الجمهور بين الحضور والغياب
مسرحية" بجوها" أنموذجا
المسرح الليبي على مدى مسيرته يفتقد روح التواصل مع (المتلقي_ الجمهور_ المتفرج) العنصر الأهم في العملية المسرحية كما أجمع النقاد." فلا مسرح بدون جمهور" فهذا المشكل تحكمه العديد من الظروف والملابسات.
* الإبداعية تتمثل في " ممثل، مخرج، نص" . التقنية " الفنية " وتتمثل في" ديكور ، ملابس ، مؤثرات ...الخ من تقنيات الركح " من جانب.الظروف الإنتاجية الإدارية التي تتمثل في " توفير ورصد الدعم المادي لإظهار العمل كما ينبغي له أن يكون. مع إتاحة ظروف تصديره إلى أكبر قدر من المشاهدين عن طريق أدوات الإنتاج التي أهمها الدعاية " من جانب أخر.
فتوافر الظروف مجتمعة كفيلة بتحقيق هذا التواصل . فثمة الكثير من الأعمال في مسيرتنا المسرحية كانت ضحية الإنتاج والإدارة. تتمثل في النصف الثاني من الستينيات إلى النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي . هذه الفترة قادتها الفرق الأهلية التي كانت تقوم بمهامها الحيوية من أجل إنتاج يخلق نوع من التواصل مع المتلقي مع عدم إنكارنا لدور المسارح الوطنية التي احتضنت الخبرات المتميزة في هذه الفرق وفتحت المجال أمام خبراتهم ، إضافة لخريجي معهد جمال الدين الميلادي المؤسسة الوحيدة التي تدرس فنون المسرح في ذلك الوقت . بالمقابل الكثير منها_ الأعمال المسرحية_ مما توافر لها ظروف إنتاجية تقنية إدارية صحية، كانت ضحية الضحالة والسطحية والخطاب المباشر التقليدي على صعيد الإخراج أو النص أو الممثل وهي كثيرة مما جعلها سبباً حقيقياً في إبعاد الجمهور، ومنهم_أي الجمهور_من قاطع عتبات المسارح وأهمل رموزه التي تابعها بشغف في مراحل سابقة. هذه المرحلة كانت جلية وتمتد من النصف الثاني من السبعينيات إلى النصف الأول من التسعينيات من القرن المنصرم التي يشوبها نوع من الركود وعدم الجدية والجمود وسطحية التناول. قد يختلف الأمر في مدينة بنغازي التي حاولت في هذه الفترة خلق تواصل مع الجمهور من خلال أعمال لاقت صدىً جماهيرياً مثل " الضحك ساعة" و " جاكم عنتر" ....الخ كما أنتجت هذه المرحلة العديد من " نجوم الشباك " مثل " رافع نجم،علي العريبي " و " صلاح الشيخي، ميلود الحمروني " التي وصل عدد العروض فيها إلى" السبعين عرضاً" في الفترة الأخيرة . أما العشر السنوات الأخيرة فهي مزيج بين المرحلتين أو نتاج المرحلتين فقد خرجت هذه المرحلة من رحم المرحلتين التي سبقتاها فهي تحمل صبغة الفترتين السابقتين . بالطبع ثمة إستثنأت ونماذج حقيقية في المراحل التي تكلمت عنها ولكن قلتها جعلتنا نأخذ بالعموم . فيما سبق أنتجت العديد من الأعمال التي خلقت تواصل مع المشاهدين ولكنها لم تأخذ حظها من العروض للأسباب التي ذكرتها أنفاً. حتى لو أخذنا أعمال الثنائي" شرف الدين، مصطفى الأمير" فلم يحظ أي عرض من عروضهم "العشرين عرضا" حتى لو أضفنا تجاوزاً "عشرة عروض" مع امتلاك هذه الفرقة_ القومية_ لقدرة عالية في الدعاية تتمثل في قدرة الممثل " مختار الأسود " الذي أخترع أسلوباً في الدعاية على شكل قسيمة مخالفات مرورية _ شرطة المرور_ يفاجاء بها السائق أمام الزجاج الأمامي لسيارته في صيغة دعوة لمسرحية " دوختونا". رغم هذا لم يتجاوز عدد العروض المسرحية العشرين عرضاً وهي نسبة قليلة بالمقارنة بالمجهود الذي بذل من أجل إظهار هذا العمل أو ذاك،هذا ينعكس على مسرحية " نقابة الخنافس" للمرحوم" الأزهر أبوبكر حميد" ومن إخراج" محمد القمودي" و" حوش العيلة" تأليف المرحوم" فرج قناو" لنفس المخرج ، التي لاقتا