حكاية ننس.. حكاية من وحي شبرا
كنت زمان بحب واحدة مسيحية اسمها نادية نبيل سند، كنت بدلعها واقولها: يا ننس. اختصارا لاسمها اللي ما كنت أعرف إنه مسلم ولا مسيحي. ولما سألتني اسمك إيه، قلت لها اسمي نبيل، لكن أمي تدلعني وتقول لي يا بلبل. ضحكتْ وقالت: أنا كمان بدلع بابا واقوله يا بلبل.
ضحكتها خيط حرير، ربط بيننا. كنا بنتقابل كتير، وفي كل مقابلة نتفق على المقابلة التانية، نحدد الزمان والمكان، ونحدد الشجرة اللي هنقعد تحتها على الكورنيش. نعاهد بعض قبل ما نفترق، اضغط على كفها، وأقولها: اوعي تتأخري يا ننس.
تضحك وتقول: أنت اللي بتتأخر دايما يا بلبل.
أيامها مكانش فيه موبايلات، ولا حد منا عنده تليفون في البيت، زينا زي كل الناس الفقرا. لكن كان فيه حب.. أيوا كنا بنعرف نحب، ونحب بجد، ونحفظ كل أغاني الحب. وزى كل الحبيبة الفقرا، كنا نتمشى على كورنيش الساحل، ونركب معدية للوراق عشان محدش يشوفنا من شارعهم، نشرب حاجة ساقعة، ناكل ترمس، وساعات كتير نقضيها قرديحي لأني ما كنتش لسه اشتغلت، وهي كانت بتدرس خدمة اجتماعية في معهد بالقللي. على فكرة اتقابلنا أول مرة في نفق شبرا، كنت راجع من سينما كوزموس في عماد الدين، وصعبت عليا لما وقعت منها الكتب، فساعدتها، شكرتني وكملنا المشوار سوا.
مش فاكر كم مرة اتقابلنا بعدها، كنا نمشي ونتكلم، واسمعها قصايد شعر، كنت بحفظها من ديوان أغاني الكوخ، وأقولها أنا اللي مألفها. هي كانت بتصدق كل حاجة أقولها، وتحب كل حاجة أعملها، لكن عمرها ماقالت لي بحبك، معرفش ليه!! رغم إنها كانت بتقبل لمسة من إيدي، وتسيب نفسها في حضني في زحمة تروماي شبرا، قال يعني غصب عنها بسبب الزحمة.
كانت بتنزل في محطة الخلفاوي كل مرة، وفي يوم لقيتها عاوزة تنزل قبل محطتها بمحطة، وقالت لي رايحة لواحدة صاحبتي في شارع الورشة.
قلت لها آجي معاكي أوصلك لحد بيتها، رفضت. ولما لقيت إصرارها على الرفض، شكيت انها رايحة تقابل واحد تاني غيري. هي نزلت في المحطة، وأنا نزلت من باب تاني أول ما التروماي بدأ يتحرك. وقفت ورا عمود النور أراقبها وهي بتعدي الشارع وقلبي مولع من الغيرة، لقيتها دخلت كنيسة سانت تريزا، دخلت وراها وماحدش قال لي رايح فين، وفجأة لقيتها واقفة قدام صندوق قزاز كبير، فيه عروسة نايمة بفستان أبيض، ووش زى الملايكة، وشموع كتير حواليها في كل مكان. حسيت بالخوف والرهبة، مشيت على طراطيف صوابعي، لغاية ما قربت منها، همست في ودنها:
- أنت بتعملي أيه هنا يا ننس؟
ارتبكت وقالت لي: أنت أيه اللي جابك هنا؟
- أنا جيت وراكي.
قالت بصوت خافت: طيب أنا مسيحية، لكن أنت مسلم.
قلت لها: ليه ما قلتيش من الأول؟
قالت لي: خفت تسبني وتبعد عني.
قلت لها: لكن أنتي مش دقة صليب على يدك.
قالت: احنا ما بندقش.
مفهمتش. وكنت فاكر إن كل المسيحيين بيدقوا صليب على أيديهم، لكن بعدين عرفت إن ده مش شرط.
قلت لها: يعني أنت بتحبيني بجد؟
قالت لي: تشهد عليا سانت تريزا إني حبيتك يا بلبل، لكن ما ينفعش، لا أهلي يوافقوا ولا أهلك.
ودي كانت أول مرة تعترف لي أنها بتحبني.
قلت: لها سيبك من أهلي وأهلك، قالت لي:
-يا حبيبي ما ينفعش.. صدقني، والمسيح الحي ما ينفع.
كنت حاسس إنها نصي التاني، ومقدرش أعيش من غيرها، وفهمت إنها متمسكه بأهلها ودينها.
قلت لها: ممكن نتجوز وكل واحد يفضل على دين أهله وأهل اللي خلفوه.
ضحكتْ وقالت: لو كان ربنا رايد إننا نكون لبعض كنا طلعنا من دين واحد.
