اسره
Family - Famille
الأسرة
قد لا تفوق سواسية الناس بانتمائهم إلى أسرهم إلا سواسيتهم بالولادة والموت، فلا يخلو امرؤ من التعرض لآثار أسرية في حياته. وليس أدلّ على كلّية الأسرة وانتظامها الحياة الإنسانية من اشتداد الحاجة إليها أو إلى بدائلها عند فقدها. وما ذلك إلا لأن الأسرة تستجيب لنوازع حيوية عند الإنسان اقتضت وجودها واستمرارها حتى غدت عرفاً ثابتاً ومؤسسة راسخة لا يستغنى عنها.
لقد تنبّه الفلاسفة والمفكرون والمصلحون الاجتماعيون منذ أمد بعيد على أهمية الأسرة، وأدركوا أن المجتمع مؤلف من أسر، وأن التنظيمات الاجتماعية الأخرى تعتمد على نتاجها، فظفرت في نظرياتهم ومشروعاتهم الإصلاحية بنصيب وافر.
تعريف الأسرة
اشتق لفظ «الأُسرة» family من الأَسْر، وهو التقييد أو الشدّ بالإسار، والأسرة هي الدرع الحصينة أيضاً، فهو يتضمن إذن معنيي الإحكام والقوة. وقد أُطلق لفظ الأسرة على عشيرة الإنسان ورهطه الأدنين، لأن الصلات القوية التي توحّد أعضاءها وتحول دون تشتتهم تشبه الإسار الذي يقيّد الأسير، ولأنها توفّر لأعضائها الحماية وأسباب القوة والمنعة بما يتولد من اجتماعهم من تعاون وتناصر وتوادّ وتراحم.
أما اللفظة المولّدة «العائلة» التي تعدّ أقرب مرادف «للأسرة» فتقوم على أصل لغوي آخر، وعيال المرء هم الذين يتدبر أمرهم ويكفل عيشهم.
ومع ازدهار العلوم الاجتماعية في الحقبة الحديثة ووفرة الدراسات العلمية للأسرة صيغت تعريفات كثيرة للأسرة، لكن قسماً كبيراً منها وقع ضحية النظرة الواحدية الجانب أو جاء مخلاً بشروط التعريف العلمي المتمثلة بالشمول والدقة والصحة والموضوعية.
ولعلّ أفضل تعريف للأسرة أنها جماعة من الناس توحدّهم صلات قربى قوية قائمة على روابط الدم أو الزواج أو التبنّي والادعاء، وتجمعهم روابط العيش المشترك الذي تُراوح أنشطته بين اللهو وتمضية وقت الفراغ والعمل وتناول الغذاء والإقامة والتعاون والثقة والسكنى في دار واحدة. وقد انبثقت هذه الجماعة في ظروف الحياة الطبيعية والاجتماعية للإنسان، لتؤدي وظائف ضرورية لكل من الفرد والمجتمع، أقلها الإشباع العاطفي لأفرادها، وتوفير وضع ملائم للتعاون الاقتصادي والتواصل الجنسي والتناسل ورعاية الذرية والحفاظ على مظاهر الحضارة ونقلها من جيل إلى آخر. فتلتقي من خلال الأسرة مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ويصبح هذا المجتمع الصغير ضامناً شؤون حياة الزوجين ونشأة الأولاد وإعدادهم وانتظام بقاء النوع الإنساني. وللأسرة حجم يكبر أو يصغر، ودورة حياة تطول أو تقصر، ولها نطاق من ذوي القربى يتوسع أو يضيق، وطرائق لاكتساب العضوية، يتبدّل التركيز عليها بتبدّل الحال واختلاف المكان والزمان. وللأسرة أشكال متنوعة مختلفة في بناها ووظائفها وأساليب تكونها ونمط علاقاتها الداخلية والخارجية نشأت في غضون التطور الاجتماعي.
وظائف الأسرة
الأسرة كيان رُتّبت عناصره بطريقة تمكّنه من أداء جملة وظائف يُعدّ إنجازها ضرورياً على صعيدي الفرد والمجتمع، وفي مقدمة هذه الوظائف أنها تهيئ وضعاً ملائماً للتكاثر ورعاية الذرية وتربيتهم وتنشئتهم اجتماعياً، فتحفظ حياة الكائن الإنساني ـ هذا الكائن الذي تطول عنده مدة العجز وسير عملية النضج، والذي تحتاج جملته العصبية المتطورة إلى زمن طويل نسبياً من الرعاية والتعلّم لاكتساب مهارات الحياة ـ وتضمن بقاء النوع البشري واستمرار المجتمع. ومن وظائف الأسرة الأُخر أنها جماعة تمد أعضاءها بالإشباع العاطفي والسكن النفسي، وتضطلع بتنظيم غريزة الحب بين الجنسين وضبطها ـ وهذا ضروري لكل من الفرد والمجتمع كما أشير من قبل.
وما خلا ذلك من وظائف تنسب إلى الأسرة تكون إما متضمّنة في الوظائف الأساسية الآنفة الذكر ومتممة لها، وإمّا ثانوية تقوم بها الأسرة نيابة عن مؤسسات اجتماعية أُخر، كالمهام التي تضطلع بها بوصفها الوحدة الأساسية في المجتمع للعمل والإنتاج والاستهلاك وممارسة الشعائر الدينية والمقاضاة وحلّ الخلافات وتوفير الأمن والحماية وتزويد الفرد بالخبرات المهنية وغيرها. ويُرجح أن تكون الوظائف الثانوية كامنة وراء ظهور الأشكال الموسّعة والممتدة للأسرة.
