" الغول "
الخوف من المجهول
المسرح الوطني طرابلس يختتم فعاليات " أيام طرابلس المسرحية " بمسرحية " الغول " من تأليف د. محمد صبري ، وسينوقرافيا د . حسن قرفال الذي تمكن من تسجيل حضوره على الساحة الإخراجية من جديد ليطوي زمن غيابه الذي دام أكثر من ربع قرن رغم المحاولات المتكررة مع هذه الفرقة _ المسرح الوطني/ طرابلس_ .." أحزان أفريقيا " لمحمد الفيتوري . " شهرزاد" لمصطفى الأمير. " لعبة السلطان والوزير" للبوصيري عبدالله ، بعض هذه الأعمال وقفت عند التدريبات الأولية، وبعضها وصلت إلى أخر المشوار دون أن تلاقي طريقها إلى العرض ، فبعد مسرحية " مايقعد في الوادي إلا حجره " لمصطفى الأمير لتليها مسرحية " بين يوم وليلة " لنفس الكاتب مع الفرقة القومية يعد هذا العمل " الغول" مع المسرح الوطني العمل الثالث في رصيد حسن قرفال الإخراجي .
النص للمسرحي العراقي محمد صبري وهو نص قصير نستطيع اختصاره في هذه الجملة :" ماذا سنفعل حيال كائن هلامي يزرع الموت، والرعب يمتلك القدرة على التشبه بأي هيأة يختارها ليحقق جريمته ؟ ربما يتشبه بأبيك أو أمك أو أخيك ...أو بك" . هذه الفكرة السريالية طرحت من خلال أسرة تتمثل في أب وأم وابن ومذيع إضافة إلى أصوات خارجية، الجار ، والرجل . تدور أحداث المسرحية في منزل هذه الأسرة في زمان ما في مكان ما. أربك وجودها كائن ينشر الموت لديه القدرة على التشبه _ وأحيانا يصفه النص بأنه ذو عين واحدة_ فقد زرع الشك في أفراد هذه الأسرة مما جعلها تقضي على بعضها لنكتشف أن الابن هو الكائن المرعب بعد موت الأم بيد الأب وموت الأب بيد الابن ينتهي النص الذي كان مجرد حلم لنرى نفس الأسرة يجمعها الود والمحبة مع تمتعها بعلاقة ودودة مع جارها. لم يوضح النص من وجهة نظر أي من الشخصيات كان هذا الحلم . اختار الكاتب العربية الفصحى لغة لحوار مسرحيته ، كما أعتمد شرح الجمل الحوارية للنص فنراه كثير التشبيهات إضافة للغنائيته العالية باختياره مفردات خطابية التي يسميها بعض النقاد ب"الحضور الصوتي" . اشتغل كاتب النص من الخارج مما جعل هذه الجمل لا تحدث فعل وتنتهي في الوقت الذي بدأت فيه .هذه الولادة الميتة للجمل أحدثت إرباكا في تطور الحدث المسرحي وتفعيله ، كما نرى في هذه الجمل على لسان شخصيات المسرحية ( تتزحلق كلمات التقريع إلى مسامعك وكأنها أحرف موسيقية / الوقت يمضي خفية كالأفعى / صحوتنا كالنوم ، ونومنا كالموت / تتزحلق كلمات التقريع الى مسامعك وكأنها أحرف موسيقية ./ مجاميع بشرية تتجه في كل مكان كإعصار مجنون ./ كحبات المسبحة الواحدة تتبع الأخرى / مقزز كالقيح / مر كالعلقم / كأننا نمشي على ظهر بركان نائم لا ندري متى ينتفض ./ سأكتفي بالمشاهدة مثل بوم أحول / سأدعوه إلى البيت مثل ناسك حكيم ليقضي الليلة مستمعا إلى مواعضك / ستمضغك التماسيح كلبانة حتى أذنيك ... الخ . ) أحاط الكاتب بجمله هالة من الغموض والغرائيبية " الكذب صلاة العصر / سأكتفي بالمشاهدة مثل بوم أحول/الخوف الرمادي " .لا يسع المجال لذكر المزيد . هذا الغموض أبعد المتلقي على جوهر الفكرة الأساسية الأزلية ألا وهي الصراع مع المجهول كما أنها تحتمل الكثير من الأسئلة من العدو ؟ من الصديق ؟ وبالتالي من أنا؟ هذه الفكرة الحية كانت ضحية الأسلوب الذي اعتمده الكاتب ليوصل به فكرته وأيضاً من خلال اكتنافه لهذا الغموض أبعده عن الترابط والتواصل الأمر الذي جعلنا نلحظ في النص كثيراً من الجمل المنفصلة . في الوقت الذي حاول فيه الكاتب خلق حدث حي جاء هذا الحدث مفتعلاً كما نرى في تحذير المذيع بوجود المخلوق المرعب سارعت الأسرة بغلق الأبواب والنوافذ مع علمنا بأن المذيع لم يأت بجديد, فالمعلومة كانت في متناول الأسرة منذ بداية النص المسرحي. ثمة مقاطع كثيرة في النص بالإمكان الاستغناء عنها دون التأثير في سياق النص مثلما جاء على لسان المذيع " اليكم قصيدة مسروقة من معطف الخوف الرمادي ، من رحم التاريخ الممزق بالخيانة ، من غور الماضي السحيق تمتد أيادي تلوح بالوداع ، أكاذيب, سراديب, أقفال, وسلاسل تلتوي تتكدس تنتظر كل غشاوة تتهراء كالجثة ممنوع أن تتحرك خارج نفسك ، مرفوض أن تضحك ليلة عرسك ".
