فرنسا
الأدب
القرون الوسطى: اتفقت الدراسات التاريخية على اعتبار نص «قَسَم ستراسبورغ» Le Serment de Strasbourg الذي ألقاه لويس الجرماني Louis le Germanique عام 842 أقدم نص في الأدب الفرنسي، لأن كل ما سبقه كان مكتوباً باللغة اللاتينية أو مترجماً عنها. لكن البداية الحقيقية للأدب الفرنسي تتوضع في القرن الثاني عشر حين بدأت تظهر أنواع جديدة وأصيلة، منها ما له طابع ملحمي مثل أغاني المآثر Chansons de geste التي تتغنى بسير الأبطال والملوك ومن أشهرها «أغنية رولان» La Chanson de Roland ما بين (1100-1125)، ومنها الأشعار الغنائية التي كان يكتبها ويغنيها الشعراء الجوالون (التروبادور) Troubadours بلغة بلاد الأوك Langue d’Oc والتروڤير Trouvères بلغة بلاد أويل Langue d’Oïl. من أشهر شعراء التروبادور في تلك الفترة غيوم التاسع داكيتين Guillaume IX d’Aquitaine وجوفريه روديل Jauffré Rudel وآرنو دانييل Arnaut Daniel. أخذ الشعر بعد ذلك منحى هجائياً له شكل المساجلة فيما يسمى السيرڤينتيس sirventès، وفيها لمع بيرتران دي بورن Bertrand de Born وبير كاردينال Peire Cardenal. في نهاية القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر بدأ شعراء التروڤير في شمالي فرنسا يكتبون قصائد لها سمة أنيقة مهذبة أخذت تتبلور في أشكال جديدة لتعالج موضوعات متنوعة مثل أغاني النسيج Chanson de toile وأغاني الفجر Aube والرعويات Pastourelle والرومانس Romance والريڤيردي Reverdie، إضافة إلى أغاني الرقصات مثل الباليت Ballette والڤيرليه Virelai والروندو Rondeau. ومن أشهر الشعراء الذين كتبوا ضمن هذه الأشكال يمكن أن يُذكر آدم لو بوسو Adam le Bossu وروتبوف Rutebeuf وجان بوديل Jean Bodel وغي دي كوسي Guy de Coucy. أما شعر الغزل والحب فقد تطور في البلاطات وبين الأمراء والنبلاء مثل تيبو الرابع Thibaud IV كونت مقاطعة شامبانيا الذي كان واحداً من التروڤير.
في تلك الفترة، أخذت ثقافة القرون الوسطى تنحو نحو مزيد من الرهافة والكياسة التي انعكست في الرواية التي كانت تُكتب ضمن حلقات عديدة، يُذكر منها روايات حلقة الملك آرثر Cycle du roi Arthur والروايات التي كتبها كريتيان دي تروا Chrétien de Troyes، ووصايا ماري دي فرانس Les Lais de Marie de France، وحكاية تريستان وإيزولت Tristan et Iseult التي رواها التروڤير توماس Thomas وبيرول Béroul في القرن الثاني عشر. في نهاية القرن الثاني عشر، ظهرت حلقة الكأس المقدس Le Cycle du Saint-Graal ومنها استوحى روبير دي بورون Robert de Boron قصيدة طويلة كان لها دورها في ظهور عدد من السرديات مثل لانسلو دي لاك Lancelot du Lac. في الفترة نفسها ظهر عدد كبير من قصص المغامرات والحب وعلى الأخص «فلوار وبلانشفلور»Floire et Blanchefleur و«أوكاسان ونيكوليت» Aucassin et Nicolette.
لكن المؤلَّف الذي يشغل مكانة متميزة في الأدب الفرنسي في القرون الوسطى، من دون أن ينتمي إلى حلقة معينة هو بحق «قصة رونار» Le Roman de Renart التي كتبت ما بين 1176 و1250 وتميزت بطابعها الشعبي، تتألف من ست وعشرين قصيدة أو «أغصان» حسب التقسيم المتبع في تلك الفترة، وقد كتبها مؤلفون مجهولون. بعد ذلك صارت شخصية رونار (الثعلب) تظهر في كثير من الأعمال اللاحقة مثل «تتويج رونار»Le Couronnement de Renart (القرن الثالث عشر) و«رونار الجديد» Renart le Nouvel التي كتبها في نهاية القرن الثالث عشر جاكومار جيليه Jaquemart Gelée و«رونار المزيف»Renart le contrefait (القرن الرابع عشر). والواقع أن قصص الحيوانات المكتوبة شعراً قديمة في الأدب الفرنسي، وأول ما ظهر منها الحكايات التي كتبها ريشو Richeut في عام 1170. إضافة إلى ما سبق هناك أنواع جديدة ظهرت في القرن الثالث عشر مثل «الأقوال» Les dits وهي مؤلفات موضوعاتها أخلاقية أو مضحكة، وهناك الحكايات ذات البعد الديني مثل «معجزات نوتردام» Les Miracles de Notre-Dame التي كتبها غوتييه دي كوانسي Gautier de Coincy. والواقع أن أعمال ومؤلفات تلك الفترة كانت تحمل في معظمها طابعاً تعليمياً أخلاقياً ينتهي بحكمة وموعظة كما في «أبيات موت هيليلان» Vers de la Mort d‘Héliland عام (1197)؛ أو أنها كانت ترمي إلى تقديم معلومات واسعة عن المعارف الإنسانية كما في «حساب الأعياد والضواري» Le comput et le bestiaire (بدايـة القرن الثاني عشر) لفيليب دي تاون Philippe de Thaon. ولابد أن تُذكر أيضاً أعمال المؤرخين الذين رافقوا الحملات الصليبية كما في نصوص المؤرخ ڤيلهاردوان Villehardouin «قصة الاستيلاء على القسطنطينية» Histoire de la conquête de Constantinople ومؤلف روبير دي كلاري Robert de Clari حول الحدث نفسه. وقد ظهرت كتابة التاريخ الفرنسي مع جوانـڤيل Joinville الذي نصب نفسه مؤرخ البلاد في كتاب «الكلمات المقدسة والأعمال الجيدة لملكنا المقدس لويس» Livre des saintes paroles et des bons faits de notre saint roi Louis نحو (1309).
وكما كانت حال القصة والشعر في فترة القرون الوسطى، تطور المسرح الفرنسي تدريجياً في تمايزه من الأعمال اللاتينية. فقد كانت المسرحيات الدينية الأولى مكتوبة بالنثر اللاتيني مع بعض المقاطع المأخوذة من اللغة المحكية كما في «لعبة العذراوات العاقلات والعذراوات المجنونات» Le Jeu des vierges sages et des vierges folles التي تعود إلى القرن الثاني عشر. مع خروج المسرح إلى باحة الكنيسة وتطور العروض الدينية بدأت النصوص المسرحية المكتوبة باللغة الفرنسية تحل محل مثيلاتها اللاتينية كما في نص «لعبة آدم» Le Jeu d’Adam، ثم في نص «لعبة القديس نيكولا» Le Jeu de Saint Nicholas التي كتبها جان بوديل. في القرن الثالث عشر ظهر نوع درامي جديد هو نصوص المعجزات مثل مسرحية معجزة تيوفيل Le Miracle de Théophile لروتبوف Rutebeuf. في الفترة نفسها بدأ المسرح الفرنسي يشهد ظهور أعمال كوميدية لا تشوبها مسحة دينية مثل «لعبة الخميلة» Le Jeu de la feuillée عام (1262) و«لعبة روبان وماريون» Le Jeu de Robin et de Marion نحو (1283)، وتعدُّ هذه المسرحية التي كانت ترافقها الموسيقى من أقدم أنواع الأوبرا الضاحكة باللغة الفرنسية.
بدءاً من القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر بدأ الطابع الغنائي يضعف، في حين أخذت القوالب الشعرية تتبلور وتثبت. من أهم شعراء القرن الخامس عشر شارل دورليان Charles d‘Orléans وفرانسوا ڤيون[ر] François Villon ومن أهم أعماله قصيدتان هما «الْلي (الوصية الصغرى)» Le Lais عام (1456) و«الوصية الكبرى» Le Testament عام (1461).
أما النثر فقد تطور على نحو كبير على شكل وقائع تاريخية ومذكرات ودراسات لها طابع تعليمي وأخلاقي. فقد كتب المؤرخ جان فرواسار Jean Froissart وقائع السنوات الواقعة ما بين 1375 و1400، وكذا فعل فيليب دي كومينس Philippe de Commynes الذي كتب مذكراته التي تغطي فترة 1464 حتى 1498.
في مجال القصة، وبفضل تأثير الرواة الإيطاليين، تغير منحى الحكايات التي لم تعد تروي قصص الحيوان، ولم تعد تُصاغ شعراً وأخذت تنحو منحى الهجاء والسخرية. ومن أشهر الحكايات في تلك الفترة «متع الزواج الخمس عشرة» Les Quinze Joyes de Mariage و«مئة حكاية جديدة» Cent nouvelles nouvelles. وتعدُّ حكاية «الصغير جيهان دي سانتري» Le Petit Jehan de Saintré عام (1451) لمؤلفها أنطوان دي لا سال Antoine de la Sale من الأعمال المتميزة في تلك الفترة.
في مجال المسرح، وإلى جانب مسرحيات المعجزات، ظهر في القرن الخامس عشر نوع مسرحي جديد كان يقدَّم في الاحتفالات الدينية ويتطلَّب إخراجاً معقداً يجذب المتفرجين هو عروض أسرار الآلام Les Mystères de la Passion. والنصوص المكتوبة لعروض الأسرار هي نصوص طويلة جماعية التأليف؛ لأن كل كاتب كان يأخذ ما كتبه المؤلفون السابقون فيضيف إليه ويعدّل فيه، حتى صارت بعض النصوص تصل إلى خمسة عشر ألف بيت من الشعر أو أكثر. إلى جانب هذه العروض الجدية ذات الطابع الديني والأخلاقي، كانت هناك نصوص مسرحية خفيفة تنتمي لأنواع جديدة هي النوع المسمى بالأخلاقيات Les Moralités التي تقوم على التشخيص المجازي للمفاهيم الأخلاقية المجردة، وأشهرها «إدانة مأدبة» La Condamnation de Banquet؛ والنوع المسمى «الحُمقيات» Les Soties التي لا تخلو من السخرية السياسية والاجتماعية وأشهرها «لعبة أمير الحمقى» Le Jeu du Prince des Sots لبيير غرنغور Pierre Gringore؛ والنوع المسمى «الفارْس» أو «المهزلة» Farce، وهي فواصل مضحكة وخفيفة كانت تُقدم داخل العروض الدينية الجدية، وأشهرها «مهزلة المحامي باتلان» La Farce de Maître Pathelin التي لا يُعرف مؤلفها.
القرن السادس عشر: عندما أسس فرانسوا الأول الكوليج دي فرانس عام 1530 كانت الحركة الإنسانية Humanisme قد بدأت تتطور في فرنسا حاملة معها الإعجاب بمنجزات الحضارتين اليونانية والرومانية، كما كانت رياح الإصلاح الديني قد بدأت تفعل فعلها، مما أدى إلى فورة فكرية أدت دورها في تجديد الأدب والفكر والفن. ومن أهم الشخصيات الأدبية في تلك الفترة رابليه[ر] Rabelais. أما في مجال الشعر فكانت تأثيرات عصر النهضة الإيطالي قد بدأت تتبدى مع شعراء مثل كليمان مارو[ر] Clément Marot الذي أدخل إلى الشعر الفرنسي شكل السونيته[ر] Sonnet، والشاعرة لويز لابيه Louise labé التي اشتهرت بقصائدها الغزلية، وموريس سيڤ[ر] Maurice Scève وأنطوان هيرويه Antoine Héroët. وبدأ الأدب منذ عام 1550 ينحو باتجاه خصوصية جديدة لا علاقة لها بالماضي وصارت القطيعة مع القرون الوسطى واضحة المعالم، وأدخلت مجموعة شعراء البلياد[ر] La Pléiade غنائية جديدة كانت فاتحة لشعر جديد. ولابد من ذكر شاعرين مهمين في تلك الفترة وقفا قصائدهما للتعبير عن الضيق من الحروب الدينية، خاصة وأنهما كانا يدينان بالبروتستنتية، وهما أغريبا دوبينيه Agrippa D’Aubigné ودو بارتاس Du Bartas. وقد كان لجو الاضطراب الذي ساد في فرنسا بسبب تلك الحروب دوره في ظهور دراسات جدية حول حرية الفكر والقدرة على الوصول إلى السعادة عن طريق الحكمة، وهو ما ظهر في مجموعة «الدراسات» Essais التي نشرها مونتيني[ر] Montaigne تباعاً منذ 1580.
أما المسرح فقد تراجع مع منع عروض «أسرار الآلام» في 1548، كما توقفت تقريباً كل العروض الشعبية التي كانت قد بدأت تزدهر في القرون الوسطى. لكن المسرح ما لبث أن عاد إلى الظهور من جديد مع أول تراجيديا فرنسية «كليوباترا أسيرة» Cléopâtre Captive التي كتبها إيتين جوديل E.Jodelle، ومع أعمال جاك غري غريڤان Jacques Grevin وروبير غارنييه Robert Garnier اللذين بدأا يبلوران هذا النوع الجديد انطلاقاً من القواعد الجديدة التي بدأا بصياغتها جان دي لا تاي Jean de La Taille حسب النموذج المستمد من القدماء.
