محمد أوزملّي
يذكر كتاب "النساء ومهنة الطب في المجتمعات الإسلامية" لمؤلفتيه "أميمة أبو بكر" و"هدى السعدي"، أن النساء تخصصن بصفة عامة في ثلاثة مجالات هي: جراحة الحروب، القبالة وأمراض النساء، والكحالة وأمراض العيون. إذ كان يُعتمد عليهن في العصور الإسلامية الأولى، بشكل أساسي، في إخراج السهام من جرحى الحروب وتطهير الجروح والمحافظة على نظافتها ووقف النزيف وأحيانًا البتر والكي.
وكانت مسؤوليات النساء تتراوح بين الإسعاف المباشر في ميادين القتال بين السهام والخيول إلى نقل الجرحى تجاه الخطوط الخلفية إلى خيم المداواة، ثم نقل الجثث على ظهور الجمال إلى أماكن الدفن.
نشأة الطب الإسلامي
اكتسبت العلوم الطبية اهتمامًا خاصًا بالإسلام، حيث حثَّ الرسول (ص) أصحابه على التداوي باستخدام طرق العلاج والمعالجة الطبية المعروفة حينذاك، ما شجع المسلمين على الاهتمام بعلم الجسد مثله مثل علم الأديان. ولذلك أولوا اهتمامًا كبيرًا بالطب، وتنافسوا على دراسة نظرياته وقوانينه وأسسه العملية والنظرية، فمنذ بداية الإسلام وحتى الآن، أفرزت الحضارة الإسلامية أطباء عظماء كرسوا حياتهم لوطنهم والعالم أجمع، وما زالوا مذكورين حتى وقتنا هذا عبر الكتب ووسائل الإعلام الطبية الشرقية والغربية.
وفي حين كان هناك العديد من الأطباء الذكور المشهورين، كانت هناك أيضًا طبيبات مسلمات شاركن في مهنة الطب منذ بداية الإسلام، وكنّ جزءًا من تطورها. ومع ذلك، لم يثني التاريخ كثيرًا على تلك الطبيبات، حيث أهمل دورهن ووجودهن. ولهذا أدركنا ضرورة إبراز دور هؤلاء الطبيبات في الحياة الطبية خلال العصور الإسلامية.
رفيدة الأسلمية وخيمتها
رفيدة بنت سعد الأسلمية الخزرجية الأنصارية، تنتمي إلى قبيلة بني أسلم، إحدى قبائل الخزرج في المدينة المنورة. تعلمت مهنة التمريض والتطبيب من والدها سعد الأسلمي الذي كان طبيبًا أيضًا، فكرست نفسها للتمريض والعناية بالمرضى، فأصبحت معالجةً خبيرةً حتى بدأت ترافق الجنود المسلمين في غزواتهم، إذ اعتاد الرسول الكريم أن يأمر بنقل الجرحى إلى خيمتها حتى تتمكن من معالجتهم وتضميد جروحهم، فلعبت بذلك رُفيدة دورًا فاعلًا في معارك وغزوات عدة، منها غزوة بدر، وخيبر، والخندق، حيث استعانت بخبراتها الطبية في علاج الجنود الجرحى.
وتُعرف رُفيدة بأنها أول ممرضة معروفة في التاريخ الإسلامي، حيث أقامت خيمة خارج المسجد النبوي لتقديم الرعاية الطبية للمرضى والجرحى والمصابين بالأمراض.
كما لعبت دورًا مهمًا في حل المشكلات الاجتماعية التي ظهرت بسبب الأمراض داخل مجتمعها. إلى جانب ذلك ، قامت بتدريب وتعليم النساء الأخريات المهتمات بالتمريض. فقد كانت طوال حياتها بمثابة مصدر إلهام لا يقدر بثمن لعدد لا يحصى من النساء، ليس فقط في عصرها ولكن للأجيال القادمة. بصفتها ممرضة مخلصة وناشطة اجتماعية شغوفة، فقد أعطت مثالاً يحتذى به للآخرين.
