تشكل مبادئ جريجور مندل (Gregor Mendel) للوراثة (inhertance) حجر الزاوية في علم الوراثة الحديث، فما هي؟
هل تساءلت يومًا عن سبب كونك الشخص الوحيد في عائلتك الذي ورث أنف جده؟ شُرحَت الطريقة التي تُمرَر بها السمات من جيل إلى جيل -وفي بعض الأحيان تغفل أحد الأجيال- لأول مرة بواسطة جريجور مندل. من خلال تجربة تربية نبات البازلاء، طور مندل ثلاثة مبادئ للوراثة وصفت انتقال الصفات الوراثية، قبل أن يعلم أي شخص بحقيقة وجود الجينات. بصيرة مندل وسّعت فهم الوراثة الجينية (genetic inheritance) بشكل كبير، وأدت إلى تطوير طرق تجريبية جديدة في هذا المضمار.
تُمرر السمات (traits) بأنماط مختلفة في العائلات المختلفة. تستطيع شجرة العائلة (Pedigrees) توضيح هذه الأنماط باتباع تاريخ خصائص معيّنة، أو الأنماط الظاهرية، كما تظهر في الأسرة.
وبالتالي، فإن كل فرد يحمل الشيفرة الجينية لهذه الخاصية سيُظهر دليلًا على هذه الخاصية. في المقابل، قد تختفي إحدى السمات في جيل، لتظهر مرةً أخرى في جيل لاحق. يُعتبر هذا النمط من الوراثة، والذي لا يظهر فيه النمط الظاهري عند الوالدين ولكنه يظهر عند بعض الأطفال، متنحيًا.
ولكن من أين أتت معرفتنا بالهيمنة والتنحي؟
درس مندل سبع خصائص في البازلاء، والصفات السبع التي لاحظها مندل في نبات البازلاء هي: لون البذور (الأصفر أو الأخضر)؛ شكل البذور (مستديرة أو مجعدة)؛ لون غطاء البذور (الرمادي أو الأبيض)؛ مكان الزهرة (محوري أو طرفي)؛ طول الساق (قصير أو طويل)؛ لون القرن (الأصفر أو الأخضر)؛ وشكل القرن (منفوش أو منكمش).
شجاعة جريجور مندل ومثابرته
يأتي فهمنا الحديث لطريقة توارث الصفات عبر الأجيال من المبادئ التي اقترحها جريجور مندل عام 1865. ومع ذلك، لم يكتشف مندل هذه المبادئ الأساسية للوراثة من خلال دراسة البشر، بل عن طريق دراسة “Pisum sativum”، أو نبات البازلاء المعروف.
في الواقع، بعد ثماني سنوات من التجارب الشاقة مع هذا النبات و-باعترافه الخاص- “بعض الشجاعة” للاستمرار بتجاربه على هذا النبات، اقترح مندل ثلاثة مبادئ أساسية للوراثة. ساعدت هذه المبادئ الأطباء في نهاية المطاف في أبحاث الأمراض البشرية؛ مثلًا، في غضون بضع سنوات فقط من إعادة اكتشاف عمل مندل، طبق أرشيبالد غارود (Archibald Garrod) مبادئ مندل على دراسته للبيلة ألكابتونية (alkaptonuria). اليوم، سواء كنت تتحدث عن نباتات البازلاء أو البشر، يطلق على السمات الجينية التي تتبع قواعد الوراثة التي اقترحها مندل صفة المندليّة.
كان مندل فضوليًا حول طريقة نقل السمات من جيل إلى آخر، فقد بدأ في فهم مبادئ الوراثة في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر.
بدت البازلاء بمثابة نظام نموذجي إذ يمكن التحكم بسهولة في الإخصاب عن طريق نقل حبوب اللقاح باستخدام فرشاة صغيرة. قد نحصل على هذا اللقاح من نفس الزهرة (الإخصاب الذاتي)، أو من زهور نبات آخر (الإخصاب المتقاطع).
أولًا، لاحظ مندل الأشكال النباتية ونسلها لمدة عامين بعد أن خصّبها ذاتيًا، وتأكد أن خصائصها الخارجية القابلة للقياس ظلت ثابتةً في كل جيل. خلال هذا الوقت، لاحظ مندل سبع خصائص مختلفة في نباتات البازلاء، ولكل خاصية من هذه الخصائص شكلان، وشملت الخصائص؛ الطول (طويل أو قصير)، شكل القرن (منفوش أو منكمش)، شكل البذور (مستديرة أو مجعّدة)، لون البازلاء (الأخضر أو الأصفر)، وهلم جرّا.