القرن السابع عشر: في النصف الأول من القرن السابع عشر، وفي الصالونات الأدبية التي كان يرتادها رجال الأدب والفكر والفن إضافة إلى المتحذلقين والمتحذلقات من المجتمع المخملي، شهد الأدب الفرنسي فترة تميزت بتنوع الاتجاهات ما بين ذائقة الباروك baroque التي تتميز بالحساسية والخيال الجامح وبين العقلانية التي يمثلها الالتزام بالقواعد المستمدة من كلاسيكية قدماء اليونان التي بدأت تفرض نفسها على الكتابة الأدبية. يمثل الاتجاه الأول في الشعر ماتوران رينيه Mathurin Régnier المعروف بهجائه الساخر، وشاعر الرثاء تيوفيل دي ڤيو Théophile de Viau وسانت آمان Saint- Amant وسيرانو دي بيرجراك Cyrano de Bergerac وتريستان ليرميت Tristan l’Hermite ما بين (1601-1655) وسكارون Scarron. أما الاتجاه الثاني فيمثله ماليرب[ر] Malherbe الذي كان يقيّد الغنائية بقيود منظمة كما في مؤلفه «مواساة دوبيرييه» Consolation à Dupérier، الذي سار على خطاه مينار Mainard وراكان Racan. وفي مجال الرواية، صار التوجه واضحاً نحو الرواية العاطفية والمفتعلة؛ فقد كانت رواية «آستريه» Astrée التي كتبها هونوريه دورفيه Honoré d’Urfé مثار إعجاب المجتمع المخملي الذي كانت تسحره اللغة المرصّعة الجميلة، وهذا ما يبرر نجاح كتّاب مثل ڤواتور Voiture وغيز دي بلزاك Guez de Balzac ومادلين دي سكوديري Madeleine de Scudéry.
تأسست الأكاديمية الفرنسية في عام 1635، وأخذت على عاتقها وضع قواعد اللغة والكتابة الأدبية، ونحا الفكر باتجاه المنطق والمنهج العقلاني الذي أرسى قواعده الفيلسوف ديكارت[ر] Descartes، في كتابه الشهير «خطاب حول المنهج» Discours de la Méthode. في مجال المسرح، وإضافة إلى فرق الممثلين الإيطاليين الذين كانوا يقدمون في فرنسا عروض الكوميديا المرتجلة Commedia dell’arte، كانت هناك ثلاث فرق رسمية تقدم عروضها لجمهور بدأ يعتاد ارتياد الصالات ويتذوق الأعمال المسرحية، وخاصة تلك التي تنتمي إلى نوع التراجيكوميديا Tragi-comédie الذي لاقى نجاحاً كبيراً بين المتفرجين لتلاحق الأحداث فيه، ولطابعه المثير وخاتمته المفتوحة. في الفترة نفسها بدأ التوجه نحو الالتزام بالقواعد الكلاسيكية في التراجيديا التي بدأت تشدّ كتاباً أمثال ألكسندر هاردي Alexandre Hardy وميريه Mairet وجان دي روترو Jean de Rotrou وبيير كورني[ر] Pierre Corneille الذي أثارت مسرحيته «السِيد» Le Cid جدلاً واسعاً بين الجمهور وأعضاء الأكاديمية والنقّاد، كانت أهم نتائجه ترسيخ قواعد التراجيديا الصارمة التي كان كورني أول من التزم بها في أعماله اللاحقة مثل «هوراس» Horace عام (1643)، و«سينا» Cinna عام (1643)، وصار بذلك من أفضل كتاب التراجيديا في فرنسا في فترة حكم لويس الثالث عشر.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وبفضل الرقابة الصارمة التي مارستها الأكاديميات بتوجيه من الملك لويس الرابع عشر، صارت الكلاسيكية سمة واضحة تتجلى آثارها في كل الأجناس والأنواع الأدبية والفنية عبر الوضوح والتناسب والتناظر والعقلانية والبناء المتين. وهي السمات التي تميز قصائد «قصص الحيوان» Fables التي كتبها جان دي لافونتين[ر] Jean de La Fontaine والمسرحيات الكوميدية الكلاسيكية لموليير[ر] Molière مثل «المتحذلقات السخيفات» Les Précieuses ridicules عام (1660) و«مدرسة النساء» L’École des femmes عام (1664) و«طرطوف»Tartufe عام (1665) و«البرجوازي النبيل»Le Bourgeois gentilhomme عام (1672) و«مريض الوهم» Le Malade imaginaire عام (1673)؛ وتلك التي تقوم على هجاء لاذع للعادات والطباع في كوميديات لوساج Lesage؛ إضافـة إلى المسرحـيات التراجيدية لراسين[ر] Racine مثل «بيرينيس» Bérénice عـام (1672) و«إيفيجيني» Iphigénie عـام (1677) و«فيدر» Phèdre عـام (1689)؛ وكتابات بوالو[ر] Boileau التي تنّظر للأدب الكلاسيكي مثل «فن الشعر» L’Art poétique ما بين (1663-1678)، و«الرسائل» Epîtres عام (1677)؛ وهناك أيضاً الرسائل التي نشرتها مدام دي سيڤينيه[ر] Madame de Sévigné وتحتوي على وصف دقيق للحياة اليومية في البلاط، و«الخطب الدينية» Sermons، و«المرثيات» Oraisons funèbres التي كتبها بوسويه[ر] Bossuet، و«الحكَمْ» Maximes التي كتبها لاروشفوكو[ر] La Rochefoucauld، والدراسات الأدبية التي عرف بها سانت أيڤرومون Saint-Évremond، والكتابات النقدية لعيوب المجتمع التي جمعها لابرويير[ر] La Bruyère تحت عنوان «الطباع» Les Caractères، إضافة إلى الرواية التي كتبتها مدام دي لافاييت[ر] Madame de Lafayette تحت عنوان «أميرة كليڤ» La Princesse de Clève وتُعدُّ بداية لنوع يبرز البُعد النفسي في الطباع لدى رسم الشخصيات.
هذه الغزارة في الإنتاج التي ميَّزت مرحلة تشكّل التيار الكلاسيكي، لم تلبث أن ولّدت في نهاية فترة حكم لويس الرابع عشر جدلاً نقدياً، أُطلق عليه اسم معركة القدماء والمحدثين La Querelle des anciens et des modernes، كان من أقطابها مفكرون ونقاد أمثال فونتينيل[ر] Fontenelle الذي كان يدعم التيار الحديث ومن يمثله كالكاتب بيرو[ر] Perrault، في حين كان بوالو وراسين مع العودة إلى نموذج القدماء.
القرن الثامن عشر: استمر التفاعل النقدي والجمالي الذي ميّز النصف الثاني من القرن السابع عشر، لكنه أخذ في بداية القرن الثامن عشر منحى فلسفياً وسياسياً، خاصة وأن زوال الحكم الملكي المطلق أدى إلى مزيد من الحرية الفكرية والسياسية تجلَّت في النقاشات التي كانت تدور في الصالونات والمقاهي وفي البرلمان والأكاديميات. كان لذلك دوره في ظهور أدب له طابع جديد أقل التزاماً بالقواعد، وفي بروز جيل جديد من الكتاب المفكرين مثل مونتسكيو[ر] Montesquieu الذي كتب «الرسائل الفارسية» Lettres Persanes عام (1721) و«روح القوانين» L’Esprit des Lois عام (1748) ممهداً بذلك الطريق لظهور علم الاجتماع وللمفاهيم الحقوقية الحديثة، وڤولتير[ر] Voltaire صاحب التوجه الليبرالي والإيمان العميق بتطور الفكر وقدرته على محاربة التعصب، وهو ما تجلى بصورة كبيرة في كتاباته الفلسفية وتراجيدياته ورواياته مثل «زاديغ» Zadig عام (1747) و«كانديد» Candide عام (1759)، وفي مؤلفاته التاريخية مثل «عصر لويس الرابع عشر» Le Siècle de Louis XIV عام (1751). أما ديدرو[ر] Diderot فقد أسهم على نحو كبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في نشر المعرفة الإنسانية والأفكار الفلسفية عبر إدارته لمشروع الموسوعة Encyclopédie مع شركاء عملوا معه بتعاون وثيق من المفكرين والعلماء أمثال دالمبير d’Alembert وهيلڤيتيوس Helvétius ومارمونتيل Marmontel ودولباك d’Holbach. في خضم هذه الأفكار الجديدة والمشروعات المعرفية الضخمة كان الإيمان بالعقل هو المحرك الأساسي لتيارات البحث العلمي والفلسفي والأخلاقي. ومن جانب آخر بدأت ملامح الاهتمام بالحساسية الذاتية وبالتربية الصحيحة، وهذا ما يُلمس في كتاب «إميل» Emile عام (1762) لجان جاك روسو[ر] Jean Jacques Rousseau الذي دعا إلى العودة إلى نقاء الطبيعة وإزالة الفروق الاجتماعية في رواية «هيلوييز الجديدة» La Nouvelle Héloïse عام (1761)، وفي دراسته المعمقة حول المجتمع في «خطاب في أسباب وأسس عدم المساواة بين الناس» Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes عام (1758) و«العقد الاجتماعي» Le Contrat social عام (1761).
كان لهذا التفاعل الفكري دوره في زعزعة القواعد الصارمة التي رسختها الكلاسيكية، وفي التأسيس لتيارات القرن التاسع عشر وخاصة الإبداعية[ر] (الرومنسية) والواقعية[ر]، وفي تجديد الأنواع الأدبية وتنضيرها بتوجهات جديدة. فقد صارت الرواية على سبيل المثال من الأجناس الأدبية المهمة بعد أن كانت ثانوية في القرن السابع عشر، خاصة وأنها استُخدمت وسيلةً لنقد المجتمع وتعريته كما في رواية «مانون ليسكو» Manon Lescaut عام (1731) التي كتبها الأب بريڤو Prévost، ورواية «جيل بلا» Gil Blas ما بين (1715- 1735) التي كتبها لوساج Lesage، ورواية «بول وڤيرجيني» Paul et Virginie عام (1787) لبرناردان دي سان بيير[ر] Bernardin de Saint Pierre، ورواية «العلاقات الخطرة» Les Liaisons dangereuses عام (1782) التي كتبها كوديرلو دي لاكلو Choderlos de Laclos وروايات ريستيف دي لا بروتون Restif de la Bretonne.
في مجال المسرح، برز اسم ماريڤو Marivaux الذي تميزت مسرحياته العذبة بالعبث المسلي القائم على المقالب المرحة وهو ما يُلحظ في مسرحية «لعبة الحب والمصادفة» Le Jeu de l’amour et du hasard عام (1730)، كما يبرز اسم بومارشيه[ر] Beaumarchais الذي سار على خطى موليير في مسرحيتي «حلاق إشبيلية» Le Barbier de Seville عام (1775) و«زواج فيغارو» Le Mariage de Figaro عام (1748)، وديدرو الذي أسس لنوع مسرحي جديد هو «الدراما المنزلية» Drame domestique الذي يقوم على رفض قاعدة الفصل بين الأنواع. وقد سارت هذه التيارات الجديدة جنباً إلى جنب مع التوجه الكلاسيكي الذي حافظ عليه ڤولتير في تراجيدياته. وفي السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر ظهرت الميلودراما Mélodrame التي لاقت نجاحاً منقطع النظير لدى الجمهور.
أما الشعر فقد تراجعت أهميته في هذا القرن، وفيما عدا القصائد Odes التي كتبها روسو، كانت الأعمال الشعرية مرتبطة بالمناسبات، وهو ما يميز قصائد أندريه شينييه[ر] André Chénier التي كتبها بعد الثورة الفرنسية، وكان يحتفي فيها بالأفكار الجديدة التي سادت في تلك الفترة.
القرن التاسع عشر: ترتبط بداية القرن التاسع عشر بالرومنسية التي جاءت إلى فرنسا متأخرة وحملها إليها الكتاب الذين عاشوا في إنكلترا وألمانيا في أثناء الثورة الفرنسية. فقد كان لمدام دي ستال[ر] Madame de Staël وبنجامان كونستان[ر] Benjamin Constant دورهما في ترسيخ القواعد النظرية للرومنسية، في حين أدى شاتوبريان[ر] Chateaubriand دوراً في رسم صورة البطل الرومنسي في رواية «رُنيه» René عام (1805) وغيرها من الأعمال التي كانت فاتحة لحساسية جديدة ولموضوعات تقوم على التغني بالعزلة والانكفاء على الذات والكآبة والحساسية المفرطة. لكن المنظّر الحقيقي للرومنسية يظل ڤكتور هوغو[ر] Victor Hugo الذي رسم الملامح الأساسية للتوجه الجديد، وعرض الدراما الرومنسية في تعارضها مع التراجيديا الكلاسيكية في مقدمة «كرومويل» Cromwell عام (1827)، وفي مقدمة «هيرناني» Hernani عام (1830)، إضافة إلى قصائده التي كتبها ما بين 1829 و1840 التي كانت مصادر الإلهام فيها متنوعة وغزيرة. والواقع أن الشعر كان المعبّر الأساسي عن الحساسية الرومنسية التي وصلت إلى أوجها مع لامارتين[ر] Lamartine في «التأملات الشعرية»Les Méditations Poétiques عام (1820) التي تضافرت فيها الفلسفة المثالية مع الغنائية العذبة، ومع ألفريد دي ڤينيي[ر] Alfred de Vigny الذي مزج صور تماهيه مع الطبيعة برؤية متشائمة لا تخلو من المرارة. ويمكن درج تيوفيل غوتييه[ر] Théophile Gautier في عداد الشعراء الرومنسيين، إلا أن عنايته بمتانة الأسلوب وبجزالة الصور تبعده قليلاً عن ذلك التيار. وكذا الأمر عند جيرار دي نرفال[ر] Gérard de Nerval الذي كان بحساسيته رومنسياً، لكنه يُعدُّ من الذين فتحوا الباب أمام شكل القصيدة الذي سيعنى به لاحقاً شارل بودلير[ر] Charles Baudelaire وستيفان مالارميه[ر] Stéphane Mallarmé. ولئن كان ألفريد دي موسيه[ر] Alfred de Musset من أوائل الذين شُغفوا بالرومنسية إلا أنه ابتعد فيما بعد عنها ساخراً من الإفراط في الحساسية، ولذلك كان المجال الذي تميّز فيه هو الدراما التاريخية مثل «لورنزانتشو» Lorenzaccio عام (1834) والدراما الكوميدية مثل «نزوات ماريان» Les Caprices de Marianneعام (1833) و«لا مزاح في الحب» On ne badine pas avec l‘amour عام (1834). وقد استطاع موسيه أيضاً أن يستغل الكتابة الروائية للبوح بلواعج نفسه. والواقع أن الرواية قد بدأت تتطور على نحو كبير وتأخذ مناحي متنوعة. ومن كتاب الرواية المهمين في تلك الفترة جورج صاند[ر] George Sand وألكسندر دوما الأب[ر] Alexandre Dumas père الذي ابتكر نوع الرواية المسلسلة المليئة بالمغامرات التاريخية؛ مما كان سبباً في شعبيتها الكبيرة وانتشارها بين القراء. وعلى الرغم من أن أونوريه دي بلزاك[ر] Honoré de Balzac قد خضع في البداية لمؤثرات الرومنسية، إلا أن اسمه يرتبط أساساً بالواقعية التي بدأت تحل محلها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خاصة وأن مجموعة رواياته «الكوميديا البشرية» La Comédie humaine كانت بمنزلة عرض حي وواقعي لنماذج حقيقية من المجتمع الفرنسي في تلك الفترة. أما ستندال[ر] Stendhal فكانت روايته «الأحمر والأسود» Le Rouge et le noir عام (1831) من المعالم المهمة في تطور الرواية الحديثة لما فيها من دقة التحليل للعواطف والرغبات. ولا يُغفل في هذا المجال بروسبير ميريميه Prospère Mérimée الذي درج على كتابة القصة القصيرة ومن أشهرها «كولومبا» Colomba عام (1840) و«كارمن» Carmen عام (1845).