صدى واسعاً بتألق ممثليها الشباب الذين كونوا علاقة مع المتفرج أمثال " فتحي كحلول، عبدالمجيد الميساوي، حسن الكشيك، لطفية إبراهيم " رغم هذا لم يساهم عدد العروض في انتشارها ، بل ساهمت في تصديرها الإذاعة المرئية كما ساهمت في تصدير " حلم الجعانين " والعديد من أعمال شرف الدين ، بينما تكتفي مسرحية " ملحن في سوق الثلاث " للأزهر أبوبكر حميد و " محمد العلاقي " بعروضها القليلة في المسرح ودونما توثيق مرئي . هذه الحالة تنعكس على الكثير من الأعمال ، والأمثلة كثيرة لا تسع المساحة لسردها . إضافة لأعمال المهرجانات والتظاهرات المسرحية التي غالبا ما تنتهي فيها بعض العروض بانتهاء هذا المهرجان أو تلك التظاهرة. فيكون رصيد عرضها عرضاً أو عرضين ، دونما يتم توثيقها مرئياً . هذا يساهم في إحباط المبدع مما يضطر بعض المبدعين إلى الابتعاد عن الساحة المسرحية .
فيما سبق لا أريد أن أحكي على طبيعة هذه الأعمال وأيضا لست في باب المفاضلة بين الأعمال التي يتعاطى معها الجمهور، والأعمال التي تحقق متعة لفئات محدودة من المتلقيين ، والأعمال التي تحقق الحضور والمتعة الفنية لفيأت عريضة ومتنوعة من المتلقيين وهي قليلة بالطبع. فالمسرح الليبي في حاجة للعمل والإنتاج بأي شكل من الأشكال المسرحية و بكل تياراتها ومذاهبها ، وبأي لغة يراها منتج العمل . فالعمل السيئ والغير ناضج، قد ينتج ممثلاً موهوباً ، أو مهندس وفنيي ديكور ، أو مهندس وفنيي إضاءة إلى أخر العناصر، وأخيراً قد ينتج متفرج" وهو أضعف الإيمان".
الساحة المسرحية تحتاج لكم من الأعمال المتنوعة ومتباينة الرؤى، و تتسع لكل الألوان والأشكال المسرحية كما يقول تاريخ المسرح في العالم ، فالكم هو الذي يحقق أعمال متباينة وبالتالي يحقق متفرج متتبع متباين الذائقة، وبالتالي يتم إنتاج التصنيف والتقييم الإبداعي وهذه مهمة النقاد التي تفتقدها الساحة المسرحية الليبية .
"بجوّها" عرضاً مسرحياً تجاوز الأرقام السائدة من العروض على مدى مسيرة المسرح الليبي وكسر قاعدة عدم وجود متتبعين للمسرح. إذ تجاوز عدد عروضه " المائة وسبعون عرضاً" وهي من تأليف وإخراج " عبدالباسط أبوقندة " .
النص عبارة عن قراءة ورصد للعديد من مظاهر المجتمع، يعتمد فيها المؤلف اللهجة الدارجة الليبية لغة لحوار نصه الذي يقسمه ل " ست لوحات" معنوناً كل لوحة باسم يحمل تعريفاً لها " الجامعة، الفيريكيكو*، المرأة ، اللجنة الشعبية، المستشفى العام، المؤثرات العقلية،" تجسد من خلال " سبعة شخصيات " رقمت من الأول إلى السابع في افتتاحية النص المسرحي، ولكنها سرعان ما تذوب هذه الأرقام لتتحول إلى شخصيات نمطية وظيفية مثل " الدكتور، البائعة، المدير ، السكرتيرة، الأمين، العضو ...الخ " أو شخصيات حياتية مثل " الشاب ، الفتاة، الحاجة، الأخ، الأخت، الزوجة ..الخ" بينما ينتهي ظهور الأرقام الخامس والسادس والسابع ابتداء من اللوحة الرابعة . في المشهد الأخير من لوحة المرأة غاب على مؤلف النص إسباغ صفة"الزوج والزوجة" ليبقي على التعريف الأول " الشاب والفتاة" حتى بعد زواجهما. كان من الممكن أن يستدرك المؤلف في معرض تعريفه بشخصيات المسرحية المرقمة بتحميلها الأدوار التي تلعبها ،مثل" الأول ويجسد ، الشاب، المدير،الأمين". و"الثانية وتجسد ، الفتاة ، الحاجة ، الزوجة"، الى أخر الأرقام مراعياً فيها عدم تعارض ظهورها على الخشبة. وهذه الأبجدية في صناعة المسرحية يدركها " عبدالباسط أبوقندة" جيدا، من خلال خبرته في تجسيد الكثير من الأعمال التي تلتزم هذه التقنية في بناء المسرحية .
