شوستاكوفيتش (دمتري ـ)
(1906 ـ 1975)
دمتري شوستاكوفيتش Dmitri Shostakovich مؤلف موسيقي وعازف بيانو روسي ولد في سانت بطرسبرغ، وتوفي في موسكو، يعد من أهم مؤلفي السمفونية[ر] في أواسط القرن العشرين. بدأت أمه بتعليمه العزف على البيانو وهو في التاسعة، ثم تابع علومه في مدرسة غلاسر للموسيقى من عام 1916ـ 1918، ودخل معهد بيتروغراد الموسيقي عام 1919 بتشجيع ومساعدة غلازونوف Glazunov.
درس شوستاكوفيتش العزف على البيانو مع نيكولايف Nikolayev والتأليف مع شتاينبرغ M.Steinberg، وأتم الدراسة في المعهد في أربع سنوات أقام في خلالها عدة حفلات، وكان يعزف على البيانو في دور السينما ليعيل أمه المترملة وإخوته.
مر شوستاكوفيتش بمرحلة تردد بين أن يكون عازف بيانو أو مؤلفاً، لكنه نجح في الاثنين معاً، فقدم سمفونيته الأولى التي ألفها كمشروع تخرج في لينينغراد بقيادة مالكوMalko عام 1926، وفي برلين بقيادة فالترWalter عام 1927، وفي فيلادلفيا (الولايات المتحدة) بقيادة ستوكوفسكي Stokowskiعام 1928، ولاقت نجاحاً كبيراً. كما حصل على تقدير الشرف في مسابقة شوبان الدولية للعزف على البيانو في وارسو عام 1927.
اتسمت موسيقى شوستاكوفيتش منذ بداياتها بكونها متجهمة وتهكمية ومتنافرة، وكانت تعكس الاتجاه الموسيقي السائد في أوربا الغربية في ذلك الوقت. وكان مؤمناً بنظام الدولة السوفييتية، وسعى دائماً إلى خدمة الدولة من خلال الموسيقى، فكانت سمفونيته الثانية «أكتوبر» التي كتبها بمناسبة الذكرى العاشرة لثورة أكتوبر، تجمع ما بين الاتجاهات الموسيقية العصرية والمتطلبات الإيديولوجية الماركسية. أما السمفونية الثالثة «أول أيار» فلم تكن مقنعة، فقد عَدّ شوستاكوفيتش هذين العملين «تجارب شابة». وكتب للمسرح والسينما بدفع من قائد الأوركسترا مالكو Malko، وألف أعمالاً مثل أوبرا[ر] Opera «الأنف»، وباليه[ر] «عصر الذهب»، و«الهروب» The Bolt، وموسيقى تصويرية للسينما من أهمها فيلما «هملت» و«الملك لير». استخدم في هذه الأعمال الأوركسترا على نحو لامع وخصب الخيال ولم تخل أعماله تلك من التهكم وروح الدعابة، وإن يكن على حساب الغنائية أحياناً.