"الشفاء" (ليلى بنت عبد الله القرشية العدوية- أم سليمان)
كانت "الشفاء" بنت عبد الله القرشية العدوية من الصحابيات اللواتي كان لهن حضور قوي في التاريخ الإسلامي المبكر، حيث كانت من النساء الحكيمات في ذلك الوقت. كما كانت متعلمة ومنخرطة في الإدارة العامة وماهرة في الطب. اسمها الحقيقي ليلى، ولكن بسبب معرفتها ومهاراتها في ممارسة الطب أُطلق عليها اسم (الشفاء)، ولذلك اشتق اسمها جزئيًا من مهنتها كممرضة وممارسة طبية.
كانت الشفاء تستخدم العلاج الوقائي ضد لدغات الحشرات وقد وافق النبي (ص) على أسلوبها وطلب منها تدريب نساء مسلمات أخريات. كانت تجيد القراءة والكتابة، فكانت تعلم حفصة بنت الخطاب زوجة الرسول (ص) الكتابة وتدربها على علاج المصابين بأمراض الجلد، حيث اشتهرت بعلاج الأمراض الجلدية المصابة بالقرحة، مثل الإكزيما، مع أعراض مشابهة للدغات الحشرات.
بالاضافة إلى مهنتها كطبيبة فقد عينها عمر بن الخطاب مفتشة سوق (الحسبة) في المدينة المنورة فأصبحت الشفاء من أوائل الإناث في الإسلام المشاركات في الحسبة (تنظيم ومراقبة السوق).
نسيبة بنت كعب المازنيات (أم عمارة)
كانت نسيبة من أوائل الإناث اللاتي اعتنقن الإسلام. حيث حضرت مع الصحابي مصعب بن عمير، وكانت أول امرأة وعد النبي صلى الله عليه وسلم بمناصرتها عندما يهاجر إلى المدينة المنورة. فقد ساعدت الجرحى في غزوة أحد، كما وانضمت إلى معركة مسيلمة (في عهد الخليفة أبو بكر) وأصيبت بجروح بالغة في ذراعها وبترت. وعالجت نفسها بنفسها عندما عادت إلى المدينة.
وقد ساعدت المزيد من النساء الطبيبات او الممرضات الجرحى وفي زمن الرسول (ص)، الجيش الإسلامي من خلال توفير ضمادات الجروح والجبائر والأعشاب لتسكين الآلام. ومنهم: أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث الأنصارية، أم حكم المخزومية، أم موسى بن نصير، صفية بنت الخطاب، عائشة (زوجة النبي)، أم أيمن (بركة بنت ثعلبة)، أم سليم (والدة أنس بن مالك)، أمية بنت قيس الغفارية، ليلى الغفارية، معزة الغفارية، أم العلا الأنصارية، أم سنان الإسلامية.
الطبيبات المسلمات في العصور اللاحقة
شهدت العصور اللاحقة أسماء لامعة من النساء الطبيبات، وخاصة في العصرين الأموي والعباسي حتى أثناء حكم المسلمين في الأندلس، ولكن عددهن لم يكن بكثير مقارنة مع أوائل العصر الإسلامي، وهذا يثبت أن الرسول والمسلمين الأوائل شجعوا مشاركة المرأة في هذا المجال. وهكذا تميزت المرأة في الصناعة الطبية وتضميد الجرحى، ولكن هذا الدور بدأ يتراجع تدريجيًا.
ولكن يمكننا القول إن دور المرأة لم يختف في الحياة الواقعية كما انعكس في كتابات المؤرخين عن المرأة، ولا نعتقد أن نمط التسجيل المتراجع عن أسماء الطبيبات في هذه العصور على عكس زمن الرسول (ص) يعكس الواقع تمامًا، حيث أظهر المؤرخون الأوائل رغبة كبيرة في تسجيل تاريخ عدد كبير من النساء من إنجازاتهم وجميع جوانب حياتهم، ليكونوا نموذجًا يحتذى به للمرأة من الأجيال القادمة.
