في بداية حياته الباريسية بأفكار الثورة الفرنسية (1789) لكن الإرهاب الذي تمخض عنها أبعده عنها، ودفعه حب المغامرة إلى السفر إلى أمريكا التي بقي فيها عدة أشهر قبل عودته محملاً بما دوّنه من ملاحظات خلال رحلته. في هذه الأثناء كان الجيش الملكي المقاوم للثورة ينظم صفوفه في ألمانيا فالتحق شاتوبريان به، لكنه سرعان ما جُرح ومرض، فسافر إلى لندن وقضى فيها سبع سنوات بائسة، نشر في خلالها «مقال في الثورات» Essai sur les revolutions ت(1797). رجع عام 1800 إلى فرنسا وقد تخلى عن ميوله الثورية، وعاد إلى ممارسة الشعائر الدينية التي أبعدته سنوات الشباب عنها، ووضع عدداً من الكتب التي يمتدح فيها الأخلاقيات المسيحية والتعاليم الكنسية منها «آتالا» Atalaت(1801) و«رُنيه» René ت(1802) و«عبقرية المسيحية» Génie du christianismeت(1802). ثم قام برحلة إلى بلاد الشرق (اليونان وتركيا وفلسطين..) استغرقت عامين (1806ـ 1807) كتب في أثنائها ملحمة دينية نثرية، نشرها عام 1809 بعنوان «الشهداء» Les Martyrs. وانتُخب عام 1811 عضواً في الأكاديمية الفرنسية.
عاش شاتوبريان حياته متقلباً بين الأدب والسياسة، فقد شغل عدداً من المناصب المهمة (سفير في روما ووزير دولة ووزير خارجية وعضو في مجلس الأعيان....)، لكن تقلّب الحكومات كان يدفعه، في كل مرة، للاستقالة من منصبه فيعود إلى الكتابة في الصحف، ولاسيما صحيفة «المحافظ» Le Conservateur التي أسسها عام 1818، أو إلى العمل على مؤلفه الأهم «مذكرات ما وراء القبر» Mémoires d’outre-tombe الذي استغرق إنجازه ثلاثين عاماً تقريباً. في هذه السنوات، ارتبط بعلاقة عاطفية مع مدام ريكامييه Madame Récamier صاحبة الصالون الأدبي الذي كان يجمع حول شاتوبريان أساطين الحركة الرومنسية في الفنون والآداب، حتى مرضه ووفاته في باريس.
يمكن تصنيف النتاج الأدبي والفكري لشاتوبريان ضمن ثلاث فئات تقابل المراحل الثلاث الأساسية في حياته:
أولاً: كتابات القلق وعدم اليقين، وهي التي كتبها في مرحلة الشباب، وأهمها: «مقال في الثورات» قدم فيه قراءة للثورات القديمة والحديثة ليستنتج إن كان ثمة علاقة لها بالثورة الفرنسية. يعتمد شاتوبريان على منهجين متناقضين لاثنين من كبار فلاسفة القرن الثامن عشر: روسو Rousseauومنهجه في القراءة الموضوعية للتاريخ المعيش؛ ومونتسكيو Montesquieu ومنهجه في المقارنة بين المجتمعات وتطورها التاريخي. وفي حين يتفق مع الأول حول الطبيعة البشرية والآراء العقلانية المناوئة للمسيحية، يرفض فكرة التطور الإنساني التي نادى بها الثاني وغيره من الفلاسفة الموسوعيين Les encyclopédistes. يطرح شاتوبريان في هذا العمل فرضية جديدة في البحث التاريخي تنهض على فكرة استحالة التقدم ومن ثم ضرورة تكرار التاريخ لنفسه. فالتاريخ مخزن للنماذج التي يمكنها أن تفسر الواقع المعيش شرط أن نعرف مع أي من تلك النماذج يتطابق هذا الواقع.
ثانياً: كتابات العودة إلى الإيمان وهي التي كتبها بين الثلاثين والأربعين من عمره، وهي عديدة، أهمها كتاب «عبقرية المسيحية»، وروايتا «آتالا» و«رُنيه» اللتان تعتبران أنموذجاً مثالياً للأدب الإبداعي (الرومنسي). ففي «آتالا»، يعتمد الكاتب تقنية الرواية داخل الرواية. الرواية الأولى يحكيها الشاب الفرنسي رُنيه الذي ينزل ضيفاً على قبيلة هنود الناتشيز Natchez في أمريكا الشمالية. أما الرواية الثانية فهي ذكريات شباب الحكيم الهندي شاكتاس الذي أنقذته الهندية المسيحية آتالا من الأسر، إثر حرب بين قبيلتيهما. وفي أثناء هربهما يلتقيان راهباً يدعو شاكتاس إلى الدين المسيحي ويحضه على الزواج من محررته، لكن آتالا التي كرسّتها أمها لخدمة الكنيسة تنتحر، خشية أن يثنيها الحب عن طريق الإيمان. في الرواية الثانية «رُنيه»، التي تعد تكملة لرواية «آتالا»، يسرد الشاب الفرنسي ذكرياته للعجوز الهندي ليبين له سبب كآبته الدائمة، فيحكي عن معاناته من العزلة والوحدة، وعن سأمه من العالم ومن نفسه وهربه من ثم إلى أمريكا بحثاً عن السلام المستحيل، وعن الحب الممنوع الذي يدفع بأخته إلى الدير والترهّب.
