السعداء
أو سيرة السعادة على ضفاف نهر النسيان
بقلم / محمد الفقيه صالح
* مسرحية "السعداء" من تأليف منصور أبوشناف وإخراج نوري عبد الدائم ،التي عرضتها مؤخراً فرقة المسرح الوطني على مسرح الكشاف تندرج في باب الكوميديا السوداء أو الملهاة المريرة التي تستهدف التأسيس لنقد الذات والواقع ومساءلتهما لا مجرد إبداء الشكوى والضيق من العيوب والمفاسد.
* تبدأ المسرحية بممثل يدخل من باب في يسار الخشبة ، متأبّطاً عجلة دائرية مطلية باللون الأبيض الناصع - سنعرف فيما بعد أنه يمثل القمر- ويشرع في دردشة في وسط الركح مع ممثل تتفرع منه أغصان تتدلى منها أوراق شجرة تتعلق الدردشة بدوريهما في المسرحية ، وما ينتظرهما من متاعب أثناء العرض ، ثم يعطى أحدهما إشارة بدء المشهد فيحتل الممثل / الشجرة موقعه على الركح ، فيما يقفل الممثل / القمر راجعاً من الباب الذي دخل منه ، صاعداً إلى شباك فوق الباب لكي تتسلط عليه الأضواء القوية فيسطع بدوره بهياً على الحديقة ،وهذه الدردشة وما يصحبها من حركة وتعليقات لاذعة تكاد تتكرر في بداية كل مشهد بما يوحى بلمسة تغريبية واضحة من المخرج.
* الديكور ثابت لا يتغير طيلة العرض ، وهو عبارة عن سياج شجري قصير داكن ، على خلفية سماء ليلية تتزين بنجوم لامعة .
وقد حاول المخرج تكسير رتابة الديكور بتغيير موقع القمر من الجانب الأيسر فالأوسط فالأيمن ، بما يوحى أيضا بسيرورة الزمن وجريانه ، ولأن زمن المسرحية كله يجرى في ليل مضاء بقمر ، لذلك فإن عنصر الإضاءة شكل أهمية استثنائية في هذا العرض ، وفي قلب المشهد البصري تنتصب حاوية قمامة معدنية ستتحول فيما بعد – إلى غرفة مزودة بشباك تطل منه العاشقة على حبيبها .
المفارقة هنا أن المكان والزمان (أي الحديقة في ليالٍ قمرية صافية) مترعان بالإيحاءات والممكنات الرومانسية الناعمة ، لكن الحالة المسرحية ، كما يجسدها أداء الممثلين وحوارهم وحركاتهم على الركح تكاد تنطق بمأساة مضمرة ،ولولا التدخلات المرحة خفيفة الظل من شخصيتي القمر والشجرة لتحولت المسرحية برمتها إلى تراجيديا .
من واجهة الركح يدخل عاشق شاب (علي الشول) وهو يجر حبيبته (انتصار بوشناق) من شعرها في حركة تنطق بالغلظة والجلافة ، التي يبدو واضحاً أن "سعداء " هذه المسرحية يتسمون بها حتى أثناء التعبير عن عواطفهم ومع ذلك يشرع الحبيبان في محاولة الظهور بمظهر السعيدين ، فيدوران حول بعضهما ، ويتلامسان بحنو ، ويتراقصان ، ويغنيان ، غير أن العاشقة تكشط هذا "الطفح" الرومانسي الظاهري ، بين حين وآخر ، بالتعبير عن إحساسها الغامض بالخوف وبعدم الأمان ، كما تعبر أيضا عن امتعاضها وضيقها من لسع البعوض وروائح العفونة المنبعثة من أكداس القمامة المهملة ،وفي كل ذلك يحاول العاشق إقناعها – وإقناع نفسه فيما يبدو – بأن الأمر يتعلق بلسع نحل في جنة على ضفاف نهر النسيان تتدفق فيها سواقي العسل والحليب والماء الرقراق .
