علوم الآثار
١٩ مارس، الساعة ٧:٣٠ م ·
علوم الآثار..
المنشور (٧٣٦).
مقال للدكتور رمضان حسين رحمه الله..
نيل وأزمات: مصر واستراتيجياتها (2)
يَبدُو أن استكمال حروب التحرير والزحف نحو منف ومن بعدها حوت وعرت (أواريس)، عاصمة الهكسوس، لم يكن أولى الأزمات التي واجهها الملك العظيم أحمس؛ إذ كان عليه معالجة تداعيات كارثة طبيعية عنيفة ضربت مدن وقرى ومعابد مصر، بل والمصريين أنفسهم في الجنوب.
فعلى لوحة حجرية عُثِرَ عليها بمعبد الكرنك، نعرفها "بلوحة العاصفة" أو "لوحة الطقس السيئ"، دَوّنَ أحمس أخبار كارثة مناخية حدثت في العام الأول من حكمه. فيقول نصها، بعد الدباجة الملكية التقليدية:
"... وبعدها جَعلتْ الآلهة السماء تأتي بسيل مصحوب بظلام دامس في الجانب الغربي، وتكاثرت الغيوم بلا توقف، ورعد صوتهِ أعلى من صوت العباد، وصرير رياحٍ فوق الجبال أعلى من صوت الكهوف في اليفنتين. فدمرت كل بيت وقرية وصلت إليها، ومات من بِها، وطفت أجسادهم فوق المياه كقوارب البردي، بل وصلت (المياه) إلى بوابات القصر وحجرات الملك الخاصة، واستمر ذلك لأيام…، لم يستطع أحد أن يُوقد شمعة في شمال مصر وجنوبها...."
والواضح أن هذه الكارثة المُناخية تركت أثرًا كبيرًا في نفوس المصريين، فوردت إشارات إليها، بعد أربعة عقود أو أكثر، على معبد صخري شيدته حتشبسوت لإلهة الصحراء، باخت، بمنطقة اسطبل عنتر بالمنيا، ثم بعدها بحوالي ألف عام، على لوحة للإله سوبد، من الأسرة السادسة والعشرين بمنطقة صفط الحنة. وكانت الأخيرة، بالرغم من بُعدها الزمني عن الحادثة، أكثر دقةً في تحديد فترة إعتام السماء بالغيوم؛ فذكرت أنها استمرت "تسعة أيام، لم يستطع وجه رؤية وجه أخر"، في إشارة إلى الظلام الدامس بالبلاد.
وما انفكت "لوحة العاصفة" تمثل محور جدلٍ كبيرٍ بين دارسي المصريات. فهناك من يرى أن تلك الأحداث تعبر عن سيل عنيف، حيث يتوافق وصف اللوحة مع السيول التي تحدث على فترات متباعدة على مرتفعات الصحراء الغربية القريبة من الوادي المنزرع في الصعيد؛ ومنها سيل نوفمبر عام 1994م الذي أغرق قرية درونكا في سفح الجبل الغربي بأسيوط.
لكن فريقًا أخرًا، وأنا منهم، يرى أن تلك الكارثة المُناخية كانت نتيجة لكارثتين طبيعيتين متعاقبتين، لا يفصل بينهما سوى بضع سنوات أو أقل. أحدهما سيزمية (زلزالية) والأخرى بركانية، حدثتا في جزيرة ثيرا اليونانية (سان توريني الحالية) بحوض شرق البحر المتوسط. والرأي الآن أنهما وقعتا إما في عام 1625 أو 1550 قبل الميلاد، وإن مالت الكفة لتاريخ 1550 ق. م.، أي في عصر أحمس.