تطور النقد الأدبي أمام هذا التجديد الملموس في الكتابة وفي التعامل مع الأجناس والأنواع الأدبية، وهناك في كتابات سانت بوف[ر] Sainte-Beuve نموذج معبر عن التوجهات النقدية في تلك الفترة. ولئن حاول بعض الشعراء من الجيل الجديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن يجاروا التوجهات الجديدة في قصائد أقل ذاتية من تلك التي كتبها الرومنسيون، فإن شعرهم كان أكثر جزالة لكنه أقل تأثيراً ويفتقد إلى الجذوة الإبداعية التي ميَّزت أعمال الجيل القديم. من هؤلاء يُذكر مؤسس مدرسة البارناس Parnasse الشعرية لوكونت دي ليل[ر] Leconte de Lisle، كان من أعضائها الشاعران تيودور دي بانڤيل Théodore de Banville وسوللي برودوم Sully Prudhomme؛ ولذلك كان لابد من انتظار شارل بودلير وديوانه «أزهار الشر» Les Fleurs du mal عام (1857) لتجديد الإرث الشعري الرومنسي بغنائية حديثة وأصيلة سرعان ما استفاد منها رامبو[ر] Rimbaud وڤيرلين[ر] Verlaine، اللذان استطاعا بتحررهما من القواعد واعتمادهما تقنية شعرية مغايرة أن يؤسسا للشعر الحديث. وهنا لابد من ذكر الشاعر لوتريامون[ر] Lautréamont الذي عدّه النقد الحديث من رواد الحداثة[ر] لما كان لديه من نظرة جديدة إلى العالم، وكتابيه المتميزين الغريبين «أناشيد مالدورور» Les Chants de Maldoror (بدأ بنشر أجزاء منه في 1868 وطبع كاملاً في 1890 بعد موت الشاعر)، و«أشعار» Poésies عام (1870).
في مسرح النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت ردة الفعل ضد الدراما الرومنسية قوية أيضاً، ولذلك حلَّت محلها على الخشبة مسرحيات تدافع عن القضايا الاجتماعية كما في أعمال ألكسندر دوما الابن[ر] Alexandre Dumas fils وأوجييه Augier. كذلك ظهرت أشكال جديدة أكثر ملاءمة لذوق البرجوازية الصاعدة التي كانت تميل إلى حضور الكوميديات الخفيفة التي برع فيها أوجين لابيش Eugène Labiche، إضافة إلى المسرحيات الموسيقية المرحة مثل الأوبريت Opérette وعروض المنوعات مثل الڤودڤيل Vaudeville التي كانت تقدم فيما يسمى بمسرح البولڤار[ر] Théâtre de boulevard، الذي استمر شكلاً مستقلاً وبنجاح كبير حتى هذا اليوم.
لم يكن عزوف الكتّاب والمفكرين عن الرومنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر غريباً، فقد عرفت تلك الفترة منعطفاً حاداً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فقد أخفقت ثورة 1848، وبدأت الثورة الصناعية ترسم شروخاً عميقة في المجتمع الذي عرف انقساماً حاداً ما بين الأغنياء والفقراء، فتفاقمت المشكلات الاجتماعية وتزايد البؤس الإنساني الذي بدأ يأخذ مظاهر مرعبة. كانت نتيجة ذلك أن سادت بين الكتاب والمفكرين والشعراء موجة من اليأس والتشكيك بالتيار الرومنسي وما يحمله من غنائية مفرطة وانكفاء على لواعج النفس، في وقت كان لابد للكتابة أن تكون أكثر ارتباطاً بالهموم الاجتماعية كما في رواية هوغو «البؤساء» Les Misérables عام (1862). من هذا المنطلق أيضاً كانت الواقعية الروائية التي وضع أسسها بلزاك قد بدأت تجذب كتاباً آخرين مثل فلوبير[ر] Flaubert الذي كتب رواية «مدام بوڤاري» Madame Bovary عام (1857) التي تعد من روائع الرواية الفرنسية، ومثل إدمون دي غونكور Edmond de Goncourt وأخيه جول دي غونكور[ر. غونكور (الأخوان - )] Jules de Goncourt اللذين بدأا بتمهيد الطريق أمام الطبيعية[ر] Naturalisme.
تأثرت الطبيعية التي ترسخت في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بالتطور العلمي وبالفكر التجريبي، كما عكست أحوال الطبقة المسحوقة والبؤس الذي كانت تعيش فيه، وهذا ما يتبدى بصورة كبيرة في أعمال مؤسس التيار إميل زولا[ر] Emile Zola الذي جمع سلسلة من الروايات في عشرين مجلداً حملت عنوان «روغون ماكار» Les Rougon-Macquart ما بين (1871-1893) فكانت بمنزلة تصوير دقيق وصادق لأحوال المجتمع. وبالمنحى نفسه كانت «الحكايات» Le Contes التي كتبها غي دي موباسان[ر] Guy de Maupassant صورة عن تأثر الكاتب بالآلام التي يولّدها الفقر والعمل الشاق. ولقد كان من المنطقي أن يتلازم تيار الطبيعية المنهجي والعلمي بتيار معاكسٍ له توجّه روحاني تبدى في روايات ويسمانس[ر] Huysmans وألفونس دوديه Alphonse Daudet. أما أعمال أناتول فرانس[ر] Anatole France فكانت متميزة، لماحة وذكية، تذكر نوعاً ما بأسلوب ڤولتير.
في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد أن تحرر الشعر من القوالب الصارمة، ظهر توجه نحو خلق لغة شعرية تجلت في المدرسة الرمزية[ر] Symbolisme التي يمثلها مالارميه وأتباعه، مثل ألبير سامان Albert Samain وفرانسيس جيمس Francis James وبول فور Paul Fort.
القرن العشرون: مما سبق يتضح أن الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين لم يكن قطيعة، وإنما تطور تجلى عبر تعدد التوجهات التي رسّخها الجيل الأخير من الكتاب والشعراء، واستمرت في تنوعها دون أن تتحد في مدرسة محددة أو تيار واضح المعالم. فقد حرر الشاعر أبولينير[ر] Apollinaire قصيدته من ثقل البلاغة، ووسم بول كلوديل[ر] Paul Claudel أعماله بنفحة غنائية لها طابع ديني، في حين عكست دراسات وقصائد شارل بيغي[ر] Charles Péguy هاجساً اجتماعياً له بعد ديني، أما قصائد بول ڤاليري[ر] Paul Valéry فقد صورت هاجس الشاعر المفكر.
في مجال الرواية، عُرف الكاتب آلان فورنييه[ر] Alain Fournier بروايته «مولن الكبير» Le Grand Meaulnes، وكتب رومان رولان[ر] Romain Rolland رواية طويلة تغطي أجيالاً عدة حملت عنوان «جان كريستوف» Jean Christophe ما بين (1904-1912). لكن أهم الروائيين في تلك الفترة يظل مارسيل بروست[ر] Marcel Proust الذي جدد تقنية الكتابة الروائية وفتح الباب واسعاً أمام التداعيات ووصف الأحاسيس والمشاعر في لغة تتلون بتلون الانطباعات المتولدة من الصور والأصوات والروائح. وتعد مجموعته الضخمة «البحث عن الزمن المفقود» A recherche du temps perdu التي تضم سلسلة من الروايات المترابطة التي تدور حول شخصية الراوي والعالم الذي يعيش فيه، نقطة مهمة في تاريخ الرواية العالمية.
فترة ما بين الحربين: كان للحربين العالميتين اللتين اندلعتا في أوربا دور مهم في توجيه فكر وحساسية ووعي الكتاب والمفكرين الفرنسيين. وقد تجلى تأثير الحرب في ظهور تيارات عدمية هدمت كل الثوابت التي قامت عليها الحضارة الغربية، وطرحت تجاور الصور المتنافرة في توليفة تشبه ما يحصل في الحلم، خاصة وأن أبحاث فرويد[ر] Freud حول دور اللاوعي في توجيه الإبداع نالت رواجاً كبيراً وفتحت الباب أمام أشكال تعبير جديدة وموضوعات مبتكرة لم يعرفها الأدب من قبل. من هذه التيارات الدادائية[ر] Dadaïsme والسريالية[ر] Surréalisme التي تجلت في مجال الشعر بحرية كاملة لا يحدّها شيء، وبعبثية التداعيات والربط بين الكلمات. ولئن كان بول إيلوار[ر] Paul Eluard ولوي آراغون[ر] Louis Aragon قد سايرا هذا التوجه في بداياتهما، إلا أنهما سرعان ما انفصلا عنه ليكملا المسيرة الشعرية في اتجاه مختلف تماماً. كذلك استطاع سان جون بيرس[ر] Saint- John Perse ورُنيه شار[ر] René Char وجاك بريڤير[ر] Jacques Prévertبأعمالهم إيجاد مكانة مهمة في الشعر الفرنسي الحديث من دون الانتماء لأي من المدارس.
في مجال الرواية، صار هناك توجه لرسم لوحة تفصيلية تكون شاهداً على العصر كما فعل روجيه مارتان دي غار Roger Martin du Gard الذي كتب «عائلة تيبو» Les Thibauld، وجورج دوهاميل Georges Duhamel الذي كتب وقائع «حياة عائلة باسكيية» La Chronique des Pasquier، وجول رومان[ر] Jules Romain في«رجال العزيمة» Les Hommes de bonne volonté ما بين (1932-1947). أما جورج برنانوسGeorges Bernanos وفرانسوا مورياك[ر] François Mauriac وجوليان غرين Julien Green فكان البحث الروائي لديهم ينصب على الدوافع النفسية للشخصيات. وفي المنحى نفسه يهتم أندريه مالرو[ر] André Malraux بالدوافع نفسها التي تحرك الأفعال لكن في إطار العمل الثوري كما يبدو من روايته «الوضع البشري» La Condition humaine عام (1933). يُذكر في مجال الرواية أيضاً أندريه جيد[ر] André Gide وجان جيونو[ر] Jean Giono وأندريه موروا[ر] André Maurois وأنطوان دي سانت إكزوبري[ر] Antoine de Saint-Exupéry ومارسيل بانيول Marcel Pagnol.
أما المسرح، فقد عرف وثبة مهمة مع ظهور بدايات الإخراج والاهتمام بشكل العرض والأداء، لذلك نجد في بداية القرن أسماء ممثلين مخرجين وقفوا جهودهم لبناء حركة مسرحية جديدة تربط العرض بالجماهير الواسعة بعد أن كان المسرح يقتصر على الطبقة المثقفة والغنية. إلى جانب هؤلاء الفنانين الذين نضّروا الممارسة المسرحية، كان هناك كتاب مسرح موهوبون عادوا إلى التراجيديا الكلاسيكية؛ ليعيدوا طرح مسألة القدر ومأساوية الحياة على ضوء الأحداث المؤلمة التي خلفتها الحرب. من هؤلاء الكتاب المسرحيين يُذكر جان جيرودو[ر] Jean Giraudoux وجان آنوي[ر] Jean Anouilh وجان كوكتو[ر] Jean Cocteau وآرمان سالاكرو Armand Salacroux مؤلف مسرحية «ليالي الغضب» Nuits de colère عام (1946)، وهنري دي مونترلان Henri de Montherlant، وبول كلوديل، إضافة إلى كتاب كوميديين نالت مسرحياتهم شعبية كبيرة بين الجمهور أمثال ساشا غيتري Sacha Guitry ومارسيل آشار Marcel Achar.
إن الفلاسفة الذين تركوا بصماتهم في الحركة الفكرية اختاروا هم أيضاً أن يكتبوا في مجال الرواية والمسرح ليعرضوا أفكارهم، وهذا ما فعله فيلسوف الوجودية جان بول سارتر[ر] Jean-Paul Sartre الذي طرح فكرة حرية ومسؤولية الإنسان والتعارض بين السلطة والمبادئ الأخلاقية، وكذلك فعل ألبير كامو[ر] Albert Camus وسيمون دي بوفوار[ر] Simone de Beauvoir وفرانسواز ساغان[ر] Françoise Sagan.