قدمت أوبرا «الليدي ماكبث» في لينينغراد عام 1934، وبعد مدة قدمت في موسكو تحت اسم «كاترينا إسماعيلوفا» ولاقت نجاحاً عظيماً. وقد قدمت بعدها 13 مرة في لينينغراد، و97 مرة في موسكو، كما قدمت في نيويورك وستوكهولم ولندن وزوريخ وكوبنهاغن. وحققت باليه «الجدول البراق» نجاحاً مماثلاً. لكن شوستاكوفيتش هوجم بقسوة في الصحيفة السوفييتية الرسمية «البرافدا» متَّهماً بالتحريف اليساري، والحس البرجوازي الصغير، و«الشكلية»Formalism، في مقال عنوانه «فوضى عوضاً عن الموسيقى»، فتراجع على أثره عن سمفونيته الرابعة بعد أن كان قد قام بتدريبات أوركسترالية عديدة عليها. وألف سمفونيته الخامسة 1937 التي أطلق عليها اسم «رد فنان سوفييتي مبدع وعملي على نقد مبرر» وصار هذا العمل أحد أكثر أعماله شعبية، وتجنب، في إثر ذلك، التأليف للمسرح لسنوات عديدة. وكتب بين عامي 1938 و1953 خمس سمفونيات أخرى، وأربع رباعيات[ر] وترية. درّس شوستاكوفيتش التأليف في معهد لينينغراد بين عامي 1937ـ1941، وكان من المقاتلين خلف خطوط النار في الحصار الألماني للينينغراد عام 1941. كتب الحركات[ر. السوناتا] الثلاث الأولى من سمفونيته السابعة «لينينغراد» في أيام الحصار، وكان أول أداء لها عام 1942 في كيبيشيف ثم في موسكو ثم في لينينغراد. وكان لها صدى عظيم ونجاح هائل في أيام الحرب، لا في الاتحاد السوفييتي فقط، وإنما في إنكلترا، والولايات المتحدة حيث أمكن إرسال التدوينات الموسيقية إلى أمريكا، فقدمت هناك عام 1942 بقيادة توسكانيني[ر] Toscaniniوحضرها الملايين. وعلق كارل ساندبرغ Carl Sandburg على هذا العمل بأنه «موسيقى كتبت بدم القلب». وقدمت السمفونية ما بين عامي 1940 و1943 في أمريكا 62 مرة.
في عام 1940 حصل شوستاكوفيتش على جائزة ستالين لخماسية البيانو. وكان قد تحول إلى رمز للنضال ضد النازية.
استقر عام 1943 في موسكو، وعين أستاذاً للتأليف في المعهد العالي هناك. ولم تقدم بعض أهم الأعمال الكبرى التي ألفها في المدة ما بين 1943 و1948 إلا في مرحلة ما بعد ستالين، الأكثر ليبرالية، بما فيها «حوارية»[ر] (كونشرتو) الكمان الأولى. تعرض عام 1948 مع بعض المؤلفين الروس المهمين ومنهم بروكوفييف[ر] Prokofievللهجوم في مقالة كتبت بعنوان «الشكلية ومعاداة الشعب»، واتهما بأنهما يقدمان أعمالاً تتسم بالتحريفات الشكلية المعادية للديموقراطية، وتحديداً في استخدام أسلوب «الأتونالية»[ر. الموسيقية (الاتجاهات ـ)] atonality والنشاز والأصوات المتنافرة. وصرح شوستاكوفيتش بأنه حاول أن يستأصل عناصر الخطأ من موسيقاه إلا أن ذلك لم يتم على نحو كامل قائلاً: «لقد منعتني بعض العناصر السلبية في موسيقاي من القيام ببعض التحول .. لقد انحرفت مجدداً باتجاه الشكلية وبدأت أتكلم بلغة موسيقية لا يفهمها الشعب... أقر بأن الحزب على حق... وأنا شاكر بعمق على النقد الموجه إلي». تركزت معظم أعماله من عام 1948 حتى 1953 (حين توفي ستالين) على موسيقى الأفلام، والأغاني الوطنية، باستثناء رباعيتين وتريتين، و24 بريلود و«تسلل» (فوغة)[ر. الصيغ الموسيقية] للبيانو.
دخل شوستاكوفيتش مرحلة مهمة في التأليف الموسيقي بعد عام 1948 لمدة خمس سنوات كتب فيها أعمالاً باستخدام مصطلحات موسيقية مبسطة ومفهومة تتناسب مع متطلبات الشعب، وأعمالاً أكثر تعقيداً وتجريداً أرضى بها مستواه ومتطلباته الفنية الخاصة. وتعود أعماله مثل «أغنية الغابات» 1949، و«الشمس تشرق على بلادنا» 1952 للاتجاه الأول، في حين تنتمي حوارية الكمان الأولى، والرباعية الوترية الرابعة إلى الاتجاه الثاني.
