اشكاليات النقد التشكيلي العربي
بين المحاباة والتبعية والتجديد
لم تكن العلاقة بين الفنان التشكيلي والناقد المتخصص طيبة كثيرا في ايامنا هذه، ذلك لان الناقد ليس في نظر الفنان الا امرء قصارى همه ان يعيد انتاج ما افتقده في حياته، يجمع في احكامه الجارفة الكثير من الغلاظة وعدم المعرفة، كما ان الفنان في نظر الناقد ليس الا أمرؤ يحمل الكثير من الطيش والغرور والكثير من الجهالة وفقدان الخيال والمعرفة في عمله الفني.
ومن سوء الحظ بين هذين الميدانين، ان تكون هاتان التهمتان صحيحتين في كثير من الاحيان، فكثير من نقادنا العرب يفتقدون الى المعرفة في فهم اللغة التصويرية، وقليل منهم حرصوا على الجمع بين ممارسة الفن وكتابة النقد، وقليل من فنانينا أسهم بقسط من الخيال الاصيل في معرفة عمله الفني، كما ان عدد قليل جدا من النقاد أسدوا يدا طولى للعملية الفنية وجمعوا بين العلم الوافر والخيال السديد والاطلاع الواسع.
ان بعض من دارسي الفن التشكيلي وناقديه عندنا لم يجازفوا للأسف بالدخول الى طبيعة الذاكرة والخيال عند الفنان، وان يكون لهم بعض الاهتمام السايكولوجي في معالجتهم للمحتويات المادية والحلمية لعمل الفنان، اذ تقتصر معالجاتهم على الجانب اللغوي، كون اغلبهم جاء من الادب، اما ما يسمى بالمستوى الكامن والمتمثل بالرموز فانهم يبتعدون عنه بسبب جهل وأحيانا شطط، ومجاوزة للدقة في مواطن العمل الفني.
في العمل الفني اشياء اخرى الى جانب البيئة التي نما فيها، هي فردية الفنان ومشاعره وموروثه الفيزيولوجي والثقافي والمعرفي، اذ لا يمكن اسقاط الموهبة الفردية، ولكن ايضا، العمل الفني لا ينزل من السماء، ولا يتمتع بالإرادة المطلقة ، فالتجارب الجمالية للفنان غير معزولة عن سائر التجارب الانسانية، وهو ايضا ليس مجرد معرفة او تعميم للواقع، وانما هو تعبير مكثف ومؤثر عن التجارب العاطفية الانسانية، انه نشاط عاطفي حي ومتقد، مبني على التأمل الحسي للموضوع، وهو ايضا حالة شعورية او لاشعورية، قد يتقاسمها الفنان مع جملة من الناس، كما قد تخصه دون سواه، تفضي احيانا الى تصور ما لواقع معين له مفاهيمه وصوره ولغته الخاصة، لغة يكونها النقد او الكتابة التحليلية والنظرية، التي قد تفضي بدورها الى اتجاه فني يعكس نمط حياة بكل مكوناته، وعليه فالعمل الفني متورط في ازمات الحياة وتقلباتها، عمل مندمج في النسيج اليومي وفاعل فيه، عمل يتجاوز مفاهيم سطحية كثيرة. ان كل منتج تتحتم فيه عديد من الامور المتشابكة في حياتنا غير القادرة على الانفكاك منها، ومهمة الناقد كما قالها الشاعر الانكليزي اليوت " توضيح الفن وتصحيح الذوق" وهذه المقولة تطرح عددا من الاسئلة المبنية على المقارنة والتحليل، على اساس ابداعي وليس اتباعي، تكمن في معظم الاحوال عن ماهية العمل الفني اولا من حيث علاقته بحياة الفنان، وماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه، وماذا يؤدي للمتلقي، ودور الناقد الفني الذي يريد اعمالا فنية متميزة على الدوام ويريد فنانا مستمعا، فانه يقدم ملاحظاته لمساعدة المتلقي على فهم وتذوق العمل، وهو يساعد الفنان في فهم طبيعة عمله وتقويمه، ليعينه في ايقاظ الاحساس بالمعرفة. وهذا يشترط بالناقد امتلاك صور مجازية متعددة