ثم لا يلبثان أن يتبادلا الأدوار ، فيشكو ويتضايق ويتذمر العاشق ، فيما تتظاهر العاشقة بتأكيد واقع الجنة التي يقفان عليها .
وكلما استنفد العاشقان كل ما في حوزتهما – أو ما في حيلتهما – من حركات بهلوانية يحاولان من خلالها إقناع نفسيهما بحالة "السعادة" التي "ينعمان" بها ، يتسلل صوت الناى حزينا موجعاً في خلفية المسرح ، وكأنه نبع داخلي ينفجر من جرح ما ، ولم يفلح كل ما تكدس عليه من تراب الإدعاء والتظاهر البراني في الحيلولة دون فيضانه على ضفاف الذات والعالم ،وفي كل مرة يبدى العاشق هلعه من هذا النغم الحزين الذي يملأ عليه أركان نفسه فيصرخ من قلب حالة "السعادة" التي يتظاهر بها : " فكّوني من هاللي يُغْرد" وهكذا تتكشف السعادة الظاهرة عن قناع لروح مطعون ومقهور وخائف ومشوّه .
ثمة بُعدٌ مأساوىٌ آخر من أبعاد هذه المسرحية ينطق به الحبيبان أثناء تعبيرهما عن "السعادة" التي يغتصبانها اغتصاباً ، إذ نعرف من خلال حوار عذب يجري بينهما أن كلا منهما فقد زوجه بعد شهر العسل بيومين ، ومع ذلك كان العاشق يجد كل شؤون البيت مرتّبة وأكلاته مجهزة وكأن زوجته لا تزال على قيد لحياة ، فيما تخبره هي بأنها تحس بأنفاس زوجها وأشيائه حاضرة في أركان البيت وكأنه لا يزال على قيد الحياة ، وهكذا تتداخل في هذا المشهد المؤثر الحقيقة بالوهم والموت بالحياة ، فهاهما الزوجان اللذان حولتهما كآبة الواقع والرتابة الزوجية إلى ميتين ، يلتقيان صدفة في لحظة حب ، ولكن من أين لهذا الحب أن يثمر السعادة والبهجة والفرح ، والحبيبان لا يستطيعان أن يلتقيا إلا على أرض هذه الحديقة الوحلة التي يطنّ فيها البعوض وتنبعث منها روائح القمامة والمجاري ، وتتحول فيها أوراق الأشجار وزهورها إلى أشواك شرسة ؟ المسرحية تقول أن العشاق قد يستطعمون نوعاً من السعادة في هذه الحديقة طالما كانت تطل على نهر النسيان ،وهكذا ترتسم أمامنا هذه المعادلة : إذا أردت أن تسعد فعليك أن تنسى كل ما حواليك . أن تغيب الغياب شرط السعادة ،والمسرحية بهذه السخرية المرة لاتشجعنا على الهروب من الواقع ، بل تدين هذه الطريقة في التعامل مع الواقع والحياة وكأنها تريد أن تحثنا على ألا نكذب على أنفسنا ، بل أن نفهمها على حقيقتها بحسبان أن هذا هو أقرب الدروب إلى تحقق السعادة الحقة .
في مشهد إيمائي رمزي معبر ، رفقة الموسيقي التصويرية ، يتزوج العشقان ، ثم سرعان ما ينتهي هذا الزواج إلى أن يعلّق كل من الزوجين الآخر على أعواد الشجرة ،ويدخل كل منهما بعدها في دوامة السؤال المخيف عن حياته وموته .
ثم لا تلبث سيرة الحب المغمور بسعادة الكذب ، ثم الزواج المدفون تحت أكداس الكآبة والقهر المتبادل ، أن تتكرر من جديد في صورة عاشقين في منتصف العمر ، هما : ( محمد الطاهر) و( مهيبة نجيب) ، أو ربما هما نفس العاشقين وقد وصلا إلى مرحلة منتصف العمر .حيث تتكرر معهما صورة الحب والنسيان والمخاوف وإدعاء السعادة وصوت الناى الذي يفضح حقيقة اللغط والتظاهر البراني ، ثم تنتهي بالقهر الذي يمارسه الرجل على المرأة بما يُفضى إلى القتل المتبادل ، وهو ما يعنى أن حياة هؤلاء البشر لا تعدو أن تكون استمراراً للموت في الحياة ،ولوهم السعادة في عالم مليء بالوحل والقذارة .