النص أعتمد على مفردتين مطاطيتين في ربط العلاقة المزدوجة بين المشاهد ببعضها من جانب. وبين النص والمتلقي من جانب أخر . هاتين المفردتين تتمثلان في مفردة " بجوّها" أولاً التي التقطها مؤلف النص ليحملها اسم المسرحية ، و بجعلها المرتكز الرئيسي التي يدور في فلكها الحوار . هذه الكلمة " الحية " بمعناها الواسع التي تحتمل الكثير من التأويلات وتتضمن الكثير من المعاني. فهي مفردة حديثة من اختراع " الشارع_ الناس_ الجمهور" أتاحت الرحابة للنص لتخرج به من "إستاتيكية" المفردة المصطنعة الجامدة إلى ليونتها وديناميكيتها . فكل الذي حدث "بجوّها" وكل الذي لم يحدث أيضاً "بجوّها" . والتي ستفيد العرض كثيراً .
المفردة الثانية التي أعتمدها النص " الجوقة أو الكورس أو المجموعة" التي استخدمها المؤلف للتمهيد للحدث أو التعليق عليه أو المشاركة فيه. فهو في هذا لم يتجاوز" المفهوم الأرسطي " من حيث وظيفتها ليتم استخدامها كعامل مساعد للمتلقي في دخوله في الحدث وإنبائه به والتعليق والمشاركة فيه وهذا ينعكس على تعريفها _ أي الجوقة_ بشخصيات المسرحية ومصائرها ، وزمن ومكان الأحداث والى أين تنتهي . كان من الممكن أن تقوم الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر " صالح ابوالسنون" بمهام الجوقة ، ولأنها دخيلة على النص فقد استعانت بالمفردتين _ كما أسلفت_ وجمعت بينهما فكان دورها تعليمياً ترشيدياً في أغلب اللوحات و تحريضياً كما في المقطع الأخير من أغنية النهاية. فمجهود الشاعر وتشبعه بالنص والفكرة يتضح في حفاظه على روح الفكرة وروح الحوار من حيث التناغم مع الشكل العام للنص ومفرداته ، ودعمه جمالياً . تظل اللوحة الأخيرة " المؤثرات العقلية" من أقوى اللوحات والأكثر صموداً في النص فهي عبارة عن مجموعة مشاهد متلاحقة ومركزة في تناولها للفكرة بعمق وبكل أبعادها ، على صعيد الحوار الذي اختير بعناية وبتركيز ، والبناء الدرامي . وقرأتها للشخصيات . فكانت مغايرة من حيث الشكل والأسلوب على بقية اللوحات التي سبقتها . فهي الوحيدة التي لم يلجا المؤلف فيها للاستعانة بالجوقة للشرح والتعليق فكانت كتلة مكتفية بذاتها .
