اصول كلم (علم)
Etymology - اEtymologie
أصول الكَلِم (علم ـ)
علم أصول الكَلم etymology، ويُسمى كذلك «التأصيل»[ر] أو «التأثيل» ويعرف عالمياً بأصل تسميته اليونانية «إتيمولوجية» etymology وهو فرع من اللسانيات التاريخية historical linguistics يبين أصول الكلم تاريخياً من نشأتها مبيناً ما طرأ عليها من تغيرات صرفية أو صوتية أو دلالية، لا في اللغة الواحدة فحسب، بل في الفصيلة أو الأسرة اللغوية التي تنتمي إليها.
والإتيمولوجية، بمفهومها الحديث، لا تقتصر على الأصول التاريخية للمفردات المعجمية lexemes، أو على معنى بيان الحقيقة كما كانت في زمن أفلاطون (ت347ق.م)، ذلك أنها لم تبق معنية بالحقائق الميتافيزيقية، بل إنها استقلت عن الفلسفة لتنصرف إلى اللغة بوصفها ظاهرة اجتماعية، ولتتقصى وتحلل ما يعتور مفرداتها وعناصرها من تبدّل وتحوّل ضمن المنظومة اللغوية language وعلى مختلف مستوياتها: الصوتية والدلالية والتركيبية (النحوية والصرفية). والإتيمولوجية إذ تفعل ذلك لا تقنع بتسجيل مثل هذا التبدل والتحول وتأريخه بل تطمح أيضاً إلى اكتناه ما يتصل باللغة من عوامل وينتظمها من قوانين. ومع ذلك فإن هذه الشمولية التي تتصف بها اللسانيات التاريخية والمقارنة في الزمن الحاضر حديثة العهد ويعود الفضل فيها إلى ما يمكن أن يوصف بأنه ثورة حقيقية في العلوم اللسانية، ولاسيما في نطاق المدرسة التوليدية التحويلية [ر. اللغة (علم ـ)] التي يقودها تشومسكي[ر] Noam Chomsky وزملاؤه منذ العقد السادس من القرن العشرين، والتي تجاوزت آثارها إلقاء االأضواء الجديدة على طبيعة اللغة إلى فهم طبيعة الإنسان الذي يتمتع بملكتها والنفوذ إلى طبيعة العقل الإنساني.
فيما مضى كانت الافتراضات الميتافيزيقية والنفسية كثيراً ما تترك بصماتها على النظريات المتصلة باللغة. أما الآن فقد غدا التأثير متبادلاً بين الدراسات الإتيمولوجية والدراسات النفسية في مجالات كثيرة وخاصة في مجال البحوث والدراسات المتصلة بعلم نفس الإنسان.
عرض تاريخي
أصول الكلم في الإطار الفلسفي: نشأ الاهتمام بأصول الكلم في إطار الجدل الفلسفي الذي احتدم قروناً طوالاً بين «الطبيعين» naturalists و«الاصطلاحيين» conventionalists في القرن الثالث قبل الميلاد في اليونان. ولعل أقدم الشواهد عليه الحوار الذي وضعه أفلاطون بعنوان «كراتيلوس» Cratylus الممثل لغلاة الطبيعيين والداعية إلى فلسفتهم التي تقول بأن جميع ما في الوجود يخضع لمبادئ أزلية. فقد ذهب إلى أن كلمات اللغة تتوافق توافقاً طبيعياً مع مدلولاتها وذلك للصلة الطبيعية والضرورية بين شكل الكلمة ومعناها. وهذه الصلة، وإن كانت لا تتضّح جلية لعامة الناس في جميع الأحوال، فإنها تتضح جلية للفلاسفة لأن لديهم القدرة، كما يقول كراتيلوس، على استجلاء «الحقيقة» المختفية وراء السطح. ثم شرحها وتفسيرها للناس. ويذهب الاصطلاحيون، على نقيض الطبيعيين، إلى أن اللغة هي ما تواضع أو اصطلح عليه المجتمع البشري، وإلى أنها ليست نتيجة لأية أحكام أزلية، بل هي في حالة تغير وتطور مستمرين. وهذا الجدل الذي ثار بين الطبيعيين والاصطلاحيين في اليونان يقابله لدى العرب فكرتا «الإلهام» و« الاصطلاح» أو «التوقيف» و«التواضع»، أي إن فريقاً من اللغويين العرب ذهب إلى أن اللغة إلهام أو توقيف من الله تعالى، واعتمد في ذلك على الآية الكريمة: )وعلّم آدَمَ الأسماءَ كُلَّها ثمَّ عَرَضَهُم على المَلائِكةِ( (البقرة31) وذهب فريق آخر إلى أن اللغة ما اصطلح عليه القوم، أو تواضعوا على قبوله، فهي عندهم من وضع الإنسان. وقد دار جدل معزز بالحجج والاجتهادات ليدلل كل من الفريقين على صحة نظريته. وثمة من حاول أن يوفق بين الاتجاهين، أو ينتصر لكليهما كابن جنّي (ت392هـ/ 1002م).