نرى في سياق النص طغيان الصوت الواحد من خلال تشابه حواريات الشخصيات الأمر الذي جعل هذه الشخصيات لا تحمل خصوصية وأبعاد تتفرد بها. نلاحظ عدم التغير في السياق لو نسبت أي جملة من الحوار لأي شخصية من الشخصيات كما في هذا المقطع في النص لو نسب حوار الأم للأب ونسب حوار المذيع للأم والعكس فالسياق يظل كما هو عليه والحال نفسه لو وردت هذه الجمل على لسان شخصية واحدة .
الأم :- ملعون من يطرق في الظلمة باب مدينتنا .
الأب :-مذموم من يسمح للفقر أن يخلع نعليه ويجلس في رحم منازلنا
المذيع :- منكوب من يهز أوتاد النصر ويوخز سيقان حضارتنا .
المذيع في النص هو لسان حال السلطة أو الآلة الإعلامية نراه في كثير من مقاطع المسرحية لسان حال الضحية كما رأينا في المقطع السابق والأتي :
المذيع:- ليس من الضروري فمن دون شك ان الضحية هي التي قصدت الموت وعندما تلوذ الأفواه بالصمت وينقشع بخار الدم تستوي الأمور وتبداء الحياة
الابن :- الكذب صلاة العصر والغش استغفار لمعبود كذب .
المذيع:- نبي هذا الزمان كاذب .
الأب :- كأنهما أضغاث أحلام منقوشة في سحب النوم لا تفسير لها.
الأم :- العقل يمتنع عن عن قبولها عارية في معبده " إلي الابن " إلى أين يا ولد ؟.
الأبن :- الجدران تزحف نحوي من كل جانب ويدور في رأسي المكان ويكبر , سأبحث في الخارج عن الذل .
من خلال النص ليس هناك ما يشير على مهنة المذيع من خلال تعريف الشخصيات ولا من خلال تعريفه بنفسه . المهنة اسبغها عليه الكاتب دونما أن يؤكدها في النص ، كما ترك الأسماء تعبيرية . الأب، الأم، الابن .... الخ.
حسن قرفال لم يبتعد عن سوداوية النص من خلال السينوقرافيا التي اعتمدها، فالديكور عبارة عن تجريد لمنزل يقترب لونه من السواد. نلاحظ ساعة حائطية عقاربها أفعى كما يشير الحوار " الوقت يمضي خفية كالأفعى " مع جهاز إذاعة مرئية موازياً لها، شاشة في اعلى شمال الخشبة لعرض صور الكائن من وجهة نظر شخصيتي الأب والأم . مع إضافة سلم ذو لون ابيض وأزرق ربما يشير المخرج هنا لعلمي إسرائيل وأمريكيا وربما يحمل دلالة برج محطة إذاعية وهو المكان المخصص للمذيع " علي الشول " مع طاولة وكراسي بلون الشكل العام للمنظر. عمل المخرج في بعض المواقع مفارقاً للنص محاولاً تضمينه معاني أخرى يتضح هذا عندما انتقى شخصية المذيع ليضمنها معاني مغايرة تماما لما يشير إليها النص إضافة للشخصية الأصلية في النص ، بجعل هذا المذيع شخصية يهودية أو صهيونية من خلال الملابس ومن خلال المفردات الدلالية التي حمّل بها أداء الممثل الحركي ودلالة رجال الدين وتراتيلهم أمام حائط المبكى كما حمله في ذات الوقت شخصية الكائن الهلامي الذي يقوم بقتل أفراد الأسرة بدل الابن " جمال ابوميس " وبالتالي يحسم السؤال بهذا التعريف بإناطته الغموض حول ماهية" الغول" سؤال المسرحية. بل أحيانا يحيل الشخصية الى شخصية أمريكية من خلال دلالة ورق اللعب عند تمزيقه لورقة لعب إثر كل ضحية " البنت عند موت الأم " منيرة الغرياني" ، الولد عند موت الابن, الملك عند موت الأب" علي القبلاوي " هذه الدلالة تجلت في حرب الخليج .