تحقق مندل في السنوات التي قضاها متيحًا للنباتات عملية الإخصاب الذاتي، من نقاء نباتاته من خلال الإثبات، على سبيل المثال، أن النباتات الطويلة لا يوجد بها سوى أطفال وأحفاد طويلون وما إلى ذلك. نظرًا لأن خصائص نبات البازلاء السبع التي تتبعها مندل كانت متناسقة في التوليد بعد جيل من الإخصاب الذاتي، ويمكن اعتبار هذه الخطوط الوراثية من البازلاء على أنها نسل نقي (أو في المصطلحات الحديثة، متماثل الزيجوت (homozygous) للسمات المدروسة).
طور مندل ومساعدوه 22 صنفًا من نباتات البازلاء والتي تمتلك مزيجًا من هذه الخصائص الثابتة.
لم يزاوج مندل بالإخصاب المتقاطع فقط بين الآباء والأمهات من نسل نقي، بل بين الأجيال الهجينة، وأيضًا بين الذرية الهجينة وكلا الوالدين. هذه الإخصابات المتقاطعة (والتي يُشار إليها في المصطلحات الحديثة بالأسماء؛ F1, F1 reciprocal, F2, B1, and B2 ) هي المهجنات الكلاسيكية لتوليد الأجيال الهجينة وراثيًا.
فهم الصفات السائدة
قبل تجارب مندل، اعتقد معظم الناس أن السمات في النسل نتجت عن مزج سمات كل من الوالدين. ومع ذلك، عندما لقح مندل صنفًا من نباتات النسل النقي مع صنف آخر، أنتجت هذه الهجينات ذرية تبدو كأحد من الصنفين، وليس مزيجًا بينهما.
على سبيل المثال، عندما هجن مندل بواسطة الإخصاب نباتات تمتلك بذورًا مجعدة مع أخرى تمتلك بذورًا ناعمة، لم يحصل على ذرية ببذور شبه مجعدة. بدلًا من ذلك، كانت الذرية ذات بذور ملساء فقط. بشكل عام، إذا بدت ذرية التهجين بين نسلين نقيّين وكأنها تتبع أحد الوالدين فقط فيما يتعلق بسمة معينة، أطلق مندل على السمة الوالدية التي ظهرت في الأولاد اسم “السمة السائدة”.
من هذه الملاحظة البسيطة، اقترح مندل مبدأه الأول، مبدأ التماثل (uniformity)؛ ينص هذا المبدأ على أن كل ذرية للتهجين (إذ يختلف الوالدان بسمة واحدة فقط) ستكون متطابقةً. الاستثناءات من مبدأ التماثل تشمل ظواهر الانتفاذ (penetrance) والتعبُّر (expressivity) والارتباط بالجنس، والتي اكتُشفَت بعد وقت مندل.
فهم السمات المتنحية
عند إجراء تجاربه، سمى مندل النسلين الوالديين النقيين في تهجين معين بـِ (P1 و P2)، ثم أشار إلى السلالة الناتجة عن التهجين على أنها جيل الأبناء أو (F1). على الرغم من أن النباتات من الجيل (F1) تبدو مثل أحد الوالدين من الجيل (P)، فإنها في الواقع هجينة نباتين مختلفين. عند مراقبة تماثل جيل (F1)، تساءل مندل عما إذا كان جيل (F1) ما يزال بإمكانه امتلاك السمات غير السائدة للوالد الآخر بطريقة خفية.
لفهم إذا ما كانت السمات مخفيةً في جيل (F1)، عاد مندل إلى طريقة الإخصاب الذاتي. هنا، ابتكر جيلًا من الجيل الثاني من طراز (F2) من خلال إتاحته لنبات البازلاء (F1) بأن يخصب ذاتيًا (F1 x F1). وبهذه الطريقة، علم أنه كان يزاوج نباتين من نفس التركيب الوراثي بالضبط. هذه التقنية، تنطوي على النظر في سمة واحدة، وتسمى اليوم تهجين أحادي الصفة .monohybridكانت البذور لجيل (F2) إما مستديرة أو مجعدة. يوضح الشكل (4) مثالًا لبيانات مندل.