النصف الثاني من القرن العشرين: في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية حتى نهاية القرن العشرين، وبعد أن حاول الشعر الفرنسي، بتأثير الأحداث السياسية العاصفة، مواكبة الحدث وعكس الواقع ضمن القصيدة الملتزمة، أخذ بدءاً من الخمسينيات منحى أكثر ارتباطاً بالدواخل وتلافيف اللاوعي طارحاً مسائل وجودية وفلسفية مهمة. على صعيد الشكل تحررت القصيدة نهائياً من قوالب القافية والوزن وأخذت أشكالاً حرة مع توجه تصويري يجعل من شكل القصيدة المرئي بنية تتوافق مع حرية الصور واللغة، وهذا ما تجلى في أعمال هنري ميشو[ر] Henri Michaux، وبيير ريڤيردي Reverdy الذي عُرف بتكثيف المقاطع الصوتية واللعب بالإيقاعات والعودة إلى نقاء اللغة ورفض الإبهام؛ وبيير جان جوڤ[ر] Pierre-Jean Jouve. ومن الشعراء من اختار أن يحطم بنية اللغة كاملة ليستكشف أبعاد الكلمات والصور التي تولّدها حين ترتبط عشوائياً مثل كونو Queneau، أو حين يعيد وضعها في قوالب شعرية قديمة، ومنهم من كان مثل فرانسيس بونج[ر] Francis Ponge ينسج قصيدة كاملة انطلاقاً من شيءٍ ما، لاهياً بالصور وتراكيب الكلمات في توليفات ذكية ومفاجئة. والواقع أن الشعر المعاصر لم يعد يؤسس لتيار ولا ينضوي تحت إطار مدرسة معينة، فقد تعددت المواهب الشعرية وسار كل شاعر في اتجاه خاص به، ولذلك يمكن الحديث عموماً عن شعراء الحداثة مثل بيير إيمانويل Pierre Emmanuel وغولڤيك Gullevic وأندريه فرينو André Frénaud وإيڤ بونفوا Yves Bonnefoy وفيليب جاكوتيه Philippe Jaccottet.
في مجال المسرح، وبدءاً من الخمسينيات ظهر تيار العبث[ر] L’Absurde الذي أدهش الجمهور وصدمه وأثار ردود أفعال متباينة لديه، لكنه كان بحقّ المعبّر الأصيل عن وضاعة المصير البشري وعن التساؤلات التي طرحها الإنسان المعاصر عن المنطق والعقل في زمن الصناعة والحروب والدمار. ولاشك في أن تيار العبث كان أيضاً محاولة ناجحة لتجديد بنية ولغة المسرح. ومن الذين أسسوا لتيار العبث القائم على الإضحاك المليء بالمرارة يوجين يونسكو[ر] Eugène Ionesco؛ وصموئيل بيكيت[ر] Samuel Beckett، وهناك أيضاً آرتر آدموف[ر] Arthur Adamov، وجان جينيه[ر] Jean Genet.
لاشك في أن الرواية الفرنسية المعاصرة استطاعت أن تحتل موقعاً مهماً في الأدب العالمي منذ أن ظهر توجه الرواية الجديدة nouveau roman القائم على إعادة النظر في مفهوم الموضوع ورفض البعد النفسي للشخصيات، وعلى تفكيك بنية الرواية لإبراز فعل الكتابة كمكوّن أساسي للمضمون. إن المنظّر الأساسي لهذا التوجه هو بلا منازع آلان روب غرييه Alain Robbe-Grillet الذي كتب دراسات مهمة عن الرواية الجديدة التي رفض أن تكون نظرية ثابتة وإنما بحثاً في الكتابة، كما نفى عن هذه الرواية وظيفة الدلالة على شيء ما جاهز أو سمة العبث، لأنها توجد بحد ذاتها كما هي، أي كرواية. وقد اشتهر من أعماله رواية «المحّايات» Les Gommes عام (1953) و«الغيرة» La Jalousie عام (1957) و«في المتاهة» Dans le labyrinthe عام (1959)، إضافة إلى سيناريو وحوارات الفيلم الذي أخرجه آلان رينيه Alain Resnais عام 1960 تحت اسم «العام الفائت في مارينباد» L’Année dernière à Marienbad ونال شهرة كبيرة كنوع جديد هو السينما - الرواية. هناك أيضاً ميشيل بوتور Michel Butor الذي اشتهرت روايته «التعديل» La Modification عام (1957) كنموذج غني عن البحث الروائي، فقد حافظ فيها على قالب الرواية التقليدية مثل وحدة المكان والزمان وتماسك الحبكة، لكنه في الوقت ذاته استفاد من الاستمرارية الزمنية ليرسم عودة مستمرة إلى الماضي، حيث ترسم الذكريات المتداعية مساحات أخرى زمانية ومكانية تُغْني الرواية وتُفيد في رسم أبعاد الشخصيات على نحو أعمق. هناك أيضاً ناتالي سـاروت[ر] Nathalie Sarraute، ومرغريت دورا[ر] Marguerite Duras.
اغتنت الرواية المعاصرة بفضل الكتابات النظرية والنقدية في مجال نظرية السرد Narratologie، والبنيوية[ر] Structuralisme، والتفكيكية Déconstructivisme. ومن المنابر التي أدت دوراً في إعادة النظر بمفهوم الرواية جذرياً مجلة «تيل كيل» (كما هو) Tel Quel التي جمعت كُتَّاباً مثل جان ريكاردو Jean Ricardou صاحب الدراسة المعنونة «نحو نظرية للرواية الجديدة» Pour une théorie du nouveau roman، وفيليب سوليرز Philippe Sollers الذي أدان الإيديولوجية الإيجابية للرواية الجديدة، التي تراوح بين بقايا البحث النفسي و«الوصفوية» descriptionnisme التي تقوم على التزيين البنيوي، ونادى بإخراج السرد من مجال نسخ الواقع أو المتخيل باتجاه الاستكشاف الحقيقي لعمق وظيفة اللغة. وفي تنظيرهم لما أطلقوا عليه اسم «الرواية الجديدة الجديدة» Nouveau Nouveau Roman أعلن أعضاء هذه المجلة أن البعد الأساسي في الرواية هو اللغة، وأن موضوعها يكمن في شكل بنائها لأن الرواية «ليست كتابة المغامرة وإنما هي مغامرة الكتابة» كما كتب ريكورديل، والكتابة ليست ادعاء إيصال معرفة مسبقة وإنما مشروع استكشاف لأبعاد اللغة كفضاء خاص ومستقل. ولأن اللغة هي المادة الأساسية في الرواية، فإن فعل الكتابة يصبح بحد ذاته دراما، وهذا هو عنوان الرواية التي قدمها فيليب سوليرز كنموذج وحملت اسم «دراما» Drame.
الأدب المكتوب باللغة الفرنسية
هناك أسباب عديدة تبرر اعتماد بعض الكتاب من غير الفرنسيين اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير. من هذه الأسباب، موقع فرنسا الثقافي والفكري الذي جعل منها منذ القرن السابع عشر قبلة المبدعين من أنحاء أوربا. فكما حصل في الفنون التشكيلية حين ضمت مدرسة باريس في النصف الأول من القرن العشرين فنانين أوربيين، كذلك جذبت فرنسا للعيش فيها وللكتابة بلغتها الروماني يوجين يونسكو، والأيرلندي صموئيل بيكيت، والروسي آداموڤ، والإسباني خوسيه سيمبرون José Semprun. من هذه الأسباب أيضاً الماضي الاستعماري الفرنسي الذي جعل من اللغة الفرنسية لغة التعليم والتعبير في بعض بلاد آسيا وإفريقيا. إضافة إلى ذلك فإن اللغة الفرنسية لغة أصيلة في بعض الأجزاء من بلاد أوربية مثل سويسرا وبلجيكا واللوكسمبورغ وموناكو، وفي مقاطعة كيبيك في كندا. ضمن هذا الواقع لابد من الحديث عن أدب فرنسي وأدب مكتوب باللغة الفرنسية له حضوره المهم في الساحة الأدبية العالمية، وهو ما تأكَّد فعلياً مع ظهور مفهوم الفرانكوفونية في الستينيات من القرن العشرين، وتطوره في الزمن الحالي.
لابد من الإشارة أيضاً إلى الدور الذي رسَّخته دُور النشر الفرنسية في تشجيع هذا الأدب ونشره في فترة كان ذلك موقفاً سياسياً اختارته النخبة المثقفة الفرنسية التي دعمت الكتاب الجزائريين الناطقين بالفرنسية أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب، والكتاب الأفارقة الذين استخدموا الفرنسية ليدافعوا عن هويتهم الأصلية أمثال كامارا لاي Camara Laye وشيخ حميدو كان Cheikh Hamidou Kane ومونغو بيتي[ر] Mongo Beti وفرديناند أويونو Ferdinand Oyono، وكل الشعراء الذين جمع ليوبولد سنغور[ر] Léopold Senghor أعمالهم في كتاب قدم له جان بول سارتر عام 1948 وحمل عنوان «مختارات من الشعر الجديد الزنجي والمدغشقري باللغة الفرنسية» Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache de langue française. وبغض النظر عن البعد السياسي الذي ساد في الخمسينيات والستينيات، فإنه لا يمكن نكران اغتناء اللغة الفرنسية بالأعمال الإبداعية المليئة بالخيال التي كتبها مؤلفون من جزر الأنتيل والكتّاب الهاييتيين، إضافة إلى الشاعرين الكبيرين إيميه سيزير[ر] Aimé Césaire من المارتينيك، وسنغور السنغالي. وهناك أيضاً الأدباء الكنديون[ر. كندا] الذين كانت الكتابة بالفرنسية لهم، وضمن النضال من أجل استقلال مقاطعة كيبيك، نوعاً «من العيش، من الدفاع عن الذات، من الاستمرارية» حسب ما يقول الكاتب الكندي ليونل غرولكس Lionel Groulx. كذلك طمح الشاعر غاستون ميرون Gaston Miron والمغني فيليكس لوكلير Félix Leclerc إلى جعل كيبيك وطناً للشعر.
والواقع أن الطابع العالمي الفرنسي والانفتاح الفكري الذي يميز الوسط المثقف جعل الكتاب الفرانكوفونيين أمثال المغربي طاهر بن جلون واللبنانيين جورج شحادة[ر] وأمين معلوف ولو كليزيو Le Clézio من جزر موريشيوس يحتلون مكانة رفيعة في الأدب الفرنسي لأسباب أدبية خالصة. فكتبهم منتشرة ومقروءة على صعيد واسع، وأعمالهم تحصد الجوائز الأدبية، لا بل إن بعضهم وصل لأن يحتل مقعداً في الأكاديمية الفرنسية كما هي حال اللبناني أمين معلوف مؤلف «سمرقند» Samarkand و«الحروب الصليبية كما يراها العرب» Les Croisades vues par les Arabes عام (1983) و«ليون الإفريقي» Léon l’Africain عام (1986) و«صخرة طانيوس» Le Rocher de Tanios عام (1993).
الأدب الفرنسي، أهميته وتأثيره في الآداب العالمية
على الرغم من أن الأدب الفرنسي ليس من أقدم الآداب في العالم ولا أكثرها انتشاراً مقارنة مع الأدب الإسباني أو الأدب الإنكليزي، وعلى الرغم من أن هذا الأدب لم ينجب ما يعادل شكسبير[ر] انتشاراً، ولا دانتي[ر] أهميةً، ولا ثربانتس[ر] تأثيراً، إلا أنه يمتاز بخصوصية تتبدى في السمات الآتية:
ـ الأدب الفرنسي واسع الإطار، موسوعي الطابع، ينفتح على كل الأنواع والأشكال وعلى كل الاختصاصات والإمكانيات فيجعل الطبيب مؤلفاً (كلود برنار) والفيزيائي فيلسوفاً (باسكال) والطيار روائياً (أنطوان دي سانت إكزوبري) وابن التاسعة عشرة شاعراً (رامبو) ما دام ما ينتجه هؤلاء له قيمة ويفيد في تحريك الفكر البشري.
ـ والأدب الفرنسي إنساني الطابع، يقوم على رفض الأفكار المسبقة والقوالب الجامدة، يتحمل الأضداد مادام يوصل إلى تحقيق الخلاصة المولّدة للجديد؛ وهو يتميز بانفتاحه وقبوله للأعمال الجيدة سواء كان أصحابها فرنسيين أم غير فرنسيين، نبلاء أم مشردين، أعضاء في الأكاديمية أم خريجي سجون. ولذا تتجاور فيه النزعاتُ الأكثر تمسكاً بالتقاليد والتوجهاتُ الأكثر غرابة وتطرفاً؛ وفي هذا التجاور غنىً وتعددية وعولمة قبل ظهور التعبير، وبالمعنى الإيجابي للعولمة.
ـ لم يعرف الأدب الفرنسي في تاريخه - عدا استثناءات نادرة - أي منع أو رقابة. فحرية التعبير كانت دائماً السمة الأساسية فيه، وهذا ما يفسر احتضان باريس لمن كانوا ضد سياسة فرنسا الاستعمارية، ودعم مثقفيها لحركات التحرر في العالم، ومساعدة دُور نشرها للمبدعين على اختلاف أصولهم وتوجهاتهم.
ـ الأدب الفرنسي مفتوح على التوجهات الخارجية، يتغذى بأفضل ما أنتجه الفكر البشري من دون أن يعرف انغلاقاً ولا تعصباً. فهو يعترف بتأثيرات التروبادور الأندلسية في الشعر الغنائي، والفلسفة الألمانية في الفكر، وقصائد الهايكو اليابانية في الشعر الحديث، وألف ليلة وليلة في القالب الروائي، والمسرح الإيطالي في الكوميديا، وأعراف مسرح شرق آسيا في الإخراج المسرحي، والمخيلة اللاتينية في الرواية الحديثة. وحتى الكلاسيكية التي كانت أكثر المدارس فرنسيةً في توجهها، كان النموذج الذي انطلقت منه أعمال اليونان والرومان من القدماء.
ـ الأدب الفرنسي بقدر ما يتأثر يؤثِر، فالكلاسيكية الفرنسية وَسَمَت الآداب الروسية والإنكليزية، ورمزية هذا الأدب أغنت التعبيرية الألمانية، وسرياليته انتشرت في كل أوربا، وكان لوجوديته التي صاغها المفكرون في أقبية مونمارتر ومقاهي سان جيرمان دي بري تأثير النار في الهشيم إذ انتقلت إلى العالم بأسره.
تقوم حركة النشر والترجمة بدور مهم في تحقيق الأرضية الضرورية لهذا الانفتاح على العالم، ولعل فرنسا من أكثر بلاد العالم اهتماماً بترجمة الآداب الأجنبية إلى لغتها وبترجمة آدابها إلى لغات العالم بدعم من المؤسسات الحكومية والخاصة، مما يدل على الوعي بأن الأدب يمكن أن يكون جزءاً من السياسة، لكنه بلا شك الجزء الأكثر جمالاً.