وقدّر للجدل بين الطبيعيين والاصطلاحيين في اليونان أن يستمر قروناً، وتتأثر به مختلف الأفكار المتصلة بنشأة اللغة وبالعلاقة بين الألفاظ ودلالاتها. وكذا كان الأمر عند سائر اللغويين في العالم، قديماً وحديثاً. وهذا الجدل يكتسب أهمية خاصة لما تمخض عنه من اجتهادات إتيمولوجية للتدليل على كيفية نشأة اللغة التي لم تفض إلى نتيجة تلقى القبول أو الإجماع، ولكن كان لها الفضل في شحذ همم الباحثين اللغويين لتقصي أصول الألفاظ اعتماداً على تلك التصورات والافتراضات التي انصرفت إلى البحث في نشأة اللغة ذاتها، ثم اتسع البحث والتفكير إلى دراسة العلاقات بين الألفاظ وتصنيف هذه العلاقات بحسب أنواعها، وهذا الجدل اللغوي بين الطبيعيين والاصطلاحيين هو المسؤول كذلك، بخيره وشره، عن هيمنة الفلسفة على علم النحو، قروناً طوالاً.
توافق اللفظ والمعنى: انتبه الطبيعيون في اليونان ولاسيما الرواقيون stoils منهم، إلى أن ثمة كلمات يبدو فيها توافق «طبيعي» بين لفظ الكلمة ومعناها، فهنالك مجموعة من الكلمات، وإن كانت قليلة العدد نسبياً، تحاكي في جرسها، بقدرٍ ملحوظ، ما تدل عليه من أصوات (مثال ذلك في اللغة العربية: وشوشة وأزيز ومواء وحفيف و فحيح وخرير وغير ذلك). كما لاحظوا أيضاً أن هنالك فئة أخرى من الكلمات لا تشير إلى الصوت بالذات، وإنما إلى مصدره (مثال ذلك، لفظة «غاق» التي تدل على الغراب الذي يصدر عنه هذا الصوت). هذه الظاهرة هي ما يطلق عليها في اللغة مصطلح «الأونوماتوبية» onomatopoeia (أي تسمية الأشياء أو الأفعال بمحاكاة أصواتها)، وهي كلمة يونانية استعملت في العهد الاتباعي (الكلاسيكي) للدلالة على تكوين الأسماء. وهذا المصطلح المعروف عند اللغويين عالمياً يقابله في العربية، وإن تكن المقاربة جزئية فقط، ما أطلق عليه ابن جنّي عبارة «إمساس الألفاظ أشباه المعاني» أو «تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني». وفقه اللغة العربية بقديمه وحديثه غني ببحوثه حول العلاقات «الطبيعية» بين الألفاظ ودلالاتها، وهي مايعبر عنه أحياناً بعبارة «القيم التعبيرية للحروف». وقد تبين للرواقيين أن الظاهرة الأونوماتوبية لا تشمل سوى قلة ضئيلة جداً من الكلمات، فلا يمكن إذن أن توصف كلمات اللغة عامّة بأنها من «أصول طبيعية». ولكن الرواقيين ما عتموا، في سعيهم إلى التدليل على الصفة الطبيعية للغتهم اليونانية برمتها، حتى اهتدوا إلى مسوغات أخرى لفلسفتهم الطبيعية، منها أن هنالك مجموعة أخرى من الكلمات تتألف من أصوات يصح أن يقال إنها تحاكي أو ترمز إلى خواصّ أو صفات فيزيائية معينة كصفة السيولة أو القساوة أو الرِّخاوة وغيرها. مثال ذلك في اللغة العربية ما يذكره ابن جني في كتاب الخصائص ونصه: «من ذلك قولهم خَضَم وقَضم، فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو «قضمت الدابة شعيرها». وهذا النوع من العلاقة بين جرس الكلمة ومعناها العام هو ما يطلق عليه في المصطلح الأدبي الحديث «رمزية الصوت» sound symbolism شريطة أن يعنيها الكاتب.
وما يتصف بالأونوماتوبية وبالرمزية الصوتية من مجمل كلمات اللغة ما يزال ضئيل العدد، لذا يُضطر علماء أصول الكلم من الطبيعيين والرواقيين إلى متابعة البحث، ليتوصلوا في نهاية الأمر إلى صوغ مجموعة من المبادئ فحواها أن الكلمات التي ليس لها أصول طبيعية مباشرة تكون مستعارة من كلمات أخرى أو لها علاقة ما بكلمات أخرى ذات أصول طبيعية مباشرة. وهذه المجموعة من المبادىء تنقسم إلى فئتين رئيسيتين، الفئة الأولى تقول بإمكان توسيع نطاق المعنى الأصلي للكلمة باستعمالها في غير موضعها الأصلي بدلالة الصّلة المتصورة بين الاستعمالين، (مثال ذلك في العربية استعمال كلمة «عَيْن» في عبارة «عين الإبرة» و«عُنق» في «عنق الزجاجة»)، أي استعمال الكلمة بما يسمى «المجاز المركب» عند اللغويين المحدثين.