توضح هذه النتائج العديد من الجوانب المهمة للبيانات العلمية:
توضح نتيجة التجربة (1) أن الخاصية الفردية لشكل البذور يُعبّر عنها بشكلين مختلفين في الجيل (F2): إما دائري أو مجعد. أيضًا، عندما حَسَب مندل متوسط الانسجام النسبي (relative proportion) للبذور المستديرة والمجعدة في جميع مجموعات ذرية (F2)، وجد أن البذور المستديرة تكررت ثلاث مرات أكثر من المجعدة. تشير هذه النسبة (1:3) الناتجة عن تهجين (F1 x F1) إلى وجود شكل متنحٍ خفي للسمات. أدرك مندل أن هذه الميزة المتنحية نُقلَت إلى الجيل (F2) من الجيل السابق (P).
مندل والأليلات (Alleles)
كما ذكرنا سابقًا، لم تدعم بيانات مندل الأفكار حول مزج السمات والتي شاعت بين علماء الأحياء في عصره. نظرًا لعدم وجود أي بذور شبه مجعدة أو بذور ذات لون أصفر مخضر، مثلًا في جيل (F2)، خلص مندل إلى أن المزج لا يجب أن يكون النتيجة المتوقعة لمجموعات سمات الوالدين. افترض مندل بدلًا من ذلك أن كل والد يساهم في بعض المادة الجسيمية (particulate matter) في النسل. ودعا هذه المادة الوراثية “العنصر” (elementen). تذكر! في عام 1865، لم يعرف مندل الحمض النووي أو الجينات.
في الواقع، بالنسبة لكل من الصفات التي فحصها، ركز مندل على كيفية توزيع العنصر الذي يحدد تلك الصفة بين ذرية. نحن نعلم الآن أن جينًا واحدًا يتحكم في شكل البذور، بينما يتحكم آخر في اللون، وهكذا، وهذا العنصر هو في الواقع تجميع الجينات الفيزيائية الموجودة على الكروموسومات. أشكال متعددة من هذه الجينات، والمعروفة باسم الأليلات، تمثل السمات المختلفة. على سبيل المثال، يعطي أليل معين بذورًا مستديرة، ويحدد أليل آخر البذور المجعدة.
يكمن أحد أكثر الأشياء إثارة للإعجاب في تفكير مندل في اعتياده على تميثل معطياته. يمثل تدوين مندل للنمط الوراثي الهجين بأحرف كبيرة وأخرى صغيرة (Aa)، في الواقع ما نعرفه الآن باسم أليلين من الجين واحد: A وa. علاوةً على ذلك، كما ذكر سابقًا، في جميع الحالات، رأى مندل النسبة التقريبية (1:3) من نمط ظاهري (phenotype) إلى آخر.
عندما يحمل أحد الوالدين جميع الصفات السائدة (AA)، نتج جيل هجين F1 “غير قابل للتمييز” من ذلك الأصلي. ومع ذلك، على الرغم من أن هذه النباتات (F1) امتلكت نفس النمط الظاهري مثل الوالد السائد (P1)، فإنها امتلكت النمط الوراثي الهجين (Aa) والذي يمتلك قدرة على أن يبدو مثل الوالد (P1) المتنحي (aa).
بعد مراقبة إمكانية التعبير عن سمة دون إظهار النمط الظاهري لها، طرح مندل مبدأه الثاني في الوراثة: مبدأ الفصل.
وفقًا لهذا المبدأ، تُفصَل “الجزيئات” (أو الأليلات كما نعرفها الآن) التي تحدد السمات إلى الأعراس (gametes) أثناء الانقسام المنصف (meiosis)، وينتِج الانقسام المنصف أعدادًا متساوية من خلايا البويضة أو الحيوانات المنوية التي تحتوي على كل أليل (الشكل 5).
عندما هجن مندل نباتات بازلاء ذات بذرة مستديرة وذات لون أصفر مع نباتات ذات بذرة مجعدة وخضراء، امتلكت النباتات في الجيل الناتج (F1) جميعها بذرةً مستديرة صفراء. وعندما خصّب الجيل (F1) ذاتيًا كانت الأنماط الظاهرية في الجيل الناتج (F2) تمتلك نسبة (1:3:3:9)، أي أن 9/16 من النباتات امتلكت بذورًا مستديرة وصفراء، و3/16 من النباتات امتلكت بذورًا مستديرة وخضراء، و3/16 من النباتات امتلكت بذورًا مجعدة و صفراة، و1/16 من النباتات امتلكت بذورًا مجعدة وخضراء.
هجين ثنائي الصفة
حدد مندل بالتالي ما يحدث عند تهجين نباتين لسمة واحدة مع بعضهما البعض، لكنه أراد أيضًا تحديد ما يحدث عند تهجين نباتين بسمتين، لذلك قرر مندل فحص وراثة خاصيتين في وقت واحد. بناءً على مفهوم الفصل، تنبأ بضرورة فرز الصفات إلى الأعراس بشكل منفصل. من خلال الاستقراء من بياناته السابقة، تنبأ مندل أيضًا بأن وراثة إحدى الخصائص لن تؤثر على وراثة خاصية مختلفة.