ينتهي العرض بينما تظل الصالة مظلمة مما يفيد بأن العرض لم ينته ، حتى خروج المخرج ليعرف عن نفسه وليلعن الظلام حاثاً الجمهور بإشعال شمعة وبشكل مسرحي يبداء بإشعال الشمعة ليتبعه جمهور المتفرجين_ الذي زود بشموع لهذا الغرض _ في ذات الوقت تنطلق الأغنية الوطنية " جماهيرية ... سلطة شعبية " تؤديها فرقة نحاسية جلبت لهذا الغرض أيضاً . هذه النهاية لا تبث بالعرض بأي صلة رغم التواصل الذي أحدثه خروج المخرج بأدائه المسرحي .فالعرض لا يتكلم على سلطة الشعب ودخولها كان قسريا ومفارقاً وغير مدروس ، كان بإمكان المخرج اختيار أي لحن وطني له علاقة بالظلم والظلام والمستقبل والأمل أو أي معنى من هذه المعاني ، بل كان بإمكانه أن يخلق كلمات والحان تتماشى مع هذه النهاية .
استحدثت في هذه الأيام ظاهرة ناقلات الصوت المحمولة التي اعتمدها الكثير من المخرجين محمد العلاقي في مسرحية " الميت الحي" عبدالله الزروق في مسرحيته" امرأتان " وأخيراً المسرح الوطني طرابلس في هذه المسرحية والغريب ان هذه التقنية كان ضحيتها ممثلين لديهم القدرة على إيصال صوتهم إلى أخر متفرج علي القبلاوي ، علي الشول ، جمال ابوميس ، منيرة الغرياني ، مفتاح الفقي . هذه التقنية سببت الكثير من الإرباك في حركة الممثلين وأدائهم المتضرر الأكثر في هذا العمل كان الممثل " جمال ابوميس " الذي في كثير من الأحيان يغيب صوته ، علي القبلاوي كنت انتظر منه أكثر في قرأته للشخصية ما قدمه عبارة عن نسخة مكررة من شخصية الأب توت في مسرحية " قطار الموت " لفتحي كحلول نأمل إعادة قرأته لهذه الشخصية فالشخصيتان تحمل نفس الملامح التوتر والخوف والارتباك ولكنها لا تحمل نفس الأبعاد ، مجهود المخرج واضح مع الممثل علي الشول خاصة في الليونة بهذا يتحصل على رصيد أخر في سيرته المسرحية . الممثلة منيرة الغرياني مجهودها واضح في أدائها للشخصية .
"مفتاح الفقيه " قدم شخصيتين غير منظورتين " الجار" و "الرجل " .
الموسيقى التصويرية التي قام بتلحينها " فتحي كحلول " جأت منسجمة مع السياق العام للعرض
في المجمل العرض متماسك ومتقن محافظاً على " الهرموني" العام للعرض حركة إضاءة موسيقى ... الخ مهما كان اختلافنا مع رؤية المخرج أو اتفاقنا معه .
أخيراً لا يسعني إلا ان اشكر فريق العمل ،الديكور تنفيذ " فريد ابوعزة ، عون الشبلي، فوزي برباش " ، حيل "فوتقرافية " محمد كرازة ، موسيقى تصويرية " فتحي كحلول " تنفيذ إضاءة " صلاح الهجني " صوت " محمد القبايلي " مخرج مساعد " فوزي برباش " إدارة مسرحية " عبدالله الأزهري ".
أخيراً أريد أن اسجل شكري لحسن قرفال على إنجاز هذا العمل الذي يدل على جديته واحترامه للمؤسسة التي عمل تحت مظلتها ومن خلالها المسرح الوطني / طرابلس بإدارة الفنان علي القبلاوي .
