الفنان التشكيلي سلمان البصري.. الذاكرة المحتشدة بالتفاصيل
كريم النجار
التدوين على سطح اللوحة
إن تدوين الذاكرة بالرسم على سطح القماشة، يجعل المتلقي في حيرة من أمره في تتبع خيوط تلك الذاكرة واحداثها وتشعباتها، وبشكل خاص حين تكون غنية بالأحداث والإرهاصات الكبيرة التي تشكل كيانها الفني والوجودي، حيث تختبئ هناك تضاريس الغياب والحضور، المكان والزمان، وتفترس مساحات اللون والكتل المتقشفة حد الاختزال الكثير من الرؤى التي يختزنها وجدان الفنان، ومن ثم يصبها بتأن على مساحة عمله، من لوحة لأخرى.
هذا ما تطالعنا به أعمال الفنان الستيني العراقي سلمان البصري، والذي يحمل رؤيته الفلسفية الخاصة لمهمة الرسم، كـ (مشهد وموقف وتفاصيل حياتية) يخطط لها بتصميمية عالية، حيث ينفذ تخطيطات أعماله على نماذج مصغرة تعتبر كعمل متكامل للوحة الأساس وموتيفاتها، بكل تفاصيلها الانشائية ومساحاتها اللونية، حتى لا تشرد منه تلك التفاصيل أثناء الرسم على اللوحة الأساس. مع أن هذا ينفي (التلقائية والعفوية) إلى أنه يفسره بصناعة لوحة متكاملة تختزن الفعل الفني وتعزز رصانته.أعماله التجريدية لا تخلو من رمزية مفرطة الدلالة، فهو ابن واقع صادم عاش تفاصيله وترسخت في وجدانه أحداث ومشاهد وكوارث وتبدلات جمة، على صعيد حياته الخاصة، أو ما مر به العراق طوال العقود الأخيرة.. فأراد تدوينها، لكن بصيغها الجمالية التي تخلد أثرها. ففي أعماله التعبيرية التجريدية، أو تلك التي أسميها بـ (التعبيرية الصادمة) التي تطلق ضرباته الإيقاعية المتتالية، والتي تشطر اللوحة إلى فضاءين، علوي وسفلي، وكل منهما له تناظره الخاص الذي يفصح عن الرغبة في التحليق وملامسة الفضاء الأعزل، في الجانب العلوي، والثبات المستند إلى قاعدة راسخة في الجانب السفلي، لكن دائما هناك مواءمة بين المنظورين، حيث كل يجر نظيره الآخر إلى فضائه أو جذره الثابت، حتى يستوي نحو إيقاع رقيق متناه في شفافيته الصادمة.وقد شاهدنا تلك التناظرات الثنائية في أعمال من جايله من الفنانين (رافع الناصري وضياء العزاوي..) لكنهما يفترقان عنه بدلالة الإنشاء والصفاء والتصميم، عكس أعماله التي تصدم المشاهد وهي تحاول أن تطلق صرختها بوجه واقع مأزوم، أو بمحمول رموزه التي تتساوق مع بلاغة (غوتيلب) المتماهية بالغموض والتعمية، حيث يتشابك على سطوح أعماله اللون الأحادي الصارم في صفائه مع تشكيلات ورموز وإشارات ناتئة تعبر عن مكنون انفعالاته والواقع الذي يجسده، بمحمولاته الرمزية الصادمة الذي لا خلاص منه. الاختلاف في طرائق التعبيرسمة الاختلاف في أعمال الفنان البصري، هي تعبير عن شخصيته المتمردة والمتجددة بين أسلوب وآخر، حيث لا يستقر على عمل وموضوع فني محدد، عكس الكثير من أقرانه العراقيين والعرب، فهو ينتقل بين أسلوب وموضوع غارق في واقعيته التشخيصية التي يكون الجسد الإنساني ثيمتها الأساس، وربما هذا عائد إلى اهتمامه بدرس (التشريح) الذي ألف منه كتابا تدريسيا، كان يعده لطلبته في أكاديمية الفنون إبّان ثمانينات القرن المنصرم، وبين بحث تجريدي تعبيري يصل به حد الاختزال التام في الإنشاء واللون، وقد توج أسلوبه هذا بحصوله على جائزة بينالي (مسكرون الدولي) في بلجيكا للأعوام 1996 و1998. وما حققه من نجاحات لاحقة في معارض شخصية أقامها في عدة مدن هولندية منذ عام 1996 ولحد الآن.
