"الميت الحي " ..... سينوقرافيا
بعد أكثر من عشر سنوات يعود المخرج " محمد العلاقي " بمسرحيته " الميت الحي " التي كان قد عرضها بمهرجان المرحوم " محمد أبوشعالة " ببنغازي 1993م مع طلبة معهد جمال الدين الميلادي ، ولاقت حظ عرضها بمهرجاني " القاهرة التجريبي " و"أيام قرطاج المسرحية " ، محافظاً على تفاصيل العرض الأول مع تغيير كامل للممثلين .
النص الذي كتبه " محمد العلاقي " كتابة ركحية ، يعتبر من النصوص الليبية القليلة التي أنحازت تماماً " للسينوقرافيا". فسيطرة الشكل العام "المنظر " وطغيان الحركة على الحوار هي التي شكلت بنية النص وتقنيته ، فالنص كتب حسب منظوره ورؤيته مراعياً فيه متطلبات الخشبة و أسلوبه الذي يتسم بالهدؤ والتأمل والشاعرية ، كما في أغلب أعماله المسرحية.
قسم النص إلى ثلاث رحلات " رحلة الاكتشاف " " رحلة الحكايات " و " رحلة الهروب والعودة " .
تبداء الرحلة الأولى " رحلة الاكتشاف " بخروج تدريجي لبعض الأنماط من المجتمع ، " الشيخ ، الرجل ، الشاب، الفتاة " من خلال لوحة تشكيلية كبيرة تمثل مدينة منغلقة ومنكفئة داخل ذاتها ، لا تتمتع بعلاقات مع محيطها ولا تنتمي للخارج بأي صلة . من هنا يبداء السؤال والدهشة من خلال ردود أفعال شخصيات المسرحية وكيفية التواصل مع الخارج كل حسب طريقته، الدهشة الأولى تتمثل في اكتشافهم للجمهور " الناس " _ وبأن ثمة ناس _ و " بأن الدنيا واسعة وهم في ضيق " اكتشافهم لهذا الفضاء الواسع من الحرية والانطلاق أتاح لهم فرصة اكتشاف ذواتهم والعودة لأنفسهم وإعادة تحسس وتشكيل العلاقة فيما بينهم التي لم تكن ميسرة داخل ذلك الإطار ، ومن ثم تتحول الفتاة موضوع اهتمامهم الآسر ونقطة صراعهم "الحسي" الذي يمثله الرجل و" العاطفي " الطهراني الذي يمثله الشاب و " والإستاتيكي " الجامد الذي يمثله الشيخ ربما كمشروع لدمية داخل جدرانه السلفية ، من خلال اختراعهم _ الرجل ، الشاب ، الشيخ _ لطرق وحيل للفت وجدب اهتمام انتباه الفتاة . داخل هذا الصراع العائم ثمة " تابوتاً " يتصدر اللوحة في وضع أفقي ، حاز على القدر الأكثر من الجدل حول ماهيته ، وموقعه. والى أي ناحية يتم نقله ، جهة اليمين ، الوسط ، اليسار ؟ ليحسم الصراع أخيراً لصالح زاوية النظر ، فما يراه الشيخ يميناً يراه الشاب يساراً . من خلال فكرة توضيحية مسرحية مفادها يمين الخشبة عند الممثل تساوي يسار الخشبة عند المشاهد، ليستقر أخيراً وفي وضع رأسي ناحية اليسار من اللوحة .
الرحلة الثانية " رحلة الحكايات " هذه الرحلة تبداء من خلال سؤال استفهامي من الفتاة : " خيرهم يتفرجوا علينا .. أحكولي شنو القصة ؟! " ليبداء السباق المحموم على اشده بين شخصيات العمل " الرجل ، الشاب ، الشيخ " على من ينال رضى الفتاة كل حسب مرجعيته. الشيخ يستلهم حكايته من التراث الإسلامي ، عن تسامح وتواضع وعدل عمر بن عبدالعزيز. والرجل يستعين بالسيرة الهلالية من الموروث الشعبي عن رجولة وبطولة " بوزيد الهلالي وذياب " . والشاب يحكي من التراث العربي عن عفة ليلى صاحبة قيس بن الملوح. كل هذه الحكايا السلفية لم تنل حظها لتسكن هوى و قلب الفتاة ، التي تختار الغناء بديلاً لهذا العناء الذي يكابده الرجال في حضرتها .
الرحلة الثالثة " رحلة الهروب والعودة " هذه اللوحة تبداء بصراع مجنون حول من يمتلك الفتاة ؟ صراع ذئبي حول فريسة ، لم ينهي السباق سوى قيامة " الميت " من تابوته ناشراً الرعب والتسلط في قلوب الشخصيات ، التي ترفض العودة إلى سجنها وتخليها عن فردوسها التي لم تعمّر فيها طويلاً ، ولكن تحت تهديد الدكتاتور " الميت " بيده الطولى ترضخ الشخصيات للعودة ولم يفلح تملق الشيخ وحيله أمام عناد هذا الكائن الجبار .