وضع شاتوبريان في هاتين الروايتين دفاعه عن العقيدة المسيحية في قالب أدبي متخيّل، لكنه صاغ هذا الدفاع نظرياً في كتاب «عبقرية المسيحية» الذي يعارض فيه، من جهة، تياراً ناقداً للتدّين المسيحي قاده فولتير Voltaire وبعض فلاسفة عصر التنوير، ومن جهة أخرى، تياراً روحانياً متحمساً للتديّن يمثله باسكال Pascal. تقوم نظرية شاتوبريان على المقارنة التاريخية، فيدرس النتاجات الثقافية للحضارات الأوربية حتى تلك التي سبقت المسيحية، ويرى أنها لا تصل إلى مستوى النتاجات المسيحية، ليستنتج من ذلك تفوق الدين المسيحي. وقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في الأدب والفن الفرنسيين، استمر حتى ما بعد نهاية القرن التاسع عشر، وتجلى في الميل نحو التأملات الفلسفية وفي تمجيد الأساليب الفنية القديمة.
ثالثا: كتابات العزلة والتفكير في العالم التي كتبها في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. وأهمها كتاب «مذكرات ماوراء القبر» الذي وضع مخطوطه الأولي بين عامي 1811 و1822 وأنجزه بين عامي 1830 و1841. أراد شاتوبريان أن يجعل من هذا الكتاب شهادة على عالم يتحول من شكل قديم بائد إلى شكل جديد منفتح على المجهول. وقد اعتمد في صياغته أسلوباً وسطاً بين المذكرات والاعترافات، مما أعطى الكتاب نفحة شعرية قوية. يحتوي الكتاب على وصف جغرافي للمناطق التي ألِفَها شاتوبريان، كمنطقة بريتانيا Bretagne مسقط رأسه، والغابات في أمريكا، كما يحتوي على سرد شاعري للتغيرات الدرامية التي عرفها عصره، من النظام الملكي إلى ثورتي 1789 و1830 إلى الإمبراطورية فالملكية مرة ثانية. ومن حين لآخر يستطرد في هذا السرد التاريخي ليرسم الشخصيات الملهمة التي أثّرت في حياته، وخاصة عشيقاته، لينتهي بمديح المجتمع الصناعي ونظامه الديمقراطي.
لقد أثرت التقلبات السياسية الهائلة التي عرفتها فرنسا بين منتصفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أهواء شاتوبريان السياسية، لكن خطاً ناظماً ثابتاً كان يقود فكره، جوهره الدفاع عن الملكية دون التنازل عن الحريات التي أطلقتها الثورة، وهذا ما جعل منه علماً من أعلام الليبرالية السياسية. أما في الأدب فإنه يبقى واحداً من رواد الإبداعية.
حسان عباس
(1768 ـ 1848)
|
عاش شاتوبريان حياته متقلباً بين الأدب والسياسة، فقد شغل عدداً من المناصب المهمة (سفير في روما ووزير دولة ووزير خارجية وعضو في مجلس الأعيان....)، لكن تقلّب الحكومات كان يدفعه، في كل مرة، للاستقالة من منصبه فيعود إلى الكتابة في الصحف، ولاسيما صحيفة «المحافظ» Le Conservateur التي أسسها عام 1818، أو إلى العمل على مؤلفه الأهم «مذكرات ما وراء القبر» Mémoires d’outre-tombe الذي استغرق إنجازه ثلاثين عاماً تقريباً. في هذه السنوات، ارتبط بعلاقة عاطفية مع مدام ريكامييه Madame Récamier صاحبة الصالون الأدبي الذي كان يجمع حول شاتوبريان أساطين الحركة الرومنسية في الفنون والآداب، حتى مرضه ووفاته في باريس.
يمكن تصنيف النتاج الأدبي والفكري لشاتوبريان ضمن ثلاث فئات تقابل المراحل الثلاث الأساسية في حياته:
أولاً: كتابات القلق وعدم اليقين، وهي التي كتبها في مرحلة الشباب، وأهمها: «مقال في الثورات» قدم فيه قراءة للثورات القديمة والحديثة ليستنتج إن كان ثمة علاقة لها بالثورة الفرنسية. يعتمد شاتوبريان على منهجين متناقضين لاثنين من كبار فلاسفة القرن الثامن عشر: روسو Rousseauومنهجه في القراءة الموضوعية للتاريخ المعيش؛ ومونتسكيو Montesquieu ومنهجه في المقارنة بين المجتمعات وتطورها التاريخي. وفي حين يتفق مع الأول حول الطبيعة البشرية والآراء العقلانية المناوئة للمسيحية، يرفض فكرة التطور الإنساني التي نادى بها الثاني وغيره من الفلاسفة الموسوعيين Les encyclopédistes. يطرح شاتوبريان في هذا العمل فرضية جديدة في البحث التاريخي تنهض على فكرة استحالة التقدم ومن ثم ضرورة تكرار التاريخ لنفسه. فالتاريخ مخزن للنماذج التي يمكنها أن تفسر الواقع المعيش شرط أن نعرف مع أي من تلك النماذج يتطابق هذا الواقع.