وأما الفئة الثانية، من هذه المبادىء الإتيمولوجية فتقول بإمكان اشتقاق كلمة من كلمة أخرى بإضافة أصوات معينة إليها أو حذف أصوات معينة منها أو استبدال أصوات بأصوات أو تقديم أصوات وتأخير أصوات فيها، شريطة وجود صلة «طبيعية» بين معنى الكلمة الأولى والكلمة الثانية. ولم يكن للطبيعيين أن يصمدوا وينقذوا من الانهيار نظريتهم التي تقول «إن مجمل كلمات اللغة مشتق من فئة من الألفاظ الأولية ويمكن إعادتها إلى أصولها الطبيعية المباشرة» لولا استثمارهم النشيط لهذه المبادئ التي أخذوا يطبقونها على مجمل كلمات اللغة اليونانية بحرية لا تعرف الضوابط والقيود.
جاء أرسطو[ر] بعد أفلاطون (322ق.م) واتخذ موقفاً أكثر تحديداً من موقف أفلاطون، فنص على: «أنّ اللغة هي ما اصطلح الناس عليه، إذ ليس من أسماء تنشأ نشأة طبيعية» و«أن الكلام ليس سوى الشكل الذي تتمثل فيه خبرات العقل». وقد أدى اختلاف الآراء بين مذهب أرسطو ومذهب الرواقيين إلى تطور مهم في تاريخ العلوم اللسانية، إذ إن تلك الآراء المتباينة هي التي أذكت ذلك الجدل الذي شهدته العصور القديمة بين من يذهب كأرسطو إلى أن اللغة في مجملها نظام مترابط تتحكم فيه القوانين (قياسية) على حين رآها فريق آخر كالرواقيين، مملوءة بالاستثناءات التي لا تنتظمها قوانين معينة (غير قياسية).
لم يتمكن اليونانيون في بادئ الأمر من إحراز نتيجة ذات بال في مجال أصول الكلم مع ما توصلوا إليه من نتائج باهرة في مجالي النحو والصوتيات ومع شغفهم الشديد ببحث أصل اللغة كما يتبين من الجدل الذي احتدم بين الطبيعيين والاصطلاحيين. والسبب في تعثرهم هو أنه لم تكن قد تبلورت آنذاك أية فكرة عن طبيعة التغيرات التي تتعرض لها اللغات، وقد ظلت البحوث التأصيلية (الإتيمولوجية) لدى اليونانيين منصبة على رد كل كلمة في لغتهم إلى أصل قديم اعتقاداً منهم أن فهم معانيها «الصحيحة» يتوقف على معاني أصولها. ومع جديتهم التامة في بحثهم فإن النتائج التي انتهوا إليها كانت عقيمة. وثمة أمثلة منها لدى أفلاطون نفسه في حوار كراتيلوس، إذ يشتق مثلاً لفظة anthropos (إنسان) من عبارة anathron ha opopen (يتأمل ما شاهد أعلاه)، ويشتق اسم إله البحر Poseidon من عبارة posi desmos (ما يقيد القدمين). هذا النهج لدى الإتيمولوجيين ظل يعيق جهودهم طوال العصور القديمة والوسطى، وذلك على نقيض زملائهم الذين انصرفوا إلى النحو خاصة والصوتيات، فقد كانت جهودهم أسلم سبيلاً وأكثر توفيقاً.
دانتي والتأصيل: إن دراسة الصلات التاريخية بين فئات معينة من اللغات الأوربية قد بدأت على يدي دانتي[ر] (1265-1321) Dante في كتابه De vulgaris eloquentia عن اللهجات العامية، إذ درس في هذا الكتاب كيفية نشوء لهجات مختلفة تتفرع عن لغة واحدة، وكيفية تطورها إلى لغات متباينة بفعل الزمن، وبسبب تشتت الناطقين بها في مختلف الأصقاع. وقد صنف دانتي اللغات الأوربية في ثلاث أسر: الجرمانية واللاتينية واليونانية، وبرهن على أن الإيطالية والإسبانية والفرنسية تنحدر من أصل واحد هو اللاتينية الكلاسيكيّة وذلك بدليل الأعداد الكبيرة من الألفاظ التي تشترك فيها كل من هذه اللغات مع اللغتين الأخريين، وبدليل أن كلاً من هذه الألفاظ المشتركة يمكن إعادته إلى أصل لاتيني واحد. وظل نهج دانتي متبعاً بعده قروناً وهو تصنيف اللغات الأوربية في فئتين: فئة اللغات التي تبدأ كلماتها الدالة على معنى مئة بالصوت/k/ وتلك التي تبدأ كلماتها بالصوت/s/. فقد كان دانتي يأخذ مدلولاً ما فيتقصى كيف يعبر عنه في لغات مختلفة، وكان مما اكتشفه مثلاً أن جميع اللغات الجرمانية[ر] تعبر عن مدلول «نعم» بألفاظ تبدأ بالصوت/j/ مثل yes في الإنكليزية وja في الألمانية، وأن اللغات اللاتينية الثلاث تعبر عن معنى «نعم» بكلمة si في إيطالية وoc في جنوبي فرنسة وoil في شمالي فرنسة.
تعليق