معرضه الفرنسي يقدم إشراقاته التشكيلية الأخيرة وظلال عتماته الباهرة
انطوان جوكي
"رجفة الإدراك في محكّ الماضي، الوفاء للذات، ومع ذلك، حلول جديدة وهروب وتغيّر، لكن ضمن عودة إلى أساسيات البداية". هذه الجملة خطّها الكاتب الإيطالي جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا في روايته الوحيدة، "الفهد" (1958)، وتشكّل خير تعريف بمسعى الرسام الفرنسي المعاصر الأشهر، بيار سولاج، الذي غادرنا منذ أقل من عام، بعد 103 سنوات من الحياة أمضى معظمها في بحث تشكيلي متجدد أبداً، ومع ذلك، ذي تماسك نادر، كما تجلى بقوة في المعرض الاستعادي الذي نظّمه له مركز "بومبيدو" الباريسي عام 2009، في مناسبة عيد ميلاده التسعين. معرض كان يمكن أن يكون نقطة الذروة والنهاية لفنان آخر، لكنه لم يشكّل لسولاج سوى قفزة لمرحلة جديدة في عمله أثمرت لوحات باهرة رسمها خلال العقد الأخير من حياته، ويمنحنا المتحف الذي يحمل اسمه في مدينة روديز الفرنسية فرصة مشاهدة مختارات واسعة منها.
وفعلاً، اختار القائمون على هذا المتحف، المعرض الاستعادي المذكور كنقطة انطلاق لمعرضهم الحالي المكرّس لسنوات الفنان الأخيرة التي شهدت إنجازه ليس أقل من 300 لوحة تابع فيها مغامرة "ما بعد اللون الأسوَد" (Outrenoir) ضمن تجديد دائم لممارسته الفنية، يظهر في تدخّله بطرق مختلفة ومبتكَرة على سطحها الأسوَد، عبر إخضاعه لتقطّعات أو تخطيطات أو خدوش، واسعة أو ضيقة، أفقية أو عامودية، سمحت له ببلوغ مرماه الثابت، أي استخراج النور من قلب العتمة الكالحة. من هنا رؤية الناقد بيار أنكروفيه في هذه اللوحات "عصراً ذهبياً آخر" في مسيرة صديقها.
ضوء الأسود
الأعمال الأخيرة لفنان تمثّل دائماً محطة مثيرة نظراً إلى كونها ثمرة عقود طويلة من البحث. بعض الفنانين يُظهرون أكبر قدر من الحرية فيها، فيؤسسون لمرحلة جديدة في عملهم، مثل هنري ماتيس، أو يبلغون حصيلة ذات جرأة مدهشة لمراحل عملهم السابقة، كما هو الحال مع بيكاسو. من جانبه، جدد سولاج نفسه من دون تغيير فجّ في منهج عمله، وضمن سعي ثابت ومحموم عن ضوء اللون الأسوَد. وفي معرض تفسيره سيرورة إبداعه، كتب يوماً: "ما يهمّني هو ما أجهله. حين أنطلق في العمل، أركّز انتباهي على ما لا أعرفه، كي لا أكرر نفسي، وبالتالي على الطريقة العشوائية، التصادفية، التي تحدث الأشياء فيها. لقد أدركتُ باكراً جداً الحدود الضبابية للغاية التي تفصل المحدَّد والعارض. هكذا بدأت أتأمل في فن الرسم أثناء ممارسته".
وخلال هذا التأمل، تبلور عشق الفنان لمفهوم المصادفة، أي لما يحدث خلال البحث من دون أن نتوقّعه. عشقٌ لأن المصادفة تثير الفضول بما هو عارض وغير ظاهر، ولأنها تسمح أثناء العمل بالعثور على دروب جديدة من داخل المادة التي لطالما أحب العبث بها. ومن هذا المنطلق، لعبت دوراً مهماً في إنجازاته العديدة، كتجديده ممارسة فن الحفر عام 1957، أو راديكالية مغامرة "ما بعد الأسوَد" التشكيلية التي قادها منذ 1979، أو بلوغه تلك الشفافية الفريدة في الزجاج المعشّق الذي أنجزه لكنيسة قرية كونك الفرنسية عام 1992، وصولاً إلى لوحاته الأخيرة التي استكشف في مادتها الإمكانيات اللامتناهية للضوء.