بعد ثماني سنوات من التوقف عن التأليف السمفوني كتب شوستاكوفيتش سمفونيته العاشرة عام 1953، وهي من روائع الأعمال الموسيقية، وواحدة من بين أعمال عديدة تقوم على فكرة استخدام الأحرف DSCH التي تشكل الأحرف الأولى من اسمه. وافتتحت هذه السمفونية المرحلة الأخيرة من أعماله العظيمة والتي ألفها في خلال 22 سنة، منها بعض من أرفع الأعمال الموسيقية مثل السمفونية العاشرة والحادية عشرة (1905) والثانية عشرة (في ذكرى لينين) أو (1917)، والخامسة عشرة والرباعية الوترية رقم 6 و8 و15، المهداة إلى «ذكرى ضحايا الفاشية والحرب»، وعملين لحوارية الكمان، و«المغناة» Cantataللجوقة الغنائية «إعدام ستيفان رازين»، وسوناتا[ر] الكمان، وسوناتا الفيولا[ر. الكمان]، ومتتالية قصائد لميكلانجلو.
زار شوستاكوفيتش إنكلترا عامي 1958 و1974 ونشأت بينه وبين بريتن[ر]Britten صداقة قوية. وفي عام 1969 أصيب بنوبة قلبية حادة ساءت صحته على أثرها.
يعد الكثيرون شوستاكوفيتش أهم مؤلف موسيقي في القرن العشرين. ولقد أبدى في سمفونياته ورباعياته، في بعض الأعمال الأخرى براعة وسيطرة على الأشكال الموسيقية الأكثر صعوبة، وقوة عاطفية عظيمة، وابتكاراً تقنياً. ففي سمفونيته الأولى تتجلى تقريباً أهم سمات مؤلفاته: قوالب مقسمة إلى أجزاء، والألحان الرئيسة (التيمات) themes مبنية كالفسيفساء مع استخدام متكرر لآلات منفردة في أعلى مداها الصوتي وأخفضه. اتسمت أعماله كلها بحدتها العاطفية، وبالكثافة التراجيدية، وببديهة ساخرة فجة لا تخلو من روح الدعابة. كما اتسمت باحتوائها على المفارقة والسخرية المرة. وكثيراً ما اقتبس شوستاكوفيتش من أعماله الذاتية وأعمال غيره.
بعد مرضه، تجلت فكرة الموت في موسيقاه، لاسيما في أعماله الأخيرة. ويبدو تأثره وإعجابه بمالر[ر] Mahler واضحاً في أعماله السمفونية، وأسلوبه في البساطة معاً. كما يلاحظ تأثير عمل بيرغ[ر] A.Berg وهو «Wozzeck» الذي قدم في ليننغراد 1927، واضحاً في أوبرا «الليدي ماكبث».
يمكن تقسيم حياة شوستاكوفيتش المبدعة إلى ثلاث مراحل: مرحلة البدايات ومرحلة النضج ومرحلة السنوات الأخيرة. لكن هذا التقسيم لا يخلو من التناقضات وحالات عدم الثبات. تبدأ المرحلة الأولى من البدايات حتى عام 1937، وبلغت ذروتها مع السمفونية الرابعة. والمرحلة الثانية تبدأ عام 1937 حتى 1966 وذروتها السمفونية 13 (1962)، والمرحلة الثالثة بلغت أوجها مع السمفونية 14 (1969).
ينتمي شوستاكوفيتش إلى جيل المؤلفين الذين تربوا على مبادئ النظام السوفييتي. وكان إخلاصه لبلاده وللنظام عظيمين. حتى في الأوقات التي لم يكن فيها على وفاق تام مع النظام، قام بتمثيل بلاده بأعلى مستويات المسؤولية نائباً عن الروس السوفييت، في نيويورك عام 1949، ووارسو 1950، وفيينا 1952 وفي مؤتمرات السلام التي عقدت هناك. كما كان عضواً في اتحاد المؤلفين السوفييت بين عامي 1939ـ1948. ثم صار السكرتير الأول للاتحاد، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1968 حين تركه لأسباب صحية. كما سمي فنان الشعب عام 1954، ومنح جائزة لينين عام 1958 على السمفونية رقم 11. وحصل على تقديرات كثيرة من الخارج ، فكان عضواً في الأكاديمية الموسيقية الملكية في السويد عام 1954، وعضواً في أكاديمية سانتاتشيشيليا في روما 1955. وحصل على الميدالية الذهبية للجمعية الفيلهارمونية[ر. الفرقة الموسيقية] الملكية عام 1966، كما كان عضواً في أكاديمية الفنون في جمهورية ألمانيا الديموقراطية. ونال الدكتوراه الفخرية من جامعات أوكسفورد (عام 1958)، ودوبلن (عام 1972)، ونورثويسترنNorthwestern (عام 1973).