ولأن المؤلف يكتب بروح مخرج فقد أبتعد عن الأقواس التي يلجا إليها المؤلفون عادة لشرح تفاصيل المشهد أو التعريف بالشخصيات . فكان المجهود الأكبر الذي قطعه المخرج أثناء كتابته للنص ساهم في تذليل الكثير من الصعاب التي تواجه تنفيذ النص من خلال الأسلوب الذي أعتمده في كتابة نصه . المنظر العام _ تنفيذ "محمد العربي، فتحي فصيل" _ عبارة عن خلفية سوداء بمثابة سبورة كبيرة كتب عليها بعض الجمل التي تشير على فحوى العرض ومضمونه وبعض الرسومات " علامة الخطر، قلب يخترقه سهم ، زجاجة خمر، يد... الخ " هي نفس الجمل والإشارات التي عادة نجدها تتصدر بعض الجدران وأسوار المباني . فهي وسيلة التعبير الوحيدة عند الأجيال في مرحلة الشباب عادة ، التي تساوي جريدة حائطية ، فقراءة حائط أو جدار ينبئك بالمشاعر العامة لهذه الشريحة ففيها تعبير عن" الحب والعذاب والقسوة والفضيلة ، وصولاً إلى النادي المفضل لديه " وهي التقاطه لماحة من المخرج ليمهد لطبيعة عرضه ، إضافة لأغنية المقدمة التي تدعم هذه الرؤيا _ الحان" البدري الكلباش"_ بجملها السلسة التي تتعاطاها الأذن بسهولة ودونما عناء مما يدل على خبرة الملحن في تعامله مع المتفرج وأيضا دليل على انصهاره في الرؤيا العامة للعمل . عدد سبعة كراسي ومشجبين ذات ألوان مبهجة وسائل المخرج لخلق مفردات تكويناته المسرحية " طاولة، باب، مكتب، صالة..الخ" ومنذ البداية يقوم المخرج بنسف الأسرار بينه وبين المتلقي من خلال تعامله معه بوضوح وجلاء. فتغيير المناظر على مرأى من المتفرج عن طريق الممثلين. وأيضاً تغيير الملابس يتم أمام المتفرج من خلال الحقائب التي تتضمن ملابس المشاهد لكل ممثل مما أعطى حرية للممثل في اختيار ملابسه .هذا الوضوح جعل عامل الثقة متبادل بين الممثلين والجمهور .إضافة للموضوعة العامة للمسرحية التي تتناول أحداث آنية تهم المتلقي. كما أتيحت للممثلين مساحة للارتجال والتعاطي مع الجمهور مع الحفاظ على الفكرة العامة للعرض ، مما جعل كل عرض يختلف عن الأخر حسب التجاوب وحسب ما يستجد من أحداث. العرض جسد من خلال خمس ممثلين " خالد كافو ، عبدالباسط ابوقندة، عيسى ابوالقاسم، جمال الحريري، عادل الجواشي،" وممثلثين " هدى عبداللطيف، نسمة" أكسبتهم تكرار العروض خبرة ساهمت في تطور علاقتهم بالمتفرج . إضافة لمساهمة الفنانتين " مهيبة نجيب ، بسمة الأطرش" في بعض العروض . قد تضطرهم الظروف للجوء لتجسيد العرض من خلال ممثلة واحدة دون الأضرار ببنية النص . الإضاءة _ سالم البركي_ كانت طيلة العرض عامة باستثناء اللوحة الأخيرة التي اختلفت في أسلوب إخراجها عن بقية اللوحات وأكثر دقة فقد اجتمعت فيها كل عناصر العرض المسرحي عندما تم عرضها في قاعة عرض مجهزة . الأسلوب الذي اعتمده المخرج في عمله جعله يتجاوز ظروف الأمكنة التي يعرض فيها( مسرح مجهز، مسرح مكشوف، صالة،مستوى،) بل أن بعض العروض كانت مواقيت عرضها نهاراً. هذه العوامل ساهمت في حيوية العرض وبالتالي ساهمت في عدد العروض.
العامل الثاني والمهم بأهمية العامل الفني وهو العامل الإداري والإنتاجي كما أشرت فالدعاية من العوامل الهامة في تصدير العمل الفني كما يعلم الجميع. ففريق "بجوّها "_ كما تطيب لهم التسمية_ رغم بدايتهم تحت مظلة المسرح الجامعي وبحكم العروض المتكررة كونوا خبرات إدارية تتمثل في " الصادق عبية" بمساعدة" وجدي البركي" مهمتها الدعاية والسعي للتعاقد مع كم من المؤسسات داخل المدن الليبية والسعي وراء الجمهور،بالذهاب إليه في مؤسساته التعليمية والمهنية والصناعية وفي مدنه ( طرابلس، السبيعة، السواني ، الزهراء،مصراته،زوارة، سرت، سبها، الخمس، الزاوية) . لا ننسى أهمية الإذاعة المرئية في دعم هذه المسرحية من خلال تصديرها لوجوه الممثلين كضيوف موسميين في منوعات شهر رمضان المبارك . هذه الجهود مجتمعة لاشك أسهمت كثيراً في ازدياد عدد العروض التي وصلت لها هذه المسرحية.