تنتهي المسرحية بمشهد قصير دالّ ، يجرُّ فيه ولد صغير شعر بنت من عمره إلى وسط الخشب ، في إشارة إلى تكرار سيرة العاشقين السابقين "السعداء" عبر الأجيال والزمن ، وفي إيماءة قاتمة – من المخرج – لاتوحى بأي أمل في جيل قادم ، أو في زمن آتٍ.
تتراوح المسرحية في أسلوب إخراجها بين الترميز والتعريف ، وعلى الرغم من أن الأول (أي الترميز) هو الطابع الغالب في هذه المسرحية ، إلا أن المخرج عمد إلى كسره بأدوات "تغريبية" من خلال حركة الممثل الذي يؤدى دور القمر ، وتدخلاته الموجهة أحيانا إلى الممثلين ، وأحيانا إلى الجمهور ، ومن خلال تعليقاته اللاذعة التي تشارف – أحيانا – حد الاستفزاز المتعمد .
ومن الجدير بالملاحظة أن بنية هذه المسرحية قائمة أساساً على عنصر التكرار ، تكرار المشاهد والحوار والأجيال ،وهو أكثر عناصر المسرحية جاذبية وخطورة في نفس الوقت .
فللتكرار في هذه المسرحية دلالة جمالية وفكرية ذات منحى تشاؤمي مأساوي لا تخطئه العين ولا البصيرة ، وتكمن خطورته تحديداً فيما يمكن أن يفضى إليه من إملال للمتفرج ، وتبديد للشحنة التي تخلقها الحالة المسرحية في تصاعدها وتحولاتها ،وقد حاول المخرج ( نوري عبد الدائم) جاهداً أن يتفادى هذا المأزق من خلال تطعيمه المشاهد المتكررة ببعض اللمسات الإضافية ، واعتقد أنه نجح في ذلك إلى حد معقول .
وفي الختام لابد من التنويه بالأدوار شديدة الأهمية التي أداها فنيو الإضاءة والموسيقى والديكور في إظهار هذا العمل المسرحي الهام بهذا المظهر الشيق .
أما من ناحية الأداء التمثيلي فقد بدأ جميع الممثلين في كامل حضورهم وحيويتهم ، حيث بذل الفنان " علي الشول" ما في وسعه لتشكيل صوته وإيقاع حركته الجسدية حسبما تقتضيه المواقف المترجحة بين الانكسار والادعاء والوهم والسخرية والحزن ، فيما نجحت زميلته ( انتصار بوشناق) في طلاقة الحركة وانسيابتها ورشاقتها فوق الخشبة ، إن لم يكن نجاحها في تلوين الأداء الصوتي وتغيير إيقاعاته وفقا للمقام بنفس نجاح إيقاعها الحركي أما أداء الفنان " محمد الطاهر" فقد عكس خبرته الطويلة في عالم التمثيل ، فيما اتسم أداء الفنانة "مهيبة نجيب" بالتلقائية والسلاسة والبساطة المحببة ، كما وفق الفنان " عبد المجيد الميساوى" في أداء دورة الشجرة ، أما الفنان (صالح أبوالسنون) فقد أضفى على دور القمر الذي أداه قدراً ملحوظاً من البهجة ، وخفة الدم ، وتحملّ طيلة فترة العرض بكل سماحة وأريحية أشعة الإضاءة الساطعة المسلطة عليه ،وقد مكّنه المخرج – فيما يبدو – من أن يسجل ذلك في إحدى لحظات العرض المسرحي .
تحية صادقة لمؤلف هذه المسرحية ولمخرجها ولممثليها وفنييها ولكل من أسهم في إظهارها على خشبة المسرح ، متمنيا لهم جميعا مزيداً من التوفيق والعطاء في درب النهوض بالحركة المسرحية في بلادنا .
***