حنان قصاب حسن
الأدب
القرون الوسطى: اتفقت الدراسات التاريخية على اعتبار نص «قَسَم ستراسبورغ» Le Serment de Strasbourg الذي ألقاه لويس الجرماني Louis le Germanique عام 842 أقدم نص في الأدب الفرنسي، لأن كل ما سبقه كان مكتوباً باللغة اللاتينية أو مترجماً عنها. لكن البداية الحقيقية للأدب الفرنسي تتوضع في القرن الثاني عشر حين بدأت تظهر أنواع جديدة وأصيلة، منها ما له طابع ملحمي مثل أغاني المآثر Chansons de geste التي تتغنى بسير الأبطال والملوك ومن أشهرها «أغنية رولان» La Chanson de Roland ما بين (1100-1125)، ومنها الأشعار الغنائية التي كان يكتبها ويغنيها الشعراء الجوالون (التروبادور) Troubadours بلغة بلاد الأوك Langue d’Oc والتروڤير Trouvères بلغة بلاد أويل Langue d’Oïl. من أشهر شعراء التروبادور في تلك الفترة غيوم التاسع داكيتين Guillaume IX d’Aquitaine وجوفريه روديل Jauffré Rudel وآرنو دانييل Arnaut Daniel. أخذ الشعر بعد ذلك منحى هجائياً له شكل المساجلة فيما يسمى السيرڤينتيس sirventès، وفيها لمع بيرتران دي بورن Bertrand de Born وبير كاردينال Peire Cardenal. في نهاية القرن الثاني عشر وبداية الثالث عشر بدأ شعراء التروڤير في شمالي فرنسا يكتبون قصائد لها سمة أنيقة مهذبة أخذت تتبلور في أشكال جديدة لتعالج موضوعات متنوعة مثل أغاني النسيج Chanson de toile وأغاني الفجر Aube والرعويات Pastourelle والرومانس Romance والريڤيردي Reverdie، إضافة إلى أغاني الرقصات مثل الباليت Ballette والڤيرليه Virelai والروندو Rondeau. ومن أشهر الشعراء الذين كتبوا ضمن هذه الأشكال يمكن أن يُذكر آدم لو بوسو Adam le Bossu وروتبوف Rutebeuf وجان بوديل Jean Bodel وغي دي كوسي Guy de Coucy. أما شعر الغزل والحب فقد تطور في البلاطات وبين الأمراء والنبلاء مثل تيبو الرابع Thibaud IV كونت مقاطعة شامبانيا الذي كان واحداً من التروڤير.
في تلك الفترة، أخذت ثقافة القرون الوسطى تنحو نحو مزيد من الرهافة والكياسة التي انعكست في الرواية التي كانت تُكتب ضمن حلقات عديدة، يُذكر منها روايات حلقة الملك آرثر Cycle du roi Arthur والروايات التي كتبها كريتيان دي تروا Chrétien de Troyes، ووصايا ماري دي فرانس Les Lais de Marie de France، وحكاية تريستان وإيزولت Tristan et Iseult التي رواها التروڤير توماس Thomas وبيرول Béroul في القرن الثاني عشر. في نهاية القرن الثاني عشر، ظهرت حلقة الكأس المقدس Le Cycle du Saint-Graal ومنها استوحى روبير دي بورون Robert de Boron قصيدة طويلة كان لها دورها في ظهور عدد من السرديات مثل لانسلو دي لاك Lancelot du Lac. في الفترة نفسها ظهر عدد كبير من قصص المغامرات والحب وعلى الأخص «فلوار وبلانشفلور»Floire et Blanchefleur و«أوكاسان ونيكوليت» Aucassin et Nicolette.
لكن المؤلَّف الذي يشغل مكانة متميزة في الأدب الفرنسي في القرون الوسطى، من دون أن ينتمي إلى حلقة معينة هو بحق «قصة رونار» Le Roman de Renart التي كتبت ما بين 1176 و1250 وتميزت بطابعها الشعبي، تتألف من ست وعشرين قصيدة أو «أغصان» حسب التقسيم المتبع في تلك الفترة، وقد كتبها مؤلفون مجهولون. بعد ذلك صارت شخصية رونار (الثعلب) تظهر في كثير من الأعمال اللاحقة مثل «تتويج رونار»Le Couronnement de Renart (القرن الثالث عشر) و«رونار الجديد» Renart le Nouvel التي كتبها في نهاية القرن الثالث عشر جاكومار جيليه Jaquemart Gelée و«رونار المزيف»Renart le contrefait (القرن الرابع عشر). والواقع أن قصص الحيوانات المكتوبة شعراً قديمة في الأدب الفرنسي، وأول ما ظهر منها الحكايات التي كتبها ريشو Richeut في عام 1170. إضافة إلى ما سبق هناك أنواع جديدة ظهرت في القرن الثالث عشر مثل «الأقوال» Les dits وهي مؤلفات موضوعاتها أخلاقية أو مضحكة، وهناك الحكايات ذات البعد الديني مثل «معجزات نوتردام» Les Miracles de Notre-Dame التي كتبها غوتييه دي كوانسي Gautier de Coincy. والواقع أن أعمال ومؤلفات تلك الفترة كانت تحمل في معظمها طابعاً تعليمياً أخلاقياً ينتهي بحكمة وموعظة كما في «أبيات موت هيليلان» Vers de la Mort d‘Héliland عام (1197)؛ أو أنها كانت ترمي إلى تقديم معلومات واسعة عن المعارف الإنسانية كما في «حساب الأعياد والضواري» Le comput et le bestiaire (بدايـة القرن الثاني عشر) لفيليب دي تاون Philippe de Thaon. ولابد أن تُذكر أيضاً أعمال المؤرخين الذين رافقوا الحملات الصليبية كما في نصوص المؤرخ ڤيلهاردوان Villehardouin «قصة الاستيلاء على القسطنطينية» Histoire de la conquête de Constantinople ومؤلف روبير دي كلاري Robert de Clari حول الحدث نفسه. وقد ظهرت كتابة التاريخ الفرنسي مع جوانـڤيل Joinville الذي نصب نفسه مؤرخ البلاد في كتاب «الكلمات المقدسة والأعمال الجيدة لملكنا المقدس لويس» Livre des saintes paroles et des bons faits de notre saint roi Louis نحو (1309).
وكما كانت حال القصة والشعر في فترة القرون الوسطى، تطور المسرح الفرنسي تدريجياً في تمايزه من الأعمال اللاتينية. فقد كانت المسرحيات الدينية الأولى مكتوبة بالنثر اللاتيني مع بعض المقاطع المأخوذة من اللغة المحكية كما في «لعبة العذراوات العاقلات والعذراوات المجنونات» Le Jeu des vierges sages et des vierges folles التي تعود إلى القرن الثاني عشر. مع خروج المسرح إلى باحة الكنيسة وتطور العروض الدينية بدأت النصوص المسرحية المكتوبة باللغة الفرنسية تحل محل مثيلاتها اللاتينية كما في نص «لعبة آدم» Le Jeu d’Adam، ثم في نص «لعبة القديس نيكولا» Le Jeu de Saint Nicholas التي كتبها جان بوديل. في القرن الثالث عشر ظهر نوع درامي جديد هو نصوص المعجزات مثل مسرحية معجزة تيوفيل Le Miracle de Théophile لروتبوف Rutebeuf. في الفترة نفسها بدأ المسرح الفرنسي يشهد ظهور أعمال كوميدية لا تشوبها مسحة دينية مثل «لعبة الخميلة» Le Jeu de la feuillée عام (1262) و«لعبة روبان وماريون» Le Jeu de Robin et de Marion نحو (1283)، وتعدُّ هذه المسرحية التي كانت ترافقها الموسيقى من أقدم أنواع الأوبرا الضاحكة باللغة الفرنسية.
بدءاً من القرن الرابع عشر وفي القرن الخامس عشر بدأ الطابع الغنائي يضعف، في حين أخذت القوالب الشعرية تتبلور وتثبت. من أهم شعراء القرن الخامس عشر شارل دورليان Charles d‘Orléans وفرانسوا ڤيون[ر] François Villon ومن أهم أعماله قصيدتان هما «الْلي (الوصية الصغرى)» Le Lais عام (1456) و«الوصية الكبرى» Le Testament عام (1461).
أما النثر فقد تطور على نحو كبير على شكل وقائع تاريخية ومذكرات ودراسات لها طابع تعليمي وأخلاقي. فقد كتب المؤرخ جان فرواسار Jean Froissart وقائع السنوات الواقعة ما بين 1375 و1400، وكذا فعل فيليب دي كومينس Philippe de Commynes الذي كتب مذكراته التي تغطي فترة 1464 حتى 1498.
في مجال القصة، وبفضل تأثير الرواة الإيطاليين، تغير منحى الحكايات التي لم تعد تروي قصص الحيوان، ولم تعد تُصاغ شعراً وأخذت تنحو منحى الهجاء والسخرية. ومن أشهر الحكايات في تلك الفترة «متع الزواج الخمس عشرة» Les Quinze Joyes de Mariage و«مئة حكاية جديدة» Cent nouvelles nouvelles. وتعدُّ حكاية «الصغير جيهان دي سانتري» Le Petit Jehan de Saintré عام (1451) لمؤلفها أنطوان دي لا سال Antoine de la Sale من الأعمال المتميزة في تلك الفترة.
في مجال المسرح، وإلى جانب مسرحيات المعجزات، ظهر في القرن الخامس عشر نوع مسرحي جديد كان يقدَّم في الاحتفالات الدينية ويتطلَّب إخراجاً معقداً يجذب المتفرجين هو عروض أسرار الآلام Les Mystères de la Passion. والنصوص المكتوبة لعروض الأسرار هي نصوص طويلة جماعية التأليف؛ لأن كل كاتب كان يأخذ ما كتبه المؤلفون السابقون فيضيف إليه ويعدّل فيه، حتى صارت بعض النصوص تصل إلى خمسة عشر ألف بيت من الشعر أو أكثر. إلى جانب هذه العروض الجدية ذات الطابع الديني والأخلاقي، كانت هناك نصوص مسرحية خفيفة تنتمي لأنواع جديدة هي النوع المسمى بالأخلاقيات Les Moralités التي تقوم على التشخيص المجازي للمفاهيم الأخلاقية المجردة، وأشهرها «إدانة مأدبة» La Condamnation de Banquet؛ والنوع المسمى «الحُمقيات» Les Soties التي لا تخلو من السخرية السياسية والاجتماعية وأشهرها «لعبة أمير الحمقى» Le Jeu du Prince des Sots لبيير غرنغور Pierre Gringore؛ والنوع المسمى «الفارْس» أو «المهزلة» Farce، وهي فواصل مضحكة وخفيفة كانت تُقدم داخل العروض الدينية الجدية، وأشهرها «مهزلة المحامي باتلان» La Farce de Maître Pathelin التي لا يُعرف مؤلفها.
القرن السادس عشر: عندما أسس فرانسوا الأول الكوليج دي فرانس عام 1530 كانت الحركة الإنسانية Humanisme قد بدأت تتطور في فرنسا حاملة معها الإعجاب بمنجزات الحضارتين اليونانية والرومانية، كما كانت رياح الإصلاح الديني قد بدأت تفعل فعلها، مما أدى إلى فورة فكرية أدت دورها في تجديد الأدب والفكر والفن. ومن أهم الشخصيات الأدبية في تلك الفترة رابليه[ر] Rabelais. أما في مجال الشعر فكانت تأثيرات عصر النهضة الإيطالي قد بدأت تتبدى مع شعراء مثل كليمان مارو[ر] Clément Marot الذي أدخل إلى الشعر الفرنسي شكل السونيته[ر] Sonnet، والشاعرة لويز لابيه Louise labé التي اشتهرت بقصائدها الغزلية، وموريس سيڤ[ر] Maurice Scève وأنطوان هيرويه Antoine Héroët. وبدأ الأدب منذ عام 1550 ينحو باتجاه خصوصية جديدة لا علاقة لها بالماضي وصارت القطيعة مع القرون الوسطى واضحة المعالم، وأدخلت مجموعة شعراء البلياد[ر] La Pléiade غنائية جديدة كانت فاتحة لشعر جديد. ولابد من ذكر شاعرين مهمين في تلك الفترة وقفا قصائدهما للتعبير عن الضيق من الحروب الدينية، خاصة وأنهما كانا يدينان بالبروتستنتية، وهما أغريبا دوبينيه Agrippa D’Aubigné ودو بارتاس Du Bartas. وقد كان لجو الاضطراب الذي ساد في فرنسا بسبب تلك الحروب دوره في ظهور دراسات جدية حول حرية الفكر والقدرة على الوصول إلى السعادة عن طريق الحكمة، وهو ما ظهر في مجموعة «الدراسات» Essais التي نشرها مونتيني[ر] Montaigne تباعاً منذ 1580.
أما المسرح فقد تراجع مع منع عروض «أسرار الآلام» في 1548، كما توقفت تقريباً كل العروض الشعبية التي كانت قد بدأت تزدهر في القرون الوسطى. لكن المسرح ما لبث أن عاد إلى الظهور من جديد مع أول تراجيديا فرنسية «كليوباترا أسيرة» Cléopâtre Captive التي كتبها إيتين جوديل E.Jodelle، ومع أعمال جاك غري غريڤان Jacques Grevin وروبير غارنييه Robert Garnier اللذين بدأا يبلوران هذا النوع الجديد انطلاقاً من القواعد الجديدة التي بدأا بصياغتها جان دي لا تاي Jean de La Taille حسب النموذج المستمد من القدماء.