ثانياً: كتابات العودة إلى الإيمان وهي التي كتبها بين الثلاثين والأربعين من عمره، وهي عديدة، أهمها كتاب «عبقرية المسيحية»، وروايتا «آتالا» و«رُنيه» اللتان تعتبران أنموذجاً مثالياً للأدب الإبداعي (الرومنسي). ففي «آتالا»، يعتمد الكاتب تقنية الرواية داخل الرواية. الرواية الأولى يحكيها الشاب الفرنسي رُنيه الذي ينزل ضيفاً على قبيلة هنود الناتشيز Natchez في أمريكا الشمالية. أما الرواية الثانية فهي ذكريات شباب الحكيم الهندي شاكتاس الذي أنقذته الهندية المسيحية آتالا من الأسر، إثر حرب بين قبيلتيهما. وفي أثناء هربهما يلتقيان راهباً يدعو شاكتاس إلى الدين المسيحي ويحضه على الزواج من محررته، لكن آتالا التي كرسّتها أمها لخدمة الكنيسة تنتحر، خشية أن يثنيها الحب عن طريق الإيمان. في الرواية الثانية «رُنيه»، التي تعد تكملة لرواية «آتالا»، يسرد الشاب الفرنسي ذكرياته للعجوز الهندي ليبين له سبب كآبته الدائمة، فيحكي عن معاناته من العزلة والوحدة، وعن سأمه من العالم ومن نفسه وهربه من ثم إلى أمريكا بحثاً عن السلام المستحيل، وعن الحب الممنوع الذي يدفع بأخته إلى الدير والترهّب.
وضع شاتوبريان في هاتين الروايتين دفاعه عن العقيدة المسيحية في قالب أدبي متخيّل، لكنه صاغ هذا الدفاع نظرياً في كتاب «عبقرية المسيحية» الذي يعارض فيه، من جهة، تياراً ناقداً للتدّين المسيحي قاده فولتير Voltaire وبعض فلاسفة عصر التنوير، ومن جهة أخرى، تياراً روحانياً متحمساً للتديّن يمثله باسكال Pascal. تقوم نظرية شاتوبريان على المقارنة التاريخية، فيدرس النتاجات الثقافية للحضارات الأوربية حتى تلك التي سبقت المسيحية، ويرى أنها لا تصل إلى مستوى النتاجات المسيحية، ليستنتج من ذلك تفوق الدين المسيحي. وقد كان لهذا الكتاب أثر كبير في الأدب والفن الفرنسيين، استمر حتى ما بعد نهاية القرن التاسع عشر، وتجلى في الميل نحو التأملات الفلسفية وفي تمجيد الأساليب الفنية القديمة.
ثالثا: كتابات العزلة والتفكير في العالم التي كتبها في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. وأهمها كتاب «مذكرات ماوراء القبر» الذي وضع مخطوطه الأولي بين عامي 1811 و1822 وأنجزه بين عامي 1830 و1841. أراد شاتوبريان أن يجعل من هذا الكتاب شهادة على عالم يتحول من شكل قديم بائد إلى شكل جديد منفتح على المجهول. وقد اعتمد في صياغته أسلوباً وسطاً بين المذكرات والاعترافات، مما أعطى الكتاب نفحة شعرية قوية. يحتوي الكتاب على وصف جغرافي للمناطق التي ألِفَها شاتوبريان، كمنطقة بريتانيا Bretagne مسقط رأسه، والغابات في أمريكا، كما يحتوي على سرد شاعري للتغيرات الدرامية التي عرفها عصره، من النظام الملكي إلى ثورتي 1789 و1830 إلى الإمبراطورية فالملكية مرة ثانية. ومن حين لآخر يستطرد في هذا السرد التاريخي ليرسم الشخصيات الملهمة التي أثّرت في حياته، وخاصة عشيقاته، لينتهي بمديح المجتمع الصناعي ونظامه الديمقراطي.
لقد أثرت التقلبات السياسية الهائلة التي عرفتها فرنسا بين منتصفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أهواء شاتوبريان السياسية، لكن خطاً ناظماً ثابتاً كان يقود فكره، جوهره الدفاع عن الملكية دون التنازل عن الحريات التي أطلقتها الثورة، وهذا ما جعل منه علماً من أعلام الليبرالية السياسية. أما في الأدب فإنه يبقى واحداً من رواد الإبداعية.
حسان عباس