حين يقف امام عمل الفنان، كما يشترط امتلاكه الاحساس المرهف ونفاذ البصيرة النقدية وقوة الاحساس والذكاء والمعرفة والمهارة وايضا القدرة على الكتابة. فعمل الناقد كما وصفه أحد النقاد الغربيين هو مثل من يرش الارض بالسماد من اجل حصاد طيب. الناقد يجب ان يحرص على نشر مثل هذا السماد بخلق مراجعة ثقافتنا النقدية وتضييق الهوة بين الفنان ووظيفة الناقد، ووضع همزة وصل بين العمل الفني وتقويمه الى متذوقيه اولا، بدون تعسف وبدون محاباة ولكن بحيادية تدعو الجميع الى الاقتراب للعمل الفني، مع اننا ندرك بصعوبة الارتقاء الى هذا العمل في احيان كثيرة، الا ان الناقد عليه ان يبتعد عن منح الاحكام او تقديم الاطراءات الساذجة، وقطع المسافات الشاسعة في الكتابة لاجل خلق التباين والبحث عن التشابه مع اذواق البعض، فالعملية الفنية هي بالاساس عملية تقويم اخلاقي للتجربة الانسانية بواسطة تقنيات تجعل من الممكن اجراء تقويم نقدي، فما دام الفن اخلاقي لابد من ان يكون النقد مثله بالضرورة كما يقول الناقد فراي، ولا يتحقق مثل هذا الطموح الا من خلال مطالبة المشاهد للعمل الفني ان يشارك في اضفاء كل الدلائل على العمل الذي يراه، اي بمعنى اخر اشراك الجمهور المتلقي في العثور على المعنى الذي بالكاد يكون احيانا مخبوءا في ثنايا العمل، اذ لم يعد هناك من يقين في الفن المعاصر، فالعلاقة بين الفن والطبيعة اصبحت علاقة اشكالية، ولم تعد فنون اليوم قادرة على تحقيق توقعاتنا الساذجة فيما يتعلق بفن التصوير كما افرزته فترة عصر النهضة، كما لم يعد بمقدرونا ان نسأل عن المضمون الذي يحتويه العمل الفني ، فنحن جميعا نقاد ومتلقين نعرف تماما حيرة الفنان الذي يلجأ الى تجريد اشكاله وتفكيكها في الوقت الذي نطلب منه ان يمدنا بعنوان لفظي لعمله الفني الذي ينتصب امامنا، فالعلاقة الكلاسيكية القديمة بين الطبيعة والفن، علاقة المحاكاة, لم تعد سارية المفعول في زمننا الحاضر. كما على الناقد العربي ان يروض الذائقة الجمالية لجمهوره وان يتخلى وللأبد عن مقولات تشمل ضرورة وجود نظرية عربية جمالية وخزان بصري عربي وهجمات غربية على الفن العربي، فهذه تقسيمات تعسفية تعيق وتربك حرية العمل الابداعي، وتكسر اجواء التعاطي المطلوب مع المنتج العالمي، اذ لاخوف علينا من العبور الى كل بقع الابداع المضاءة والموجودة في كل مكان، ان جوهر حقيقة العالم الفني، هو كشف للحقيقة في كل مكان بفعل الحضور الدائم للفنان، فالانفتاح يزيد الفن غرابته وتنمو وحدته ويتعاظم تفرده ليخرج عن المعتاد.
النقد يتوجه على الدوام نحو المستقبل، ويخاطب الحاضر برؤية مستقبلية، والناقد التشكيلي يجب ان يكون ضد النموذج والنمطية وان يظل مرتبطا بالافكار المبدعة، والتي تستخلص من العمل الفني نفسه ومن اجتهاد الفنان وقدرته على التقاط المشاهد او الظواهر قبل ظهورها والتي نمر بها كمتلقين من دون القدرة على اكتشافها او حتى الانتباه اليها. كما ان النقد قادر الى حد كبيرعلى خلق وعي فني متوخى، ولئن عجز العمل الفني احيانا عن ايصال المشاهد الى خلق تذوق الجمال الفني والاحساس به بكونه ارفع مكانة من الجمال الطبيعي حسب اعتقاد (هيغل) لانه من ابداع الروح ونتاج الحرية، وما هو من انتاج الروح أسمي من الطبيعة.