القرن السابع عشر: في النصف الأول من القرن السابع عشر، وفي الصالونات الأدبية التي كان يرتادها رجال الأدب والفكر والفن إضافة إلى المتحذلقين والمتحذلقات من المجتمع المخملي، شهد الأدب الفرنسي فترة تميزت بتنوع الاتجاهات ما بين ذائقة الباروك baroque التي تتميز بالحساسية والخيال الجامح وبين العقلانية التي يمثلها الالتزام بالقواعد المستمدة من كلاسيكية قدماء اليونان التي بدأت تفرض نفسها على الكتابة الأدبية. يمثل الاتجاه الأول في الشعر ماتوران رينيه Mathurin Régnier المعروف بهجائه الساخر، وشاعر الرثاء تيوفيل دي ڤيو Théophile de Viau وسانت آمان Saint- Amant وسيرانو دي بيرجراك Cyrano de Bergerac وتريستان ليرميت Tristan l’Hermite ما بين (1601-1655) وسكارون Scarron. أما الاتجاه الثاني فيمثله ماليرب[ر] Malherbe الذي كان يقيّد الغنائية بقيود منظمة كما في مؤلفه «مواساة دوبيرييه» Consolation à Dupérier، الذي سار على خطاه مينار Mainard وراكان Racan. وفي مجال الرواية، صار التوجه واضحاً نحو الرواية العاطفية والمفتعلة؛ فقد كانت رواية «آستريه» Astrée التي كتبها هونوريه دورفيه Honoré d’Urfé مثار إعجاب المجتمع المخملي الذي كانت تسحره اللغة المرصّعة الجميلة، وهذا ما يبرر نجاح كتّاب مثل ڤواتور Voiture وغيز دي بلزاك Guez de Balzac ومادلين دي سكوديري Madeleine de Scudéry.
تأسست الأكاديمية الفرنسية في عام 1635، وأخذت على عاتقها وضع قواعد اللغة والكتابة الأدبية، ونحا الفكر باتجاه المنطق والمنهج العقلاني الذي أرسى قواعده الفيلسوف ديكارت[ر] Descartes، في كتابه الشهير «خطاب حول المنهج» Discours de la Méthode. في مجال المسرح، وإضافة إلى فرق الممثلين الإيطاليين الذين كانوا يقدمون في فرنسا عروض الكوميديا المرتجلة Commedia dell’arte، كانت هناك ثلاث فرق رسمية تقدم عروضها لجمهور بدأ يعتاد ارتياد الصالات ويتذوق الأعمال المسرحية، وخاصة تلك التي تنتمي إلى نوع التراجيكوميديا Tragi-comédie الذي لاقى نجاحاً كبيراً بين المتفرجين لتلاحق الأحداث فيه، ولطابعه المثير وخاتمته المفتوحة. في الفترة نفسها بدأ التوجه نحو الالتزام بالقواعد الكلاسيكية في التراجيديا التي بدأت تشدّ كتاباً أمثال ألكسندر هاردي Alexandre Hardy وميريه Mairet وجان دي روترو Jean de Rotrou وبيير كورني[ر] Pierre Corneille الذي أثارت مسرحيته «السِيد» Le Cid جدلاً واسعاً بين الجمهور وأعضاء الأكاديمية والنقّاد، كانت أهم نتائجه ترسيخ قواعد التراجيديا الصارمة التي كان كورني أول من التزم بها في أعماله اللاحقة مثل «هوراس» Horace عام (1643)، و«سينا» Cinna عام (1643)، وصار بذلك من أفضل كتاب التراجيديا في فرنسا في فترة حكم لويس الثالث عشر.
في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وبفضل الرقابة الصارمة التي مارستها الأكاديميات بتوجيه من الملك لويس الرابع عشر، صارت الكلاسيكية سمة واضحة تتجلى آثارها في كل الأجناس والأنواع الأدبية والفنية عبر الوضوح والتناسب والتناظر والعقلانية والبناء المتين. وهي السمات التي تميز قصائد «قصص الحيوان» Fables التي كتبها جان دي لافونتين[ر] Jean de La Fontaine والمسرحيات الكوميدية الكلاسيكية لموليير[ر] Molière مثل «المتحذلقات السخيفات» Les Précieuses ridicules عام (1660) و«مدرسة النساء» L’École des femmes عام (1664) و«طرطوف»Tartufe عام (1665) و«البرجوازي النبيل»Le Bourgeois gentilhomme عام (1672) و«مريض الوهم» Le Malade imaginaire عام (1673)؛ وتلك التي تقوم على هجاء لاذع للعادات والطباع في كوميديات لوساج Lesage؛ إضافـة إلى المسرحـيات التراجيدية لراسين[ر] Racine مثل «بيرينيس» Bérénice عـام (1672) و«إيفيجيني» Iphigénie عـام (1677) و«فيدر» Phèdre عـام (1689)؛ وكتابات بوالو[ر] Boileau التي تنّظر للأدب الكلاسيكي مثل «فن الشعر» L’Art poétique ما بين (1663-1678)، و«الرسائل» Epîtres عام (1677)؛ وهناك أيضاً الرسائل التي نشرتها مدام دي سيڤينيه[ر] Madame de Sévigné وتحتوي على وصف دقيق للحياة اليومية في البلاط، و«الخطب الدينية» Sermons، و«المرثيات» Oraisons funèbres التي كتبها بوسويه[ر] Bossuet، و«الحكَمْ» Maximes التي كتبها لاروشفوكو[ر] La Rochefoucauld، والدراسات الأدبية التي عرف بها سانت أيڤرومون Saint-Évremond، والكتابات النقدية لعيوب المجتمع التي جمعها لابرويير[ر] La Bruyère تحت عنوان «الطباع» Les Caractères، إضافة إلى الرواية التي كتبتها مدام دي لافاييت[ر] Madame de Lafayette تحت عنوان «أميرة كليڤ» La Princesse de Clève وتُعدُّ بداية لنوع يبرز البُعد النفسي في الطباع لدى رسم الشخصيات.
هذه الغزارة في الإنتاج التي ميَّزت مرحلة تشكّل التيار الكلاسيكي، لم تلبث أن ولّدت في نهاية فترة حكم لويس الرابع عشر جدلاً نقدياً، أُطلق عليه اسم معركة القدماء والمحدثين La Querelle des anciens et des modernes، كان من أقطابها مفكرون ونقاد أمثال فونتينيل[ر] Fontenelle الذي كان يدعم التيار الحديث ومن يمثله كالكاتب بيرو[ر] Perrault، في حين كان بوالو وراسين مع العودة إلى نموذج القدماء.
القرن الثامن عشر: استمر التفاعل النقدي والجمالي الذي ميّز النصف الثاني من القرن السابع عشر، لكنه أخذ في بداية القرن الثامن عشر منحى فلسفياً وسياسياً، خاصة وأن زوال الحكم الملكي المطلق أدى إلى مزيد من الحرية الفكرية والسياسية تجلَّت في النقاشات التي كانت تدور في الصالونات والمقاهي وفي البرلمان والأكاديميات. كان لذلك دوره في ظهور أدب له طابع جديد أقل التزاماً بالقواعد، وفي بروز جيل جديد من الكتاب المفكرين مثل مونتسكيو[ر] Montesquieu الذي كتب «الرسائل الفارسية» Lettres Persanes عام (1721) و«روح القوانين» L’Esprit des Lois عام (1748) ممهداً بذلك الطريق لظهور علم الاجتماع وللمفاهيم الحقوقية الحديثة، وڤولتير[ر] Voltaire صاحب التوجه الليبرالي والإيمان العميق بتطور الفكر وقدرته على محاربة التعصب، وهو ما تجلى بصورة كبيرة في كتاباته الفلسفية وتراجيدياته ورواياته مثل «زاديغ» Zadig عام (1747) و«كانديد» Candide عام (1759)، وفي مؤلفاته التاريخية مثل «عصر لويس الرابع عشر» Le Siècle de Louis XIV عام (1751). أما ديدرو[ر] Diderot فقد أسهم على نحو كبير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في نشر المعرفة الإنسانية والأفكار الفلسفية عبر إدارته لمشروع الموسوعة Encyclopédie مع شركاء عملوا معه بتعاون وثيق من المفكرين والعلماء أمثال دالمبير d’Alembert وهيلڤيتيوس Helvétius ومارمونتيل Marmontel ودولباك d’Holbach. في خضم هذه الأفكار الجديدة والمشروعات المعرفية الضخمة كان الإيمان بالعقل هو المحرك الأساسي لتيارات البحث العلمي والفلسفي والأخلاقي. ومن جانب آخر بدأت ملامح الاهتمام بالحساسية الذاتية وبالتربية الصحيحة، وهذا ما يُلمس في كتاب «إميل» Emile عام (1762) لجان جاك روسو[ر] Jean Jacques Rousseau الذي دعا إلى العودة إلى نقاء الطبيعة وإزالة الفروق الاجتماعية في رواية «هيلوييز الجديدة» La Nouvelle Héloïse عام (1761)، وفي دراسته المعمقة حول المجتمع في «خطاب في أسباب وأسس عدم المساواة بين الناس» Discours sur l’origine et les fondements de l’inégalité parmi les hommes عام (1758) و«العقد الاجتماعي» Le Contrat social عام (1761).
كان لهذا التفاعل الفكري دوره في زعزعة القواعد الصارمة التي رسختها الكلاسيكية، وفي التأسيس لتيارات القرن التاسع عشر وخاصة الإبداعية[ر] (الرومنسية) والواقعية[ر]، وفي تجديد الأنواع الأدبية وتنضيرها بتوجهات جديدة. فقد صارت الرواية على سبيل المثال من الأجناس الأدبية المهمة بعد أن كانت ثانوية في القرن السابع عشر، خاصة وأنها استُخدمت وسيلةً لنقد المجتمع وتعريته كما في رواية «مانون ليسكو» Manon Lescaut عام (1731) التي كتبها الأب بريڤو Prévost، ورواية «جيل بلا» Gil Blas ما بين (1715- 1735) التي كتبها لوساج Lesage، ورواية «بول وڤيرجيني» Paul et Virginie عام (1787) لبرناردان دي سان بيير[ر] Bernardin de Saint Pierre، ورواية «العلاقات الخطرة» Les Liaisons dangereuses عام (1782) التي كتبها كوديرلو دي لاكلو Choderlos de Laclos وروايات ريستيف دي لا بروتون Restif de la Bretonne.
في مجال المسرح، برز اسم ماريڤو Marivaux الذي تميزت مسرحياته العذبة بالعبث المسلي القائم على المقالب المرحة وهو ما يُلحظ في مسرحية «لعبة الحب والمصادفة» Le Jeu de l’amour et du hasard عام (1730)، كما يبرز اسم بومارشيه[ر] Beaumarchais الذي سار على خطى موليير في مسرحيتي «حلاق إشبيلية» Le Barbier de Seville عام (1775) و«زواج فيغارو» Le Mariage de Figaro عام (1748)، وديدرو الذي أسس لنوع مسرحي جديد هو «الدراما المنزلية» Drame domestique الذي يقوم على رفض قاعدة الفصل بين الأنواع. وقد سارت هذه التيارات الجديدة جنباً إلى جنب مع التوجه الكلاسيكي الذي حافظ عليه ڤولتير في تراجيدياته. وفي السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر ظهرت الميلودراما Mélodrame التي لاقت نجاحاً منقطع النظير لدى الجمهور.
أما الشعر فقد تراجعت أهميته في هذا القرن، وفيما عدا القصائد Odes التي كتبها روسو، كانت الأعمال الشعرية مرتبطة بالمناسبات، وهو ما يميز قصائد أندريه شينييه[ر] André Chénier التي كتبها بعد الثورة الفرنسية، وكان يحتفي فيها بالأفكار الجديدة التي سادت في تلك الفترة.
القرن التاسع عشر: ترتبط بداية القرن التاسع عشر بالرومنسية التي جاءت إلى فرنسا متأخرة وحملها إليها الكتاب الذين عاشوا في إنكلترا وألمانيا في أثناء الثورة الفرنسية. فقد كان لمدام دي ستال[ر] Madame de Staël وبنجامان كونستان[ر] Benjamin Constant دورهما في ترسيخ القواعد النظرية للرومنسية، في حين أدى شاتوبريان[ر] Chateaubriand دوراً في رسم صورة البطل الرومنسي في رواية «رُنيه» René عام (1805) وغيرها من الأعمال التي كانت فاتحة لحساسية جديدة ولموضوعات تقوم على التغني بالعزلة والانكفاء على الذات والكآبة والحساسية المفرطة. لكن المنظّر الحقيقي للرومنسية يظل ڤكتور هوغو[ر] Victor Hugo الذي رسم الملامح الأساسية للتوجه الجديد، وعرض الدراما الرومنسية في تعارضها مع التراجيديا الكلاسيكية في مقدمة «كرومويل» Cromwell عام (1827)، وفي مقدمة «هيرناني» Hernani عام (1830)، إضافة إلى قصائده التي كتبها ما بين 1829 و1840 التي كانت مصادر الإلهام فيها متنوعة وغزيرة. والواقع أن الشعر كان المعبّر الأساسي عن الحساسية الرومنسية التي وصلت إلى أوجها مع لامارتين[ر] Lamartine في «التأملات الشعرية»Les Méditations Poétiques عام (1820) التي تضافرت فيها الفلسفة المثالية مع الغنائية العذبة، ومع ألفريد دي ڤينيي[ر] Alfred de Vigny الذي مزج صور تماهيه مع الطبيعة برؤية متشائمة لا تخلو من المرارة. ويمكن درج تيوفيل غوتييه[ر] Théophile Gautier في عداد الشعراء الرومنسيين، إلا أن عنايته بمتانة الأسلوب وبجزالة الصور تبعده قليلاً عن ذلك التيار. وكذا الأمر عند جيرار دي نرفال[ر] Gérard de Nerval الذي كان بحساسيته رومنسياً، لكنه يُعدُّ من الذين فتحوا الباب أمام شكل القصيدة الذي سيعنى به لاحقاً شارل بودلير[ر] Charles Baudelaire وستيفان مالارميه[ر] Stéphane Mallarmé. ولئن كان ألفريد دي موسيه[ر] Alfred de Musset من أوائل الذين شُغفوا بالرومنسية إلا أنه ابتعد فيما بعد عنها ساخراً من الإفراط في الحساسية، ولذلك كان المجال الذي تميّز فيه هو الدراما التاريخية مثل «لورنزانتشو» Lorenzaccio عام (1834) والدراما الكوميدية مثل «نزوات ماريان» Les Caprices de Marianneعام (1833) و«لا مزاح في الحب» On ne badine pas avec l‘amour عام (1834). وقد استطاع موسيه أيضاً أن يستغل الكتابة الروائية للبوح بلواعج نفسه. والواقع أن الرواية قد بدأت تتطور على نحو كبير وتأخذ مناحي متنوعة. ومن كتاب الرواية المهمين في تلك الفترة جورج صاند[ر] George Sand وألكسندر دوما الأب[ر] Alexandre Dumas père الذي ابتكر نوع الرواية المسلسلة المليئة بالمغامرات التاريخية؛ مما كان سبباً في شعبيتها الكبيرة وانتشارها بين القراء. وعلى الرغم من أن أونوريه دي بلزاك[ر] Honoré de Balzac قد خضع في البداية لمؤثرات الرومنسية، إلا أن اسمه يرتبط أساساً بالواقعية التي بدأت تحل محلها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خاصة وأن مجموعة رواياته «الكوميديا البشرية» La Comédie humaine كانت بمنزلة عرض حي وواقعي لنماذج حقيقية من المجتمع الفرنسي في تلك الفترة. أما ستندال[ر] Stendhal فكانت روايته «الأحمر والأسود» Le Rouge et le noir عام (1831) من المعالم المهمة في تطور الرواية الحديثة لما فيها من دقة التحليل للعواطف والرغبات. ولا يُغفل في هذا المجال بروسبير ميريميه Prospère Mérimée الذي درج على كتابة القصة القصيرة ومن أشهرها «كولومبا» Colomba عام (1840) و«كارمن» Carmen عام (1845).
