عندما نرى شيئًا مُكتملًا نشعر بأنه تحقق، وجد بكليته، وربما ينتابنا شعور الدهشة و الرّهبة لفترة من الزمن، فها هو اكتمل وأعلن ذاته وهويته بلا أي شائبة أو نقص، ولكن يرافق هذا الشعور شعور آخر بالنهاية وكأنه موت ولد باللحظة التي ولدَ فيها الكمال، تحقق النقيضين في لحظة واحدة، فهو يعلن نفسه كامل و بإعلانه هذا يعلن أنه غير قابل ولا قادر للمواصلة، فاقد للقدرة في ذاته على الابتكار والتطور وكأنه انتهى، مات، وبانتهائه يُصَرِّح علنًا بحقيقة محدوديته ونفاذ قدرته، موتًا تعلنه الولادة، نقيضًا يفنيه نقيضه.
وها هو الزمن يؤكد كونه لا ينتهي إلى كماله حتى يبدأ من جديد، فما أن تُعلن الثانية عن وجودها وكمالها حتى نراها صارت إلى الماضي وما نحن فيه ليس ما هو آت وكأننا لسنا في ماضٍ ولا حاضرٍ ولا آت وكأننا نحيا لبرهة تكاد لا تُحس أو تُدرك .
فالكامل بمعنى (الكمال النهائي) يُفيد بالمحدودية والعجز والنظر إليه من هذا المنظار يؤكد محدوديته وعليه يجب النظر إلى الكمال كنهاية فهو في الحقيقة ناقص وكماله ليس إلا عجز قدرته على المواصلة أو عجزنا نحن على مواصلة الوعي به إذا ما رأيناه اكتمل.
فها هو المنطق أكمل العلوم وأكثرها انتهاء و أوضحها جسارة، دائرة لا يمكن المساس بها، لا يزيد ولا ينقُص..
(الكتاب مفتوح الآن إذاً لا يمكن أن يكون مغلق الآن)
قانون كحد السيف لا يجرؤ العقل على زحزحته أو حتى التفكير فيه ولهذا يظهر بجلال وعظمة تزيد من تجنّبنا للمحاولة بالشّك فيه حتى، ولكن السؤال هو، ماهذا العظيم الجليل والمنتهي في ذات اللحظة؟ ماهذا التناقض الصارخ؟
كلما قلَّ حظ المرء من الذكاء كلما رأى الوجود أقل غموضاً
شوبنهاور
ولكن هذا الغموض ليس بسبب قلَّة المعرفة بالوجود من حيث الامتداد أو عدم اكتشاف حدود الكون ونقص المعرفة والإحاطة بقوانين الوجود ككل، فكل هذا وإن اكتُشف، هو ناقص، معرفة منطقية كلما اكتُشفت واكتَملت أعلنت نقصها، وإنما الغموض هو ماخلف المركَّب، ما وراء النظام و في عمق القانون.
وبعكس ما هو متوقع فإن اللحظة التي تعلن البشرية بها اكتشاف الوجود ككل هي لحظة التعاسة الأبدية هي مأتم الإنسانية ومقبرة السعادة ،فالوعي لا يمكن أن يتنازل عن كونه صيرورة لا نهائية الحركة والتطور وهذه الحركة الواعية هي القوة الأعظم في هذا الوجود وهي دليل الحياة الحقيقية .
وكما يرى – نيتشه – بأنَّ
“ينبغي أن نفعل الفضيلة لذات الفضيلة، ولا ننتظر ثواب عليها. لأن الفضيلة هي ثواب نفسها، فالوصول إليها هو ثوابها”
فإن الغاية من الوعي هو الوعي ذاته والسعادة كغاية هي في المسير نحو اللانهاية وليس في الوصول للكمال النهائي فالكمال نهاية والنهاية موت لا بد من أن ينبجس من صلبه ولادة جديدة وإلا فهو وهم ، فها نحن لا نوشك على إكمال شيء حتى ترانا نشرع ببداية جديدة، فالنقص هو وقود الكمال وما الكمال إلا كمالات لانهائية التحقق.
إذاً شعور بالنقص يتبعه ملء يتبعه شعور بالنقص في حركة غير منتهية.