" المدنيني "...*
الخوف من المجهول
المسرح الوطني طرابلس يختتم فعاليات " أيام طرابلس المسرحية " بمسرحية " الغول " من تأليف د. محمد صبري ، وسينوقرافيا د . حسن قرفال الذي تمكن من تسجيل حضوره على الساحة الإخراجية من جديد ليطوي زمن غيابه الذي دام أكثر من ربع قرن رغم المحاولات المتكررة مع هذه الفرقة _ المسرح الوطني/ طرابلس_ .." أحزان أفريقيا " لمحمد الفيتوري . " شهرزاد" لمصطفى الأمير. " لعبة السلطان والوزير" للبوصيري عبدالله ، بعض هذه الأعمال وقفت عند التدريبات الأولية، وبعضها وصلت إلى أخر المشوار دون أن تلاقي طريقها إلى العرض ، فبعد مسرحية " مايقعد في الوادي إلا حجره " لمصطفى الأمير لتليها مسرحية " بين يوم وليلة " لنفس الكاتب مع الفرقة القومية يعد هذا العمل " الغول" مع المسرح الوطني العمل الثالث في رصيد حسن قرفال الإخراجي .
النص للمسرحي العراقي محمد صبري وهو نص قصير نستطيع اختصاره في هذه الجملة :" ماذا سنفعل حيال كائن هلامي يزرع الموت، والرعب يمتلك القدرة على التشبه بأي هيأة يختارها ليحقق جريمته ؟ ربما يتشبه بأبيك أو أمك أو أخيك ...أو بك" . هذه الفكرة السريالية طرحت من خلال أسرة تتمثل في أب وأم وابن ومذيع إضافة إلى أصوات خارجية، الجار ، والرجل . تدور أحداث المسرحية في منزل هذه الأسرة في زمان ما في مكان ما. أربك وجودها كائن ينشر الموت لديه القدرة على التشبه _ وأحيانا يصفه النص بأنه ذو عين واحدة_ فقد زرع الشك في أفراد هذه الأسرة مما جعلها تقضي على بعضها لنكتشف أن الابن هو الكائن المرعب بعد موت الأم بيد الأب وموت الأب بيد الابن ينتهي النص الذي كان مجرد حلم لنرى نفس الأسرة يجمعها الود والمحبة مع تمتعها بعلاقة ودودة مع جارها. لم يوضح النص من وجهة نظر أي من الشخصيات كان هذا الحلم . اختار الكاتب العربية الفصحى لغة لحوار مسرحيته ، كما أعتمد شرح الجمل الحوارية للنص فنراه كثير التشبيهات إضافة للغنائيته العالية باختياره مفردات خطابية التي يسميها بعض النقاد ب"الحضور الصوتي" . اشتغل كاتب النص من الخارج مما جعل هذه الجمل لا تحدث فعل وتنتهي في الوقت الذي بدأت فيه .هذه الولادة الميتة للجمل أحدثت إرباكا في تطور الحدث المسرحي وتفعيله ، كما نرى في هذه الجمل على لسان شخصيات المسرحية ( تتزحلق كلمات التقريع إلى مسامعك وكأنها أحرف موسيقية / الوقت يمضي خفية كالأفعى / صحوتنا كالنوم ، ونومنا كالموت / تتزحلق كلمات التقريع الى مسامعك وكأنها أحرف موسيقية ./ مجاميع بشرية تتجه في كل مكان كإعصار مجنون ./ كحبات المسبحة الواحدة تتبع الأخرى / مقزز كالقيح / مر كالعلقم / كأننا نمشي على ظهر بركان نائم لا ندري متى ينتفض ./ سأكتفي بالمشاهدة مثل بوم أحول / سأدعوه إلى البيت مثل ناسك حكيم ليقضي الليلة مستمعا إلى مواعضك / ستمضغك التماسيح كلبانة حتى أذنيك ... الخ . ) أحاط الكاتب بجمله هالة من الغموض والغرائيبية " الكذب صلاة العصر / سأكتفي بالمشاهدة مثل بوم أحول/الخوف الرمادي " .لا يسع المجال لذكر المزيد . هذا الغموض أبعد المتلقي على جوهر الفكرة الأساسية الأزلية ألا وهي الصراع مع المجهول كما أنها تحتمل الكثير من الأسئلة من العدو ؟ من الصديق ؟ وبالتالي من أنا؟ هذه الفكرة الحية كانت ضحية الأسلوب الذي اعتمده الكاتب ليوصل به فكرته وأيضاً من خلال اكتنافه لهذا الغموض أبعده عن الترابط والتواصل الأمر الذي جعلنا نلحظ في النص كثيراً من الجمل المنفصلة . في الوقت الذي حاول فيه الكاتب خلق حدث حي جاء هذا الحدث مفتعلاً كما نرى في تحذير المذيع بوجود المخلوق المرعب سارعت الأسرة بغلق الأبواب والنوافذ مع علمنا بأن المذيع لم يأت بجديد, فالمعلومة كانت في متناول الأسرة منذ بداية النص المسرحي. ثمة مقاطع كثيرة في النص بالإمكان الاستغناء عنها دون التأثير في سياق النص مثلما جاء على لسان المذيع " اليكم قصيدة مسروقة من معطف الخوف الرمادي ، من رحم التاريخ الممزق بالخيانة ، من غور الماضي السحيق تمتد أيادي تلوح بالوداع ، أكاذيب, سراديب, أقفال, وسلاسل تلتوي تتكدس تنتظر كل غشاوة تتهراء كالجثة ممنوع أن تتحرك خارج نفسك ، مرفوض أن تضحك ليلة عرسك ".
