الشهابي (الأمير بشير بنقاسم بن عمر ـ)
(1181ـ1268هـ/1767ـ1851م)
أدى ضعف السلطة المركزية في الدولة العثمانية إلى تنامي قوة الأسر المحلية الحاكمة، كآل العظم في دمشق، والزيادنة في فلسطين، وظهر الشهابيون[ر] قوة فاعلة[ر] في جبل لبنان بعد ضعف المعنيين، وكان منهم عدة أمراء أمثال بشير بن حسين (ت 1118هـ/1706م)، حيدر الشهابي (ت 1143هـ/1730م)، وأبنائه ملحم وأحمد ومنصور، ثم الأمير بشير بن قاسم بن عمر الشهابي، والذي يعد واحداً من أشهر أمراء الشهابيين في جبل لبنان.
ولد بشير في قرية غزير، بالقرب من مدينة بيروت، ونشأ يتيماً، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، أقام في بيت الدين مدة من الزمن عند شيخ إحدى الخلوات، كان يتوسم فيه ملامح النجابة والذكاء، فأولاه مزيداً من الرعاية والاهتمام.اتصل بعد ذلك بوالي صيدا أحمد باشا الجزار[ر] الذي جعل من مدينة عكا مقراً للولاية بسبب حصانتها، فقربه منه، وتوطدت العلاقات في البداية بينهما إلى حين، وفي عام 1788م توجه بشير الشهابي إلى عكا، ليعود في العام نفسه حاكماً على جبل لبنان بعد أن أجبر الجزار الأمير يوسف الشهابي، أحد أبرز منافسيه على الحكم في جبل لبنان على الاستقالة، وقد زوده الجزار بقوات قوامها ألف جندي، وقد لقي تعيينه استحساناً من مشايخ جبل لبنان لحزمه واتزانه، وعلى الرغم من العلاقات التي كانت في البداية ودية بين الأمير بشير والجزار، إلا أنها تعرضت للفتور، بسبب موقف الأمير المحايد من الصراع الناشئ بين الجزار ونابليون، وبعد أن مني الأخير بالهزيمة على أسوار عكا،فرَّ بشير الشهابي إلى مصر، وبقي فيها حتى عودته بموجب عفو عام 1801م. تنفس بشير الصعداء بعد أن توفى الجزار في عام 1804م، وشهدت السنوات الخمس عشرة التالية تعاوناً وثيقاً فيما بين بشير ووالي عكا الجديد سليمان باشا العادل، مكنت بشير من بلوغ شهرته بعد تصفية خصومه. تولى الولاية بعد سليمان باشا، عبد الله باشا، الذي أكثر من المطالب المالية من الأمير بشير، فأرهق الناس بالضرائب،وكان في الوقت نفسه يحرض الناس عليه ليزداد وضع الأمير بشير سوءاً وإحراجاً، عندئذ تداعى الزعماء، المحليون لعقد مؤتمر شعبي في أنطلياس عام 1820م، عُرف باسم«عامية أنطلياس الأولى» وقرر فيه المجتمعون عدم دفع أية ضريبة جديدة غير مشروعة، ثمَّ انضم إليهم وجهاء وأعيان بلاد جبيل، وعقدوا عاميةً ثانية، وأعلنوا تضامنهم لبيان العامية الأولى، وأخذوا يرسلون الشكاوى إلى عبد الله باشا، وهكذا تنامى الموقف المعادي لبشير، فاضطر لمغادرة الجبل إلى حوران. وبقي هناك مدةً، ما لبث أن عاد بعدها إلى الشوف، فأجمع الوجهاء والمشايخ على تجديد دعمه ومساندته، الأمر الذي أثار حفيظة عبد الله باشا، فحرك عساكره إلى صيدا ومرجعيون، لكنه تراجع عندما جوبه بموقف موحد من أبناء الجبل واضطر إلى إعادته أميراً عليه. ولما وقع الصدام بين عبد الله باشا، ووالي دمشق درويش باشا، كان الأمير بشير من مؤيدي عبد الله، وشارك بالهجوم على أطراف دمشق، وألحق الهزيمة بدرويش باشا في معركة المزة في 26/5/1821م. وبعد أن عزل السلطان العثماني والي عكا، التجأ بشير إلى مصر، حيث التقى محمد علي باشا، فطلب الشهابي منه التوسط لدى الباب العالي ليعفو عن صديقه عبد الله باشا، فاستجاب السلطان للوساطة وأعاد عبد الله باشا لولايته، وعاد بشير إلى لبنان، وشارك في القضاء على بعض الثورات التي عرفتها بعض المناطق الفلسطينية ضد عبد الله باشا، وساهم في القضاء على زعماء جبل نابلس وجنين الذين كانوا موالين لوالي دمشق، وقد قدم الأمير بشير بنفسه إلى قلعة صانور أواخر عام 1829م وقضى على تمرد الشيخ عبد الله الجرار زعيم الثورة، ودمر قلعة صانور تدميراً تاماً وردم آبارها. وأثناء خلاف عبد الله باشا ومحمد علي باشا، حافظ بشير الشهابي على علاقاته الوطيدة مع كليهما، إلا أن هذا الخلاف تطوّر إلى حربٍ بين الواليين، ووصلت قوات محمد علي باشا إلى أسوار عكا، فانحاز الأمير بشير إلى المصريين، وغدا مستشاراً لإبراهيم باشا في بلاد الشام، وكان له دور بارز في عمليات قمع الفتن والثورات التي كانت تندلع بين الحين والآخر، إلا أن القوى الأوروبية، والتي وجدت في محاولة محمد علي الهادفة إلى توحيد مصر وبلاد الشام في دولة واحدة خطراً يهدد مصالحها فإنها سارعت إلى حشد قواها وقضت على تلك المحاولة عام 1840م.