مقدرتش اتكلم، بس مكنتش عارف تقصد ربنا بتاعها ولا بتاعي. عموما.. ما تفرقش طالما هو مش رايد. لكن فضلت اسأل نفسي: لو ربنا مش رايد.. ليه خلانا نحب بعض؟
طلعنا برة الكنيسة، ومشينا كالعادة، لكن مفيش كلام، ولا لمسة يد، كأننا راضعين من أم واحدة ومتحرمين على بعض. اتقابلنا بعدها مرتين تلاتة، لكن مقابلاتنا انقطعت. هي ضربت آخر ميعاد، بعد كده، بقيت ألف حوالين بيتها زى المجنون عشان بس أشوفها، وأزور سانت تريزا، أولع شمعة وأقولها، والمصحف الشريف أنا بحب ننس.
أيام كتير مرت وأنا قاعد في بيتنا بعد ما يئست من أني أشوفها تاني. أكيد ربنا مش رايد. بس أكيد رايد أني أحب الشعر، واتعلق بأغاني الكوخ. وفي كل مرة اقرا وافتكر إني كذبت عليها، لما قلت لها أني الشعر ده من تأليفي.
مش فاكر بعد كام سنة شفتها يمكن تلاتة أو أكتر. كانت شايله طفل، ومعلقة شنطة كبيرة في كتفها. في الأول معرفتهاش، اتغيرت شويه. لكن هي أكيد عرفتني على طول، وبسرعة غيرت اتجاهها وطلعت على الرصيف، تقريبا اتكعبلت في حاجة، لأنها كانت هتقع، ومسكت نفسها بالعافية، ودخلت العمارة اللي جنب استديو نجيب، وكان قدامها بواب قاعد على كرسي، بص لي جامد لما شافني باصص عليها، عديت للرصيف المقابل، وعيني على شبابيك العمارة، وزي ما توقعت، لمحت وشها من ورا الستارة. يمكن ثواني، واختفت بسرعة، فمشيت وأنا أندندن:
اقبلي كالصلاة
اقبلي كصلاة رقرقها النسك
بمحراب عابد متبتل
اقبلي آية من الله علينا
زفها للوجود وحيُ مُنزَل
اقبلي كالجراح ظمأى
وكأس الحب ثكلى
والشعر ناي معطل
أنت لحنُ على فمي عبقري
وأنا في حدائق الله
بلبل*
*قصيدة: أنت دير الهوى، وشعري صلاة، للشاعر محمود حسن إسماعيل.
كنت زمان بحب واحدة مسيحية اسمها نادية نبيل سند، كنت بدلعها واقولها: يا ننس. اختصارا لاسمها اللي ما كنت أعرف إنه مسلم ولا مسيحي. ولما سألتني اسمك إيه، قلت لها اسمي نبيل، لكن أمي تدلعني وتقول لي يا بلبل. ضحكتْ وقالت: أنا كمان بدلع بابا واقوله يا بلبل.
ضحكتها خيط حرير، ربط بيننا. كنا بنتقابل كتير، وفي كل مقابلة نتفق على المقابلة التانية، نحدد الزمان والمكان، ونحدد الشجرة اللي هنقعد تحتها على الكورنيش. نعاهد بعض قبل ما نفترق، اضغط على كفها، وأقولها: اوعي تتأخري يا ننس.
تضحك وتقول: أنت اللي بتتأخر دايما يا بلبل.
أيامها مكانش فيه موبايلات، ولا حد منا عنده تليفون في البيت، زينا زي كل الناس الفقرا. لكن كان فيه حب.. أيوا كنا بنعرف نحب، ونحب بجد، ونحفظ كل أغاني الحب. وزى كل الحبيبة الفقرا، كنا نتمشى على كورنيش الساحل، ونركب معدية للوراق عشان محدش يشوفنا من شارعهم، نشرب حاجة ساقعة، ناكل ترمس، وساعات كتير نقضيها قرديحي لأني ما كنتش لسه اشتغلت، وهي كانت بتدرس خدمة اجتماعية في معهد بالقللي. على فكرة اتقابلنا أول مرة في نفق شبرا، كنت راجع من سينما كوزموس في عماد الدين، وصعبت عليا لما وقعت منها الكتب، فساعدتها، شكرتني وكملنا المشوار سوا.
مش فاكر كم مرة اتقابلنا بعدها، كنا نمشي ونتكلم، واسمعها قصايد شعر، كنت بحفظها من ديوان أغاني الكوخ، وأقولها أنا اللي مألفها. هي كانت بتصدق كل حاجة أقولها، وتحب كل حاجة أعملها، لكن عمرها ماقالت لي بحبك، معرفش ليه!! رغم إنها كانت بتقبل لمسة من إيدي، وتسيب نفسها في حضني في زحمة تروماي شبرا، قال يعني غصب عنها بسبب الزحمة.