نرى في سياق النص طغيان الصوت الواحد من خلال تشابه حواريات الشخصيات الأمر الذي جعل هذه الشخصيات لا تحمل خصوصية وأبعاد تتفرد بها. نلاحظ عدم التغير في السياق لو نسبت أي جملة من الحوار لأي شخصية من الشخصيات كما في هذا المقطع في النص لو نسب حوار الأم للأب ونسب حوار المذيع للأم والعكس فالسياق يظل كما هو عليه والحال نفسه لو وردت هذه الجمل على لسان شخصية واحدة .
الأم :- ملعون من يطرق في الظلمة باب مدينتنا .
الأب :-مذموم من يسمح للفقر أن يخلع نعليه ويجلس في رحم منازلنا
المذيع :- منكوب من يهز أوتاد النصر ويوخز سيقان حضارتنا .
المذيع في النص هو لسان حال السلطة أو الآلة الإعلامية نراه في كثير من مقاطع المسرحية لسان حال الضحية كما رأينا في المقطع السابق والأتي :
المذيع:- ليس من الضروري فمن دون شك ان الضحية هي التي قصدت الموت وعندما تلوذ الأفواه بالصمت وينقشع بخار الدم تستوي الأمور وتبداء الحياة
الابن :- الكذب صلاة العصر والغش استغفار لمعبود كذب .
المذيع:- نبي هذا الزمان كاذب .
الأب :- كأنهما أضغاث أحلام منقوشة في سحب النوم لا تفسير لها.
الأم :- العقل يمتنع عن عن قبولها عارية في معبده " إلي الابن " إلى أين يا ولد ؟.
الأبن :- الجدران تزحف نحوي من كل جانب ويدور في رأسي المكان ويكبر , سأبحث في الخارج عن الذل .
من خلال النص ليس هناك ما يشير على مهنة المذيع من خلال تعريف الشخصيات ولا من خلال تعريفه بنفسه . المهنة اسبغها عليه الكاتب دونما أن يؤكدها في النص ، كما ترك الأسماء تعبيرية . الأب، الأم، الابن .... الخ.
حسن قرفال لم يبتعد عن سوداوية النص من خلال السينوقرافيا التي اعتمدها، فالديكور عبارة عن تجريد لمنزل يقترب لونه من السواد. نلاحظ ساعة حائطية عقاربها أفعى كما يشير الحوار " الوقت يمضي خفية كالأفعى " مع جهاز إذاعة مرئية موازياً لها، شاشة في اعلى شمال الخشبة لعرض صور الكائن من وجهة نظر شخصيتي الأب والأم . مع إضافة سلم ذو لون ابيض وأزرق ربما يشير المخرج هنا لعلمي إسرائيل وأمريكيا وربما يحمل دلالة برج محطة إذاعية وهو المكان المخصص للمذيع " علي الشول " مع طاولة وكراسي بلون الشكل العام للمنظر. عمل المخرج في بعض المواقع مفارقاً للنص محاولاً تضمينه معاني أخرى يتضح هذا عندما انتقى شخصية المذيع ليضمنها معاني مغايرة تماما لما يشير إليها النص إضافة للشخصية الأصلية في النص ، بجعل هذا المذيع شخصية يهودية أو صهيونية من خلال الملابس ومن خلال المفردات الدلالية التي حمّل بها أداء الممثل الحركي ودلالة رجال الدين وتراتيلهم أمام حائط المبكى كما حمله في ذات الوقت شخصية الكائن الهلامي الذي يقوم بقتل أفراد الأسرة بدل الابن " جمال ابوميس " وبالتالي يحسم السؤال بهذا التعريف بإناطته الغموض حول ماهية" الغول" سؤال المسرحية. بل أحيانا يحيل الشخصية الى شخصية أمريكية من خلال دلالة ورق اللعب عند تمزيقه لورقة لعب إثر كل ضحية " البنت عند موت الأم " منيرة الغرياني" ، الولد عند موت الابن, الملك عند موت الأب" علي القبلاوي " هذه الدلالة تجلت في حرب الخليج .