هنا يترك الكاتب مجموعة من النقاط ينهي بها نصه . أهمها " تقدم الدكتاتور " الميت الحي " نحو الجمهور ليكشف عن وجه باك خلف قناعه الصارم " ربما يريد الكاتب هنا تأكيد فكرة " أعطني تاجاً وصولجاناً أعطيك ملكاًُ " وبأن فكرة " الدكتاتورية " تنمو في التربة الجاهزة لهذا الشكل من الحكم ، ربما ينتخبها محيطها التي ولدت و تعيش فيه . هنا يقول الكاتب بأن " الدكتاتور ضحية منظومة وإرث تاريخي وبأن هذا " الميت الدكتاتور " أي الفكرة القديمة، منذ أيام "نبوخد نصر و نيرون والحجاج " قد تحيا في حال توافرت شروطها و مناخها " الحي الدكتاتور" .
نقطتين أكدهما الكاتب دونما ذكر لتفاصيل إخراجية " حركات الأيدي ، وضع لوحة مغايرة لإخفاء اللوحة الأصلية " . تاركاً المجال أمام رؤيا أخرى قد تعيد إحياء هذا النص . هذا لا يعني بأن النص لم يترك مساحة لرؤيا مغايرة .
لا أدر لماذا يذكرني الكاتب بتقنية الحوار في المسرح التونسي مثلما نرى في بداية اللوحة الأولى
" الشاب : الدنيا واسعة واحنا في ضيق /
الشيخ : الدنيا واسعة/
الفتاة : الدنيا واسعة/
الرجل : الدنيا واسعة "
وفي اللوحة الثانية بعد إستفهام الفتاة عن القصة
" الرجل : القصة فيها دفس وعفس ورفس /
الشاب : القصة فيها تبزنيس وأدحنيس وتكوليس
/ الشيخ : القصة فيها تمشميش وأدشديش وتوشويش ....الخ "
والشواهد كثيرة لا يسع المجال لذكرها . يبدو أن الكاتب قد استفاد من هذه التقنية . كان بإمكان الكاتب إعطاء مساحة أكبر للشيخ في معرض حديثه عن سيرة المشيخة ومعاناتها فثمة تفاصيل تحتمل الإضافة والمشهدية وإشراك بقية الشخصيات . كالطلاق، والزواج، وتصدر الموائد ، ومنح البركات ، و حلقات الأذكار في المأتم ... الخ . تظل المرأة غير حاضرة في هذا النص فهي عبارة عن دمية مستسلمة عاجزة على تفعيل أي حدث ، الأمر الذي أفقدها روح المبادرة والقرار . كما أفقدها النص أيضاً حق التذمر والرفض فنراها شخصية باهتة لا تحمل أي ملامح ومحايدة تهلل لأي اتفاق يتخذه الرجال " يمين أو يسار أو وسط " كما رأينا في مشهد التابوت في اللوحة الأولى . فالنص تتلبسه روح ذكورية عالية بانحيازه التام للرجل ولا أعتقد بأن الكاتب يسعى لهذا المفهوم .
المخرج لم يبتعد تقريباً عن تفاصيل النص فقد استغنى ومنذ البداية عن الستارة . ليطالعنا المنظر العام بإضأته مصحوباً ً بالموسيقى . وهو عبارة عن لوحة كبيرة مؤطرة تحتل وسط وسط المسرح تمثل " بورتريه " لعروس في زينة محلية ، من خلالها يتم الخروج التدريجي لشخصيات المسرحية ، الشيخ " مفتاح الفقي " والرجل " نادر اللولبي " بملابسهما " الشعبية " و الشاب " إبراهيم المرغني" والفتاة " سالمة المرغني " بملابسهما المعاصرة . لا أريد أن أحكي كثيراً عن أداء الممثلين الذين لم تتاح لهم فرصة تدريبات كافية وهذا يتجلى كثيراً في إرتباكهم على صعيد الحركة والأداء . وعدم تشبعهم بأبعاد شخصياتهم . يظل الممثل مفتاح الفقي بخبرته حاول جاهداً بث الروح في الشخصية التي لعبها. في تقديري بأن الممثل " مفتاح الفقي " يأتي ضمن الممثلين الذين يجدون ذاتهم أثناء العرض ، فهم يستمدون طاقتهم وحيويتهم من الجمهور العنصر الفعال في العملية المسرحية . رغم إنطفائهم في فترة التدريبات ، فمفتاح الفقى بذل كل ما بوسعه لإضفاء نوع من الحيوية للشخصية . " نادر اللولبي " رغم تقديمه لشخصية تكبره سناً ، فقد تركز مجهوده في أدائه الصوتي ، كما حاول الاقتراب من ملامح الشخصية التي لها مساحتها المتفردة في النص هي وشخصية الشيخ . كان من المنتظر من " نادر " تقديم قراءة