وجد الأمير بشير نفسه وحيداً بعد أن عادت القوات المصرية من بلاد الشام، فترك بيت الدين إلى صيدا، ثم إلى بيروت حيث أٌلقي عليه القبض وحمل على بارجة بريطانية إلى منفاه في جزيرة مالطة، فأقام فيها سنة، ثم أرسل من يلتمس له العفو من السلطان عبد المجيد فسمح له بالتوجه إلى اصطنبول، وأُسكن في قرية «أرناؤوط كوي» الواقعة على خليج المدينة، حتى وافاه الأجل. وبعد استقلال لبنان نقل جثمانه من تركيا إلى بيت الدين.
امتدت فترة حكم بشير لجبل لبنان لأكثر من نصف قرن، أمضاها في العمل على استقرار أمن المنطقة سياسياً واجتماعياً، ومن آثاره العمرانية قصر بيت الدين، القريب من دير القمر، الذي جرّ إليه الماء من نبع القاع، إضافة إلى الجسر المقام على نهر الصفا، وكلها تشهد على سمو منزلته وإحساسه المرهف بالفن العمراني الأصيل.
عبد الله محمود حسين
(1181ـ1268هـ/1767ـ1851م)
أدى ضعف السلطة المركزية في الدولة العثمانية إلى تنامي قوة الأسر المحلية الحاكمة، كآل العظم في دمشق، والزيادنة في فلسطين، وظهر الشهابيون[ر] قوة فاعلة[ر] في جبل لبنان بعد ضعف المعنيين، وكان منهم عدة أمراء أمثال بشير بن حسين (ت 1118هـ/1706م)، حيدر الشهابي (ت 1143هـ/1730م)، وأبنائه ملحم وأحمد ومنصور، ثم الأمير بشير بن قاسم بن عمر الشهابي، والذي يعد واحداً من أشهر أمراء الشهابيين في جبل لبنان.
ولد بشير في قرية غزير، بالقرب من مدينة بيروت، ونشأ يتيماً، وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره، أقام في بيت الدين مدة من الزمن عند شيخ إحدى الخلوات، كان يتوسم فيه ملامح النجابة والذكاء، فأولاه مزيداً من الرعاية والاهتمام.اتصل بعد ذلك بوالي صيدا أحمد باشا الجزار[ر] الذي جعل من مدينة عكا مقراً للولاية بسبب حصانتها، فقربه منه، وتوطدت العلاقات في البداية بينهما إلى حين، وفي عام 1788م توجه بشير الشهابي إلى عكا، ليعود في العام نفسه حاكماً على جبل لبنان بعد أن أجبر الجزار الأمير يوسف الشهابي، أحد أبرز منافسيه على الحكم في جبل لبنان على الاستقالة، وقد زوده الجزار بقوات قوامها ألف جندي، وقد لقي تعيينه استحساناً من مشايخ جبل لبنان لحزمه واتزانه، وعلى الرغم من العلاقات التي كانت في البداية ودية بين الأمير بشير والجزار، إلا أنها تعرضت للفتور، بسبب موقف الأمير المحايد من الصراع الناشئ بين الجزار ونابليون، وبعد أن مني الأخير بالهزيمة على أسوار عكا،فرَّ بشير الشهابي إلى مصر، وبقي فيها حتى عودته بموجب عفو عام 1801م. تنفس بشير الصعداء بعد أن توفى الجزار في عام 1804م، وشهدت السنوات الخمس عشرة التالية تعاوناً وثيقاً فيما بين بشير ووالي عكا الجديد سليمان باشا العادل، مكنت بشير من بلوغ شهرته بعد تصفية خصومه. تولى الولاية بعد سليمان باشا، عبد الله باشا، الذي أكثر من المطالب المالية من الأمير بشير، فأرهق الناس بالضرائب،وكان في الوقت نفسه يحرض الناس عليه ليزداد وضع الأمير بشير سوءاً وإحراجاً، عندئذ تداعى الزعماء، المحليون لعقد مؤتمر شعبي في