والمنهج ضروري للناقد لانه اولا يكشف لنا عن ازمة وعينا الجمالي الاغترابي الذي اصبح ينظر الى الفن باعتباره شكلا جماليا منعزلا ومستقلا عن سائر اشكال حياتنا الانسانية، وثانيا فانه تمهيد مدخل جيد ورؤية عميقة للفن ترتكز على ثلاثة مفاهيم هي: التفسير والفهم والحوار، وثالثا فانه ينظم عمله ويرتبه ويحضر من خلاله عمل الفنان ليضع له حلا بما يملك ويليق من خيال بصري بدون تأويلات متحذلقة وبدون نظريات وطروحات تحولت بمرور الزمن الى ايقونات مدرسية تظهر انحيازها القلق الى عقل المتلقي، ذلك ان الافتراضات الساذجة بان العمل الفني يعد مشهدا يشبه ذلك المشهد الذي نراه يوميا في خبرتنا بالطبيعة او بالطبيعة التي يشكلها الانسان، هو افتراض قد تم تقويضه من الاساس بشكل واضح، فنحن لم يعد بمقدورنا ان نشاهد لوحة تكعيبية او لوحة لاموضوعية بلمحة واحدة وبنظرة سلبية فحسب، اذ يجب ان نشارك بانفسنا مشاركة فعالة ونحاول جاهدين ان نركب الاشكال التخطيطية للاسطح المختلفة على نحو ما تظهر على نسيج اللوحة ، فعندئذ فقط ربما امكن ان نصبح ماخوذين وان نتسامى بفعل الانسجام والنظام العميق في عمل ما.
وعلى الناقد الاستفادة من مناهج النقد الغربي في التحليل والدرس، لانه ضرورة فرضتها المراحل التي نما فيها الفن التشكيلي الغربي، فالناقد الغربي استطاع ان يغني نفسه وفكره بوفرة ما توفر له من تاريخ عريق تأسس على رؤية معاصرة لم تلغ السابق تماما، بل سعى الناقد في فهم الحداثة في الفن للافادة منها لخلق روح تتوسط بين ما هو موروث وبين افق الحداثة التي اطلقت النار على الفن التقليدي وآلياته المتبعة وموضوعاته وما واجهه من عمليات تحديث في ضوء منظور تطوري جمالي مستند لقاعدة من القيم الفكرية بعيدا عن دراما الملحمية المعتادة في الفنون التي جاءت بعد عصر النهضة. فالحداثة موجة والعوم ضدها مخاطرة، فاما الغوص حتى تمر من فوق رؤوسنا, فنظل في القاع واما العوم فنكون من الناجين لنحتل مرتبة من مرتبات الحياة المعاصرة. لايمكن تجاوز الحداثة ومعارضتها الا باستيعابها. الناقد الغربي يرى الفنان مجرد وسيط قادر في ان يكون ناجحا او فاشلا في استحضار عمله الفني في نوع من الوضوح الذاتي غير المتكلف.ان اتباع التوسط عند الناقد العربي بين طرز الحداثة وآلياتها المتبعة في الغرب وبين الموروث العربي وضغوطاته على الفنان النازع نحو التجديد والحداثة، هو الحل الاكثر توفيقا في تشخيص العمل وايجاد مقارب موضوعي يتيح له تحقيق الخطوة الاولى في فهم عملية البناء الفني، وتحديد دور الفنان في هذا البناء، فالفن ليس وصفا او تعبيرا عن حالات شعورية بقدر ما هو عملية خلق تتوفر فيها شروط اساسية اهمها توفر العقل الخالق لدى الفنان ونضوجه والمامه بالتقاليد الفنية التي انحدرت اليه من الماضي، فالفنان ينفعل للموضوع ويترجم انفعالاته من خلال اتباع اساليبه الفنية ، ذلك ان كل عمل فني منجز قادر ان يرينا شيئا نبصره بالعين وشيء اخر ندركه بالبصيرة.
يقابل ما ذكر تنشط ظاهرة اهمال وتهميش وتقليل قيمة النقد الفني من عند الفئات المثقفة والفنانين انفسهم، اذ لامراء في ان اية مقاربة نقدية للعمل الفني ، ولاي فنان، سيحملنا، محمل الجد للبحث عن سبل التعثر والارتجاج الذي يشكو منه هذا الحق المهم من حقول الثقافة، فنحن نعرف بان الفن التشكيلي باعتباره واحدا من الاجناس الثقافية كفيل بان يضطلع بادوار طلائعية في المساهمة برسم صورة لكل الاحداث والوقائع، وبامكانه ان يتجاوز مرحلة التعبير عن القائم والثابت والجاهز الى مرحلة تجسيد القادم والمتوخي، والنقد الفني في الوطن العربي يعيش الحيف ، حيث عدم الاهتمام به كباقي مكونات الثقافة التي يلفها التهميش، ولعل مكمن الداء يعزى الى العلاقة المتوترة بين الفنان والناقد من جهة والى الطرح السياسي لما هو ثقافي في البلدان العربية، من ثمة نجد مسوغا حقيقيا لازمة النقد ، وهي ازمة الثقافة العربية ككل والتي تعاني من مشكلة اعتراف داخل البنية الفكرية، فالنقد الفني بالرغم من مرور عقود كثيرة على دخوله الى المجال الثقافي فانه مازال يبحث عن شرعية فعلية تسمح له بالانتقال والتفاعل والتداول.