بالنسبة إلى سولاج، المصادفة هي إذاً سيرورة ملازمة لفعل الخلق الذي يمارسه، تقود إلى الاستدلال، وبالتالي إلى إمكانية الابتكار وحرّيته بعد رحلة طويلة من الاكتشافات. ونظراً إلى تعلّقه الشديد بفن المغاور والفن الرومانيّ (roman)، بلور فنه خارج أي مجموعة أسلوبية، وفقاً لمسعى فردي حرّ. وحول ذلك، كتب الناقد الأميركي جايمس سويني: "في نظري، لا تنتظم لوحاتي ضمن تسلسل خطوطي يتحكّم به تطوّر عقلاني ومنسّق (...). لم أتبع مساراً مقرراً سلفاً. أقول دائماً إن ما أفعله هو ما يجعلني أدرِك ما أبحث عنه". بعبارة أخرى، كان الأمر يتعلق دائماً بالالتفات بلا كلل إلى الأمام، بحثاً عما هو قادم، عما سيحدث في عزلة مرسمه. ولذلك، لم تكن ممارسته الطويلة وثمارها المهيبة تشكّل عبئاً على اللوحة أو المحفورة التي كان يتحضّر لخلقها ويرغب في تكريس وقته لها. إذ كان يعرف كيف ينتظر لاغتنام اللحظة المناسبة. كان يقبل جهله إلى حين حلولها، كي يقتطف المجهول.
اسرار اللون
أما بالنسبة إلى اختياره اللون الأسود ركيزة مادية ثابتة لعمله، فقد أثار التباساً كبيراً لفترة طويلة، غذاه سولاج بنفسه. ففي الوقت الذي يبدو عمله مكرّساً لاستكشاف أسرار هذا اللون، لم يضيّع فرصة من دون أن يشير إلى أن الضوء هو موضوعه الحقيقي. ولا تناقض في المسعى، في حال استحضرنا جملة بيسارو التي يقول فيها عن صديقه مانيه: "إنه أكبرنا. رسم النور باللون الأسوَد"، أو جملة مارغريت يورسونار التالية: "الخلق هو الجرأة على النظر داخل الأسوَد"، أو رؤية أندريه بروتون "نواة ليلٍ لا تُكسَر" في قلب كل عمل فني كبير.
أول اتصال فني لسولاج باللون الأسود كان مع فنون التخطيط الصينية واليابانية التي استمد منها أيضاً حركيته الصافية وتلك "العلامات" المركزية في أعماله لفترة طويلة، والتي لا ترضخ لتمييزٍ بين شكلٍ ومضمون. لكن في حين لعب اللون الأسود دور اللون في هذه الأعمال، من خلال مقابلته بلون القماش الأبيض أو بألوان أخرى، ما لبث بعد عام 1979 أن اكتسح كامل فضاء لوحاته، مُشكّلاً مجرّد ركيزة لانعكاسات ضوئية. وفي معرض وصفه، صرّح مرة: "أحب سلطة هذا اللون. إنه لون عنيف، لا يُساوم، لكنه مثيرٌ للاستبطان. إنه لونٌ وشيءٌ آخر، يحوّل الضوء حين ينعكس عليه ويفتح حقلاً ذهنياً خاصاً به". بالتالي، أهمية لون سولاج الأسود تكمن في قدرته على عكس النور ونحته وإحداث خلفيات عميقة ومعتمة فيه، أو إيقاعات وتوتّرات وفقاً لمادته الجيولوجية. وهذا ما يجعل من النور مادّته الرئيسة، نور يقع ما وراء اللون الأسود.
أما لوحاته الضخمة الأخيرة، التي تتشكّل أحياناً من مصاريع عدة، فمثل سابقاتها، لا تكشف عن شيء آخر يقع خارجها، بل تؤسّس لعلاقة تجاذب بينها وبين المتأمل فيها، الذي ما إن يستسلم لهذه العملية حتى يدخل في الفضاء الذي تفرزه، مسحوراً بحدة حضورها. حضورٌ جسدي وحسّي تنبعث منه طاقة كبيرة كامنة، وحضور ميتافيزيقي يدفعنا عنوة إلى التأمّل والاستنباط. لوحات مادّية عنيفة إذاً، وفي الوقت ذاته، غير مادّية ومترجرجة، تتحول في كل مرّة وفقاً للزاوية المعتمدة للنظر إليها. وداخلها، استنتج الناقد أنكروفيه عام 2015 "جرأة مدهشة وحيوية لا تنضب، يتحول اللون الذي يقع "ما بعد الأسوَد" باستمرار ويتجدد". لوحات واضحة، لا لبس فيها، ولا صورة ولا لغة محددة سلفاً، لكن ذات كثافة ملموسة ومبلبلة في تنوعّها، وبالنتيجة مسلحة للمثول بقوة في فن القرن الحادي والعشرين.
وخلال فترة رسمه إياها، كتب سولاج: "لوحاتي تحيا من النظرة التي نلقيها عليها، وبالتالي لا يمكن اختزالها بتفاصيلها الظاهرة أو بمن ابتكرها. فالناظر إليها يشارك أيضاً في خلقها. إنها فضاء تساؤلات وتأملات تنبثق داخله المعاني التي نمنحه إياها وتتفكك".