الخشبة الخرساء ....
سالم العوكلي
المسرح يشكل معمارياً أحد معالم المدن الرئيسة، مثله مثل المعابد، منذ قبل الميلاد حتى عصرنا الراهن، مما يؤكد على أهميته كنشاط فني طقسي رافق الإنسان منذ بداية تساؤله الوجودي وشغفه بالمعرفة والجمال، إضافة إلى فائض الوقت الذي أتاحه فرصة للرفاه عبر الفرجة الطقسية، التي ليست بعيدة عن التعبد بقدر ما هي قريبة من الحوار، وحصر الصراع الإنساني في علبة مكثفة من شأنها أن ترقى بمفهوم الرمز والإيحاء إلى فكرة اختبار التيمات الإنسانية ووضعها في حقل التداول الجمالي ومكامن الصراع البدهي للإنسان.. فأين مسرحنا من كل هذا وهل دخل ضمن طقوسنا الحضارية، وأصبح مفردة من مفردات حياتنا اليومية ؟... الأمر شائك ومرتبط إلى حد كبير بمفهوم المدنية والثقافة حين تكون شأناً اجتماعياً.. هل نستطيع أن نقول أننا قطعنا أشواطاً في هذا الطريق وأ حدث مبنى تم تشييده للمسرح بناه الرومان قبل ألفي عام؟، باعتبار أن كل المسارح في بلدنا هي مبانٍ تم تحويرها، ولا ترقى إلى تسمية المسرح.. هل اقتربنا من هذا الفن المعقد ومعظم كوادرنا الفنية لم تؤهل وهم مجرد هواة أو تقنين لا علاقة لهم بالدراما.
إنني أطرح هذه الأسئلة كمتابع لحركتنا المسرحية في العقد الأخير، متعرفاً بحذر على ما يحدث ومصدوماً عبر نقاشي مع الكثير ممن يعملون في حقل المسرح بضحالة ثقافتهم وسطحية رؤاهم، بالشكل الذي لم يخلق أي أسلوب محدد لكل مخرج أو كاتب، ولا محاولة لبلورة مشروع فكري وجمالي يمكن التعامل معه كتراكم تجربة تحدد منطلقها ورؤيتها، فصارت المتابعة مربكة عبر هذا التنقل الذي يستعير أدواته الجاهزة من عروض أخرى مبهرة ويتم وضعها بشكل (كولاجي ) أمام مشاهد مأخوذ بهذا الزخرف الذي لا يملك أي بعد درامي أو مرجع يخص تاريخ المكان باعتبار أننا لم نستطع حتى الآن أن نراكم تاريخاً للمسرح الليبي، تاريخاً بمعنى إمكانية سرد اكتشافاته في الشكل وفي تيماته المطروحة، إن المسرحي الذي لم يملك خلفية تاريخية لهذا الفن تجعله يعرف أين يحط قدمه سيجد نفسه متماه مع أزمات من المفترض نقدها وتفكيكها، فمثلاً تغييب الإنسان في مجتمعاتنا الرهنة في المؤسسة أو ضمن بنى التخلف السياسي والاجتماعي يتم التأكيد عليه في المسرح عبر تغيب الفعل الإنساني في حفلة متبرجة من (الديكور )الاستعراضي أو عبر الهوس بالإظلام والتعمية، مكرساً هيمنة المخرج وانحيازه لمشروعه الخاص الذي يصهر الإنسان الممثل في العتمة أو في محفل الألوان المتزاحم يتماهى أيضاً مع اجتياح الضجيج الإعلامي والتخييلي بشكل يطمس الحقيقة، عبر سيطرة المؤثرات والموسيقى والزخرف على صوت الممثل وانفعالاته ومن ثم طمس المضمون، بشكل خلق لدينا مشاهداً نمطياً ما عاد يريد الاستماع لما يقال إلا إن كان تهريجاً أو نكتاً تنفيسية تعيده إلى ألفة ما يسمعه في الشارع أو في سهراته الخاصة، غاب المسرح ذو الهمس المسموع الذي يبحث عن حوار مع المشاهد وسط صخب المسرح التحريضي أو التهريجي، فبمجرد سماع صوت ممثل صاخب يغدو هنا جزءاً من صخب إعلامي يسعى إلى تغطية ضعف المضامين والفكرة بالصراخ الأخرس الذي لا يقول شيئاً.. إنها مجموعة تساؤلات تضعنا في مواجهة المسؤولية الثقافية والفنية تجاه مجتمع يحتاج إلى مسرح يربكه لا يطربه.. يضحكه بعمق المفارقة لا بالإسفاف.. لكي نصل إلى أن يكون التفرج على هذا الفن الراقي طقساً وليس مجرد صفير وتصفيق.