كان شوستاكوفيتش مدرساً مخلصاً لعمله تخرج على يده كثيرون من أبرزهم سفيريدوف Sviridov ت(1915ـ)، وتيشينكوB.Tishchenko ت(1939ـ)، وكان ابنه مكسيم قائد أوركسترا معروفاً ومقدماً مهماً لأعمال أبيه.
عاش شوستاكوفيتش مبدعاً في جو مشجع وملائم. وكان إنتاجه غزيراً ومتنوعاً بلغ 147 عملاً، منها: 15 سمفونية، و15 رباعية وترية، وأوبرا واحدة وأوبيريت، و6 حواريات لآلات متعددة وموسيقى حجرة[ر] للبيانو والوتريات، وموسيقى لبيانو منفرد، وعدد كبير من المغناة والأوراتوريو Oratorio، و3 من الباليه، و36 من موسيقى الأفلام، وموسيقى لإحدى عشرة مسرحية، وموسيقى غنائية بجميع الأشكال. إضافة إلى المتتالياتSuites التي اقتبسها من موسيقاه المختلفة الأنواع. لم يتوقف إنتاجه قط، وكان لدعم الدولة السوفييتية أثر كبير في ذلك، فكان متحرراً من الهموم المالية، ومن العمل، وإيجاد المؤدين المناسبين. ومن أصدقائه والمعجبين به من الفنانين السوفييت كان قائد الأوركسترا مرافينسكي E.Mravinskyت(1903ـ 1988)، وعازفَيْ البيانو جيللزE.Gilels ت(1916ـ 1985)، وريختر S.Richterت(1914ـ)، وعازف الكمان دافيد أويستراخ[ر] D.Oistrakh، وعازف التشيلو روستروبوفيتش Rostropovich ت(1927ـ)، ومغنية الأوبرا السوبرانو فيشنيفسكاياVishnevskaya ت(1926ـ)، وفرقة بتهوفن[ر]Beethoven للرباعيات الوترية. وبذلك كان الأداء الأمثل لأعماله يتحقق بانسجام تام مع أفكاره، وقد سُجلت جميع هذه الأعمال المؤداة، كما بدأت تنشر في حياته. وعلى الرغم من الاعتراف العالمي به وبكل ما حققه من نجاح، اتسمت شخصيته بالتواضع وحب المشاركة والتعاون وروح الدعابة وخاصة في أيام الشباب. وكان شخصية معتبرة يوثق برأيها، غالباً ما قام هو نفسه بعزف أعماله. اتسم عزفه بكونه موضوعياً يركز فيه على التقنيات من دون أن يبدي أي نوع من التأثر والانفعال. أما في مجال النقد الموسيقي والكتابة فقد كان قليل الكلام يتجه مباشرة إلى الموضوع الرئيس، ويعبّر عن أفكاره بطريقة مباشرة وبسيطة من دون أي تكلف.
يعد شوستاكوفيتش مؤلفاً سمفونياً بالدرجة الأولى، استطاع بخياله الخصب أن يعطي الأوركسترا ألوانها الموسيقية، وكانت ألحانه تعبِّر عن خصوصيتها من خلال استخدام الطابع الخاص للآلة. وكان إحساسه بالشكل معززاً بمهارته في استخدام الأوركسترا. ألف جميع أعماله ضمن الأطر الجمالية للدولة السوفييتية، لكنه بقوته الإبداعية استطاع أن يتغلب على الحدود التي قيدته بها الواقعية الاشتراكية والتي منعته في بعض الحالات من حرية الخلق الموسيقي. وكانت تلك معركة انتصر فيها شوستاكوفيتش.