أفضل لهذه الشخصية لولا قلة اجتهاده وانشغاله بمسرحية " سلم وليدي " الذي قدم فيها أكثر من دور متميز . ليونة " إبراهيم المرغني " وأدائه ، رغم افتقاده للتجربة أنبأت على أدوات تؤهله لشق طريقه نحو هذا الفضاء المسرحي كممثل . الممثل " عبدالسلام التريكي " الممثل الوحيد في المسرحية الذي كان أداءه صامتاً وأعتماده لحركة ألية غير متقنة نتيجة قلة التمرينات . إنطفاء الممثلة " سالمة المرغني " في هذا العرض ربما يكون مرده افتقادها للمرتكزات التي يستند عليها الممثل في بنية الشخصية_الفتاة_ التي تجسدها . فالشخصية في النص تفتقد للأبعاد التي كان بإمكان المخرج الكاتب إحيائها عن طريق إعادة تطوير الحوار أو إثرائها عن طريق أدوات الممثل . وعناصر العرض عنده كمخرج ، وتحميلها بمضامين تحدد ملامح الشخصية . فنحن لا نعرف ماذا تمثل شخصية" الفتاة " في النص هل هي مجرد شاهد عن الأحداث ؟ أم تمثل انعكاس للوحة التي تساوي " الوطن أو البلد " ؟ أم مجرد دمية مهمشة في هذا المجتمع الذكوري ؟! . فعدم الاتفاق مع المخرج والاستقرار على صيغة لتحديد هذه الأبعاد ، العوامل الحقيقية التي أفقدت الممثلة بريقها إضافة إلى عدم اهتمامها بأدائها الصوتي وقوته ، الأمر الذي أفقدها خاصية إيصال الصوت إلى مسامع المتفرج . قد يكون عدم القدرة على التعامل مع تقنية ناقل الصوت المحمول الأمر الذي يفقد الممثل أحد أهم خاصياته . كان من الأجدى الاعتماد على قدراتهم الصوتية الطبيعية وتطويرها برعاية المخرج . هذا العمل الثاني بالنسبة للممثلة" سالمة المرغني" مع ذات المخرج . كان اللقاء الأول في عرض " لقاء " مع المركز الثقافي الفرنسي ، الذي كانت فيه الممثلة حلقة وصل بين شخصيتي " قستنتين كافافي " و" أرتور رامبو " الذي تمتعت فيه بسيطرة على أدواتها من حركة وأداء صوتي الى جانب حفاظها على الإيقاع العام للشخصية ، ولأن عرض " لقاء " عرض بصالة المركز الثقافي التي تضفي جواً من الحميمية والدفء في نفس الممثل على عكس صالة الكشاف التي تشعرك بالرهبة والفراغ على نفس الممثل الذي لم يتعامل على هذا النوع من قاعات العرض .المخرج " محمد العلاقي أعتمد نفس " السينوقرافيا " التي أستخدمها في العرض الأول ببنغازي دون مراعاة الفترة الزمنية التي تزيد عن عشر السنوات فإبقائه على اللوحة التي رسمت منذ ذلك الوقت دون إعادة مما أفقدها سؤ التخزين ملامحها أثرت على الشكل العام للمنظر حتى بدت أشبه بلوحة تجريدية مشوهة ، ضيعت المعنى والدلالة التي يريد أن يصل إليها المخرج . لجاء المخرج للدلالات المباشرة " إشارات الأيدي " دخل بنا مخرج النص إلى " الترميز المباشر " الرمز التقريري الأمر الذي ضيق مفهوم ورحابة النص . ولأني شاهدت عرض " بنغازي " الذي كان عبارة عن دفقه من الإبداع بإتقانه الشديد وتماسكه ، مقارنة بهذا العرض الذي كان ضحية التسرع وقلة التمارين ،في الوقت الذي أنباء فيه عن توافر جيل جديد من الممثلين الشباب الذين نفتقدهم لتغذية الساحة المسرحية " سالمة ، نادر ، إبراهيم ، عبدالسلام " الذين كانوا ضحايا لقلة التدريبات .
نأمل من الأستاذ " محمد العلاقي " العمل على إعادة العرض وبنفس الممثلين كرد اعتبار لعرض أعتبره من العروض القليلة التي ظلت في الذاكرة .
أخيراً أشكر فرقة " أبناء الشهداء " التي تبنت هذا العرض وفي انتظار مشاهدته في الوقت الذي أشكر فيه فريق العمل " عبدالله الأزهري " مساعد مخرج " ديكور " محمد الزرقاني " صوت " خليفة العويتي " إضاءة " صلاح الهجني" موسيقى "محمد المشاط " تنكر " فوزي الداكشي ".