كانت بتنزل في محطة الخلفاوي كل مرة، وفي يوم لقيتها عاوزة تنزل قبل محطتها بمحطة، وقالت لي رايحة لواحدة صاحبتي في شارع الورشة.
قلت لها آجي معاكي أوصلك لحد بيتها، رفضت. ولما لقيت إصرارها على الرفض، شكيت انها رايحة تقابل واحد تاني غيري. هي نزلت في المحطة، وأنا نزلت من باب تاني أول ما التروماي بدأ يتحرك. وقفت ورا عمود النور أراقبها وهي بتعدي الشارع وقلبي مولع من الغيرة، لقيتها دخلت كنيسة سانت تريزا، دخلت وراها وماحدش قال لي رايح فين، وفجأة لقيتها واقفة قدام صندوق قزاز كبير، فيه عروسة نايمة بفستان أبيض، ووش زى الملايكة، وشموع كتير حواليها في كل مكان. حسيت بالخوف والرهبة، مشيت على طراطيف صوابعي، لغاية ما قربت منها، همست في ودنها:
- أنت بتعملي أيه هنا يا ننس؟
ارتبكت وقالت لي: أنت أيه اللي جابك هنا؟
- أنا جيت وراكي.
قالت بصوت خافت: طيب أنا مسيحية، لكن أنت مسلم.
قلت لها: ليه ما قلتيش من الأول؟
قالت لي: خفت تسبني وتبعد عني.
قلت لها: لكن أنتي مش دقة صليب على يدك.
قالت: احنا ما بندقش.
مفهمتش. وكنت فاكر إن كل المسيحيين بيدقوا صليب على أيديهم، لكن بعدين عرفت إن ده مش شرط.
قلت لها: يعني أنت بتحبيني بجد؟
قالت لي: تشهد عليا سانت تريزا إني حبيتك يا بلبل، لكن ما ينفعش، لا أهلي يوافقوا ولا أهلك.
ودي كانت أول مرة تعترف لي أنها بتحبني.
قلت: لها سيبك من أهلي وأهلك، قالت لي:
-يا حبيبي ما ينفعش.. صدقني، والمسيح الحي ما ينفع.
كنت حاسس إنها نصي التاني، ومقدرش أعيش من غيرها، وفهمت إنها متمسكه بأهلها ودينها.
قلت لها: ممكن نتجوز وكل واحد يفضل على دين أهله وأهل اللي خلفوه.
ضحكتْ وقالت: لو كان ربنا رايد إننا نكون لبعض كنا طلعنا من دين واحد.
مقدرتش اتكلم، بس مكنتش عارف تقصد ربنا بتاعها ولا بتاعي. عموما.. ما تفرقش طالما هو مش رايد. لكن فضلت اسأل نفسي: لو ربنا مش رايد.. ليه خلانا نحب بعض؟
طلعنا برة الكنيسة، ومشينا كالعادة، لكن مفيش كلام، ولا لمسة يد، كأننا راضعين من أم واحدة ومتحرمين على بعض. اتقابلنا بعدها مرتين تلاتة، لكن مقابلاتنا انقطعت. هي ضربت آخر ميعاد، بعد كده، بقيت ألف حوالين بيتها زى المجنون عشان بس أشوفها، وأزور سانت تريزا، أولع شمعة وأقولها، والمصحف الشريف أنا بحب ننس.
أيام كتير مرت وأنا قاعد في بيتنا بعد ما يئست من أني أشوفها تاني. أكيد ربنا مش رايد. بس أكيد رايد أني أحب الشعر، واتعلق بأغاني الكوخ. وفي كل مرة اقرا وافتكر إني كذبت عليها، لما قلت لها أني الشعر ده من تأليفي.
مش فاكر بعد كام سنة شفتها يمكن تلاتة أو أكتر. كانت شايله طفل، ومعلقة شنطة كبيرة في كتفها. في الأول معرفتهاش، اتغيرت شويه. لكن هي أكيد عرفتني على طول، وبسرعة غيرت اتجاهها وطلعت على الرصيف، تقريبا اتكعبلت في حاجة، لأنها كانت هتقع، ومسكت نفسها بالعافية، ودخلت العمارة اللي جنب استديو نجيب، وكان قدامها بواب قاعد على كرسي، بص لي جامد لما شافني باصص عليها، عديت للرصيف المقابل، وعيني على شبابيك العمارة، وزي ما توقعت، لمحت وشها من ورا الستارة. يمكن ثواني، واختفت بسرعة، فمشيت وأنا أندندن:
اقبلي كالصلاة
اقبلي كصلاة رقرقها النسك
بمحراب عابد متبتل
اقبلي آية من الله علينا
زفها للوجود وحيُ مُنزَل
اقبلي كالجراح ظمأى
وكأس الحب ثكلى
والشعر ناي معطل
أنت لحنُ على فمي عبقري
وأنا في حدائق الله
بلبل*
*قصيدة: أنت دير الهوى، وشعري صلاة، للشاعر محمود حسن إسماعيل.