اختبر مندل فكرة استقلال السمة من خلال تهجينات أكثر تعقيدًا. أنشأ أولًا، نباتات نقية النسل لخاصيتين، مثل لون البذور (الأصفر والأخضر) وشكل البذور (مستديرة ومجعدة). ستكون هذه النباتات بمثابة الجيل (P1). في هذه الحالة، هجن مندل النباتات ذات البذور المجعدة والصفراء (rrYY) مع النباتات ذات البذور الخضراء والمستديرة (RRyy).
من تهجينه أحادي الصفة السابق، عرف مندل السمات المهيمنة: دائرية وصفراء. لذلك، في جيل (F1)، توقع أن تكون جميع البذور صفراء ومستديرة، وهذا ما لاحظه بالضبط. عرف مندل أن كل سلالة (F1) هي ثنائية الهجونة، وبعبارة أخرى، احتوت الأليلين المختلفين لكل سمة (RrYy). ثم هجن النباتات الفردية (F1) (صاحبة الأنماط الجينية RrYy) مع بعضها البعض، وهذا ما يسمى التهجين ثنائي الصفة، وكانت نتائج مندل من هذا التهجين على النحو التالي:
315 نبتةً ذات بذور مستديرة، صفراء
108 نباتات ذات بذور مستديرة، خضراء
101 نباتات ذات بذور مجعدة، صفراء
32 نبتةً ذات بذور مجعدة، خضراء
وهكذا، كانت الأنماط الظاهرية المختلفة متطابقة مع النسبة (1:3:3:9) (الشكل 6).
بعد ذلك، استعرض مندل بياناته وفحص كل خاصية على حدة. قارن إجمالي عدد البازلاء الدائرية مقابل البازلاء المجعدة والصفراء مقابل الخضراء، كما هو مبين في الجدولين 1 و 2.
الجدول 1: البيانات المتعلقة بشكل البذور
الجدول 2: البيانات المتعلقة بلون البازلاء
كانت نسبة كل سمة لا تزال تقارب (1:3) لكل من شكل البذور ولون البذور. بمعنى آخر، بدا شكل البذور ولون البذور الناتج كما لو أنهما نتاج تهجينين أحاديي الصفة متوازيين؛ على الرغم من وجود صفتين تشتركان في هجين واحد، فإن هذه الصفات تصرفت كما لو أنها مفصولة بشكل مستقل.
من هذه البيانات، وضع مندل المبدأ الثالث للوراثة: مبدأ التوزيع المستقل (independent assortment). وفقًا لهذا المبدأ، تُفصَل الأليلات الموجودة في موضع معين بشكل مستقل عن الأليلات في المواقع الأخرى أثناء تشكيل الأعراس. تُشكَل الأعراس الحاملة لأليلات مختلفة بأعداد متساوية.
إرث مندل
إن اختبار مندل لفرضياته بشكل منهجي وتطبيقه الدقيق للنماذج الرياضية لدراسة الوراثة البيولوجي أكثر استمرارًا من بيانات البازلاء التي قدمها في عام 1862.
شكّل مندل تنبؤات إحصائية حول وراثة السمات التي يمكن اختبارها بتجارب أكثر تعقيدًا في التهجين ثنائي الصفة وحتى ثلاثية الهجونة من تجاربه الأولى مع التهجين أحادي الصفة. تُعد هذه الطريقة لتطوير التوقعات الإحصائية حول بيانات الوراثة واحدةً من أهم المساهمات التي قدمها مندل لعلم الأحياء.
ولكن هل تُمرِر جميع الكائنات الحية الجينات بنفس طريقة عمل نبات البازلاء في الحديقة؟
الجواب على هذا السؤال هو لا، ولكن العديد من الكائنات الحية تظهر بالفعل أنماط وراثة مماثلة لتلك المبتدعة التي وصفها مندل في البازلاء. في الواقع، امتلكت المبادئ الثلاثة للوراثة التي وضعها مندل تأثيرًا أكبر بكثير من بياناته الأصلية للتلاعب في نبات البازلاء. وحتى يومنا هذا، يستخدم العلماء مبادئ مندل لشرح أبسط ظواهر الوراثة.