ويبدو أن جزيرة ثيرا تعرضت لنشاط زلزالي عنيف، عقبه فوران بركاني أعنف. أدى لانطلاق غبار وسحب بركانية عالية في سماء البحر المتوسط. وصلت مع حركة الرياح إلى شمال مصر وجنوب بلاد الشام. وحين تطفو الحمم البركانية على المياه، تتكون أحجار الخُفاف أو الخَفّان (أحجار بركانية زجاجية إسفنجية pumice)، تحملها الأمواج إلى مناطق بعيدة. وظهرت هذه الأحجار في مناطق عدة على سواحل مصر الشمالية.
إلا أن الأهم والأكثر دلالة على ارتباط كارثة لوحة أحمس بثورة بركان ثيرا هو وصول السحب البركانية مُحملةً بأحجار زجاجية دقيقة الحجم إلى مصر. ففي بحث نَشرته مجلة ناتشر في عام 1986م، أكد جيولوجيون عثورهم على أحجار ثيرا الزجاجية حول سواحل بحيرة المنزلة، شمال شرق مصر، على عمق بين 5-7 مترًا. ولعل تلك السُحب هي ما قصدته لوحة أحمس، وبسببها أظلمت البلاد لتسعة أيام. ويتذكر جميعنا تأثير سُحب بركان إيافيا لايوكل في أيسلندا عام 2010م، التي أوقفت حركة الطيران في أوروبا لقرابة الأسبوعين. فالسُحب البركانية خانقة ومُعتِمة، وتأثيرها النفسي على الناس عظيم.
ويبقى أن نعرف أن هذا النوع من النشاط السيزمي والبركاني يصحبه عادة تسونامي (أمواج عالية وطغيان للبحر على اليابس) وربما أمطارغزيرة. فهل تعرضت الدلتا لتسونامي صاحب ثورة بركان ثيرا وفيضانات وصلت لصعيد مصر؟ يبدو أن ذلك حدث حقًا، ولعله يفسر وصف أحمس لطغيان المياه على القرى والمعابد وطَفو أجساد الموتى على المياه "كقوارب البردي". ودليلٌ أخر نجده بين سطور صلاة للإله ست في بردية هرست الطبية من عهد أمنحتب الأول، أبن أحمس وخليفته؛ فتدعو ست لكي يتدخل ويوقف وباء فتك بالبلاد "كما أوقف طغيان البحرمن قبل."
وعلينا أن نتخيل الملك أحمس يقضي عامه الأول في إصلاح ذلك الدمار وإعداد الجيش لمواجهة الهكسوس. فتذكر لوحة العاصفة خططه لإدارة الأزمة ومواجهة عواقبها، فتقول:
"... أبحر جلالته بمركبه ومعه مجلس مستشاريه، بينما الجيش منتشرًا على الضفة الشرقية والغربية، يوفر غطاءً للناس، دون غطاء عليهم (أفراد الجيش)،… وصل جلالته لطيبة وأعاد الاستقرارا للبلاد وقاد المناطق المغمورة بالمياه… ".
ويتبين هنا أن أحمس أولى شئون الدفاع المدني للجيش لمساعدة المناطق المنكوبة، لكننا نعرف أن اصلاح هذا الدمار استمر حتى عصر حتشبسوت على الأقل.
وفي خضم هذه الكارثة التي أعملت دمارًا بالشأن الداخلي، كان على أحمس أن يجهز جيشه وأن يواجه تحالفًا سياسيًا وعسكريًا، نشأ ضد مصر، بين الهكسوس في الشمال ومملكة كرما جنوب الجندل الرابع في الجنوب.
كيف تشكلت استراتيجيات مصر وخططها إزاء ذلك التحالف المُعادي وغيره خلال عهد أحمس وخلفاءه؟ ذلك ما سنجيب عنه في منشور قادم.
للصورة والمزيد عن لوحة العاصفة:
Sébastien Biston-Moulin, in: Cahiers de Karnak 15 (2015), fig.4
M. Wiener and J. Allen, in JNES 57 (1998), 1-28.
C. Vandersleyen, in RdE 19 (1967), 123-159.
H. Goedicke, in Ägypten und Levante 3 (1992), 57-62.