مسرحية" بجوها" أنموذجا
المسرح الليبي على مدى مسيرته يفتقد روح التواصل مع (المتلقي_ الجمهور_ المتفرج) العنصر الأهم في العملية المسرحية كما أجمع النقاد." فلا مسرح بدون جمهور" فهذا المشكل تحكمه العديد من الظروف والملابسات.
* الإبداعية تتمثل في " ممثل، مخرج، نص" . التقنية " الفنية " وتتمثل في" ديكور ، ملابس ، مؤثرات ...الخ من تقنيات الركح " من جانب.الظروف الإنتاجية الإدارية التي تتمثل في " توفير ورصد الدعم المادي لإظهار العمل كما ينبغي له أن يكون. مع إتاحة ظروف تصديره إلى أكبر قدر من المشاهدين عن طريق أدوات الإنتاج التي أهمها الدعاية " من جانب أخر.
فتوافر الظروف مجتمعة كفيلة بتحقيق هذا التواصل . فثمة الكثير من الأعمال في مسيرتنا المسرحية كانت ضحية الإنتاج والإدارة. تتمثل في النصف الثاني من الستينيات إلى النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي . هذه الفترة قادتها الفرق الأهلية التي كانت تقوم بمهامها الحيوية من أجل إنتاج يخلق نوع من التواصل مع المتلقي مع عدم إنكارنا لدور المسارح الوطنية التي احتضنت الخبرات المتميزة في هذه الفرق وفتحت المجال أمام خبراتهم ، إضافة لخريجي معهد جمال الدين الميلادي المؤسسة الوحيدة التي تدرس فنون المسرح في ذلك الوقت . بالمقابل الكثير منها_ الأعمال المسرحية_ مما توافر لها ظروف إنتاجية تقنية إدارية صحية، كانت ضحية الضحالة والسطحية والخطاب المباشر التقليدي على صعيد الإخراج أو النص أو الممثل وهي كثيرة مما جعلها سبباً حقيقياً في إبعاد الجمهور، ومنهم_أي الجمهور_من قاطع عتبات المسارح وأهمل رموزه التي تابعها بشغف في مراحل سابقة. هذه المرحلة كانت جلية وتمتد من النصف الثاني من السبعينيات إلى النصف الأول من التسعينيات من القرن المنصرم التي يشوبها نوع من الركود وعدم الجدية والجمود وسطحية التناول. قد يختلف الأمر في مدينة بنغازي التي حاولت في هذه الفترة خلق تواصل مع الجمهور من خلال أعمال لاقت صدىً جماهيرياً مثل " الضحك ساعة" و " جاكم عنتر" ....الخ كما أنتجت هذه المرحلة العديد من " نجوم الشباك " مثل " رافع نجم،علي العريبي " و " صلاح الشيخي، ميلود الحمروني " التي وصل عدد العروض فيها إلى" السبعين عرضاً" في الفترة الأخيرة . أما العشر السنوات الأخيرة فهي مزيج بين المرحلتين أو نتاج المرحلتين فقد خرجت هذه المرحلة من رحم المرحلتين التي سبقتاها فهي تحمل صبغة الفترتين السابقتين . بالطبع ثمة إستثنأت ونماذج حقيقية في المراحل التي تكلمت عنها ولكن قلتها جعلتنا نأخذ بالعموم . فيما سبق أنتجت العديد من الأعمال التي خلقت تواصل مع المشاهدين ولكنها لم تأخذ حظها من العروض للأسباب التي ذكرتها أنفاً. حتى لو أخذنا أعمال الثنائي" شرف الدين، مصطفى الأمير" فلم يحظ أي عرض من عروضهم "العشرين عرضا" حتى لو أضفنا تجاوزاً "عشرة عروض" مع امتلاك هذه الفرقة_ القومية_ لقدرة عالية في الدعاية تتمثل في قدرة الممثل " مختار الأسود " الذي أخترع أسلوباً في الدعاية على شكل قسيمة مخالفات مرورية _ شرطة المرور_ يفاجاء بها السائق أمام الزجاج الأمامي لسيارته في صيغة دعوة لمسرحية " دوختونا". رغم هذا لم يتجاوز عدد العروض المسرحية العشرين عرضاً وهي نسبة قليلة بالمقارنة بالمجهود الذي بذل من أجل إظهار هذا العمل أو ذاك،هذا ينعكس على مسرحية " نقابة الخنافس" للمرحوم" الأزهر أبوبكر حميد" ومن إخراج" محمد القمودي" و" حوش العيلة" تأليف المرحوم" فرج قناو" لنفس المخرج ، التي لاقتا صدى واسعاً