هل تساءلت يومًا عن سبب كونك الشخص الوحيد في عائلتك الذي ورث أنف جده؟ شُرحَت الطريقة التي تُمرَر بها السمات من جيل إلى جيل -وفي بعض الأحيان تغفل أحد الأجيال- لأول مرة بواسطة جريجور مندل. من خلال تجربة تربية نبات البازلاء، طور مندل ثلاثة مبادئ للوراثة وصفت انتقال الصفات الوراثية، قبل أن يعلم أي شخص بحقيقة وجود الجينات. بصيرة مندل وسّعت فهم الوراثة الجينية (genetic inheritance) بشكل كبير، وأدت إلى تطوير طرق تجريبية جديدة في هذا المضمار.
تُمرر السمات (traits) بأنماط مختلفة في العائلات المختلفة. تستطيع شجرة العائلة (Pedigrees) توضيح هذه الأنماط باتباع تاريخ خصائص معيّنة، أو الأنماط الظاهرية، كما تظهر في الأسرة.
وبالتالي، فإن كل فرد يحمل الشيفرة الجينية لهذه الخاصية سيُظهر دليلًا على هذه الخاصية. في المقابل، قد تختفي إحدى السمات في جيل، لتظهر مرةً أخرى في جيل لاحق. يُعتبر هذا النمط من الوراثة، والذي لا يظهر فيه النمط الظاهري عند الوالدين ولكنه يظهر عند بعض الأطفال، متنحيًا.
ولكن من أين أتت معرفتنا بالهيمنة والتنحي؟
درس مندل سبع خصائص في البازلاء، والصفات السبع التي لاحظها مندل في نبات البازلاء هي: لون البذور (الأصفر أو الأخضر)؛ شكل البذور (مستديرة أو مجعدة)؛ لون غطاء البذور (الرمادي أو الأبيض)؛ مكان الزهرة (محوري أو طرفي)؛ طول الساق (قصير أو طويل)؛ لون القرن (الأصفر أو الأخضر)؛ وشكل القرن (منفوش أو منكمش).
شجاعة جريجور مندل ومثابرته
يأتي فهمنا الحديث لطريقة توارث الصفات عبر الأجيال من المبادئ التي اقترحها جريجور مندل عام 1865. ومع ذلك، لم يكتشف مندل هذه المبادئ الأساسية للوراثة من خلال دراسة البشر، بل عن طريق دراسة “Pisum sativum”، أو نبات البازلاء المعروف.
في الواقع، بعد ثماني سنوات من التجارب الشاقة مع هذا النبات و-باعترافه الخاص- “بعض الشجاعة” للاستمرار بتجاربه على هذا النبات، اقترح مندل ثلاثة مبادئ أساسية للوراثة. ساعدت هذه المبادئ الأطباء في نهاية المطاف في أبحاث الأمراض البشرية؛ مثلًا، في غضون بضع سنوات فقط من إعادة اكتشاف عمل مندل، طبق أرشيبالد غارود (Archibald Garrod) مبادئ مندل على دراسته للبيلة ألكابتونية (alkaptonuria). اليوم، سواء كنت تتحدث عن نباتات البازلاء أو البشر، يطلق على السمات الجينية التي تتبع قواعد الوراثة التي اقترحها مندل صفة المندليّة.
كان مندل فضوليًا حول طريقة نقل السمات من جيل إلى آخر، فقد بدأ في فهم مبادئ الوراثة في منتصف ستينيات القرن التاسع عشر.
بدت البازلاء بمثابة نظام نموذجي إذ يمكن التحكم بسهولة في الإخصاب عن طريق نقل حبوب اللقاح باستخدام فرشاة صغيرة. قد نحصل على هذا اللقاح من نفس الزهرة (الإخصاب الذاتي)، أو من زهور نبات آخر (الإخصاب المتقاطع).
أولًا، لاحظ مندل الأشكال النباتية ونسلها لمدة عامين بعد أن خصّبها ذاتيًا، وتأكد أن خصائصها الخارجية القابلة للقياس ظلت ثابتةً في كل جيل. خلال هذا الوقت، لاحظ مندل سبع خصائص مختلفة في نباتات البازلاء، ولكل خاصية من هذه الخصائص شكلان، وشملت الخصائص؛ الطول (طويل أو قصير)، شكل القرن (منفوش أو منكمش)، شكل البذور (مستديرة أو مجعّدة)، لون البازلاء (الأخضر أو الأصفر)، وهلم جرّا.