أنماط الأسرة
في مسعى عام لتصنيف الأنماط المتنوعة للأسرة يمكن اللجوء إلى خاصتي البساطة والتركيب، فالبسيط من الأسر هو مادة الأنماط المركبة وهو متضمن في كل تنظيم أسري ـ إنه نواة الأسرة وأسّ تكوّنها.
العنصر البسيط والكامن في كل أسرة هو كونها جماعة مؤلفة من شخصين أو أكثر تجمعهم، إضافة إلى رابطة العيش المشترك، إحدى صلات القربى الآتية على الأقل: الأمومة أو الزواج أو الأبوّة أو الأخوة. يدعى هذا العنصر البسيط الأسرة النووية. فإن اقتصرت على الأب والأم وذريتهما من أصلابهما، دعيت الأسرة الطبيعية أو البيولوجية. وإذا شملت الأدعياء أو الأولاد المتبنين علاوة على أولئك، سميت الأسرة البسيطة أو الأساسية أو المقيّدة أو الزواجية. وثمة أسر نووية تقوم على علاقة الأمومة فحسب وأُخر تقوم على علاقة الأخوة فحسب كما هو معلوم عند بعض الشعوب البدائية. لذلك يمكن القول: إن الأسرة النووية ظاهرة شاملة لكونها متضمنة في جميع النظم الأسرية.
فإذا أضيف إلى الأسرة النووية أفراد إنسانيون آخرون أو نوى أسرية أُخر، تكونت أنماط كثيرة من الأسر تدعى الأسر الموسّعة. فإن وسّعت الأسرة بإضافة الجدين أو الحفيدين لتنتظم أجيالاً ثلاثة أو أربعة كانت الأسرة الناتجة هي الأسرة الممتدة. وتشمل الأسرة الممتدة الأبناء المتزوجين وزوجاتهم أو البنات المتزوجات وأزواجهن أو زوجات الرجل أو أزواج المرأة. وإذا كان للأبناء المتزوجين أو غير المتزوجين بعد وفاة والديهم ملكية مشتركة يتولى إدارتها أحدهم أو يديرونها بصورة مشتركة من دون أن يؤدي ذلك إلى تقسيم الملكية فتلك هي الأسرة المشتركة. ويُضاف إلى الأسرة الأدعياء أو الخدم أو العمال المنزليون، فالأسرة عندئذٍ هي المعزّزة بهؤلاء.
وثمة تصنيفات أخرى للأسر على أساس نوع القرابة أو شكل الوحدة المعيشية أو نمط الزواج أو نظام الشرعية. ومن أشهر أشكال الأسر القائمة على معايير كهذه: الأسرة الطوطمية التي يبنى نظام المحارم فيها على أساس القرابة بالطوطم، والأسرة التعددية التي تسمح بتعدد الزوجات أو الأزواج، والأسرة الواحدية ذات الزوجة الواحدة والزوج الواحد، والأسرة الأمويّة التي تتمتع فيها الزوجة أو الأم بسلطان على زوجها وأبنائها، والأسرة الأبويّة التي يسود فيها الأب.
دورة حياة الأسرة
ليست الأسرة كياناً جامداً، وإنما هي في حركة دائمة. وهي في صيرورتها تمر بدورة حياة ذات أطوار متعاقبة، يمكن حصرها في ثلاثة أطوار عامة هي: التكون فالنمو فالانحلال. تشهد الأسرة إبان كل طورمن دورة حياتها تغيرات مهمة في حجمها وتركيبها ووظائفها والأدوار الاجتماعية المسندة إلى أعضائها وطبيعة المشكلات التي تواجهها. ودورة حياة الأسرة هي موضع اهتمام الدراسات المعاصرة، وفي جملة ما تتناوله هذه الدراسات مواقيت أحداثها وترتيبها.
ولشكل الأسرة صلة بدورة حياتها، فالأسرة الممتدة تعيش دورة حياة أطول بكثير من تلك التي تعيشها الأسرة النووية. وقد تكون الأسرة الممتدة مرحلة أساسية من دور حياة الأسرة النووية، كما هو معروف عن أغلب الأسر العربية المعاصرة، إذ يرجح بقاء الأبناء المتزوجين مع زوجاتهم في دار أبيهم إلى حين قبل الاستقلال بمنزل خاص. وربما أمضى الأبوان ما تبقى من حياتهما ضمن أسرة أحد أبنائهما.
والانحلال هو خاتمة حياة كل أسرة. يحدث الانحلال الطبيعي عند رحيل الأبناء عن الأسرة لتكوين أسرهم الخاصة. أما الضروب الأخرى من الانحلال فتنجم عن إخفاق أعضاء الأسرة، كلهم أو بعضهم، في القيام بواجباتهم الأسرية لأسباب أهمها: خرق الشرعية الذي يحول دون وجود أحد أركانها، كما هي الحال عند عدم وجود الأب الشرعي أو الزوجة الشرعية، والغياب العمدي أو غير العمدي لأحد الزوجين الناجم عن الطلاق أو الهجرة أو الموت أو المرض أو السجن أو ما ماثل ذلك.
تعليق