وهذه الحال في النقد التشكيلي العربي يمكن استشفاف خباياها ومعالمها من خلال الغياب الكبير للمتخصصين في هذا المجال الحيوي، وتحول الكثير من الادباء والشعراء الى الاخذ بزمام الامور لسد هذا النقص الكبير، كما ان العديد من النقاد على قلتهم لا يراعوا المسافة بين بنية اللغة وبنية الصورة، اذ لاتزال افكارهم مرتبطة بمفاهيم اللغة العاجزة احيانا امام آنية المشهد، ومع هذا الغياب الذي تزامن مع سيادة المنطلقات والمفاهيم التقليدية القديمة التي لم تعد صالحة للعصر بعد ان فقدت فاعليتها، وكذلك عدم استقلاليتها وخصوصيتها، واصبحت عملية وصفية جامدة مبنية على الادعاءات المعرفية واللغة الصحفية الفضاضة، تبقى الشرائح التشكيلية والثقافية بعيدة عن هذا المجال الحيوي، حيث تتزامن عملية الغياب مع حالة التهميش لماهو بصري في زمن الصورة وزمن البث والقنوات الفضائية للتقبل والادراك. في ظل هذه الوضعية القائمة والمحيطة بفنونا التشكيلية في السياق الثقافي العربي، ينبجس اقامة المعارض والفعاليات التشكيلية، هنا وهناك كمنطلق اساس للشعور بنوع من الدفء والتواصل بين الفنان وذاته وبينه وبين محيطه، ولكن بعيدا عن رقابة الناقد الفني الذي يشكل حضوره هاجسا معرفيا وهما ثقافيا يمكنه من اعطاء الفن التشكيلي اصالته الراهنة، ذلك ان الفنان التشكيلي واينما كان لايمكنه ان يقدم شيئا، او يستوعب تراثه دون هم ثقافي يساهم في الاشارة اليه الناقد الفني، ذلك ان الناقد الجيد قادر على استحضار الاشكال الجمالية داخل وحدة العمل الفني التي تليق بالعذاب والشقاء والالم والفرح الذي ينطق به الوضع البشري . يسعى الناقد ان لايكون الفنان بمنأى عن الرقابة والملاحظة، وان لا يكون بعيدا عن من يفك شفرة توتر العمل وصراعاته القائمة بين مقومات كل عالم على حدة، وان لايكون ايضا بعيدا عن المنشط الحيوي الذي يخلق الترابطات ويحقق ابعاد انسجامية ما بين الفنان وصنيعه الفني من جهة وبين الفنان ومحيطه من جهة اخرى ، عبر ما ينسج من مقولات نقدية ايجابية، تساهم في تحقيق كينونة الفنان وفنه معا. فالنقد الفني هو اللغة الثانية بعد لغة الفنان التي تحول الحساسية العاطفية عند الاخرين الى حساسية فنية خاصة بالمبدع عندما يمتلك القدرة على تجسيد الانفعالات وتنظيم العواطف، وهي ايضا كفيلة بان تعيد صياغة العمل الفني وتعطيه مكانته وتكشف ابعاده، باعتباره خطوة اساسية واجرائية ، ووسيلة ضرورية لضمان التطور الايجابي للفنون، وبدون مثل هذه اللغة، يظل الفن في احيان كثيرة بدون رئة التواصل مع الابداع، وبدون نبض يشار اليه للقيم الجمالية التي يحتضنها العمل نفسه، كما يظل العمل الفني غير مستفزا من قبل تأويلات الناقد وتفسيراته وشروحاته وقدرته في استنطاق العمل، ويكتشف ما في دواخله بين الاصالة، بما تطفح به من رموز تراثية وحضارية وثقافية محلية وعالمية ، وبين المعاصرة، التي باتت تتجاوب مع مجمل التيارات ومختلف التجارب العالمية. من جانب اخر فان الناقد يقدم للفنان تحصينات تنبع من الارادة والمعرفة التفصيلية بالأشياء فكريا وتقنيا، وينبهه الى ظاهرة التكرار والابتذال والاستهلاك والاسفاف، لهذا لا يمكن تصور ابداعا مؤثرا بدون اسهامات نقدية واعية وفاعلة، على اعتبار ان الفن لغة بصرية تواصلية سابقة للكلام متجاوزة حدود المكان والزمان، ومن خلالها يتم التعبير عن ذاتنا الوجودية، في اساليب شكلانية ، تختلف في محتواها من حيث رصد المفردات الفنية التشكيلية .