تحقق مندل في السنوات التي قضاها متيحًا للنباتات عملية الإخصاب الذاتي، من نقاء نباتاته من خلال الإثبات، على سبيل المثال، أن النباتات الطويلة لا يوجد بها سوى أطفال وأحفاد طويلون وما إلى ذلك. نظرًا لأن خصائص نبات البازلاء السبع التي تتبعها مندل كانت متناسقة في التوليد بعد جيل من الإخصاب الذاتي، ويمكن اعتبار هذه الخطوط الوراثية من البازلاء على أنها نسل نقي (أو في المصطلحات الحديثة، متماثل الزيجوت (homozygous) للسمات المدروسة).
طور مندل ومساعدوه 22 صنفًا من نباتات البازلاء والتي تمتلك مزيجًا من هذه الخصائص الثابتة.
لم يزاوج مندل بالإخصاب المتقاطع فقط بين الآباء والأمهات من نسل نقي، بل بين الأجيال الهجينة، وأيضًا بين الذرية الهجينة وكلا الوالدين. هذه الإخصابات المتقاطعة (والتي يُشار إليها في المصطلحات الحديثة بالأسماء؛ F1, F1 reciprocal, F2, B1, and B2 ) هي المهجنات الكلاسيكية لتوليد الأجيال الهجينة وراثيًا.
فهم الصفات السائدة
قبل تجارب مندل، اعتقد معظم الناس أن السمات في النسل نتجت عن مزج سمات كل من الوالدين. ومع ذلك، عندما لقح مندل صنفًا من نباتات النسل النقي مع صنف آخر، أنتجت هذه الهجينات ذرية تبدو كأحد من الصنفين، وليس مزيجًا بينهما.
على سبيل المثال، عندما هجن مندل بواسطة الإخصاب نباتات تمتلك بذورًا مجعدة مع أخرى تمتلك بذورًا ناعمة، لم يحصل على ذرية ببذور شبه مجعدة. بدلًا من ذلك، كانت الذرية ذات بذور ملساء فقط. بشكل عام، إذا بدت ذرية التهجين بين نسلين نقيّين وكأنها تتبع أحد الوالدين فقط فيما يتعلق بسمة معينة، أطلق مندل على السمة الوالدية التي ظهرت في الأولاد اسم “السمة السائدة”.
من هذه الملاحظة البسيطة، اقترح مندل مبدأه الأول، مبدأ التماثل (uniformity)؛ ينص هذا المبدأ على أن كل ذرية للتهجين (إذ يختلف الوالدان بسمة واحدة فقط) ستكون متطابقةً. الاستثناءات من مبدأ التماثل تشمل ظواهر الانتفاذ (penetrance) والتعبُّر (expressivity) والارتباط بالجنس، والتي اكتُشفَت بعد وقت مندل.
فهم السمات المتنحية
عند إجراء تجاربه، سمى مندل النسلين الوالديين النقيين في تهجين معين بـِ (P1 و P2)، ثم أشار إلى السلالة الناتجة عن التهجين على أنها جيل الأبناء أو (F1). على الرغم من أن النباتات من الجيل (F1) تبدو مثل أحد الوالدين من الجيل (P)، فإنها في الواقع هجينة نباتين مختلفين. عند مراقبة تماثل جيل (F1)، تساءل مندل عما إذا كان جيل (F1) ما يزال بإمكانه امتلاك السمات غير السائدة للوالد الآخر بطريقة خفية.
لفهم إذا ما كانت السمات مخفيةً في جيل (F1)، عاد مندل إلى طريقة الإخصاب الذاتي. هنا، ابتكر جيلًا من الجيل الثاني من طراز (F2) من خلال إتاحته لنبات البازلاء (F1) بأن يخصب ذاتيًا (F1 x F1). وبهذه الطريقة، علم أنه كان يزاوج نباتين من نفس التركيب الوراثي بالضبط. هذه التقنية، تنطوي على النظر في سمة واحدة، وتسمى اليوم تهجين أحادي الصفة .monohybridكانت البذور لجيل (F2) إما مستديرة أو مجعدة. يوضح الشكل (4) مثالًا لبيانات مندل.
توضح هذه النتائج العديد من الجوانب المهمة للبيانات العلمية:
- تُعد التجارب المتعددة ضروريةً لرؤية الأنماط في البيانات التجريبية.
- يوجد اختلاف كبير في قياسات تجربة واحدة.
- مطلوب حجم عينة كبير، أو “N”، لإجراء أي مقارنات أو استنتاجات كمية.