تطور النقد الأدبي أمام هذا التجديد الملموس في الكتابة وفي التعامل مع الأجناس والأنواع الأدبية، وهناك في كتابات سانت بوف[ر] Sainte-Beuve نموذج معبر عن التوجهات النقدية في تلك الفترة. ولئن حاول بعض الشعراء من الجيل الجديد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن يجاروا التوجهات الجديدة في قصائد أقل ذاتية من تلك التي كتبها الرومنسيون، فإن شعرهم كان أكثر جزالة لكنه أقل تأثيراً ويفتقد إلى الجذوة الإبداعية التي ميَّزت أعمال الجيل القديم. من هؤلاء يُذكر مؤسس مدرسة البارناس Parnasse الشعرية لوكونت دي ليل[ر] Leconte de Lisle، كان من أعضائها الشاعران تيودور دي بانڤيل Théodore de Banville وسوللي برودوم Sully Prudhomme؛ ولذلك كان لابد من انتظار شارل بودلير وديوانه «أزهار الشر» Les Fleurs du mal عام (1857) لتجديد الإرث الشعري الرومنسي بغنائية حديثة وأصيلة سرعان ما استفاد منها رامبو[ر] Rimbaud وڤيرلين[ر] Verlaine، اللذان استطاعا بتحررهما من القواعد واعتمادهما تقنية شعرية مغايرة أن يؤسسا للشعر الحديث. وهنا لابد من ذكر الشاعر لوتريامون[ر] Lautréamont الذي عدّه النقد الحديث من رواد الحداثة[ر] لما كان لديه من نظرة جديدة إلى العالم، وكتابيه المتميزين الغريبين «أناشيد مالدورور» Les Chants de Maldoror (بدأ بنشر أجزاء منه في 1868 وطبع كاملاً في 1890 بعد موت الشاعر)، و«أشعار» Poésies عام (1870).
في مسرح النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت ردة الفعل ضد الدراما الرومنسية قوية أيضاً، ولذلك حلَّت محلها على الخشبة مسرحيات تدافع عن القضايا الاجتماعية كما في أعمال ألكسندر دوما الابن[ر] Alexandre Dumas fils وأوجييه Augier. كذلك ظهرت أشكال جديدة أكثر ملاءمة لذوق البرجوازية الصاعدة التي كانت تميل إلى حضور الكوميديات الخفيفة التي برع فيها أوجين لابيش Eugène Labiche، إضافة إلى المسرحيات الموسيقية المرحة مثل الأوبريت Opérette وعروض المنوعات مثل الڤودڤيل Vaudeville التي كانت تقدم فيما يسمى بمسرح البولڤار[ر] Théâtre de boulevard، الذي استمر شكلاً مستقلاً وبنجاح كبير حتى هذا اليوم.
لم يكن عزوف الكتّاب والمفكرين عن الرومنسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر غريباً، فقد عرفت تلك الفترة منعطفاً حاداً على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، فقد أخفقت ثورة 1848، وبدأت الثورة الصناعية ترسم شروخاً عميقة في المجتمع الذي عرف انقساماً حاداً ما بين الأغنياء والفقراء، فتفاقمت المشكلات الاجتماعية وتزايد البؤس الإنساني الذي بدأ يأخذ مظاهر مرعبة. كانت نتيجة ذلك أن سادت بين الكتاب والمفكرين والشعراء موجة من اليأس والتشكيك بالتيار الرومنسي وما يحمله من غنائية مفرطة وانكفاء على لواعج النفس، في وقت كان لابد للكتابة أن تكون أكثر ارتباطاً بالهموم الاجتماعية كما في رواية هوغو «البؤساء» Les Misérables عام (1862). من هذا المنطلق أيضاً كانت الواقعية الروائية التي وضع أسسها بلزاك قد بدأت تجذب كتاباً آخرين مثل فلوبير[ر] Flaubert الذي كتب رواية «مدام بوڤاري» Madame Bovary عام (1857) التي تعد من روائع الرواية الفرنسية، ومثل إدمون دي غونكور Edmond de Goncourt وأخيه جول دي غونكور[ر. غونكور (الأخوان - )] Jules de Goncourt اللذين بدأا بتمهيد الطريق أمام الطبيعية[ر] Naturalisme.
تأثرت الطبيعية التي ترسخت في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بالتطور العلمي وبالفكر التجريبي، كما عكست أحوال الطبقة المسحوقة والبؤس الذي كانت تعيش فيه، وهذا ما يتبدى بصورة كبيرة في أعمال مؤسس التيار إميل زولا[ر] Emile Zola الذي جمع سلسلة من الروايات في عشرين مجلداً حملت عنوان «روغون ماكار» Les Rougon-Macquart ما بين (1871-1893) فكانت بمنزلة تصوير دقيق وصادق لأحوال المجتمع. وبالمنحى نفسه كانت «الحكايات» Le Contes التي كتبها غي دي موباسان[ر] Guy de Maupassant صورة عن تأثر الكاتب بالآلام التي يولّدها الفقر والعمل الشاق. ولقد كان من المنطقي أن يتلازم تيار الطبيعية المنهجي والعلمي بتيار معاكسٍ له توجّه روحاني تبدى في روايات ويسمانس[ر] Huysmans وألفونس دوديه Alphonse Daudet. أما أعمال أناتول فرانس[ر] Anatole France فكانت متميزة، لماحة وذكية، تذكر نوعاً ما بأسلوب ڤولتير.
في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد أن تحرر الشعر من القوالب الصارمة، ظهر توجه نحو خلق لغة شعرية تجلت في المدرسة الرمزية[ر] Symbolisme التي يمثلها مالارميه وأتباعه، مثل ألبير سامان Albert Samain وفرانسيس جيمس Francis James وبول فور Paul Fort.
القرن العشرون: مما سبق يتضح أن الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين لم يكن قطيعة، وإنما تطور تجلى عبر تعدد التوجهات التي رسّخها الجيل الأخير من الكتاب والشعراء، واستمرت في تنوعها دون أن تتحد في مدرسة محددة أو تيار واضح المعالم. فقد حرر الشاعر أبولينير[ر] Apollinaire قصيدته من ثقل البلاغة، ووسم بول كلوديل[ر] Paul Claudel أعماله بنفحة غنائية لها طابع ديني، في حين عكست دراسات وقصائد شارل بيغي[ر] Charles Péguy هاجساً اجتماعياً له بعد ديني، أما قصائد بول ڤاليري[ر] Paul Valéry فقد صورت هاجس الشاعر المفكر.
في مجال الرواية، عُرف الكاتب آلان فورنييه[ر] Alain Fournier بروايته «مولن الكبير» Le Grand Meaulnes، وكتب رومان رولان[ر] Romain Rolland رواية طويلة تغطي أجيالاً عدة حملت عنوان «جان كريستوف» Jean Christophe ما بين (1904-1912). لكن أهم الروائيين في تلك الفترة يظل مارسيل بروست[ر] Marcel Proust الذي جدد تقنية الكتابة الروائية وفتح الباب واسعاً أمام التداعيات ووصف الأحاسيس والمشاعر في لغة تتلون بتلون الانطباعات المتولدة من الصور والأصوات والروائح. وتعد مجموعته الضخمة «البحث عن الزمن المفقود» A recherche du temps perdu التي تضم سلسلة من الروايات المترابطة التي تدور حول شخصية الراوي والعالم الذي يعيش فيه، نقطة مهمة في تاريخ الرواية العالمية.
فترة ما بين الحربين: كان للحربين العالميتين اللتين اندلعتا في أوربا دور مهم في توجيه فكر وحساسية ووعي الكتاب والمفكرين الفرنسيين. وقد تجلى تأثير الحرب في ظهور تيارات عدمية هدمت كل الثوابت التي قامت عليها الحضارة الغربية، وطرحت تجاور الصور المتنافرة في توليفة تشبه ما يحصل في الحلم، خاصة وأن أبحاث فرويد[ر] Freud حول دور اللاوعي في توجيه الإبداع نالت رواجاً كبيراً وفتحت الباب أمام أشكال تعبير جديدة وموضوعات مبتكرة لم يعرفها الأدب من قبل. من هذه التيارات الدادائية[ر] Dadaïsme والسريالية[ر] Surréalisme التي تجلت في مجال الشعر بحرية كاملة لا يحدّها شيء، وبعبثية التداعيات والربط بين الكلمات. ولئن كان بول إيلوار[ر] Paul Eluard ولوي آراغون[ر] Louis Aragon قد سايرا هذا التوجه في بداياتهما، إلا أنهما سرعان ما انفصلا عنه ليكملا المسيرة الشعرية في اتجاه مختلف تماماً. كذلك استطاع سان جون بيرس[ر] Saint- John Perse ورُنيه شار[ر] René Char وجاك بريڤير[ر] Jacques Prévertبأعمالهم إيجاد مكانة مهمة في الشعر الفرنسي الحديث من دون الانتماء لأي من المدارس.
في مجال الرواية، صار هناك توجه لرسم لوحة تفصيلية تكون شاهداً على العصر كما فعل روجيه مارتان دي غار Roger Martin du Gard الذي كتب «عائلة تيبو» Les Thibauld، وجورج دوهاميل Georges Duhamel الذي كتب وقائع «حياة عائلة باسكيية» La Chronique des Pasquier، وجول رومان[ر] Jules Romain في«رجال العزيمة» Les Hommes de bonne volonté ما بين (1932-1947). أما جورج برنانوسGeorges Bernanos وفرانسوا مورياك[ر] François Mauriac وجوليان غرين Julien Green فكان البحث الروائي لديهم ينصب على الدوافع النفسية للشخصيات. وفي المنحى نفسه يهتم أندريه مالرو[ر] André Malraux بالدوافع نفسها التي تحرك الأفعال لكن في إطار العمل الثوري كما يبدو من روايته «الوضع البشري» La Condition humaine عام (1933). يُذكر في مجال الرواية أيضاً أندريه جيد[ر] André Gide وجان جيونو[ر] Jean Giono وأندريه موروا[ر] André Maurois وأنطوان دي سانت إكزوبري[ر] Antoine de Saint-Exupéry ومارسيل بانيول Marcel Pagnol.
أما المسرح، فقد عرف وثبة مهمة مع ظهور بدايات الإخراج والاهتمام بشكل العرض والأداء، لذلك نجد في بداية القرن أسماء ممثلين مخرجين وقفوا جهودهم لبناء حركة مسرحية جديدة تربط العرض بالجماهير الواسعة بعد أن كان المسرح يقتصر على الطبقة المثقفة والغنية. إلى جانب هؤلاء الفنانين الذين نضّروا الممارسة المسرحية، كان هناك كتاب مسرح موهوبون عادوا إلى التراجيديا الكلاسيكية؛ ليعيدوا طرح مسألة القدر ومأساوية الحياة على ضوء الأحداث المؤلمة التي خلفتها الحرب. من هؤلاء الكتاب المسرحيين يُذكر جان جيرودو[ر] Jean Giraudoux وجان آنوي[ر] Jean Anouilh وجان كوكتو[ر] Jean Cocteau وآرمان سالاكرو Armand Salacroux مؤلف مسرحية «ليالي الغضب» Nuits de colère عام (1946)، وهنري دي مونترلان Henri de Montherlant، وبول كلوديل، إضافة إلى كتاب كوميديين نالت مسرحياتهم شعبية كبيرة بين الجمهور أمثال ساشا غيتري Sacha Guitry ومارسيل آشار Marcel Achar.
إن الفلاسفة الذين تركوا بصماتهم في الحركة الفكرية اختاروا هم أيضاً أن يكتبوا في مجال الرواية والمسرح ليعرضوا أفكارهم، وهذا ما فعله فيلسوف الوجودية جان بول سارتر[ر] Jean-Paul Sartre الذي طرح فكرة حرية ومسؤولية الإنسان والتعارض بين السلطة والمبادئ الأخلاقية، وكذلك فعل ألبير كامو[ر] Albert Camus وسيمون دي بوفوار[ر] Simone de Beauvoir وفرانسواز ساغان[ر] Françoise Sagan.