بين المحاباة والتبعية والتجديد
لم تكن العلاقة بين الفنان التشكيلي والناقد المتخصص طيبة كثيرا في ايامنا هذه، ذلك لان الناقد ليس في نظر الفنان الا امرء قصارى همه ان يعيد انتاج ما افتقده في حياته، يجمع في احكامه الجارفة الكثير من الغلاظة وعدم المعرفة، كما ان الفنان في نظر الناقد ليس الا أمرؤ يحمل الكثير من الطيش والغرور والكثير من الجهالة وفقدان الخيال والمعرفة في عمله الفني.
ومن سوء الحظ بين هذين الميدانين، ان تكون هاتان التهمتان صحيحتين في كثير من الاحيان، فكثير من نقادنا العرب يفتقدون الى المعرفة في فهم اللغة التصويرية، وقليل منهم حرصوا على الجمع بين ممارسة الفن وكتابة النقد، وقليل من فنانينا أسهم بقسط من الخيال الاصيل في معرفة عمله الفني، كما ان عدد قليل جدا من النقاد أسدوا يدا طولى للعملية الفنية وجمعوا بين العلم الوافر والخيال السديد والاطلاع الواسع.
ان بعض من دارسي الفن التشكيلي وناقديه عندنا لم يجازفوا للأسف بالدخول الى طبيعة الذاكرة والخيال عند الفنان، وان يكون لهم بعض الاهتمام السايكولوجي في معالجتهم للمحتويات المادية والحلمية لعمل الفنان، اذ تقتصر معالجاتهم على الجانب اللغوي، كون اغلبهم جاء من الادب، اما ما يسمى بالمستوى الكامن والمتمثل بالرموز فانهم يبتعدون عنه بسبب جهل وأحيانا شطط، ومجاوزة للدقة في مواطن العمل الفني.
في العمل الفني اشياء اخرى الى جانب البيئة التي نما فيها، هي فردية الفنان ومشاعره وموروثه الفيزيولوجي والثقافي والمعرفي، اذ لا يمكن اسقاط الموهبة الفردية، ولكن ايضا، العمل الفني لا ينزل من السماء، ولا يتمتع بالإرادة المطلقة ، فالتجارب الجمالية للفنان غير معزولة عن سائر التجارب الانسانية، وهو ايضا ليس مجرد معرفة او تعميم للواقع، وانما هو تعبير مكثف ومؤثر عن التجارب العاطفية الانسانية، انه نشاط عاطفي حي ومتقد، مبني على التأمل الحسي للموضوع، وهو ايضا حالة شعورية او لاشعورية، قد يتقاسمها الفنان مع جملة من الناس، كما قد تخصه دون سواه، تفضي احيانا الى تصور ما لواقع معين له مفاهيمه وصوره ولغته الخاصة، لغة يكونها النقد او الكتابة التحليلية والنظرية، التي قد تفضي بدورها الى اتجاه فني يعكس نمط حياة بكل مكوناته، وعليه فالعمل الفني متورط في ازمات الحياة وتقلباتها، عمل مندمج في النسيج اليومي وفاعل فيه، عمل يتجاوز مفاهيم سطحية كثيرة. ان كل منتج تتحتم فيه عديد من الامور المتشابكة في حياتنا غير القادرة على الانفكاك منها، ومهمة الناقد كما قالها الشاعر الانكليزي اليوت " توضيح الفن وتصحيح الذوق" وهذه المقولة تطرح عددا من الاسئلة المبنية على المقارنة والتحليل، على اساس ابداعي وليس اتباعي، تكمن في معظم الاحوال عن ماهية العمل الفني اولا من حيث علاقته بحياة الفنان، وماذا يؤدي هذا العمل لصاحبه، وماذا يؤدي للمتلقي، ودور الناقد الفني الذي يريد اعمالا فنية متميزة على الدوام ويريد فنانا مستمعا، فانه يقدم ملاحظاته لمساعدة المتلقي على فهم وتذوق العمل، وهو يساعد الفنان في فهم طبيعة عمله وتقويمه، ليعينه في ايقاظ الاحساس بالمعرفة. وهذا يشترط بالناقد امتلاك صور مجازية متعددة حين يقف امام عمل الفنان، كما