ولم تحصل النساء في العصور التالية على نصيب عادل في التاريخ بسبب التغيير الذي حدث، حيث كان المجتمع يميل إلى عزلهن وتجنب الحديث عن إنجازاتهن. ولذلك وصل إلينا عدد قليل من الأسماء وربما فقط الأسماء التي كان لها تأثير كبير في عصرها كـزينب من بني عوض في العصر الأموي، التي اشتهرت بعلاج أمراض العيون والجراحة. كما ذكرها أبو الفرج الأصفهاني في قصيدة جميلة جاء فيها:
"أمخترمي ريب المنون ولم أزر…طبيب بني أود على النأي زينبا "
بالإضافة إلى متيم الحميشية و محبوبة وروحاس اللواتي عشن في العراق في العصر العباسي أواخر القرن الثامن الميلادي. أما في أثناء حكم المسلمين في الأندلس، فكان هناك ايضًا عدد قليل من النساء اللواتي يعملن في الطب ومنهم أخت الحافظ بن ظهر (حفيد ابن زهر - أفنزوار) وابنتيه اللتين كانتا تمارسان التوليد والقبالة وكذلك علاج الأطفال المرضى (كلاهما كانتا طبيبتان لزوجة الحاكم المنصور في الأندلس).
وكذلك كانت هناك أم الحسن بنت القاضي الطنجالي التي عاشت في الأندلس في القرن الرابع عشر ، واشتهرت بممارسة الطب وتدريسه. فقد تلقت عن والدها العالم أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي حظًا وافرًا من التعليم، وأخذت منه مهنة الطب، وترعرعت في أحضان الكتب والحلقات العلمية، فأجادت قراءة القرآن بقواعده وشاركت أباها البحث في قضايا الطب.
لم تكن أم الحسن بارعة في الطب وحده بل برزت في الشعر أيضًا، ووصفها ابن الخطيب بأنها كانت نبيلة حسيبة وقد تركت فراغًا بعد وفاتها نظرًا لمكانتها الكبيرة لدى الجميع. و هذا ما وصلنا من شعرها:
الخط ليس له في العلم فائــدة وإنما هـو تزيين بـقرطـــاس
والدرس سؤلي لا أبغي به بدلا بقدر علم الفتى يسمـو على النـاس
أما في في دمشق فقد كانت دهن اللوز بنت نورنجان (المعروفة أيضًا باسم دهن اللوز) امرأة ماهرة جدًا في ممارسة الطب وكانت أيضًا من علماء الإسلام في دمشق، وقد ويصفها عمر رضا كحالة في كتابه "أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام" بأنها "من شيخات وعالمات دمشق"
وهنا يمكننا ملاحظة أن دور المراة في مهنة الطب خلال العصور الإسلامية، تراجع تدريجيًا عمّا كان عليه في أوائلها من معالجة المصابين في ساحة المعركة والقتال، حيث ذُكرت بعد ذلك في مجال القبالة (التوليد وأمراض النساء) وطب العيون، وتركيب العقاقير والمراهم، كما استُخدمت كلمة "طبيبة" للتعريف بها كما ذكر المؤرخ ابن حجر زينب ابنة عبد المنعم الطنجالي بـ "الطبيبة والكاتبة".
وتجدر الإشارة إلى أن أول طبيبة مسجلة في إنجلترا كانت "إليزابيث بلاكويل" عام 1858، وذلك بعد قدومها من الولايات المتحدة حيث تأهلت عام 1849. لذلك من الواضح أن هناك تاريخًا غنيًا للطبيبات المسلمات في الإسلام، وهو تاريخ يعود إلى قرون على عكس مثيلاته في الغرب. ويمكن تعلم الكثير من النتائج التي توصلوا إليها، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من البحث لفهم مساهماتهن وتقديرها.