توضح نتيجة التجربة (1) أن الخاصية الفردية لشكل البذور يُعبّر عنها بشكلين مختلفين في الجيل (F2): إما دائري أو مجعد. أيضًا، عندما حَسَب مندل متوسط الانسجام النسبي (relative proportion) للبذور المستديرة والمجعدة في جميع مجموعات ذرية (F2)، وجد أن البذور المستديرة تكررت ثلاث مرات أكثر من المجعدة. تشير هذه النسبة (1:3) الناتجة عن تهجين (F1 x F1) إلى وجود شكل متنحٍ خفي للسمات. أدرك مندل أن هذه الميزة المتنحية نُقلَت إلى الجيل (F2) من الجيل السابق (P).
مندل والأليلات (Alleles)
كما ذكرنا سابقًا، لم تدعم بيانات مندل الأفكار حول مزج السمات والتي شاعت بين علماء الأحياء في عصره. نظرًا لعدم وجود أي بذور شبه مجعدة أو بذور ذات لون أصفر مخضر، مثلًا في جيل (F2)، خلص مندل إلى أن المزج لا يجب أن يكون النتيجة المتوقعة لمجموعات سمات الوالدين. افترض مندل بدلًا من ذلك أن كل والد يساهم في بعض المادة الجسيمية (particulate matter) في النسل. ودعا هذه المادة الوراثية “العنصر” (elementen). تذكر! في عام 1865، لم يعرف مندل الحمض النووي أو الجينات.
في الواقع، بالنسبة لكل من الصفات التي فحصها، ركز مندل على كيفية توزيع العنصر الذي يحدد تلك الصفة بين ذرية. نحن نعلم الآن أن جينًا واحدًا يتحكم في شكل البذور، بينما يتحكم آخر في اللون، وهكذا، وهذا العنصر هو في الواقع تجميع الجينات الفيزيائية الموجودة على الكروموسومات. أشكال متعددة من هذه الجينات، والمعروفة باسم الأليلات، تمثل السمات المختلفة. على سبيل المثال، يعطي أليل معين بذورًا مستديرة، ويحدد أليل آخر البذور المجعدة.
يكمن أحد أكثر الأشياء إثارة للإعجاب في تفكير مندل في اعتياده على تميثل معطياته. يمثل تدوين مندل للنمط الوراثي الهجين بأحرف كبيرة وأخرى صغيرة (Aa)، في الواقع ما نعرفه الآن باسم أليلين من الجين واحد: A وa. علاوةً على ذلك، كما ذكر سابقًا، في جميع الحالات، رأى مندل النسبة التقريبية (1:3) من نمط ظاهري (phenotype) إلى آخر.
عندما يحمل أحد الوالدين جميع الصفات السائدة (AA)، نتج جيل هجين F1 “غير قابل للتمييز” من ذلك الأصلي. ومع ذلك، على الرغم من أن هذه النباتات (F1) امتلكت نفس النمط الظاهري مثل الوالد السائد (P1)، فإنها امتلكت النمط الوراثي الهجين (Aa) والذي يمتلك قدرة على أن يبدو مثل الوالد (P1) المتنحي (aa).
بعد مراقبة إمكانية التعبير عن سمة دون إظهار النمط الظاهري لها، طرح مندل مبدأه الثاني في الوراثة: مبدأ الفصل.
وفقًا لهذا المبدأ، تُفصَل “الجزيئات” (أو الأليلات كما نعرفها الآن) التي تحدد السمات إلى الأعراس (gametes) أثناء الانقسام المنصف (meiosis)، وينتِج الانقسام المنصف أعدادًا متساوية من خلايا البويضة أو الحيوانات المنوية التي تحتوي على كل أليل (الشكل 5).
عندما هجن مندل نباتات بازلاء ذات بذرة مستديرة وذات لون أصفر مع نباتات ذات بذرة مجعدة وخضراء، امتلكت النباتات في الجيل الناتج (F1) جميعها بذرةً مستديرة صفراء. وعندما خصّب الجيل (F1) ذاتيًا كانت الأنماط الظاهرية في الجيل الناتج (F2) تمتلك نسبة (1:3:3:9)، أي أن 9/16 من النباتات امتلكت بذورًا مستديرة وصفراء، و3/16 من النباتات امتلكت بذورًا مستديرة وخضراء، و3/16 من النباتات امتلكت بذورًا مجعدة و صفراة، و1/16 من النباتات امتلكت بذورًا مجعدة وخضراء.