يشترط امتلاكه الاحساس المرهف ونفاذ البصيرة النقدية وقوة الاحساس والذكاء والمعرفة والمهارة وايضا القدرة على الكتابة. فعمل الناقد كما وصفه أحد النقاد الغربيين هو مثل من يرش الارض بالسماد من اجل حصاد طيب. الناقد يجب ان يحرص على نشر مثل هذا السماد بخلق مراجعة ثقافتنا النقدية وتضييق الهوة بين الفنان ووظيفة الناقد، ووضع همزة وصل بين العمل الفني وتقويمه الى متذوقيه اولا، بدون تعسف وبدون محاباة ولكن بحيادية تدعو الجميع الى الاقتراب للعمل الفني، مع اننا ندرك بصعوبة الارتقاء الى هذا العمل في احيان كثيرة، الا ان الناقد عليه ان يبتعد عن منح الاحكام او تقديم الاطراءات الساذجة، وقطع المسافات الشاسعة في الكتابة لاجل خلق التباين والبحث عن التشابه مع اذواق البعض، فالعملية الفنية هي بالاساس عملية تقويم اخلاقي للتجربة الانسانية بواسطة تقنيات تجعل من الممكن اجراء تقويم نقدي، فما دام الفن اخلاقي لابد من ان يكون النقد مثله بالضرورة كما يقول الناقد فراي، ولا يتحقق مثل هذا الطموح الا من خلال مطالبة المشاهد للعمل الفني ان يشارك في اضفاء كل الدلائل على العمل الذي يراه، اي بمعنى اخر اشراك الجمهور المتلقي في العثور على المعنى الذي بالكاد يكون احيانا مخبوءا في ثنايا العمل، اذ لم يعد هناك من يقين في الفن المعاصر، فالعلاقة بين الفن والطبيعة اصبحت علاقة اشكالية، ولم تعد فنون اليوم قادرة على تحقيق توقعاتنا الساذجة فيما يتعلق بفن التصوير كما افرزته فترة عصر النهضة، كما لم يعد بمقدرونا ان نسأل عن المضمون الذي يحتويه العمل الفني ، فنحن جميعا نقاد ومتلقين نعرف تماما حيرة الفنان الذي يلجأ الى تجريد اشكاله وتفكيكها في الوقت الذي نطلب منه ان يمدنا بعنوان لفظي لعمله الفني الذي ينتصب امامنا، فالعلاقة الكلاسيكية القديمة بين الطبيعة والفن، علاقة المحاكاة, لم تعد سارية المفعول في زمننا الحاضر. كما على الناقد العربي ان يروض الذائقة الجمالية لجمهوره وان يتخلى وللأبد عن مقولات تشمل ضرورة وجود نظرية عربية جمالية وخزان بصري عربي وهجمات غربية على الفن العربي، فهذه تقسيمات تعسفية تعيق وتربك حرية العمل الابداعي، وتكسر اجواء التعاطي المطلوب مع المنتج العالمي، اذ لاخوف علينا من العبور الى كل بقع الابداع المضاءة والموجودة في كل مكان، ان جوهر حقيقة العالم الفني، هو كشف للحقيقة في كل مكان بفعل الحضور الدائم للفنان، فالانفتاح يزيد الفن غرابته وتنمو وحدته ويتعاظم تفرده ليخرج عن المعتاد.
النقد يتوجه على الدوام نحو المستقبل، ويخاطب الحاضر برؤية مستقبلية، والناقد التشكيلي يجب ان يكون ضد النموذج والنمطية وان يظل مرتبطا بالافكار المبدعة، والتي تستخلص من العمل الفني نفسه ومن اجتهاد الفنان وقدرته على التقاط المشاهد او الظواهر قبل ظهورها والتي نمر بها كمتلقين من دون القدرة على اكتشافها او حتى الانتباه اليها. كما ان النقد قادر الى حد كبيرعلى خلق وعي فني متوخى، ولئن عجز العمل الفني احيانا عن ايصال المشاهد الى خلق تذوق الجمال الفني والاحساس به بكونه ارفع مكانة من الجمال الطبيعي حسب اعتقاد (هيغل) لانه من ابداع الروح ونتاج الحرية، وما هو من انتاج الروح أسمي من الطبيعة.