أبية حمزاوي
(1906 ـ 1975)
دمتري شوستاكوفيتش Dmitri Shostakovich مؤلف موسيقي وعازف بيانو روسي ولد في سانت بطرسبرغ، وتوفي في موسكو، يعد من أهم مؤلفي السمفونية[ر] في أواسط القرن العشرين. بدأت أمه بتعليمه العزف على البيانو وهو في التاسعة، ثم تابع علومه في مدرسة غلاسر للموسيقى من عام 1916ـ 1918، ودخل معهد بيتروغراد الموسيقي عام 1919 بتشجيع ومساعدة غلازونوف Glazunov.
درس شوستاكوفيتش العزف على البيانو مع نيكولايف Nikolayev والتأليف مع شتاينبرغ M.Steinberg، وأتم الدراسة في المعهد في أربع سنوات أقام في خلالها عدة حفلات، وكان يعزف على البيانو في دور السينما ليعيل أمه المترملة وإخوته.
مر شوستاكوفيتش بمرحلة تردد بين أن يكون عازف بيانو أو مؤلفاً، لكنه نجح في الاثنين معاً، فقدم سمفونيته الأولى التي ألفها كمشروع تخرج في لينينغراد بقيادة مالكوMalko عام 1926، وفي برلين بقيادة فالترWalter عام 1927، وفي فيلادلفيا (الولايات المتحدة) بقيادة ستوكوفسكي Stokowskiعام 1928، ولاقت نجاحاً كبيراً. كما حصل على تقدير الشرف في مسابقة شوبان الدولية للعزف على البيانو في وارسو عام 1927.
اتسمت موسيقى شوستاكوفيتش منذ بداياتها بكونها متجهمة وتهكمية ومتنافرة، وكانت تعكس الاتجاه الموسيقي السائد في أوربا الغربية في ذلك الوقت. وكان مؤمناً بنظام الدولة السوفييتية، وسعى دائماً إلى خدمة الدولة من خلال الموسيقى، فكانت سمفونيته الثانية «أكتوبر» التي كتبها بمناسبة الذكرى العاشرة لثورة أكتوبر، تجمع ما بين الاتجاهات الموسيقية العصرية والمتطلبات الإيديولوجية الماركسية. أما السمفونية الثالثة «أول أيار» فلم تكن مقنعة، فقد عَدّ شوستاكوفيتش هذين العملين «تجارب شابة». وكتب للمسرح والسينما بدفع من قائد الأوركسترا مالكو Malko، وألف أعمالاً مثل أوبرا[ر] Opera «الأنف»، وباليه[ر] «عصر الذهب»، و«الهروب» The Bolt، وموسيقى تصويرية للسينما من أهمها فيلما «هملت» و«الملك لير». استخدم في هذه الأعمال الأوركسترا على نحو لامع وخصب الخيال ولم تخل أعماله تلك من التهكم وروح الدعابة، وإن يكن على حساب الغنائية أحياناً.