هجين ثنائي الصفة
حدد مندل بالتالي ما يحدث عند تهجين نباتين لسمة واحدة مع بعضهما البعض، لكنه أراد أيضًا تحديد ما يحدث عند تهجين نباتين بسمتين، لذلك قرر مندل فحص وراثة خاصيتين في وقت واحد. بناءً على مفهوم الفصل، تنبأ بضرورة فرز الصفات إلى الأعراس بشكل منفصل. من خلال الاستقراء من بياناته السابقة، تنبأ مندل أيضًا بأن وراثة إحدى الخصائص لن تؤثر على وراثة خاصية مختلفة.
اختبر مندل فكرة استقلال السمة من خلال تهجينات أكثر تعقيدًا. أنشأ أولًا، نباتات نقية النسل لخاصيتين، مثل لون البذور (الأصفر والأخضر) وشكل البذور (مستديرة ومجعدة). ستكون هذه النباتات بمثابة الجيل (P1). في هذه الحالة، هجن مندل النباتات ذات البذور المجعدة والصفراء (rrYY) مع النباتات ذات البذور الخضراء والمستديرة (RRyy).
من تهجينه أحادي الصفة السابق، عرف مندل السمات المهيمنة: دائرية وصفراء. لذلك، في جيل (F1)، توقع أن تكون جميع البذور صفراء ومستديرة، وهذا ما لاحظه بالضبط. عرف مندل أن كل سلالة (F1) هي ثنائية الهجونة، وبعبارة أخرى، احتوت الأليلين المختلفين لكل سمة (RrYy). ثم هجن النباتات الفردية (F1) (صاحبة الأنماط الجينية RrYy) مع بعضها البعض، وهذا ما يسمى التهجين ثنائي الصفة، وكانت نتائج مندل من هذا التهجين على النحو التالي:
315 نبتةً ذات بذور مستديرة، صفراء
108 نباتات ذات بذور مستديرة، خضراء
101 نباتات ذات بذور مجعدة، صفراء
32 نبتةً ذات بذور مجعدة، خضراء
وهكذا، كانت الأنماط الظاهرية المختلفة متطابقة مع النسبة (1:3:3:9) (الشكل 6).
بعد ذلك، استعرض مندل بياناته وفحص كل خاصية على حدة. قارن إجمالي عدد البازلاء الدائرية مقابل البازلاء المجعدة والصفراء مقابل الخضراء، كما هو مبين في الجدولين 1 و 2.
الجدول 1: البيانات المتعلقة بشكل البذور
الجدول 2: البيانات المتعلقة بلون البازلاء
كانت نسبة كل سمة لا تزال تقارب (1:3) لكل من شكل البذور ولون البذور. بمعنى آخر، بدا شكل البذور ولون البذور الناتج كما لو أنهما نتاج تهجينين أحاديي الصفة متوازيين؛ على الرغم من وجود صفتين تشتركان في هجين واحد، فإن هذه الصفات تصرفت كما لو أنها مفصولة بشكل مستقل.
من هذه البيانات، وضع مندل المبدأ الثالث للوراثة: مبدأ التوزيع المستقل (independent assortment). وفقًا لهذا المبدأ، تُفصَل الأليلات الموجودة في موضع معين بشكل مستقل عن الأليلات في المواقع الأخرى أثناء تشكيل الأعراس. تُشكَل الأعراس الحاملة لأليلات مختلفة بأعداد متساوية.
إرث مندل
إن اختبار مندل لفرضياته بشكل منهجي وتطبيقه الدقيق للنماذج الرياضية لدراسة الوراثة البيولوجي أكثر استمرارًا من بيانات البازلاء التي قدمها في عام 1862.
شكّل مندل تنبؤات إحصائية حول وراثة السمات التي يمكن اختبارها بتجارب أكثر تعقيدًا في التهجين ثنائي الصفة وحتى ثلاثية الهجونة من تجاربه الأولى مع التهجين أحادي الصفة. تُعد هذه الطريقة لتطوير التوقعات الإحصائية حول بيانات الوراثة واحدةً من أهم المساهمات التي قدمها مندل لعلم الأحياء.
ولكن هل تُمرِر جميع الكائنات الحية الجينات بنفس طريقة عمل نبات البازلاء في الحديقة؟
الجواب على هذا السؤال هو لا، ولكن العديد من الكائنات الحية تظهر بالفعل أنماط وراثة مماثلة لتلك المبتدعة التي وصفها مندل في البازلاء. في الواقع، امتلكت المبادئ الثلاثة للوراثة التي وضعها مندل تأثيرًا أكبر بكثير من بياناته الأصلية للتلاعب في نبات البازلاء. وحتى يومنا هذا، يستخدم العلماء مبادئ مندل لشرح أبسط ظواهر الوراثة.