والمنهج ضروري للناقد لانه اولا يكشف لنا عن ازمة وعينا الجمالي الاغترابي الذي اصبح ينظر الى الفن باعتباره شكلا جماليا منعزلا ومستقلا عن سائر اشكال حياتنا الانسانية، وثانيا فانه تمهيد مدخل جيد ورؤية عميقة للفن ترتكز على ثلاثة مفاهيم هي: التفسير والفهم والحوار، وثالثا فانه ينظم عمله ويرتبه ويحضر من خلاله عمل الفنان ليضع له حلا بما يملك ويليق من خيال بصري بدون تأويلات متحذلقة وبدون نظريات وطروحات تحولت بمرور الزمن الى ايقونات مدرسية تظهر انحيازها القلق الى عقل المتلقي، ذلك ان الافتراضات الساذجة بان العمل الفني يعد مشهدا يشبه ذلك المشهد الذي نراه يوميا في خبرتنا بالطبيعة او بالطبيعة التي يشكلها الانسان، هو افتراض قد تم تقويضه من الاساس بشكل واضح، فنحن لم يعد بمقدورنا ان نشاهد لوحة تكعيبية او لوحة لاموضوعية بلمحة واحدة وبنظرة سلبية فحسب، اذ يجب ان نشارك بانفسنا مشاركة فعالة ونحاول جاهدين ان نركب الاشكال التخطيطية للاسطح المختلفة على نحو ما تظهر على نسيج اللوحة ، فعندئذ فقط ربما امكن ان نصبح ماخوذين وان نتسامى بفعل الانسجام والنظام العميق في عمل ما.
وعلى الناقد الاستفادة من مناهج النقد الغربي في التحليل والدرس، لانه ضرورة فرضتها المراحل التي نما فيها الفن التشكيلي الغربي، فالناقد الغربي استطاع ان يغني نفسه وفكره بوفرة ما توفر له من تاريخ عريق تأسس على رؤية معاصرة لم تلغ السابق تماما، بل سعى الناقد في فهم الحداثة في الفن للافادة منها لخلق روح تتوسط بين ما هو موروث وبين افق الحداثة التي اطلقت النار على الفن التقليدي وآلياته المتبعة وموضوعاته وما واجهه من عمليات تحديث في ضوء منظور تطوري جمالي مستند لقاعدة من القيم الفكرية بعيدا عن دراما الملحمية المعتادة في الفنون التي جاءت بعد عصر النهضة. فالحداثة موجة والعوم ضدها مخاطرة، فاما الغوص حتى تمر من فوق رؤوسنا, فنظل في القاع واما العوم فنكون من الناجين لنحتل مرتبة من مرتبات الحياة المعاصرة. لايمكن تجاوز الحداثة ومعارضتها الا باستيعابها. الناقد الغربي يرى الفنان مجرد وسيط قادر في ان يكون ناجحا او فاشلا في استحضار عمله الفني في نوع من الوضوح الذاتي غير المتكلف.ان اتباع التوسط عند الناقد العربي بين طرز الحداثة وآلياتها المتبعة في الغرب وبين الموروث العربي وضغوطاته على الفنان النازع نحو التجديد والحداثة، هو الحل الاكثر توفيقا في تشخيص العمل وايجاد مقارب موضوعي يتيح له تحقيق الخطوة الاولى في فهم عملية البناء الفني، وتحديد دور الفنان في هذا البناء، فالفن ليس وصفا او تعبيرا عن حالات شعورية بقدر ما هو عملية خلق تتوفر فيها شروط اساسية اهمها توفر العقل الخالق لدى الفنان ونضوجه والمامه بالتقاليد الفنية التي انحدرت اليه من الماضي، فالفنان ينفعل للموضوع ويترجم انفعالاته من خلال اتباع اساليبه الفنية ، ذلك ان كل عمل فني منجز قادر ان يرينا شيئا نبصره بالعين وشيء اخر ندركه بالبصيرة.
يقابل ما ذكر تنشط ظاهرة اهمال وتهميش وتقليل قيمة النقد الفني من عند الفئات المثقفة والفنانين انفسهم، اذ لامراء في ان اية مقاربة نقدية للعمل الفني ، ولاي فنان، سيحملنا، محمل الجد للبحث عن سبل التعثر والارتجاج الذي يشكو منه هذا الحق المهم من حقول الثقافة، فنحن نعرف بان الفن التشكيلي باعتباره واحدا من الاجناس الثقافية كفيل بان يضطلع بادوار طلائعية في المساهمة برسم صورة لكل الاحداث والوقائع، وبامكانه ان يتجاوز مرحلة التعبير عن القائم والثابت والجاهز الى مرحلة تجسيد القادم والمتوخي، والنقد الفني في الوطن العربي يعيش الحيف ، حيث عدم الاهتمام به كباقي مكونات الثقافة التي يلفها التهميش، ولعل مكمن الداء يعزى الى العلاقة المتوترة بين الفنان والناقد من جهة والى الطرح السياسي لما هو ثقافي في البلدان العربية، من ثمة نجد مسوغا حقيقيا لازمة النقد ، وهي ازمة الثقافة العربية ككل والتي تعاني من مشكلة اعتراف داخل البنية الفكرية، فالنقد الفني بالرغم من مرور عقود كثيرة على دخوله الى المجال الثقافي فانه مازال يبحث عن شرعية فعلية تسمح له بالانتقال والتفاعل والتداول.