بتألق ممثليها الشباب الذين كونوا علاقة مع المتفرج أمثال " فتحي كحلول، عبدالمجيد الميساوي، حسن الكشيك، لطفية إبراهيم " رغم هذا لم يساهم عدد العروض في انتشارها ، بل ساهمت في تصديرها الإذاعة المرئية كما ساهمت في تصدير " حلم الجعانين " والعديد من أعمال شرف الدين ، بينما تكتفي مسرحية " ملحن في سوق الثلاث " للأزهر أبوبكر حميد و " محمد العلاقي " بعروضها القليلة في المسرح ودونما توثيق مرئي . هذه الحالة تنعكس على الكثير من الأعمال ، والأمثلة كثيرة لا تسع المساحة لسردها . إضافة لأعمال المهرجانات والتظاهرات المسرحية التي غالبا ما تنتهي فيها بعض العروض بانتهاء هذا المهرجان أو تلك التظاهرة. فيكون رصيد عرضها عرضاً أو عرضين ، دونما يتم توثيقها مرئياً . هذا يساهم في إحباط المبدع مما يضطر بعض المبدعين إلى الابتعاد عن الساحة المسرحية .
فيما سبق لا أريد أن أحكي على طبيعة هذه الأعمال وأيضا لست في باب المفاضلة بين الأعمال التي يتعاطى معها الجمهور، والأعمال التي تحقق متعة لفئات محدودة من المتلقيين ، والأعمال التي تحقق الحضور والمتعة الفنية لفيأت عريضة ومتنوعة من المتلقيين وهي قليلة بالطبع. فالمسرح الليبي في حاجة للعمل والإنتاج بأي شكل من الأشكال المسرحية و بكل تياراتها ومذاهبها ، وبأي لغة يراها منتج العمل . فالعمل السيئ والغير ناضج، قد ينتج ممثلاً موهوباً ، أو مهندس وفنيي ديكور ، أو مهندس وفنيي إضاءة إلى أخر العناصر، وأخيراً قد ينتج متفرج" وهو أضعف الإيمان".
الساحة المسرحية تحتاج لكم من الأعمال المتنوعة ومتباينة الرؤى، و تتسع لكل الألوان والأشكال المسرحية كما يقول تاريخ المسرح في العالم ، فالكم هو الذي يحقق أعمال متباينة وبالتالي يحقق متفرج متتبع متباين الذائقة، وبالتالي يتم إنتاج التصنيف والتقييم الإبداعي وهذه مهمة النقاد التي تفتقدها الساحة المسرحية الليبية .
"بجوّها" عرضاً مسرحياً تجاوز الأرقام السائدة من العروض على مدى مسيرة المسرح الليبي وكسر قاعدة عدم وجود متتبعين للمسرح. إذ تجاوز عدد عروضه " المائة وسبعون عرضاً" وهي من تأليف وإخراج " عبدالباسط أبوقندة " .
النص عبارة عن قراءة ورصد للعديد من مظاهر المجتمع، يعتمد فيها المؤلف اللهجة الدارجة الليبية لغة لحوار نصه الذي يقسمه ل " ست لوحات" معنوناً كل لوحة باسم يحمل تعريفاً لها " الجامعة، الفيريكيكو*، المرأة ، اللجنة الشعبية، المستشفى العام، المؤثرات العقلية،" تجسد من خلال " سبعة شخصيات " رقمت من الأول إلى السابع في افتتاحية النص المسرحي، ولكنها سرعان ما تذوب هذه الأرقام لتتحول إلى شخصيات نمطية وظيفية مثل " الدكتور، البائعة، المدير ، السكرتيرة، الأمين، العضو ...الخ " أو شخصيات حياتية مثل " الشاب ، الفتاة، الحاجة، الأخ، الأخت، الزوجة ..الخ" بينما ينتهي ظهور الأرقام الخامس والسادس والسابع ابتداء من اللوحة الرابعة . في المشهد الأخير من لوحة المرأة غاب على مؤلف النص إسباغ صفة"الزوج والزوجة" ليبقي على التعريف الأول " الشاب والفتاة" حتى بعد زواجهما. كان من الممكن أن يستدرك المؤلف في معرض تعريفه بشخصيات المسرحية المرقمة بتحميلها الأدوار التي تلعبها ،مثل" الأول ويجسد ، الشاب، المدير،الأمين". و"الثانية وتجسد ، الفتاة ، الحاجة ، الزوجة"، الى أخر الأرقام مراعياً فيها عدم تعارض ظهورها على الخشبة. وهذه الأبجدية في صناعة المسرحية يدركها " عبدالباسط أبوقندة" جيدا، من خلال خبرته في تجسيد الكثير من الأعمال التي تلتزم هذه التقنية في بناء المسرحية .