قدمت أوبرا «الليدي ماكبث» في لينينغراد عام 1934، وبعد مدة قدمت في موسكو تحت اسم «كاترينا إسماعيلوفا» ولاقت نجاحاً عظيماً. وقد قدمت بعدها 13 مرة في لينينغراد، و97 مرة في موسكو، كما قدمت في نيويورك وستوكهولم ولندن وزوريخ وكوبنهاغن. وحققت باليه «الجدول البراق» نجاحاً مماثلاً. لكن شوستاكوفيتش هوجم بقسوة في الصحيفة السوفييتية الرسمية «البرافدا» متَّهماً بالتحريف اليساري، والحس البرجوازي الصغير، و«الشكلية»Formalism، في مقال عنوانه «فوضى عوضاً عن الموسيقى»، فتراجع على أثره عن سمفونيته الرابعة بعد أن كان قد قام بتدريبات أوركسترالية عديدة عليها. وألف سمفونيته الخامسة 1937 التي أطلق عليها اسم «رد فنان سوفييتي مبدع وعملي على نقد مبرر» وصار هذا العمل أحد أكثر أعماله شعبية، وتجنب، في إثر ذلك، التأليف للمسرح لسنوات عديدة. وكتب بين عامي 1938 و1953 خمس سمفونيات أخرى، وأربع رباعيات[ر] وترية. درّس شوستاكوفيتش التأليف في معهد لينينغراد بين عامي 1937ـ1941، وكان من المقاتلين خلف خطوط النار في الحصار الألماني للينينغراد عام 1941. كتب الحركات[ر. السوناتا] الثلاث الأولى من سمفونيته السابعة «لينينغراد» في أيام الحصار، وكان أول أداء لها عام 1942 في كيبيشيف ثم في موسكو ثم في لينينغراد. وكان لها صدى عظيم ونجاح هائل في أيام الحرب، لا في الاتحاد السوفييتي فقط، وإنما في إنكلترا، والولايات المتحدة حيث أمكن إرسال التدوينات الموسيقية إلى أمريكا، فقدمت هناك عام 1942 بقيادة توسكانيني[ر] Toscaniniوحضرها الملايين. وعلق كارل ساندبرغ Carl Sandburg على هذا العمل بأنه «موسيقى كتبت بدم القلب». وقدمت السمفونية ما بين عامي 1940 و1943 في أمريكا 62 مرة.
في عام 1940 حصل شوستاكوفيتش على جائزة ستالين لخماسية البيانو. وكان قد تحول إلى رمز للنضال ضد النازية.
استقر عام 1943 في موسكو، وعين أستاذاً للتأليف في المعهد العالي هناك. ولم تقدم بعض أهم الأعمال الكبرى التي ألفها في المدة ما بين 1943 و1948 إلا في مرحلة ما بعد ستالين، الأكثر ليبرالية، بما فيها «حوارية»[ر] (كونشرتو) الكمان الأولى. تعرض عام 1948 مع بعض المؤلفين الروس المهمين ومنهم بروكوفييف[ر] Prokofievللهجوم في مقالة كتبت بعنوان «الشكلية ومعاداة الشعب»، واتهما بأنهما يقدمان أعمالاً تتسم بالتحريفات الشكلية المعادية للديموقراطية، وتحديداً في استخدام أسلوب «الأتونالية»[ر. الموسيقية (الاتجاهات ـ)] atonality والنشاز والأصوات المتنافرة. وصرح شوستاكوفيتش بأنه حاول أن يستأصل عناصر الخطأ من موسيقاه إلا أن ذلك لم يتم على نحو كامل قائلاً: «لقد منعتني بعض العناصر السلبية في موسيقاي من القيام ببعض التحول .. لقد انحرفت مجدداً باتجاه الشكلية وبدأت أتكلم بلغة موسيقية لا يفهمها الشعب... أقر بأن الحزب على حق... وأنا شاكر بعمق على النقد الموجه إلي». تركزت معظم أعماله من عام 1948 حتى 1953 (حين توفي ستالين) على موسيقى الأفلام، والأغاني الوطنية، باستثناء رباعيتين وتريتين، و24 بريلود و«تسلل» (فوغة)[ر. الصيغ الموسيقية] للبيانو.
دخل شوستاكوفيتش مرحلة مهمة في التأليف الموسيقي بعد عام 1948 لمدة خمس سنوات كتب فيها أعمالاً باستخدام مصطلحات موسيقية مبسطة ومفهومة تتناسب مع متطلبات الشعب، وأعمالاً أكثر تعقيداً وتجريداً أرضى بها مستواه ومتطلباته الفنية الخاصة. وتعود أعماله مثل «أغنية الغابات» 1949، و«الشمس تشرق على بلادنا» 1952 للاتجاه الأول، في حين تنتمي حوارية الكمان الأولى، والرباعية الوترية الرابعة إلى الاتجاه الثاني.