أنطلياس عام 1820م، عُرف باسم«عامية أنطلياس الأولى» وقرر فيه المجتمعون عدم دفع أية ضريبة جديدة غير مشروعة، ثمَّ انضم إليهم وجهاء وأعيان بلاد جبيل، وعقدوا عاميةً ثانية، وأعلنوا تضامنهم لبيان العامية الأولى، وأخذوا يرسلون الشكاوى إلى عبد الله باشا، وهكذا تنامى الموقف المعادي لبشير، فاضطر لمغادرة الجبل إلى حوران. وبقي هناك مدةً، ما لبث أن عاد بعدها إلى الشوف، فأجمع الوجهاء والمشايخ على تجديد دعمه ومساندته، الأمر الذي أثار حفيظة عبد الله باشا، فحرك عساكره إلى صيدا ومرجعيون، لكنه تراجع عندما جوبه بموقف موحد من أبناء الجبل واضطر إلى إعادته أميراً عليه. ولما وقع الصدام بين عبد الله باشا، ووالي دمشق درويش باشا، كان الأمير بشير من مؤيدي عبد الله، وشارك بالهجوم على أطراف دمشق، وألحق الهزيمة بدرويش باشا في معركة المزة في 26/5/1821م. وبعد أن عزل السلطان العثماني والي عكا، التجأ بشير إلى مصر، حيث التقى محمد علي باشا، فطلب الشهابي منه التوسط لدى الباب العالي ليعفو عن صديقه عبد الله باشا، فاستجاب السلطان للوساطة وأعاد عبد الله باشا لولايته، وعاد بشير إلى لبنان، وشارك في القضاء على بعض الثورات التي عرفتها بعض المناطق الفلسطينية ضد عبد الله باشا، وساهم في القضاء على زعماء جبل نابلس وجنين الذين كانوا موالين لوالي دمشق، وقد قدم الأمير بشير بنفسه إلى قلعة صانور أواخر عام 1829م وقضى على تمرد الشيخ عبد الله الجرار زعيم الثورة، ودمر قلعة صانور تدميراً تاماً وردم آبارها. وأثناء خلاف عبد الله باشا ومحمد علي باشا، حافظ بشير الشهابي على علاقاته الوطيدة مع كليهما، إلا أن هذا الخلاف تطوّر إلى حربٍ بين الواليين، ووصلت قوات محمد علي باشا إلى أسوار عكا، فانحاز الأمير بشير إلى المصريين، وغدا مستشاراً لإبراهيم باشا في بلاد الشام، وكان له دور بارز في عمليات قمع الفتن والثورات التي كانت تندلع بين الحين والآخر، إلا أن القوى الأوروبية، والتي وجدت في محاولة محمد علي الهادفة إلى توحيد مصر وبلاد الشام في دولة واحدة خطراً يهدد مصالحها فإنها سارعت إلى حشد قواها وقضت على تلك المحاولة عام 1840م.
وجد الأمير بشير نفسه وحيداً بعد أن عادت القوات المصرية من بلاد الشام، فترك بيت الدين إلى صيدا، ثم إلى بيروت حيث أٌلقي عليه القبض وحمل على بارجة بريطانية إلى منفاه في جزيرة مالطة، فأقام فيها سنة، ثم أرسل من يلتمس له العفو من السلطان عبد المجيد فسمح له بالتوجه إلى اصطنبول، وأُسكن في قرية «أرناؤوط كوي» الواقعة على خليج المدينة، حتى وافاه الأجل. وبعد استقلال لبنان نقل جثمانه من تركيا إلى بيت الدين.
امتدت فترة حكم بشير لجبل لبنان لأكثر من نصف قرن، أمضاها في العمل على استقرار أمن المنطقة سياسياً واجتماعياً، ومن آثاره العمرانية قصر بيت الدين، القريب من دير القمر، الذي جرّ إليه الماء من نبع القاع، إضافة إلى الجسر المقام على نهر الصفا، وكلها تشهد على سمو منزلته وإحساسه المرهف بالفن العمراني الأصيل.
عبد الله محمود حسين