النص أعتمد على مفردتين مطاطيتين في ربط العلاقة المزدوجة بين المشاهد ببعضها من جانب. وبين النص والمتلقي من جانب أخر . هاتين المفردتين تتمثلان في مفردة " بجوّها" أولاً التي التقطها مؤلف النص ليحملها اسم المسرحية ، و بجعلها المرتكز الرئيسي التي يدور في فلكها الحوار . هذه الكلمة " الحية " بمعناها الواسع التي تحتمل الكثير من التأويلات وتتضمن الكثير من المعاني. فهي مفردة حديثة من اختراع " الشارع_ الناس_ الجمهور" أتاحت الرحابة للنص لتخرج به من "إستاتيكية" المفردة المصطنعة الجامدة إلى ليونتها وديناميكيتها . فكل الذي حدث "بجوّها" وكل الذي لم يحدث أيضاً "بجوّها" . والتي ستفيد العرض كثيراً .
المفردة الثانية التي أعتمدها النص " الجوقة أو الكورس أو المجموعة" التي استخدمها المؤلف للتمهيد للحدث أو التعليق عليه أو المشاركة فيه. فهو في هذا لم يتجاوز" المفهوم الأرسطي " من حيث وظيفتها ليتم استخدامها كعامل مساعد للمتلقي في دخوله في الحدث وإنبائه به والتعليق والمشاركة فيه وهذا ينعكس على تعريفها _ أي الجوقة_ بشخصيات المسرحية ومصائرها ، وزمن ومكان الأحداث والى أين تنتهي . كان من الممكن أن تقوم الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر " صالح ابوالسنون" بمهام الجوقة ، ولأنها دخيلة على النص فقد استعانت بالمفردتين _ كما أسلفت_ وجمعت بينهما فكان دورها تعليمياً ترشيدياً في أغلب اللوحات و تحريضياً كما في المقطع الأخير من أغنية النهاية. فمجهود الشاعر وتشبعه بالنص والفكرة يتضح في حفاظه على روح الفكرة وروح الحوار من حيث التناغم مع الشكل العام للنص ومفرداته ، ودعمه جمالياً . تظل اللوحة الأخيرة " المؤثرات العقلية" من أقوى اللوحات والأكثر صموداً في النص فهي عبارة عن مجموعة مشاهد متلاحقة ومركزة في تناولها للفكرة بعمق وبكل أبعادها ، على صعيد الحوار الذي اختير بعناية وبتركيز ، والبناء الدرامي . وقرأتها للشخصيات . فكانت مغايرة من حيث الشكل والأسلوب على بقية اللوحات التي سبقتها . فهي الوحيدة التي لم يلجا المؤلف فيها للاستعانة بالجوقة للشرح والتعليق فكانت كتلة مكتفية بذاتها .