بعد ثماني سنوات من التوقف عن التأليف السمفوني كتب شوستاكوفيتش سمفونيته العاشرة عام 1953، وهي من روائع الأعمال الموسيقية، وواحدة من بين أعمال عديدة تقوم على فكرة استخدام الأحرف DSCH التي تشكل الأحرف الأولى من اسمه. وافتتحت هذه السمفونية المرحلة الأخيرة من أعماله العظيمة والتي ألفها في خلال 22 سنة، منها بعض من أرفع الأعمال الموسيقية مثل السمفونية العاشرة والحادية عشرة (1905) والثانية عشرة (في ذكرى لينين) أو (1917)، والخامسة عشرة والرباعية الوترية رقم 6 و8 و15، المهداة إلى «ذكرى ضحايا الفاشية والحرب»، وعملين لحوارية الكمان، و«المغناة» Cantataللجوقة الغنائية «إعدام ستيفان رازين»، وسوناتا[ر] الكمان، وسوناتا الفيولا[ر. الكمان]، ومتتالية قصائد لميكلانجلو.
زار شوستاكوفيتش إنكلترا عامي 1958 و1974 ونشأت بينه وبين بريتن[ر]Britten صداقة قوية. وفي عام 1969 أصيب بنوبة قلبية حادة ساءت صحته على أثرها.
يعد الكثيرون شوستاكوفيتش أهم مؤلف موسيقي في القرن العشرين. ولقد أبدى في سمفونياته ورباعياته، في بعض الأعمال الأخرى براعة وسيطرة على الأشكال الموسيقية الأكثر صعوبة، وقوة عاطفية عظيمة، وابتكاراً تقنياً. ففي سمفونيته الأولى تتجلى تقريباً أهم سمات مؤلفاته: قوالب مقسمة إلى أجزاء، والألحان الرئيسة (التيمات) themes مبنية كالفسيفساء مع استخدام متكرر لآلات منفردة في أعلى مداها الصوتي وأخفضه. اتسمت أعماله كلها بحدتها العاطفية، وبالكثافة التراجيدية، وببديهة ساخرة فجة لا تخلو من روح الدعابة. كما اتسمت باحتوائها على المفارقة والسخرية المرة. وكثيراً ما اقتبس شوستاكوفيتش من أعماله الذاتية وأعمال غيره.
بعد مرضه، تجلت فكرة الموت في موسيقاه، لاسيما في أعماله الأخيرة. ويبدو تأثره وإعجابه بمالر[ر] Mahler واضحاً في أعماله السمفونية، وأسلوبه في البساطة معاً. كما يلاحظ تأثير عمل بيرغ[ر] A.Berg وهو «Wozzeck» الذي قدم في ليننغراد 1927، واضحاً في أوبرا «الليدي ماكبث».
يمكن تقسيم حياة شوستاكوفيتش المبدعة إلى ثلاث مراحل: مرحلة البدايات ومرحلة النضج ومرحلة السنوات الأخيرة. لكن هذا التقسيم لا يخلو من التناقضات وحالات عدم الثبات. تبدأ المرحلة الأولى من البدايات حتى عام 1937، وبلغت ذروتها مع السمفونية الرابعة. والمرحلة الثانية تبدأ عام 1937 حتى 1966 وذروتها السمفونية 13 (1962)، والمرحلة الثالثة بلغت أوجها مع السمفونية 14 (1969).
ينتمي شوستاكوفيتش إلى جيل المؤلفين الذين تربوا على مبادئ النظام السوفييتي. وكان إخلاصه لبلاده وللنظام عظيمين. حتى في الأوقات التي لم يكن فيها على وفاق تام مع النظام، قام بتمثيل بلاده بأعلى مستويات المسؤولية نائباً عن الروس السوفييت، في نيويورك عام 1949، ووارسو 1950، وفيينا 1952 وفي مؤتمرات السلام التي عقدت هناك. كما كان عضواً في اتحاد المؤلفين السوفييت بين عامي 1939ـ1948. ثم صار السكرتير الأول للاتحاد، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1968 حين تركه لأسباب صحية. كما سمي فنان الشعب عام 1954، ومنح جائزة لينين عام 1958 على السمفونية رقم 11. وحصل على تقديرات كثيرة من الخارج ، فكان عضواً في الأكاديمية الموسيقية الملكية في السويد عام 1954، وعضواً في أكاديمية سانتاتشيشيليا في روما 1955. وحصل على الميدالية الذهبية للجمعية الفيلهارمونية[ر. الفرقة الموسيقية] الملكية عام 1966، كما كان عضواً في أكاديمية الفنون في جمهورية ألمانيا الديموقراطية. ونال الدكتوراه الفخرية من جامعات أوكسفورد (عام 1958)، ودوبلن (عام 1972)، ونورثويسترنNorthwestern (عام 1973).