ينتهي العرض بينما تظل الصالة مظلمة مما يفيد بأن العرض لم ينته ، حتى خروج المخرج ليعرف عن نفسه وليلعن الظلام حاثاً الجمهور بإشعال شمعة وبشكل مسرحي يبداء بإشعال الشمعة ليتبعه جمهور المتفرجين_ الذي زود بشموع لهذا الغرض _ في ذات الوقت تنطلق الأغنية الوطنية " جماهيرية ... سلطة شعبية " تؤديها فرقة نحاسية جلبت لهذا الغرض أيضاً . هذه النهاية لا تبث بالعرض بأي صلة رغم التواصل الذي أحدثه خروج المخرج بأدائه المسرحي .فالعرض لا يتكلم على سلطة الشعب ودخولها كان قسريا ومفارقاً وغير مدروس ، كان بإمكان المخرج اختيار أي لحن وطني له علاقة بالظلم والظلام والمستقبل والأمل أو أي معنى من هذه المعاني ، بل كان بإمكانه أن يخلق كلمات والحان تتماشى مع هذه النهاية .
استحدثت في هذه الأيام ظاهرة ناقلات الصوت المحمولة التي اعتمدها الكثير من المخرجين محمد العلاقي في مسرحية " الميت الحي" عبدالله الزروق في مسرحيته" امرأتان " وأخيراً المسرح الوطني طرابلس في هذه المسرحية والغريب ان هذه التقنية كان ضحيتها ممثلين لديهم القدرة على إيصال صوتهم إلى أخر متفرج علي القبلاوي ، علي الشول ، جمال ابوميس ، منيرة الغرياني ، مفتاح الفقي . هذه التقنية سببت الكثير من الإرباك في حركة الممثلين وأدائهم المتضرر الأكثر في هذا العمل كان الممثل " جمال ابوميس " الذي في كثير من الأحيان يغيب صوته ، علي القبلاوي كنت انتظر منه أكثر في قرأته للشخصية ما قدمه عبارة عن نسخة مكررة من شخصية الأب توت في مسرحية " قطار الموت " لفتحي كحلول نأمل إعادة قرأته لهذه الشخصية فالشخصيتان تحمل نفس الملامح التوتر والخوف والارتباك ولكنها لا تحمل نفس الأبعاد ، مجهود المخرج واضح مع الممثل علي الشول خاصة في الليونة بهذا يتحصل على رصيد أخر في سيرته المسرحية . الممثلة منيرة الغرياني مجهودها واضح في أدائها للشخصية .
"مفتاح الفقيه " قدم شخصيتين غير منظورتين " الجار" و "الرجل " .
الموسيقى التصويرية التي قام بتلحينها " فتحي كحلول " جأت منسجمة مع السياق العام للعرض
في المجمل العرض متماسك ومتقن محافظاً على " الهرموني" العام للعرض حركة إضاءة موسيقى ... الخ مهما كان اختلافنا مع رؤية المخرج أو اتفاقنا معه .
أخيراً لا يسعني إلا ان اشكر فريق العمل ،الديكور تنفيذ " فريد ابوعزة ، عون الشبلي، فوزي برباش " ، حيل "فوتقرافية " محمد كرازة ، موسيقى تصويرية " فتحي كحلول " تنفيذ إضاءة " صلاح الهجني " صوت " محمد القبايلي " مخرج مساعد " فوزي برباش " إدارة مسرحية " عبدالله الأزهري ".
أخيراً أريد أن اسجل شكري لحسن قرفال على إنجاز هذا العمل الذي يدل على جديته واحترامه للمؤسسة التي عمل تحت مظلتها ومن خلالها المسرح الوطني / طرابلس بإدارة الفنان علي القبلاوي .
" المدنيني "...*