ولأن المؤلف يكتب بروح مخرج فقد أبتعد عن الأقواس التي يلجا إليها المؤلفون عادة لشرح تفاصيل المشهد أو التعريف بالشخصيات . فكان المجهود الأكبر الذي قطعه المخرج أثناء كتابته للنص ساهم في تذليل الكثير من الصعاب التي تواجه تنفيذ النص من خلال الأسلوب الذي أعتمده في كتابة نصه . المنظر العام _ تنفيذ "محمد العربي، فتحي فصيل" _ عبارة عن خلفية سوداء بمثابة سبورة كبيرة كتب عليها بعض الجمل التي تشير على فحوى العرض ومضمونه وبعض الرسومات " علامة الخطر، قلب يخترقه سهم ، زجاجة خمر، يد... الخ " هي نفس الجمل والإشارات التي عادة نجدها تتصدر بعض الجدران وأسوار المباني . فهي وسيلة التعبير الوحيدة عند الأجيال في مرحلة الشباب عادة ، التي تساوي جريدة حائطية ، فقراءة حائط أو جدار ينبئك بالمشاعر العامة لهذه الشريحة ففيها تعبير عن" الحب والعذاب والقسوة والفضيلة ، وصولاً إلى النادي المفضل لديه " وهي التقاطه لماحة من المخرج ليمهد لطبيعة عرضه ، إضافة لأغنية المقدمة التي تدعم هذه الرؤيا _ الحان" البدري الكلباش"_ بجملها السلسة التي تتعاطاها الأذن بسهولة ودونما عناء مما يدل على خبرة الملحن في تعامله مع المتفرج وأيضا دليل على انصهاره في الرؤيا العامة للعمل . عدد سبعة كراسي ومشجبين ذات ألوان مبهجة وسائل المخرج لخلق مفردات تكويناته المسرحية " طاولة، باب، مكتب، صالة..الخ" ومنذ البداية يقوم المخرج بنسف الأسرار بينه وبين المتلقي من خلال تعامله معه بوضوح وجلاء. فتغيير المناظر على مرأى من المتفرج عن طريق الممثلين. وأيضاً تغيير الملابس يتم أمام المتفرج من خلال الحقائب التي تتضمن ملابس المشاهد لكل ممثل مما أعطى حرية للممثل في اختيار ملابسه .هذا الوضوح جعل عامل الثقة متبادل بين الممثلين والجمهور .إضافة للموضوعة العامة للمسرحية التي تتناول أحداث آنية تهم المتلقي. كما أتيحت للممثلين مساحة للارتجال والتعاطي مع الجمهور مع الحفاظ على الفكرة العامة للعرض ، مما جعل كل عرض يختلف عن الأخر حسب التجاوب وحسب ما يستجد من أحداث. العرض جسد من خلال خمس ممثلين " خالد كافو ، عبدالباسط ابوقندة، عيسى ابوالقاسم، جمال الحريري، عادل الجواشي،" وممثلثين " هدى عبداللطيف، نسمة" أكسبتهم تكرار العروض خبرة ساهمت في تطور علاقتهم بالمتفرج . إضافة لمساهمة الفنانتين " مهيبة نجيب ، بسمة الأطرش" في بعض العروض . قد تضطرهم الظروف للجوء لتجسيد العرض من خلال ممثلة واحدة دون الأضرار ببنية النص . الإضاءة _ سالم البركي_ كانت طيلة العرض عامة باستثناء اللوحة الأخيرة التي اختلفت في أسلوب إخراجها عن بقية اللوحات وأكثر دقة فقد اجتمعت فيها كل عناصر العرض المسرحي عندما تم عرضها في قاعة عرض مجهزة . الأسلوب الذي اعتمده المخرج في عمله جعله يتجاوز ظروف الأمكنة التي يعرض فيها( مسرح مجهز، مسرح مكشوف، صالة،مستوى،) بل أن بعض العروض كانت مواقيت عرضها نهاراً. هذه العوامل ساهمت في حيوية العرض وبالتالي ساهمت في عدد العروض.
العامل الثاني والمهم بأهمية العامل الفني وهو العامل الإداري والإنتاجي كما أشرت فالدعاية من العوامل الهامة في تصدير العمل الفني كما يعلم الجميع. ففريق "بجوّها "_ كما تطيب لهم التسمية_ رغم بدايتهم تحت مظلة المسرح الجامعي وبحكم العروض المتكررة كونوا خبرات إدارية تتمثل في " الصادق عبية" بمساعدة" وجدي البركي" مهمتها الدعاية والسعي للتعاقد مع كم من المؤسسات داخل المدن الليبية والسعي وراء الجمهور،بالذهاب إليه في مؤسساته التعليمية والمهنية والصناعية وفي مدنه ( طرابلس، السبيعة، السواني ، الزهراء،مصراته،زوارة، سرت، سبها، الخمس، الزاوية) . لا ننسى أهمية الإذاعة المرئية في دعم هذه المسرحية من خلال تصديرها لوجوه الممثلين كضيوف موسميين في منوعات شهر رمضان المبارك . هذه الجهود مجتمعة لاشك أسهمت كثيراً في ازدياد عدد العروض التي وصلت لها هذه المسرحية.