كان شوستاكوفيتش مدرساً مخلصاً لعمله تخرج على يده كثيرون من أبرزهم سفيريدوف Sviridov ت(1915ـ)، وتيشينكوB.Tishchenko ت(1939ـ)، وكان ابنه مكسيم قائد أوركسترا معروفاً ومقدماً مهماً لأعمال أبيه.
عاش شوستاكوفيتش مبدعاً في جو مشجع وملائم. وكان إنتاجه غزيراً ومتنوعاً بلغ 147 عملاً، منها: 15 سمفونية، و15 رباعية وترية، وأوبرا واحدة وأوبيريت، و6 حواريات لآلات متعددة وموسيقى حجرة[ر] للبيانو والوتريات، وموسيقى لبيانو منفرد، وعدد كبير من المغناة والأوراتوريو Oratorio، و3 من الباليه، و36 من موسيقى الأفلام، وموسيقى لإحدى عشرة مسرحية، وموسيقى غنائية بجميع الأشكال. إضافة إلى المتتالياتSuites التي اقتبسها من موسيقاه المختلفة الأنواع. لم يتوقف إنتاجه قط، وكان لدعم الدولة السوفييتية أثر كبير في ذلك، فكان متحرراً من الهموم المالية، ومن العمل، وإيجاد المؤدين المناسبين. ومن أصدقائه والمعجبين به من الفنانين السوفييت كان قائد الأوركسترا مرافينسكي E.Mravinskyت(1903ـ 1988)، وعازفَيْ البيانو جيللزE.Gilels ت(1916ـ 1985)، وريختر S.Richterت(1914ـ)، وعازف الكمان دافيد أويستراخ[ر] D.Oistrakh، وعازف التشيلو روستروبوفيتش Rostropovich ت(1927ـ)، ومغنية الأوبرا السوبرانو فيشنيفسكاياVishnevskaya ت(1926ـ)، وفرقة بتهوفن[ر]Beethoven للرباعيات الوترية. وبذلك كان الأداء الأمثل لأعماله يتحقق بانسجام تام مع أفكاره، وقد سُجلت جميع هذه الأعمال المؤداة، كما بدأت تنشر في حياته. وعلى الرغم من الاعتراف العالمي به وبكل ما حققه من نجاح، اتسمت شخصيته بالتواضع وحب المشاركة والتعاون وروح الدعابة وخاصة في أيام الشباب. وكان شخصية معتبرة يوثق برأيها، غالباً ما قام هو نفسه بعزف أعماله. اتسم عزفه بكونه موضوعياً يركز فيه على التقنيات من دون أن يبدي أي نوع من التأثر والانفعال. أما في مجال النقد الموسيقي والكتابة فقد كان قليل الكلام يتجه مباشرة إلى الموضوع الرئيس، ويعبّر عن أفكاره بطريقة مباشرة وبسيطة من دون أي تكلف.
يعد شوستاكوفيتش مؤلفاً سمفونياً بالدرجة الأولى، استطاع بخياله الخصب أن يعطي الأوركسترا ألوانها الموسيقية، وكانت ألحانه تعبِّر عن خصوصيتها من خلال استخدام الطابع الخاص للآلة. وكان إحساسه بالشكل معززاً بمهارته في استخدام الأوركسترا. ألف جميع أعماله ضمن الأطر الجمالية للدولة السوفييتية، لكنه بقوته الإبداعية استطاع أن يتغلب على الحدود التي قيدته بها الواقعية الاشتراكية والتي منعته في بعض الحالات من حرية الخلق الموسيقي. وكانت تلك معركة انتصر فيها شوستاكوفيتش.
أبية حمزاوي