والنقص هو شعور ملازم للمعرفة، فكلما ازدادت المعرفة كلما زاد الشعور بالنقص وهذا ما دفع – سقراط- ليقول “أنّه يعرف بأنه لا يعرف شيء” وهذه بحد ذاتها معرفة، ليس بما عرف سقراط وإنما معرفة بما لم يعرف
فكلما زادت المعرفة زادت الحاجة إلى نقص أكبر يكون قادر على استيعاب معرفة أكبر وأعمق.
أو تبسيط أو إزالة أو بالعلاقة “. ونرى هذا في الرؤى الحديثة في الفن وتجاوز الهاجس الكلاسيكي وأخذ الفن إلى طور آخر.
ويكون الخلل في الفن قصدي وهذا بالذات ما يميزه عن الخلل الطبيعي، إذ إن القصدية هنا إرادية ناتجة عن عبقرية إبداعية تختلف كل الإختلاف عما نراه هجيناً مركباً أو مقتطعا.ً
بمحض الصدفة في الطبيعة وهذه الإرادة الإبداعية من أهم ما يميز ويسمو بالمنتوج الفني عمّا هو طبيعي، وليس المراد من القصدية إنتاج فن وفق قوانين أو قواعد وإنما هو فن صادر عن روح حرة وإرادة إبداعيّةً كما أن هذه القصدية تعطي الخلل أو النقص قيمة مضافة لكونها عمل إبداعي معني أولاً و متخلِّية عن النفعية المباشرة والحشو غير الازم ثانياً، و حتى الخلل المراد منه الإضافة لا التنقيص يكون بقصديته الإبداعية ذو قيمة فنية فلا يكون حَشَوي بقدر ما هو كَشفي ومتجاوز للسطحية النفعية، ومن خلال هذا الكشف يمكننا وعي الطبيعي جوهرياً فكما قلنا سابقاً: إن الطبيعي مغلف بغلاف عضوي موجه لا إلى الفكر أو التأمل وإنما إلى الرغبة الإستهلاكية والمادي في الإنسان.
يخلق نوع من المقارنة مع باقي العناصر، فيضاعف ذلك أيضاً من إظهار أشد لباقي المفردات في العمل الفني.
وحتى في الواقع كثيراً ما ترانا نستحسن غمازتا الوجه أو الخال في الخد وهُم ليس سوى خلل في الطبيعي، وهذا الخلل الطبيعي لا يمنعه كونه شذوذ غير ذو معنى أن يحقق هذه المقارنة مع باقي المفردات المحيطة به فيحقق وجوده ويضاعف أثرها بالمقابل، وهذا هو الحال في كل عضوية أو مجموعة تحقق كمالها المنطقي ويتخللها خلل ما، وينطبق هذا على العمل الفني إلا أن الفرق كما قلنا سابقاً هو عبقرية تقصد الخلل بما يتضمن من معنى وعلى ضوء ذلك يمكننا التطرّق إلى مفهوم القبح الذي شغل الفلاسفة والنقاد عبر التاريخ
فالقبح في الحياة هو الشذوذ الذي يقف مقابل موضوعية الجمال، أي هو الخلل في النسق الجمالي، ونقص يعتري الكلية الكاملة في الطبيعي، وعلى خلاف أثره المنفِّر في الحياة يأخذ القبح منحاً آخر في الفن و على عكس سقراط، الذي قال إن تمثيل القبح يجب أن يُتجنب، فمن أرسطو و صاعداً جرى الاعتراف في جميع الحِقب بأنه حتى القبح في الحياة يمكن أن يصوَّر تصويراً جميلاً، وهنا لابد من أن نذكر جملة – كانط- العبقرية في هذا الصدد عندما قال (الجمال الطبيعي يعني أن هناك شيئاً ما يكون جميلاً، بينما الجمال في الفن يعني تمثُّلاً جميلاً لشيء ما). كما أن القبح حقيقةً يخدم الجمال في جعله بيّـناً أو ليدعم نظرية أخلاقية معينة. ومثلما قال القديس – بونافنتورا –
صورة الشيطان جميلة إذا كانت تمثيلاً جيداً للقبح.