النصف الثاني من القرن العشرين: في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية حتى نهاية القرن العشرين، وبعد أن حاول الشعر الفرنسي، بتأثير الأحداث السياسية العاصفة، مواكبة الحدث وعكس الواقع ضمن القصيدة الملتزمة، أخذ بدءاً من الخمسينيات منحى أكثر ارتباطاً بالدواخل وتلافيف اللاوعي طارحاً مسائل وجودية وفلسفية مهمة. على صعيد الشكل تحررت القصيدة نهائياً من قوالب القافية والوزن وأخذت أشكالاً حرة مع توجه تصويري يجعل من شكل القصيدة المرئي بنية تتوافق مع حرية الصور واللغة، وهذا ما تجلى في أعمال هنري ميشو[ر] Henri Michaux، وبيير ريڤيردي Reverdy الذي عُرف بتكثيف المقاطع الصوتية واللعب بالإيقاعات والعودة إلى نقاء اللغة ورفض الإبهام؛ وبيير جان جوڤ[ر] Pierre-Jean Jouve. ومن الشعراء من اختار أن يحطم بنية اللغة كاملة ليستكشف أبعاد الكلمات والصور التي تولّدها حين ترتبط عشوائياً مثل كونو Queneau، أو حين يعيد وضعها في قوالب شعرية قديمة، ومنهم من كان مثل فرانسيس بونج[ر] Francis Ponge ينسج قصيدة كاملة انطلاقاً من شيءٍ ما، لاهياً بالصور وتراكيب الكلمات في توليفات ذكية ومفاجئة. والواقع أن الشعر المعاصر لم يعد يؤسس لتيار ولا ينضوي تحت إطار مدرسة معينة، فقد تعددت المواهب الشعرية وسار كل شاعر في اتجاه خاص به، ولذلك يمكن الحديث عموماً عن شعراء الحداثة مثل بيير إيمانويل Pierre Emmanuel وغولڤيك Gullevic وأندريه فرينو André Frénaud وإيڤ بونفوا Yves Bonnefoy وفيليب جاكوتيه Philippe Jaccottet.
في مجال المسرح، وبدءاً من الخمسينيات ظهر تيار العبث[ر] L’Absurde الذي أدهش الجمهور وصدمه وأثار ردود أفعال متباينة لديه، لكنه كان بحقّ المعبّر الأصيل عن وضاعة المصير البشري وعن التساؤلات التي طرحها الإنسان المعاصر عن المنطق والعقل في زمن الصناعة والحروب والدمار. ولاشك في أن تيار العبث كان أيضاً محاولة ناجحة لتجديد بنية ولغة المسرح. ومن الذين أسسوا لتيار العبث القائم على الإضحاك المليء بالمرارة يوجين يونسكو[ر] Eugène Ionesco؛ وصموئيل بيكيت[ر] Samuel Beckett، وهناك أيضاً آرتر آدموف[ر] Arthur Adamov، وجان جينيه[ر] Jean Genet.
لاشك في أن الرواية الفرنسية المعاصرة استطاعت أن تحتل موقعاً مهماً في الأدب العالمي منذ أن ظهر توجه الرواية الجديدة nouveau roman القائم على إعادة النظر في مفهوم الموضوع ورفض البعد النفسي للشخصيات، وعلى تفكيك بنية الرواية لإبراز فعل الكتابة كمكوّن أساسي للمضمون. إن المنظّر الأساسي لهذا التوجه هو بلا منازع آلان روب غرييه Alain Robbe-Grillet الذي كتب دراسات مهمة عن الرواية الجديدة التي رفض أن تكون نظرية ثابتة وإنما بحثاً في الكتابة، كما نفى عن هذه الرواية وظيفة الدلالة على شيء ما جاهز أو سمة العبث، لأنها توجد بحد ذاتها كما هي، أي كرواية. وقد اشتهر من أعماله رواية «المحّايات» Les Gommes عام (1953) و«الغيرة» La Jalousie عام (1957) و«في المتاهة» Dans le labyrinthe عام (1959)، إضافة إلى سيناريو وحوارات الفيلم الذي أخرجه آلان رينيه Alain Resnais عام 1960 تحت اسم «العام الفائت في مارينباد» L’Année dernière à Marienbad ونال شهرة كبيرة كنوع جديد هو السينما - الرواية. هناك أيضاً ميشيل بوتور Michel Butor الذي اشتهرت روايته «التعديل» La Modification عام (1957) كنموذج غني عن البحث الروائي، فقد حافظ فيها على قالب الرواية التقليدية مثل وحدة المكان والزمان وتماسك الحبكة، لكنه في الوقت ذاته استفاد من الاستمرارية الزمنية ليرسم عودة مستمرة إلى الماضي، حيث ترسم الذكريات المتداعية مساحات أخرى زمانية ومكانية تُغْني الرواية وتُفيد في رسم أبعاد الشخصيات على نحو أعمق. هناك أيضاً ناتالي سـاروت[ر] Nathalie Sarraute، ومرغريت دورا[ر] Marguerite Duras.
اغتنت الرواية المعاصرة بفضل الكتابات النظرية والنقدية في مجال نظرية السرد Narratologie، والبنيوية[ر] Structuralisme، والتفكيكية Déconstructivisme. ومن المنابر التي أدت دوراً في إعادة النظر بمفهوم الرواية جذرياً مجلة «تيل كيل» (كما هو) Tel Quel التي جمعت كُتَّاباً مثل جان ريكاردو Jean Ricardou صاحب الدراسة المعنونة «نحو نظرية للرواية الجديدة» Pour une théorie du nouveau roman، وفيليب سوليرز Philippe Sollers الذي أدان الإيديولوجية الإيجابية للرواية الجديدة، التي تراوح بين بقايا البحث النفسي و«الوصفوية» descriptionnisme التي تقوم على التزيين البنيوي، ونادى بإخراج السرد من مجال نسخ الواقع أو المتخيل باتجاه الاستكشاف الحقيقي لعمق وظيفة اللغة. وفي تنظيرهم لما أطلقوا عليه اسم «الرواية الجديدة الجديدة» Nouveau Nouveau Roman أعلن أعضاء هذه المجلة أن البعد الأساسي في الرواية هو اللغة، وأن موضوعها يكمن في شكل بنائها لأن الرواية «ليست كتابة المغامرة وإنما هي مغامرة الكتابة» كما كتب ريكورديل، والكتابة ليست ادعاء إيصال معرفة مسبقة وإنما مشروع استكشاف لأبعاد اللغة كفضاء خاص ومستقل. ولأن اللغة هي المادة الأساسية في الرواية، فإن فعل الكتابة يصبح بحد ذاته دراما، وهذا هو عنوان الرواية التي قدمها فيليب سوليرز كنموذج وحملت اسم «دراما» Drame.
الأدب المكتوب باللغة الفرنسية
هناك أسباب عديدة تبرر اعتماد بعض الكتاب من غير الفرنسيين اللغة الفرنسية وسيلة للتعبير. من هذه الأسباب، موقع فرنسا الثقافي والفكري الذي جعل منها منذ القرن السابع عشر قبلة المبدعين من أنحاء أوربا. فكما حصل في الفنون التشكيلية حين ضمت مدرسة باريس في النصف الأول من القرن العشرين فنانين أوربيين، كذلك جذبت فرنسا للعيش فيها وللكتابة بلغتها الروماني يوجين يونسكو، والأيرلندي صموئيل بيكيت، والروسي آداموڤ، والإسباني خوسيه سيمبرون José Semprun. من هذه الأسباب أيضاً الماضي الاستعماري الفرنسي الذي جعل من اللغة الفرنسية لغة التعليم والتعبير في بعض بلاد آسيا وإفريقيا. إضافة إلى ذلك فإن اللغة الفرنسية لغة أصيلة في بعض الأجزاء من بلاد أوربية مثل سويسرا وبلجيكا واللوكسمبورغ وموناكو، وفي مقاطعة كيبيك في كندا. ضمن هذا الواقع لابد من الحديث عن أدب فرنسي وأدب مكتوب باللغة الفرنسية له حضوره المهم في الساحة الأدبية العالمية، وهو ما تأكَّد فعلياً مع ظهور مفهوم الفرانكوفونية في الستينيات من القرن العشرين، وتطوره في الزمن الحالي.
لابد من الإشارة أيضاً إلى الدور الذي رسَّخته دُور النشر الفرنسية في تشجيع هذا الأدب ونشره في فترة كان ذلك موقفاً سياسياً اختارته النخبة المثقفة الفرنسية التي دعمت الكتاب الجزائريين الناطقين بالفرنسية أمثال كاتب ياسين ومحمد ديب، والكتاب الأفارقة الذين استخدموا الفرنسية ليدافعوا عن هويتهم الأصلية أمثال كامارا لاي Camara Laye وشيخ حميدو كان Cheikh Hamidou Kane ومونغو بيتي[ر] Mongo Beti وفرديناند أويونو Ferdinand Oyono، وكل الشعراء الذين جمع ليوبولد سنغور[ر] Léopold Senghor أعمالهم في كتاب قدم له جان بول سارتر عام 1948 وحمل عنوان «مختارات من الشعر الجديد الزنجي والمدغشقري باللغة الفرنسية» Anthologie de la nouvelle poésie nègre et malgache de langue française. وبغض النظر عن البعد السياسي الذي ساد في الخمسينيات والستينيات، فإنه لا يمكن نكران اغتناء اللغة الفرنسية بالأعمال الإبداعية المليئة بالخيال التي كتبها مؤلفون من جزر الأنتيل والكتّاب الهاييتيين، إضافة إلى الشاعرين الكبيرين إيميه سيزير[ر] Aimé Césaire من المارتينيك، وسنغور السنغالي. وهناك أيضاً الأدباء الكنديون[ر. كندا] الذين كانت الكتابة بالفرنسية لهم، وضمن النضال من أجل استقلال مقاطعة كيبيك، نوعاً «من العيش، من الدفاع عن الذات، من الاستمرارية» حسب ما يقول الكاتب الكندي ليونل غرولكس Lionel Groulx. كذلك طمح الشاعر غاستون ميرون Gaston Miron والمغني فيليكس لوكلير Félix Leclerc إلى جعل كيبيك وطناً للشعر.
والواقع أن الطابع العالمي الفرنسي والانفتاح الفكري الذي يميز الوسط المثقف جعل الكتاب الفرانكوفونيين أمثال المغربي طاهر بن جلون واللبنانيين جورج شحادة[ر] وأمين معلوف ولو كليزيو Le Clézio من جزر موريشيوس يحتلون مكانة رفيعة في الأدب الفرنسي لأسباب أدبية خالصة. فكتبهم منتشرة ومقروءة على صعيد واسع، وأعمالهم تحصد الجوائز الأدبية، لا بل إن بعضهم وصل لأن يحتل مقعداً في الأكاديمية الفرنسية كما هي حال اللبناني أمين معلوف مؤلف «سمرقند» Samarkand و«الحروب الصليبية كما يراها العرب» Les Croisades vues par les Arabes عام (1983) و«ليون الإفريقي» Léon l’Africain عام (1986) و«صخرة طانيوس» Le Rocher de Tanios عام (1993).
الأدب الفرنسي، أهميته وتأثيره في الآداب العالمية
على الرغم من أن الأدب الفرنسي ليس من أقدم الآداب في العالم ولا أكثرها انتشاراً مقارنة مع الأدب الإسباني أو الأدب الإنكليزي، وعلى الرغم من أن هذا الأدب لم ينجب ما يعادل شكسبير[ر] انتشاراً، ولا دانتي[ر] أهميةً، ولا ثربانتس[ر] تأثيراً، إلا أنه يمتاز بخصوصية تتبدى في السمات الآتية:
ـ الأدب الفرنسي واسع الإطار، موسوعي الطابع، ينفتح على كل الأنواع والأشكال وعلى كل الاختصاصات والإمكانيات فيجعل الطبيب مؤلفاً (كلود برنار) والفيزيائي فيلسوفاً (باسكال) والطيار روائياً (أنطوان دي سانت إكزوبري) وابن التاسعة عشرة شاعراً (رامبو) ما دام ما ينتجه هؤلاء له قيمة ويفيد في تحريك الفكر البشري.
ـ والأدب الفرنسي إنساني الطابع، يقوم على رفض الأفكار المسبقة والقوالب الجامدة، يتحمل الأضداد مادام يوصل إلى تحقيق الخلاصة المولّدة للجديد؛ وهو يتميز بانفتاحه وقبوله للأعمال الجيدة سواء كان أصحابها فرنسيين أم غير فرنسيين، نبلاء أم مشردين، أعضاء في الأكاديمية أم خريجي سجون. ولذا تتجاور فيه النزعاتُ الأكثر تمسكاً بالتقاليد والتوجهاتُ الأكثر غرابة وتطرفاً؛ وفي هذا التجاور غنىً وتعددية وعولمة قبل ظهور التعبير، وبالمعنى الإيجابي للعولمة.
ـ لم يعرف الأدب الفرنسي في تاريخه - عدا استثناءات نادرة - أي منع أو رقابة. فحرية التعبير كانت دائماً السمة الأساسية فيه، وهذا ما يفسر احتضان باريس لمن كانوا ضد سياسة فرنسا الاستعمارية، ودعم مثقفيها لحركات التحرر في العالم، ومساعدة دُور نشرها للمبدعين على اختلاف أصولهم وتوجهاتهم.
ـ الأدب الفرنسي مفتوح على التوجهات الخارجية، يتغذى بأفضل ما أنتجه الفكر البشري من دون أن يعرف انغلاقاً ولا تعصباً. فهو يعترف بتأثيرات التروبادور الأندلسية في الشعر الغنائي، والفلسفة الألمانية في الفكر، وقصائد الهايكو اليابانية في الشعر الحديث، وألف ليلة وليلة في القالب الروائي، والمسرح الإيطالي في الكوميديا، وأعراف مسرح شرق آسيا في الإخراج المسرحي، والمخيلة اللاتينية في الرواية الحديثة. وحتى الكلاسيكية التي كانت أكثر المدارس فرنسيةً في توجهها، كان النموذج الذي انطلقت منه أعمال اليونان والرومان من القدماء.
ـ الأدب الفرنسي بقدر ما يتأثر يؤثِر، فالكلاسيكية الفرنسية وَسَمَت الآداب الروسية والإنكليزية، ورمزية هذا الأدب أغنت التعبيرية الألمانية، وسرياليته انتشرت في كل أوربا، وكان لوجوديته التي صاغها المفكرون في أقبية مونمارتر ومقاهي سان جيرمان دي بري تأثير النار في الهشيم إذ انتقلت إلى العالم بأسره.
تقوم حركة النشر والترجمة بدور مهم في تحقيق الأرضية الضرورية لهذا الانفتاح على العالم، ولعل فرنسا من أكثر بلاد العالم اهتماماً بترجمة الآداب الأجنبية إلى لغتها وبترجمة آدابها إلى لغات العالم بدعم من المؤسسات الحكومية والخاصة، مما يدل على الوعي بأن الأدب يمكن أن يكون جزءاً من السياسة، لكنه بلا شك الجزء الأكثر جمالاً.
حنان قصاب حسن