الاحتلال.. اللحظة (الديمقراطية) الفاصلة!! بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدفق صور ممارساته اللا إنسانية في سجن (أبو غريب) والاعتقالات العشوائية. اشتغل الفنان البصري مجموعة أعمال، تمثل إدانة فاضحة لتلك الأساليب القمعية التي تجرد الإنسان من آدميته وتجعله مجرد كتلة جرداء مهلهلة هائمة وسط كون رمادي لا أفق له، رغم حلم الإنسان العراقي بالانعتاق والعيش الحر والسوي كباقي البشر في هذه المعمورة.. فهو هنا ينسج لوحته من واقع عاش الكثير من تفاصيله، وبالضد من أعمال الفنان الكولومبي (فيرناندو بوتيرو) التي تصور سجناء أبو غريب بأجسادهم الضخمة المنتفخة وجروحهم النازفة.. لكن النزف الحقيقي لدى سلمان البصري لم يأت من الجرح الذي خلفه التعذيب، بل هو جرح الكرامة ومسخ الحلم الإنساني لحظة استلابه حريته ودخوله العدم. وتأتي هذه المجموعة كونها أعمالاً تحمل بصمَتها ودلالتها القوية بفرشاة فنان حساس يتطلع لمستقبل بلاده الآمن وغير المدنس بالطغاة. وتمثل مجموعة أعماله هذه أثرا حقيقيا من هذا الزمن الغريب الذي انقلب على المثل الإنسانية التي افتقدها العراق ماضيا وحاضرا. الأثر والحرية.
أثناء زيارتي لمشغله البيتي قبل بضعة أعوام، أثارني إنشغاله بعمل (ماكيت) لنصب كبير، يعتزم إقامته في أحدى الحدائق العامة في الحي الذي يقيم فيه، بالتعاون مع المجلس البلدي في مدينة روتردام. ويدور عمله على ثيمة (الحرية) التي يجسدها انصهار جسدين لرجل وامرأة في بوتقة يؤطرها مربع كبير يضم الجزء العلوي للجسدين، وكأنهما شجرة سومرية تلتف على جذورها الثابتة بالأرض، وتنطلق منه تشكيلة حروفيه في غاية التناسق الهارموني، دلالة على هذا الانصهار الروحي والجسدي والحرية المنطلقة لأبعد مداها. ويفسر الفنان البصري استخدامه مفردة الحرية ومحمولها الغربي الذي يعيش أجواءه في هولندا، (كونها تتيح العيش بتوائم ومساواة مع جميع الأجناس والاعراق المختلفة في بيئة واحدة، فهذا مجتمع يعيش فيه البوذي والهندوسي والمسلم والمسيحي واللا ديني، والبيض والسود وشعوب شرق آسيا... الخ، دون تمايز
كريم النجار
التدوين على سطح اللوحة
إن تدوين الذاكرة بالرسم على سطح القماشة، يجعل المتلقي في حيرة من أمره في تتبع خيوط تلك الذاكرة واحداثها وتشعباتها، وبشكل خاص حين تكون غنية بالأحداث والإرهاصات الكبيرة التي تشكل كيانها الفني والوجودي، حيث تختبئ هناك تضاريس الغياب والحضور، المكان والزمان، وتفترس مساحات اللون والكتل المتقشفة حد الاختزال الكثير من الرؤى التي يختزنها وجدان الفنان، ومن ثم يصبها بتأن على مساحة عمله، من لوحة لأخرى.
هذا ما تطالعنا به أعمال الفنان الستيني العراقي سلمان البصري، والذي يحمل رؤيته الفلسفية الخاصة لمهمة الرسم، كـ (مشهد وموقف وتفاصيل حياتية) يخطط لها بتصميمية عالية، حيث ينفذ تخطيطات أعماله على نماذج مصغرة تعتبر كعمل متكامل للوحة الأساس وموتيفاتها، بكل تفاصيلها الانشائية ومساحاتها اللونية، حتى لا تشرد منه تلك التفاصيل أثناء الرسم على اللوحة الأساس. مع أن هذا ينفي (التلقائية والعفوية) إلى أنه يفسره بصناعة لوحة متكاملة تختزن الفعل الفني وتعزز رصانته.أعماله التجريدية لا تخلو من رمزية مفرطة الدلالة، فهو ابن واقع صادم عاش تفاصيله وترسخت في وجدانه أحداث ومشاهد وكوارث وتبدلات جمة، على صعيد حياته الخاصة، أو ما مر به العراق طوال العقود الأخيرة.. فأراد تدوينها، لكن بصيغها الجمالية التي تخلد أثرها. ففي أعماله التعبيرية التجريدية، أو تلك التي أسميها بـ (التعبيرية الصادمة) التي تطلق ضرباته الإيقاعية المتتالية، والتي تشطر اللوحة إلى فضاءين، علوي وسفلي، وكل منهما له تناظره الخاص الذي يفصح عن الرغبة في التحليق وملامسة الفضاء الأعزل، في الجانب العلوي، والثبات المستند إلى قاعدة راسخة في الجانب السفلي، لكن دائما هناك مواءمة بين المنظورين، حيث كل يجر نظيره الآخر إلى فضائه أو جذره الثابت، حتى يستوي نحو إيقاع رقيق متناه في شفافيته الصادمة.