وهذه الحال في النقد التشكيلي العربي يمكن استشفاف خباياها ومعالمها من خلال الغياب الكبير للمتخصصين في هذا المجال الحيوي، وتحول الكثير من الادباء والشعراء الى الاخذ بزمام الامور لسد هذا النقص الكبير، كما ان العديد من النقاد على قلتهم لا يراعوا المسافة بين بنية اللغة وبنية الصورة، اذ لاتزال افكارهم مرتبطة بمفاهيم اللغة العاجزة احيانا امام آنية المشهد، ومع هذا الغياب الذي تزامن مع سيادة المنطلقات والمفاهيم التقليدية القديمة التي لم تعد صالحة للعصر بعد ان فقدت فاعليتها، وكذلك عدم استقلاليتها وخصوصيتها، واصبحت عملية وصفية جامدة مبنية على الادعاءات المعرفية واللغة الصحفية الفضاضة، تبقى الشرائح التشكيلية والثقافية بعيدة عن هذا المجال الحيوي، حيث تتزامن عملية الغياب مع حالة التهميش لماهو بصري في زمن الصورة وزمن البث والقنوات الفضائية للتقبل والادراك. في ظل هذه الوضعية القائمة والمحيطة بفنونا التشكيلية في السياق الثقافي العربي، ينبجس اقامة المعارض والفعاليات التشكيلية، هنا وهناك كمنطلق اساس للشعور بنوع من الدفء والتواصل بين الفنان وذاته وبينه وبين محيطه، ولكن بعيدا عن رقابة الناقد الفني الذي يشكل حضوره هاجسا معرفيا وهما ثقافيا يمكنه من اعطاء الفن التشكيلي اصالته الراهنة، ذلك ان الفنان التشكيلي واينما كان لايمكنه ان يقدم شيئا، او يستوعب تراثه دون هم ثقافي يساهم في الاشارة اليه الناقد الفني، ذلك ان الناقد الجيد قادر على استحضار الاشكال الجمالية داخل وحدة العمل الفني التي تليق بالعذاب والشقاء والالم والفرح الذي ينطق به الوضع البشري . يسعى الناقد ان لايكون الفنان بمنأى عن الرقابة والملاحظة، وان لا يكون بعيدا عن من يفك شفرة توتر العمل وصراعاته القائمة بين مقومات كل عالم على حدة، وان لايكون ايضا بعيدا عن المنشط الحيوي الذي يخلق الترابطات ويحقق ابعاد انسجامية ما بين الفنان وصنيعه الفني من جهة وبين الفنان ومحيطه من جهة اخرى ، عبر ما ينسج من مقولات نقدية ايجابية، تساهم في تحقيق كينونة الفنان وفنه معا. فالنقد الفني هو اللغة الثانية بعد لغة الفنان التي تحول الحساسية العاطفية عند الاخرين الى حساسية فنية خاصة بالمبدع عندما يمتلك القدرة على تجسيد الانفعالات وتنظيم العواطف، وهي ايضا كفيلة بان تعيد صياغة العمل الفني وتعطيه مكانته وتكشف ابعاده، باعتباره خطوة اساسية واجرائية ، ووسيلة ضرورية لضمان التطور الايجابي للفنون، وبدون مثل هذه اللغة، يظل الفن في احيان كثيرة بدون رئة التواصل مع الابداع، وبدون نبض يشار اليه للقيم الجمالية التي يحتضنها العمل نفسه، كما يظل العمل الفني غير مستفزا من قبل تأويلات الناقد وتفسيراته وشروحاته وقدرته في استنطاق العمل، ويكتشف ما في دواخله بين الاصالة، بما تطفح به من رموز تراثية وحضارية وثقافية محلية وعالمية ، وبين المعاصرة، التي باتت تتجاوب مع مجمل التيارات ومختلف التجارب العالمية. من جانب اخر فان الناقد يقدم للفنان تحصينات تنبع من الارادة والمعرفة التفصيلية بالأشياء فكريا وتقنيا، وينبهه الى ظاهرة التكرار والابتذال والاستهلاك والاسفاف، لهذا لا يمكن تصور ابداعا مؤثرا بدون اسهامات نقدية واعية وفاعلة، على اعتبار ان الفن لغة بصرية تواصلية سابقة للكلام متجاوزة حدود المكان والزمان، ومن خلالها يتم التعبير عن ذاتنا الوجودية، في اساليب شكلانية ، تختلف في محتواها من حيث رصد المفردات الفنية التشكيلية .