وقد شاهدنا تلك التناظرات الثنائية في أعمال من جايله من الفنانين (رافع الناصري وضياء العزاوي..) لكنهما يفترقان عنه بدلالة الإنشاء والصفاء والتصميم، عكس أعماله التي تصدم المشاهد وهي تحاول أن تطلق صرختها بوجه واقع مأزوم، أو بمحمول رموزه التي تتساوق مع بلاغة (غوتيلب) المتماهية بالغموض والتعمية، حيث يتشابك على سطوح أعماله اللون الأحادي الصارم في صفائه مع تشكيلات ورموز وإشارات ناتئة تعبر عن مكنون انفعالاته والواقع الذي يجسده، بمحمولاته الرمزية الصادمة الذي لا خلاص منه. الاختلاف في طرائق التعبيرسمة الاختلاف في أعمال الفنان البصري، هي تعبير عن شخصيته المتمردة والمتجددة بين أسلوب وآخر، حيث لا يستقر على عمل وموضوع فني محدد، عكس الكثير من أقرانه العراقيين والعرب، فهو ينتقل بين أسلوب وموضوع غارق في واقعيته التشخيصية التي يكون الجسد الإنساني ثيمتها الأساس، وربما هذا عائد إلى اهتمامه بدرس (التشريح) الذي ألف منه كتابا تدريسيا، كان يعده لطلبته في أكاديمية الفنون إبّان ثمانينات القرن المنصرم، وبين بحث تجريدي تعبيري يصل به حد الاختزال التام في الإنشاء واللون، وقد توج أسلوبه هذا بحصوله على جائزة بينالي (مسكرون الدولي) في بلجيكا للأعوام 1996 و1998. وما حققه من نجاحات لاحقة في معارض شخصية أقامها في عدة مدن هولندية منذ عام 1996 ولحد الآن.
الاحتلال.. اللحظة (الديمقراطية) الفاصلة!! بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدفق صور ممارساته اللا إنسانية في سجن (أبو غريب) والاعتقالات العشوائية. اشتغل الفنان البصري مجموعة أعمال، تمثل إدانة فاضحة لتلك الأساليب القمعية التي تجرد الإنسان من آدميته وتجعله مجرد كتلة جرداء مهلهلة هائمة وسط كون رمادي لا أفق له، رغم حلم الإنسان العراقي بالانعتاق والعيش الحر والسوي كباقي البشر في هذه المعمورة.. فهو هنا ينسج لوحته من واقع عاش الكثير من تفاصيله، وبالضد من أعمال الفنان الكولومبي (فيرناندو بوتيرو) التي تصور سجناء أبو غريب بأجسادهم الضخمة المنتفخة وجروحهم النازفة.. لكن النزف الحقيقي لدى سلمان البصري لم يأت من الجرح الذي خلفه التعذيب، بل هو جرح الكرامة ومسخ الحلم الإنساني لحظة استلابه حريته ودخوله العدم. وتأتي هذه المجموعة كونها أعمالاً تحمل بصمَتها ودلالتها القوية بفرشاة فنان حساس يتطلع لمستقبل بلاده الآمن وغير المدنس بالطغاة. وتمثل مجموعة أعماله هذه أثرا حقيقيا من هذا الزمن الغريب الذي انقلب على المثل الإنسانية التي افتقدها العراق ماضيا وحاضرا. الأثر والحرية.
أثناء زيارتي لمشغله البيتي قبل بضعة أعوام، أثارني إنشغاله بعمل (ماكيت) لنصب كبير، يعتزم إقامته في أحدى الحدائق العامة في الحي الذي يقيم فيه، بالتعاون مع المجلس البلدي في مدينة روتردام. ويدور عمله على ثيمة (الحرية) التي يجسدها انصهار جسدين لرجل وامرأة في بوتقة يؤطرها مربع كبير يضم الجزء العلوي للجسدين، وكأنهما شجرة سومرية تلتف على جذورها الثابتة بالأرض، وتنطلق منه تشكيلة حروفيه في غاية التناسق الهارموني، دلالة على هذا الانصهار الروحي والجسدي والحرية المنطلقة لأبعد مداها. ويفسر الفنان البصري استخدامه مفردة الحرية ومحمولها الغربي الذي يعيش أجواءه في هولندا، (كونها تتيح العيش بتوائم ومساواة مع جميع الأجناس والاعراق المختلفة في بيئة واحدة، فهذا مجتمع يعيش فيه البوذي والهندوسي والمسلم والمسيحي واللا ديني، والبيض والسود وشعوب شرق آسيا... الخ، دون تمايز